اللغة الفصحى واللغة العامية ورأي السير ولكوكس
السير وليم ولكوكس أحد أولئك الأجانب القلائل الذين تقر مصر بفضلهم وولائهم، فقد أحدث من مشاريع الري ما عاد على الفلَّاح من الثروة بما لا يقل عما عاد عليه من استنتاج المسيو سكلاريدس للبذرة المسماة باسمه، فكلا الرجلين ذو فضل علينا لا ينسى وحق يجب أنْ يرعى، ولكن السير وليم ولكوكس ليس مهندسًا فقط، يفكر في الطين والحجر ويعمل بالمسطرة والبركار، بل هو أيضًا رجل خيال ورؤى وأحلام، يفكر في مستقبل الناس، ولعل له «طوبى» ينشرها على الناس يومًا ما فيرسم لهم فيها نظامًا جديدًا للحكومة والتربية والزواج، وغير ذلك مِن المثل العليا للهيئة الاجتماعية التي يحلم بها، واعتقادي أنَّ السير ولكوكس من عظماء الهندسة؛ لأنه يجمع بين صوفية الأديب ودقة العالم.
وهموم السير ولكوكس مصرية أكثر مما هي إنجليزية، فهو يقيم في مصر ويفكر في صالح مصر؛ لأن مصر هي وطنه الثاني؛ ولأنها كانت أيضًا الواسطة التي تمكن فيها من استغلال مواهبه في خدمة الناس وزيادة رفاههم، والهم الكبير الذي يشغل بال السير ولكوكس، بل يقلقه، هو هذه اللغة التي نكتبها ولا نتكلمها، فهو يرغب في أن نهجرها ونعود إلى لغتنا العامية، فنؤلف فيها وندون بها آدابنا وعلومنا.
والتأفف من اللغة الفصحى التي نكتب بها ليس حديثًا؛ إذ هو يرجع إلى ما قبل ثلاثين سنة، حتى نعى قاسم أمين على اللغة الفصحى صعوبتها، وقال كلمته المشهورة: «إنَّ الأوروبي يقرأ لكي يفهم، أمَّا نحن فنفهم لكي نقرأ»، أو ما معناه ذلك، وقد اقترح أنْ يلغى الإعراب، فتسكن أواخر الكلمات كما يفعل الأتراك، وقام على أثره منشئ الوطنية المصرية الحديثة أحمد لطفي السيد، فأشار باستعمال العامية؛ أي لغة العامة، ولكن هؤلاء العامة الذين انتصر للغتهم كانوا من سوء القدر لأنفسهم؛ بحيث تألبوا عليه وجازوه جزاء لا يأتي إلَّا من العامة الذين لا يدرون مصالحهم، وفي العام الماضي حدثت في سوريا مثل هذه الحركة، فألف فاضل رسالتين دعا فيهما إلى اصطناع العامية السورية بدلًا من اللغة الفصحى، واستند في دعوته إلى أنَّ اللغة العامية أوفى تعبيرًا وأدق معاني، وأحلى ألفاظًا من اللغة الفصحى، وقد هبَّت الصحف السورية والفلسطينية، حتى العراقية تقبح رأيه وتنسبه إلى ضعف الحمية الوطنية، مع أنَّ المنطق أحرى بأن ينسبه إلى قوة هذه الحمية التي غلبته، حتى أخرجته من شيوعية القومية العربية وحصرته في حدود الوطنية السورية.
