الدِّين والتطور وحرية الفكر بينهما
حدث في الشهر الماضي حادثان عظيمان، يجب أنْ يبالي بهما كل مفكر سواء في الغرب أو في الشرق، أولهما أنَّ المدرس سكوبس أخبر تلاميذه أنَّ قصة آدم وحواء في أصل البشر كما روتها التوراة غير صحيحة بحرفها، وأنَّ الصحيح أنَّ الإنسان والقرد من أصل واحد، وقد حكمت عليه محكمة ولايته — إحدى الولايات المتحدة — بغرامة قدرها عشرون جنيهًا لمخالفته تعليم التوراة، وحدث في مصر حادث شبيه بهذا؛ فإن الأستاذ علي عبد الرازق وضع كتابًا قال فيه: إنَّ الخلافة ليست أصلًا من أصول الإسلام، فحكم عليه العلماء بإخراجه من زمرتهم.
والحادثان يتعلقان كما يرى القارئ بأثمن شيء عُرف في هذا العالم، وهو حرية الفكر والرأي، وليست المسألة صحة نظرية التطور أو فسادها، ولا هي صواب القول بأن الخلافة مبدأ ديني أو مبدأ مدني، فقد تكون نظرية التطور خطأ، وقد يكون كتاب الشيخ علي عبد الرازق كله سفسطة، ولكن المسألة المهمة في هذا النزاع هي أنَّ كلًّا من المستر سكوبس والأستاذ علي عبد الرازق له الحق في أنْ يكون حرًّا، يرتئي ما يشاء من الآراء، دون أنْ يقيد بأي قيد سوى الإخلاص.
وحرية الرأي هذه هي آخر ما انتهت إليه الحضارة الراهنة، وإنما انتهت إليها بعد تجارب أثبتت لها أنَّ كل تقييد يؤذي الأمة، ويعود بالضرر في النهاية على المجموع، وليس يشك في أنَّ حرية الرأي تغضب كثيرين من الناس، ولكن الشرط الأساسي للحضارة هو التسامح، فما لم يرض الناس بأن يسمعوا الآراء المخالفة لهم، ولو كان ذلك على مضض منهم، لما تقدموا ولما ارتقت الأمم، فالارتقاء يستدعي ابتداع البدع واصطناع العادات والمخترعات الجديدة، فإن لم يتسامح الناس في هذه التغييرات ولو آلمنهم بعض الألم، لما أتيحت الفرصة لهم بأن يتقدموا.
إني أؤمن بنظرية التطور، وربما كان أكبر ما يدفعني إلى الإيمان بها أنها ليست من الحقائق العلمية فقط، بل إنها نظرية الرجاء والتواضع، ومعنى ذلك أني أؤمن بها للغريزة الدينية التي في نفسي، ففي نفسي عطش إلى الأبدية، ولست أرتاح إلى أنْ يكون هذا الإنسان الراهن على ما في جسمه وعقله من خلل ونقص خالدًا، ولا إلى أن أرضنا مركز للكون، وإنما أرتاح إلى الرجاء بأن الإنسان في المستقبل سيكون ضخم الرأس، جميل الجسم، فيلسوفًا بطبعه، لا ينظر إلينا نحن آباءه إلَّا كما ننظر إلى الحيوان، فهذا النظر يملؤني رجاء، ويحثني على الصلاح والتقوى، ثم إنَّ معرفتي بتطور المادة والعوالم تملؤني تواضعًا وخشوعًا في هذا الكون، بدل ذلك الصلف المؤذي الذي يملأ رءوس أولئك الذين يحسبون الأرض مركزًا للكون، وقد أكون مخطئًا في نظري، ولكني أجد الراحة في هذا الإيمان، فيجب أنْ أُترك حرًّا في أن أعتقد صحته، وأنْ أدعو إليه غيري الذي قد يجد فيه مثلما أجد فيه من الراحة، فإن كان فيه شيء من الخطأ، ففي الدعوة إليه والجدل فيه تمحيص له من هذا الخطأ.
نحن نعيش الآن في زمن قد تقدمت فيه العلوم المادية، كالطبيعة والكيمياء والميكانيكيات والفلك، وتأخرت فيه العلوم المعنوية كالآداب والدين والسياسة، ونتج من ذلك تفاوت عظيم بينهما، ففي الحرب الكبرى والأخيرة مثلًا، كان التقاتل بالغازات والطيارات، وكان الناس يبادون بالملايين لتقدم العلوم المادية، ولكن عندما قعد رجال السياسة يتفاوضون في الصلح بعد عقد الهدنة، كانت لغتهم وتعابيرهم ونياتهم ووسائلهم لا تختلف عما كانت عليه هذه الأشياء عند ساسة القرون الوسطى، بل عند ساسة الرومانيين، ومن هنا نجد الاستعمار قائمًا حيًّا كما كان في عهد الإسكندر المقدوني. وكذلك الحال في الدين؛ فإن الحالة الروحية في الإنسان لم تتقدم الآن عما كانت عليه منذ ألفي عام، وكذلك الأدب، فإن إلياذة هوميروس ليس لها المقام السامي الذي تشغله الآن في أذهان الأدباء، إلَّا لأن الأدب لم يرتق منذ أكثر من ألفي عام.
