مصر أصل حضارة العالم
يتجه نظر علماء الآثار في جميع أنحاء العالم تقريبًا إلى أنَّ مصر هي منبت الحضارة، وأنَّ العالم — سواء في ذلك القديم والجديد — قد اشتق حضارته منها، وليس ذلك لأن المصريين كانوا أذكى من سائر الأمم، حتى استنبطوا آلات الحضارة ومؤسساتها حين كان غيرهم من البشر لا يزالون يجوبون الغابات والبوادي، وإنما يرجع الفضل في ذلك إلى وادي النيل الذي هداهم إلى الزراعة، والزراعة هي أصل الحضارة.
وقد ضرب العلماء في بيداء التخمين عن أصل اهتداء الناس إلى الزراعة حتى وقعوا فيما يشبه السخافات، فقد قال بعضهم مثلًا إن الإنسان عرف الزراعة؛ لأنه عندما كان يدفن موتاه كان يضع بعض الحبوب مع الميت حتى يأكلها، فكانت هذه الحبوب تنمو لسقوط المطر عليها، فيعتقد أقارب الميت أنه كافأهم بهذا النبات النامي؛ لأنهم خدموه بتزويده في العالم الآخر بالطعام، وأنه بتوالي هذا العمل فقه الإنسان الزراعة.
ولكن يعترض على هذا الفرض بأن الدفن والعالم الآخر كليهما من مقتضيات الحضارة، وأنَّ الرجل الذي يعيش في الغابة لا يدفن ولا يعرف عالمًا آخر.
وإنما عرفت الزراعة في وادي النيل، وكان النيل نفسه هو المعلم الذي علَّم المصريين هذه الصناعة؛ لأنه يأتي كل عام في فيضانه بما يشبه التقويم الفلكي دقة ونظامًا، فكان إذا فاض نبتت الحبوب نباتًا طيبًا، وأثمرت بلا حاجة إلى أنْ ينفق المصري مجهودًا في الري أو الحرث أو عناية أخرى، وكان هذا العمل يتكرر كل سنة، فكان لا بدَّ للمصريين من أنْ يتنبهوا إلى أنَّ الماء هو أصل الزراعة، ولا يمكن أي نهر آخر في العالم أنْ يتعلم الناس منه الزراعة؛ لأنه لا يفيض بالنظام والمواظبة اللذين نراهما في النيل، وغلات الحبوب كالقمح والشعير والذرة يكفي لنباتها الفيضان دون الحاجة إلى ري صناعي.
ومتى عرف الإنسان الزراعة وهدأ في مكان وترك التجوال في الغابات والبوادي، شرع يؤسس مؤسسات الحضارة؛ لأن هدوءه في مكان يحتاج إلى حكومة تحرس له حقله، وتمنع اعتداء غيره عليه، وإلى بيت يقيم فيه، ثم إنَّ العائلة يتوطد بنيانها؛ لأن التجوال السابق كان يفككها ويرخي روابطها، ثم إنَّ صناعة البناء تظهر ويليها صناعة الآنية من فخار أو خزف، وأيضًا تُستأنس الحيوانات المتوحشة وتعرف رعاية الماشية وصناعة الألبان.
وكما أنَّ الطبيعة أنعمت على المصري بالنيل يعلمهُ الزراعة ويفقهه في علاقة الماء بها، كذلك جفاف المناخ المصري علمهُ الدين؛ لأنه كان يترك جثث الموتى فتجف أحيانًا دون أنْ تبلى، ففطن من ذلك إلى أنَّ الموت لا يختم الحياة، وشرع يساعد الطبيعة على بقاء الجثة بالتحنيط، ومن التحنيط نشأ الاعتقاد بالعالم الثاني، وظهرت طبقة الكهنة، وكان للنيل دخل آخر في الدِّين هو أنه جعل المصري يقدس الماء، ويعتقد أنه أصل كل شيء حي، وأنهُ يطهر كل شيء، وليست قصة الفيضان ونجاة نوح منه إلَّا إحدى نتائج الاعتقاد بفيضان النيل، وأنه أصل الحياة كما أثبت ذلك إليوث سمث.
هذه هي النظرية التي يقول بها علماء الآثار عن حضارة العالم، وأنها مشتقة من مصر، فهل التاريخ يؤيدها؟
لقد أتيح لكاتب هذه السطور أنْ يقرأ كتابًا ضخمًا للأستاذ بِري، يبلغ ٥٥١ صفحة، حاول فيه إثبات هذه النظرية من تاريخ مصر والعالم، واعتقادنا أنه نجح في هذه المحاولة، ولسنا نميل إلى رأيه ونقتنع به لبواعث وطنية، فإنه وإنْ كان يجري في عروقنا دماء الفراعنة فإننا قد انقطعت بيننا وبينهم صلة اللغة والثقافة، وهما أهم ما يعمل للتعصب.