ولستُ أنقم على اللغة الفصحى إلَّا شيئين؛ أولهما صعوبة تعلمها، وثانيهما عجزها عن تأدية أغراضنا الأدبية، أمَّا مِن حيث الصعوبة فإنه يكفي أنْ نقول إننا نتعلمها كما نتعلم لغة أجنبية، وأنَّ أحسن كتَّابنا يخطئ فيها، لا أقول عشرات الأغلاط، وإنما أقول مئات الأغلاط، وأننا مهما تعنينا وتوخينا الصحة فإننا لعدم إشرابنا روحها وبعدنا عن قياسها، لا نزال نرتكب الهفوات فيها، وفي العام الماضي اتهمني واحد ممن يعدون اللغة والقرآن وحدة لا تنقسم بأني لا أحسن الكتابة بها، فأجبته بأن هذه التهمة حجة على اللغة، وليس هي بالحجة عليَّ، فإني الآن في العقد الرابع من عمري، أحترف الكتابة منذ عشر سنوات، وأقرأ من كتب الأدب مهجورها ومنشورها، فإذا كنت بعد ذلك أعجز عن الأداء بها فهي إذن أحق باللوم مني، ونحن جديرون بأن نبحث عن لغة أخرى نؤدي بها أغراضنا بدلًا من هذه اللغة التي تقتضي من الدرس عشرات السنين، ثم لا يحسن بعد ذلك دارسها كتابتها، ولكن الواقع الذي لا أناقش فيه أنَّ اللغة العربية يشق على الطالب تعلمها، وطلبتنا مكدودون في المدارس، يكدحون لفهم المئات من قواعدها، ويخرجون بعد ذلك منها وهم يكرهونها؛ لأنهم لا يرون طائلًا وراءها.
ثم هي أيضًا لا تؤدي أغراضنا، وقد كانوا يعلمون العلوم في مدارسنا إلى عهد قريب بالفرنسية أو الإنجليزية، ولا يزال الطب يعلم بالإنجليزية، ولكن الأغراض العلمية يسهل أداؤها بأي لغة، بل يمكن أداؤها بالرموز أحيانًا، ويكفي أنْ نعرِّب الاسم الأوروبي بلا ترجمة فنبلغ غايتنا من فهمه، ولكن نكبتنا الحقيقية هي أنَّ اللغة العربية لا تخدم الأدب المصري ولا تنهض به؛ لأن الأدب هو مجهود الأمة، وثمرة ذكائها، وابن تربتها، ووليد بيئتها، فهو لا يزكو إلَّا إذا كانت أداته لغة هذه البيئة التي نبت فيها، «فالدرامة» مثلًا لا يمكن بأية حال من الأحوال أنْ تنشأ ما لم تستخدم اللغة العامية، وكذلك القصص، بل الأدب الأوروبي كله يبتدئ تاريخه من الوقت الذي عمد فيه الأدباء كل إلى لغته فكتب بها، وهجر اللاتينية التي كانت لغة أوروبا جمعاء.
ومما يمكن أنْ ينقم على اللغة الفصحى أيضًا أنها تبعثر وطنيتنا المصرية، وتجعلها شائعة في القومية العربية، فالمتعمق في اللغة الفصحى يشرب روح العرب، ويعجب بأبطال بغداد القدماء بدلًا من أنْ يشرب الروح المصرية ويدرس تاريخ مصر، فنظره متجه أبدًا نحو الشرق، وثقافته كلها عربية شرقية، مع أننا في كثير من الأحيان نحتاج إلى الاتجاه نحو الغرب، والثقافة تقرر الذوق والنزعة، وليس من مصلحة الأمة المصرية أنْ ينزع شبابها نحو الشرق، وأنه لأنفع لنا وللشرق أنْ ينزع هو إلينا، لا أنْ ننزع نحن إليه.
وربما كان مما ينقم أيضًا على اللغة الفصحى تلك الرنة العالية التي تجدها في ألفاظها، والتي كثيرًا ما تطوح بسببها الكتاب حتى وقعوا في الإسجاع، وبعض كتابنا يستهويه للآن رنين الألفاظ، فيكد ذهنه عند استهلال المقال في إيجاد جملة سجعات، وينثر في غضون مقاله فقرات مسجعة محفوظة من الهمذاني أو الحريري أو غيرهما، مما نكب بهم الأدب العربي، ويعتقد أنَّ هذا اللعب السخيف يظهر الناس على تفوقه في الإنشاء، ولكن الحقيقة أنه في ذلك يزني على ذهنه، ويبيع قلبه لمن لا يحبه، ومنذ أعوام قلتُ إنَّ أفضل أساليب البلاغة هو الأسلوب التلغرافي؛ لأنه يمنع المنشئ من التهتك بالألفاظ والانغماس في طربها الوحشي الذي يشبه طرب الجمال بالحداء، فعاب على هذا الرأي بعض كتَّابنا وأبوا إلَّا الاستمساك بالأساليب القديمة، والاقتداء بالجاحظ والجرجاني والخوارزمي يرطنون مثلهم رطانة عربية.