والعلة في ذلك أنَّ الحرية الفكرية مطلقة لا يحدها حد في العلوم المادية، فلو قال إنسان: إنَّ الحديد ليس عنصرًا، بل هو مركب لما عارضه آخر إلَّا بالحسنى، وإذا هو تحداه فإنما يتحداه بالتجربة، ولكن إذا دعا داعٍ إلى البولشفية، أو قال بأن الخلافة خطأ أو صواب، أو أنَّ الجمهورية خير من الملوكية، أو أنَّ الزواج باثنتين خير من الزواج بواحدة، أو أنَّ أدب العرب سخيف وأدب المصريين أسخف منه، فإنه يجد استنكارًا من بعض الناس، بل ربما يجد من الحكومة والقوانين تحفزًا أو هجومًا قد يقضي على وجوده المعنوي أو المادي؛ لهذا السبب جمدت الأديان والآداب والسياسة، وبقيت كما كانت منذ ألفي عام تقريبًا، في حين ارتقت العلوم المادية حتى صار كثيرون يخشون من رقيِّها؛ لِعِظم التفاوت بينها وبين العلوم المعنوية.
ولن ترتقي السياسة أو الاجتماع أو الدين حتى تشملها الحرية شمولًا تامًّا كما شملت العلوم المادية، وتجارب الأمم تدلُّ على أنَّ الإنسان روحاني بطبعه، بدليل أنه ليست تخلو أمَّة راقية على وجه الأرض من دين، ومن البلاهة أنْ نظن أنَّ إنسانًا يمكنه أنْ يكون كافرًا معطلًا لا يؤمن بشيء، ففي كل منَّا عطش إلى الخلود، وإلى الاتصال بهذا الكون، بل بروحه، وهذا في اعتقادي هو الدين، بل هو لب الدين، وهو أكبر مما يحبب إليَّ نظرية التطور، فإني أحب الخلود لا بجسمي وعقلي هذين، بل بما ينشأ منهما في المستقبل، ويكون أرقى منهما.
وخلاصة القول أننا يجب أنْ نتحمل بعض المضض مما يصدمنا من الآراء الجديدة في الدين والسياسة والاجتماع؛ لأن شرط الحضارة الأساسي هو التسامح، والتسامح هو الرضا بما يقوله الآخرون وإن آلم نفوسنا بعض الألم. والعلوم المادية إنما تقدمت بحرية الفِكر، فالعلوم المعنوية كالدين والسياسة والاجتماع والآداب لن تتقدم أيضًا إلَّا بحرية الفكر، ولو آلمت هذه الحرية بعض الناس، ويمكن بعبارة أخرى أنْ نقول: إنَّ العلوم المادية تطورت وارتقت؛ لأن الذين عالجوها نظروا إليها بنزاهة وحرية نحن في حاجة إلى أنْ نعالج بهما العلوم المعنوية، ومن الغفلة الهائلة أنْ يبحث علماؤنا الآن عن أصل المادة، ويكادوا يلمسون سرَّ الكون المادي، بينما يدافع آخرون عن أتوقراطية تشبه أتوقراطية حكومات الفراعنة، أو عن عقائد في الدين أو الاجتماع قد مضى عليها آلاف السنين، ويطلبون منا الإيمان بها بقوة المحاكم وصوْلة القانون.
ثم يجب ألَّا نخشى البدع؛ لأن كل تقدم يتطلب الإيمان ببدعة أو على الأقل التسامح فيها، وتنازع البقاء يعمل في البدع كما يعمل في أي شيء آخر؛ يُبقي على الحسن ويبيد منها السيئ، والإنسان جامد بطبيعة عمرانه، فهو ليس في حاجة إلى قوانين تحرسه من البدع، فإن الوسط والتجربة واللغة والثقافة والعادة كلها تعمل للجمود؛ لأنها كلها تلفت نظر الإنسان إلى الماضي، وتبسط حوله قيودًا من حيث لا يشعر تربطه بالأساليب القديمة، وربما كان أكبر ما يعمل للجمود هو اللغة، فإنها بألفاظها الموضوعة تسومنا التفكير في طُرق خاصة لا سبيل للخروج منها إلَّا للأقلين، ولغة الأمة وتاريخها وثقافتها الماضية وتقاليدها، هي لها بمثابة ناموس الوراثة للجسم الحي، لا يستطيع أنْ يخرج عنه إلَّا خروجًا يسيرًا هو أصل التطور والرقي، ومعنى كلامنا أنَّ نظام الأمة الاجتماعي يعمل للجمود ويساعد عليه، فهي — أي الأمة — ليست في حاجة إلى قوانين تدافع عن هذا الجمود، فيجب لذلك أنْ نترك الناس يبتدعون في السياسة والاجتماع والآداب والأديان، فلعل في ابتداعهم ما يرقيها إلى وصف الكيمياء والفلك والميكانيكيات التي توشك أنْ تبيد الحضارة، ومن البلاهة أنْ يقال: إنَّ روحانية الإنسان غير قابلة للتطور والرقي، فهذا الحكم لو كان صحيحًا لوجب أنْ نتوهم ونوهم الناس كذلك عدم صحته لمصلحة النوع البشري.