وليس من السهل تلخيص كتاب بري، فإنه يستقرئ الحضارات المختلفة التي ظهرت في العالم، ويتتبعها من مصر شرقًا إلى سوريا فالعراق، فالهند، فالصين، فجنوب آسيا، فأستراليا، فأميركا، ويستخرج منها تلك السمات المصرية التي اتسم بها التاريخ المصري القديم من لدن فراعنة الأسرة الخامسة، وهو في استقرائه يثبت أنَّ التدرج الجغرافي في اتجاه الحضارة المصرية إلى الشرق يسير مع التدرج الزمني، فآخر ما ظهر من آثار الثقافة المصرية مثلًا كان من حيث الزمن في أميركا، وهي أنأى الأقاليم عن مصر.
وقبل الكلام عن سمات الحضارة المصرية التي نجدها في سائر حضارات العالم، يجب أنْ نذكر أنَّ العالم منذ داروين صار يثق أكثر مما يجب بالوسط، فإن ركنًا كبيرًا من نظرية داروين قائم على أنَّ الوسط يؤثر في الحي، وقد تأثر علماء الآثار بهذا الرأي فكانوا يردون الحضارات المتشابهة في الصين ومصر مثلًا إلى أنَّ الوسط في كلا القطرين متشابه، وأنَّ عوامل المناخ المتشابهة فيهما كانت كافية؛ لأن تتشابها في الحضارة والثقافة.
ولكن هذا الرأي قد تفيَّل الآن بالشواهد العديدة التي تنقضه، ففي أميركا مثلًا نجد في عصر الفتح الأوروبي في إقليم واحد على خط عرض واحد أمتين؛ أمة متحضرة وأخرى متبدية لا تزال تعيش في الغابات وتقتات بالصيد والجذور، وكذلك الحال في آسيا، وليس الفرق بين الطائفة المتحضرة والأخرى المتوحشة يرجع إلى اختلاف المناخ، وإنما مرجعه إلى تقاليد في الثقافة والحضارة تسلمتها الأمة المتحضرة إمَّا عن غزو وإمَّا عن طريق آخر.
ولننظر الآن في سمات الحضارة المصرية الأولى التي انتشرت في العالم وجعلته ما هو الآن، فالمصريون عرفوا الذهب ولم يكونوا في الأصل يحملونه للزينة، وإنما نقبوا عنه وصاغوه في هيئة الودع، كما يرى الآن في المتحف المصري اعتقادًا منهم بأنه يطيل الحياة، أو هو إكسير الحياة، ولا يخفى أنَّ هذه الفكرة لم تمت إلَّا حديثًا، فإن المصريين لما شرعوا يدرسون العالم وأذهانهم لا تزال بِكرًا من الغابة، لم تلوث بعد بعقيدة أو ثقافة مركبة، أخذوا ينظرون في حبة الشعير، وهي أقدم ما عُرف من الغلَّات، فرأوها على هيئة عضو التناسل في المرأة، وهما يشتركان أيضًا في أنهما مبعث الحياة، ذلك يخرج منه الأطفال، وهذه تنمو وتخرج منها السنبلة، فجعلوا الشعيرة رمزًا للحياة أو لطول الحياة، ثم وجدوا الودعة تشبه الشعيرة، فصارت هي أيضًا رمزًا للحياة، وهي لا تزال كذلك للآن عند الزنوج، ثم عرفوا الذهب، فصاغوه ودعًا لهذه الغاية أيضًا، وشرعوا من ذلك الوقت ينقبون بهمة عن الذهب، فخرجوا من مصر وولوا وجوههم شطر الشرق للبحث عن الذهب، وغرسوا في أذهان الشرقيين قيمة الذهب في إطالة الحياة وفي الزينة أيضًا، ولمعظم الأمم المتأخرة في آسيا تقاليد وتواريخ مأثورة تثبت مجيء «أبناء الشمس» إلى أقطارهم لاستخراج الذهب.
هذه واحدة، ثم التحنيط فشا في مصر أولًا، والغاية منه أيضًا إطالة الحياة؛ لأن المصري القديم — وهو كما قلنا — قد خرج من الغابة وذهنه خلو من أية ثقافة أو أية فكرة علمية، كأن يعتقد في سذاجة أنَّ الجسم ما دام يحتفظ بشكله الخارجي فإنه حي حياةً قد تختلف عن حياتنا، ولكنها مع ذلك حياةٌ ما، فنشأ من ذلك الاعتقاد بعالم ثانٍ، وما هذا الاعتقاد في الأصل إلَّا إيمان بطول الحياة أو هو محاولة لإطالتها، ونحن نجد التحنيط قد خرج من مصر حتى بلغ أميركا.
فعقيدة العالم الثاني وعقيدة الطوفان كلتاهما نشأت من عقائد المصريين الأولى، نشأت الأولى من رغبة المصري في إطالة الحياة، ونشأت الثانية من فيضان النيل، وقد عقد إليوث سمث فصلًا وافيًا في تطور هذه العقيدة الثانية حتى انتهت بما نراه في رواية التوراة.
