خصلتان في الأدب العربي: حب القديم وكثرة الصنعة
ليس لمتأخر الشعراء أنْ يخرج عن مذهب المتقدمين، فيقف على منزل عامر ويبكي عند مشيد البنيان؛ لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الدائر والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل فيصفهما؛ لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذبة الجواري؛ لأن المتقدمين وردوا على الأراجن الطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والورد والآس؛ لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرار.
فمن هذه القطعة المقتبسة يدرك القارئ إحدى خصائص الأدب العربي، وهي نزعته إلى القديم، واحترامه للسلف بما يكاد يبلغ حد العبادة؛ ولذلك تجد الآن من أدبائنا مَن يترك خياله الشخصي، ويقترض خيالات القدماء فيضمنها قصائده، بل منَّا من يبدأ مديحه بالتغزل الكاذب بطيف الحبيب على نحو ما كان يفعل قدماء العرب، ثم منَّا أيضًا من يقصر شعره على المقاصد التي قصد إليها العرب من مديح وهجاء ووصف، لا يخلو من ذِكر العِيس والبيد، وقد يكون الكاتب قد عاش طول حياته في مدينة لم يرَ فيها العِيس أو البيد، وربما كانت هذه الخصلة هي سبب كراهة أدباء العرب لآداب الإغريق، فقد كان فيها أشياء يمكن اصطناعها، ولكن نزعة الجمود — أي ما للقديم من حُرمة — منعت هؤلاء الأدباء من استنان أية سنة جديدة في عالم الأدب العربي؛ ولذلك بقي الشعر في أيام الدول الإسلامية المتقدمة والمتأخرة كما كان أيام الجاهلية، على الرغم مما طرأ عليه من ترقيق الحضارة.
وخصلة أخرى في الأدب العربي هي الإغراق في الصنعة، وهذه الخصلة بحكم ما ذكرناه آنفًا من احترام القديم لا تزال حية بين أدبائنا، فالمنفلوطي لم يبلغ من الشهرة ذلك المدى البعيد إلَّا لجمال صنعته، وتوخيه دسَّ العبارات القديمة في ثنايا إنشائه، والرافعي والمازني كلاهما لا يبالي بشيء بمقدار ما يبالي بالصنعة، ولو كانت هذه الصنعة في توخي الدقة لما كان يمكن الاعتراض عليها، فإن دقة التعبير هي في اعتقادي غاية الغايات في اللغة، وهي همُّ كل كاتب مخلص يودُّ أنْ يفضي إلى القارئ بحقيقة فكره، ويتعمل لهذا الإفضاء، وقلما يبلغ غرضه، وإنما كان القصد من الإغراق في الصنعة، وهو لا يزال إلى الآن قائمًا على الزينة والبهرجة، وليس من شأن هذه الصنعة أنْ تزيد الدقة في المعنى أو تقربه للقارئ، بل هي تؤدي إلى نقيض ذلك؛ إذ تشوش ذهنه بألفاظ لا لزوم لها.
وليس الشأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفاته، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف، وليس يطلب من المعنى إلَّا أنْ يكون صوابًا، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت.
المعاني مشتركة بين العقلاء، فربما وقع المعنى الجديد للسوقي والنبطي والزنجي، وإنما تتفاضل الناس في الألفاظ ورصفها وتأليفها ونظمها.
وليس الشعر عند أهل العلم به إلَّا حُسن التأني، وقُرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأنْ يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله، وأنْ تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغير منافرة لمعناه، فإن الكلام لا يكتسي البهاء والرونق إلَّا إذا كان بهذا الوصف.
فإن اتفق مع هذا معنى لطيف، أو حكمة غريبة، أو أدب حسن، فذلك زائد في بهاء الكلام وإنْ لم يتفق فقد قام الكلام بنفسه، واستغنى عما سواه.
ومن هذه الاقتباسات يرى القارئ أنَّ الآمدي وأبا هلال العسكري يعنيان باللفظ أكثر من عنايتهما بالمعنى، وقد صار هذا من تقاليد الأدب العربي، حتى جاء وقت غمرت فيه الصنعة كل شيء، وأصبح الأدب مجموعة ألفاظ عالية الرنين سخيفة المغزى والمعنى.
فهاتان إذن هما خصلتان اتسم بهما الأدب العربي من قديم، ولهما كلتاهما أثر في أدبنا الحديث، فإحداهما تمنع الأدب من التجدد، وتجعل الأديب يتلفَّت على الدوام إلى الوراء، يستوحي الماضي بدلًا من أنْ ينظر بعين الرجاء إلى المستقبل، أو بعين الثقة إلى نفسه، والأخرى تدفعه إلى بعثرة قواه في تحفظ الألفاظ الفخمة والعبارات الجزلة، وفي اصطناع أسلوب مقترض غير أسلوبه الشخصي، فيذهب المعنى والمغزى فداء لبهرجة سخيفة تؤذي القارئ والكاتب معًا، وتضعف في كل منهما مَلكة التفكير الصريح النيِّر.
هذه بعض خواطر عنت لي بعد قراءة رسالة مفيدة لخليل مردم عن شعراء الشام في القرن الثالث وعنايتهم بالألفاظ.