ولكني الآن بعد اختمار الرأي، لا أرى أنَّ نهضتنا تقوم إلَّا باتباع آراء قاسم أمين، ولطفي السيد، والسير ولكوكس باتخاذ اللغة المصرية العامية، أو بإيجاد ما يشبه «التسوية» بينها وبين اللغة الفصحى، بحيث تتمصر هذه اللغة فتصطبغ بألوان بلادنا وتتأقلم في حقولنا ومدننا.
والسير ولكوكس لا يقول بهذه التسوية، إنما يدعونا إلى هجرة اللغة الفصحى هجرة تامة واصطناع العامية، وقد ترجم هو نفسه الإنجيل إلى اللغة العامية المصرية، فوفق فيه إلى ترجمة حية يقرؤها المصري فيلذ له الأسلوب، ويرى فيه جوًّا مألوفًا يشم منه النكهة البلدية، وهو في اعتقادي أوقع في النفس من الإنجيل المترجم إلى اللغة الفصحى.
وقد خطب منذ أشهر خطبة عن هذه اللغة، جمع فيها اختباراته عنها، وارتأى فيها أنَّ هذه العامية التي نتكلمها في مصر ليس لها علاقة بالعربية الفصحى، فكل منها لغة متميزة عن الأخرى، ونحن لم نكتسبها عن العرب، وإنما نزلت إلينا من الهكسوس الذين أقاموا في مصر نحو ٥٠٠ سنة، وأنَّ طريقة النفي المزدوج حين نقول: «أنا ما عملتش» هي طريقة لا يعرفها العرب، وإنما جاءتنا من الهكسوس الذين انتشرت لغتهم في أقطار عديدة حول مصر حتى بلغت مالطة، وهذه اللغة تعبر الآن عن مزاجنا، وتقوم بالمعاني التي تختلج في أذهاننا، أمَّا اللغة الفصحى فهي «الهيروغليفية» التي يترجم كتَّابنا وطلبتنا إليها خواطرهم وأفكارهم، كما ينقلونها أحيانًا إلى الإنجليزية أو الفرنسية، ويرطنون بألفاظها المحفوظة من الكتب.
قال السير ولكوكس: «يسهل علينا أنْ نرى الأثر المخدر الذي تحدثه الألفاظ الرنانة التي لا تفهم منها لفظة واحدة في نفس السامع، وسماع مثل هذه الألفاظ يقتل في الذهن كل ابتكار بين أولئك الذين لا يقرءون، كما تقتله أيضًا في نفس الطالب تلك الدروس التي تلقى عليه باللغة الفصحى المصطنعة، التي تبلغ الرأس دون القلب، فتمنع مَن يتسمون العلماء في هذه البلاد من التفكير البِكر، فقد عشت في مصر أربعين سنة فلم أجد فيها مصريًّا يفكر فيها تفكيرًا حرًّا، فإن قوة المصريين الذهنية يستنفذها على الدوام جهدهم في أنْ يترجموا ما يقرءونه باللغة الفصحى إلى اللغة المصرية المألوفة، ثم هم عند الكتابة يترجمون ما فهموه بهذه اللغة إلى اللغة الفصحى، وهذا العمل ضرب من التسخر الذهني …»
وأيضًا: «قضيت عشر سنوات حين كنتُ في خدمة الحكومة المصرية، وأنا أُشرِف على مدرسة الهندسة وأمتحن طلبتها، وكنتُ أجد بين الطلبة من يعدون حقًّا من الأذكياء، ولكنهم كانوا يسيرون في دروسهم ببلادة؛ لأنهم كانوا يقرءونها باللغة الفصحى المصطنعة، وليس باللغة المصرية الحية، وكانوا لا يجدون أدنى مشقة في فَهم الرياضة النظرية، فإذا طولبوا بالتطبيق عادت إليهم روح التسخر الذهني، وكان ذوو