وقد قلنا: إنَّ حضارة مصر التي فشت في العالم هي حضارة الأسرة الخامسة، وهي الأسرة التي ظهرت فيها عبادة «را» إله الشمس، على عبادة آمون، وانقسمت الأمة المصرية قسمين؛ إمارة دينية ووزارة سياسية؛ أي أنَّ الحكومة ازدوجت وصار فيها رئيسان، أحدهما ديني والآخر مدني، وهذا الازدواج فشا في جميع أنحاء العالم، وهو لا يزال إلى الآن قائمًا في بعض الأمم، ولعلَّنا هنا لا نخطئ إذا قلنا: إنَّ الخلاف بين قريش والأنصار حين قال هؤلاء على أثر وفاة النبي: «منكم الإمارة ومنا الوزارة»، يرجع إلى هذه الثقافة المصرية التي فشت في الأسرة الخامسة.
وعلى كلِّ حال نحن نجد بالاستقراء التاريخي والجغرافي أنَّ «أبناء الشمس»؛ أي المصريين الذين خرجوا من مصر أو غيرهم الذين تسلموا منهم ثقافتهم، قد انتشروا في آسيا ونقَّبوا عن الذهب أكسير الحياة، وأنهم أفشوا بين الناس الاعتقاد بالعالم الثاني وأشاعوا نظام الحكومة المزدوجة؛ إمارة دينية ووزارة سياسية، كما أنهم علموهم صناعة التحنيط.
ومما يثبت هذا القول أننا نجد درجات التطور في مصر ظاهرة، ولكننا لا نجدها كذلك عند الأمم التي اقترضت منها حضارتها وثقافتها، فنحن نعرف مثلًا أنَّ الآلة البخارية توجد في مصر وفي إنجلترا الآن، فإذا نحن فقدنا الوثائق التاريخية وادعى مصري أنَّ مصر هي التي اخترعت القاطرة، لم يشق على إنجليزي أنْ يثبت ضد ذلك؛ بأن يرجع إلى تطورات القاطرة في بلاده من عهد إنشاء الآلات البخارية التي صنعها سافري إلى واط ثم إلى ستيفنسون، ويوضح أنَّ هذه الآلات كانت ناقصة فتحسنت بالتدريج، وتطورت حتى بلغت حالتها الحاضرة التي نراها في مصر وإنجلترا معًا، أمَّا نحن فلا نستطيع أنْ نظهر تطورًا للآلة البخارية في مصر، فنفهم من ذلك أنَّ القاطرة اخترعت في إنجلترا.
وكذلك الحال في مصر إزاء العالم كله، فنحن نجد الهرم كاملًا في أمريكا — ظهر في العصر المسيحي — ولكننا نجده في مصر قبل المسيح بأربعة آلاف سنة، ولا نجده كاملًا بل ناقصًا، نشأ أولًا مصطبة ثم هرمًا مدرجًا؛ أي مصطبة، ثم فوق مصطبة هرمًا كاملًا في الأسرة الرابعة، فمن المعقول أنه إذ خرجت حضارة مصر وقت الأسرة الخامسة وتفشت في العالم، شيدت الأمم التي تلبست بالحضارة المصرية أهرامها على النمط الأخير، وكذلك الحال أيضًا في التحنيط نشأ في مصر تجفيفًا بسيطًا، ثم ارتقى، ونحن نرى تدرج ارتقائه في قبور المصريين القدماء، ولكننا نجد التحنيط كاملًا في أميركا، بل أغرب من ذلك أنه ابتدأ كاملًا في أميركا ثم انحط، بعكس ما نرى في مصر، مما يدلُّ على أنَّ القائمين بأمر التحنيط انقرضوا فزالت صناعتهم في أميركا، ونرى مثل ذلك أيضًا في التنقيب عن الذهب، فإن «أبناء الشمس» الذين ذهبوا إلى جنوب آسيا انقرضوا، فذهبت معهم ثقافتهم، وكفَّ الأهالي عن البحث عن الذهب، ولم يبقَ عندهم سوى تقاليد وأساطير عن أبناء الشمس الذين يطيلون الحياة.
وكذلك الحال في الكتابة، اخترعها المصريون أولًا؛ لأنهم لما كانوا أمة زراعية كانوا يحتاجون إلى تقويم دقيق ما زلنا نحن المصريين نعمل به في الزراعة التي تجري للآن على التقويم القبطي، وفي هذا التقويم شهران هما توت وهاتور، وكلاهما من أرباب آبائنا، فهذه الكتابة خرجت من مصر واتجهت إلى الشرق حتى بلغت أميركا؛ وذلك لأن الثقافة التي خرجت من مصر كانت على تنوعها وحدة مؤتلفة، فالكتابة كانت معروفة في مصر منذ أكثر من ٤٠٠٠ سنة قبل الميلاد، ولم تظهر في الهند إلَّا حوالي سنة ٧٠٠ق.م، وحضارة أميركا ابتدأت حوالي الميلاد المسيحي، وعرفت في هذا الوقت الكتابة عند الأمركيين القدماء.
فليس شك الآن أنَّ حضارات العالم كله اشتقت من مصر، ومما يشرح القلب أنَّ دعاة هذه النظرية ليسوا مصريين بل إنجليزًا.