الذكاء الواعد ينتهون في الآخر إلى لا شيء، وأقول هذا عن أصدقاء ومعارف كان يمكنهم أنْ يتبوءوا مراكزهم بين مهندسي العالم في الأقطار الأخرى، لولا أنهم كانوا يفكرون بلغة ويكتبون بأخرى، أجل، إنَّ اللحم والدم لا يستطيعان كل هذا المجهود، وربما كانا يستطيعانه لو كان لكلٍّ منا رأسان، ولكن الواقع أنَّ لكل منَّا رأسًا واحدًا، وهذا رأس المسكين لا يجد له مجالًا في مصر، فلقد عرفت في هذه البلاد طالبين ذكيين كان في وسعهما أنْ يظهرا على هذا العالم، ويتركا طابعيهما فيه، لو أنه قدر لهما أنْ يكتبا باللغة التي كانا يتكلمان بها، كما نفعل نحن الغربيين — ولله الحمد — في غرب أوروبا ووسطها، وفي أمريكا وفي سائر الأقطار، حيث يفكر الناس ويبتكرون ويؤدون عمل الله على هذه الأرض.»
وأيضًا: «في السنين الأولى للاحتلال الإنجليزي حدث خطأ في قراءة خطاب، انتهى بحدوث انبثاق في قناة من قنوات الري، وعند التحقيق قال مهندس المركز إنَّ رئيسه أرسل إليه خطابًا لم يستطع أحد في البلدة قراءته، ولما سُئل الرئيس أجاب إنَّ مدارس الحكومة تجعل من الطلبة مواشي، حتى إنهم لا يفهمون العربية الخالصة التي يكتب بها خطاباته، فإلى هذا المدى المؤسف يبلغ بالناس حب اللغة في هذه البلاد.»
ولستُ في حاجة إلى إيراد أكثر من ذلك من خطبة السير ولكوكس، فما وجده هو وهو أجنبي يجده الوطني المصري، ويشعر به أكثر منهما الأديب المصري، ولست أشكُّ في أنَّ اللغة العامية تفضل اللغة الفصحى، وقد تؤدي أغراضنا الأدبية أكثر منها، ولكننا لم نبلغ بعد التطور الذي يمكننا فيه أنْ نظفر هذه الطفرة، إلَّا أنَّ هذا لا ينبغي أنْ يمنعنا من إيجاد تسوية بين اللغتين الفصحى والعامية، بإلغاء الأعراب مثلًا، واستعمال بعض الألفاظ العامية.
وهذه التسوية لا ترضي بالطبع السير ولكوكس وأمثاله، ولا هي ترضي أيضًا معظم أدبائنا، وأنا أقول للفريق الأول إنه لم يظهر بعد بيننا أديب يستطيع أنْ يسوم الأمة اللغة العامية، كما فعل رابليه حين ألَّف كتابًا لأول مرة في اللغة الفرنسية سنة ١٥٣٢، وهدم بذلك مأثور أوروبا الذي عاش أكثر من ألف عام، وأقول للفريق الثاني إني لا أعرف لغة عاشت كما هي منذ الأزل، واللغة العربية لن تشذَّ عن ذلك، وقد آن لها أنْ تتطور، وأقول للقراء إننا للآن نرطن اللغة الفصحى رطانة، ولم تُشر بها بعد نفوسنا، ولا أمل في أنْ تُشر بها؛ لأنها غريبة عن مزاجنا، وقد عانيت الترجمة إلى اللغة الفصحى عدة سنوات، فما رضيت مرة عن نفسي وارتضيت الترجمة. فإنما نحن نؤلف ونعتقد أن ندعي أننا نترجم؛ وذلك لأن هذه اللغة الفصحى هي لغة بدوية، والثقافة هي بنت الحضارة وليست بنت البداوة، فلهذا يشق علينا جدًّا أنْ نضع معاني الثقافة في هذه اللغة سواء بالترجمة أم بالتأليف.