في فلسفة اللباس
فكر بعض أفراد الشبيبة المصرية حديثًا في اختراع زي مصري خاص لنا، يصنع من منسوجات وطنية، وقد رأيت بهذه المناسبة أنْ أدلي بهذه الملحوظات.
فأمَّا ترقية الصناعة من منسوجات وغير منسوجات، فهذا ما يجب أنْ يوافق عليه كل مصري ويدعو إلى ترويجه، ولو كان في ذلك بعض الخسارة عليه، وأمَّا تغيير الزي الإفرنجي الحديث، فهذا ما لا يمكن أحدًا عاقلًا متمدينًا متهذبًا أنْ يوافق عليه.
وذلك لأن اللباس الذي نلبسه الآن، والزي الذي نتزيَّا به، هما ثمرة الحضارة الراهنة التي غمرتنا في سبيلها، واكتسحت أمامها تقاليدنا القديمة، فأثبتت بذلك جدتها وبلى هذه التقاليد، ونقول بعبارة أخرى إنه قد حدث «تنازع بقاء» بين هذه الحضارة الحديثة وهذه التقاليد العتيقة، فانهزمت التقاليد وفازت الحضارة، وكان فوزها دليلًا على صلاحيتها.
واللباس يتمشى مع العمارة والأثاث، فإذا فشا شكل جديد في العمارة رأيت أثره في اللباس وفي أثاث المنزل؛ وسبب ذلك أنَّ الذوق الذي يستحسن شكلًا خاصًّا في العمارة هو نفسه الذي يستحسن مثل هذا الشكل في الأثاث أو اللباس.
فإذا كنَّا نستحسن المنارة الدقيقة الرفيعة، فإننا لا شكَّ نستحسن الرجل الطويل النحيف، فإذا صار هو مثلنا الأعلى صرنا نلبس من الألبسة ما يقربنا إلى شكله من صدرية تحزق الوسط إلى رداء محبوك.
وإذا كنَّا نستجمل الدار القوراء، يتوسطها صحن رحب، صرنا نستجمل الرداء الفضفاض كالجبة وما شابهها.
وإذا كنَّا نحب سذاجة الإغريق في تماثيلهم، صرنا نطلب ما يشبه هذه السذاجة في نسائنا.
وكذا الحال في أثاث المنازل؛ نصنعه لكي يشاكل عمارتنا ولباسنا، فإذا كان البناء ضخمًا كان الأثاث ضخمًا، وهلمَّ جرًّا.
فالعبرة بالذوق، فإذا كنَّا نستجمل الضخامة في اللباس استجملناها أيضًا في العمارة وفي الأثاث، وإذا كنَّا نهوى الدقة والسذاجة في العمارة، فإننا لن نفقدهما في اللباس والأثاث.
وكل هذا ينعكس أثره على الإنسان نفسه، فإذا كان رجال الفن من مثالين ورسَّامين وبنائين في أمة، يعمدون إلى الدقة والسذاجة في بناء البيوت، وصنع التماثيل، ورسم الصور، انعكس هذا الذوق على الأمة بأجمعها، فصارت تطلبه في ملابسها وأثاثها، بل في أجسامها؛ لأنها حينئذٍ لا تستحسن من الأشخاص رجالًا كانوا أم نساء إلَّا مَن نحفت أجسامهم، ولا تهوى من اللباس إلَّا الساذج المحبوك على الجسم، ولا تهوى من الإناث إلَّا ما خلا من ضروب التعمل والتكلف.
ومن هنا فائدة الأديب كائنًا ما كان فنه الذي يمارسه، فإذا كان هو رفيعًا رسم للأمة مثلًا عُليا تنعكس عليها وتطبعها بذوقه، ففنه عندئذٍ يرفعها.
ومن هنا يمكن القارئ أنْ يستنتج الأثر الذي يحدثه اللباس الشرقي الرحب، الذي يلبسه الصينيون والهنود وبعض العرب، ويُقْرِنَه إلى العمارة الفاشية في بلاد هؤلاء، ثم يقابل كل هذا باللباس الغربي المحبوك الذي يحزق البطن، ويقرنه إلى العمارة الفاشية عند الغربيين، فعند الشرقيين الذين ذكرناهم منازل قصيرة قوراء وأجسام سمينة، وعند الغربيين منازل عالية ضيقة وأجسام نحيفة طويلة.
واللباس أيضًا كالعمارة دليل الحالة الاجتماعية، فإذا كانت الأمة ديمقراطية كانت أجور عمالها عظيمة؛ ولذلك لا يمكن أنْ تجد التطعيم في أوروبا لا في العمارة، ولا في اللباس، ولا في الأثاث؛ لأن التطعيم يحتاج إلى كدٍّ كبير دون الحاجة إلى مهارة كبيرة، فعامله يشتغل كثيرًا ولا يحصل إلَّا على أجر صغير، ونحن هنا في مصر نكلف أرخص عمالنا — في الصعيد — بتطعيم اللباس بالتلِّي للسيدات، كما نطعم أيضًا بعض الأثاث، وقد رأيت في بعض دور طنجة في مراكش أنهم يطعمون سقوف منازلهم، ولا بدع فإنه لا يزال عندهم عبيد أرقاء، وقد وجدت في مدافن توت عنخ آمون أثواب مطعمة (ملبسه).
وقد قال هربرت سبنسر: إنَّ الأصل في اللباس هو الزينة لا الفائدة، وهو لا يزال كذلك عند الهمج، وعندنا أيضًا إلى حدٍّ ما، فقد أنفقنا نحن في مصر نحو ٧٥٠٠٠٠ جنيه على رباط الرقبة في عام واحد، مع أننا نعرف أنه أداة زينة لا فائدة منه، وكان أبو الطيب المتنبي يلبس نحو عشرة أثواب في أشد الأوقات حرًّا، ويكلِّف نفسه هذه المشقة؛ لكي يظهر بمظهر الوقار والجلال، ولكن كلما ارتقى الناس قلَّ اعتبارهم للزينة وقدروا الفائدة، فبعض النساء الأميركيات والإنجليزيات يقصصن شعورهن، ولا يعلقن الأقراط في آذانهن، ولا يتزين بالعقود أو الأساور، وكذلك لا يلبسن المشد أو الأحذية ذوات الكعب العالي.
وللِّباس تأثير نفساني في الإنسان، ولنذكر أنَّ عمر بن الخطاب خلع عن نفسه لباسًا رومانيًّا فخمًا؛ لأنه شعر منه بخيلاء لم يشعر بها قبلًا، وعاد إلى لباسه البدوي حتى تعود إليه سذاجة نفسه، وعلى هذا القياس يمكننا أنْ نقول إن العقلية الأوروبية يسهل على الأفندي أن يتقمصها، كما يتقمص اللباس الأوروبي أكثر مما يسهل ذلك على الشيخ، وهي أسهل على «المتفرنج» الذي يلبس القبعة، مما هي على الأفندي لهذا السبب نفسه.
وعلى هذا القياس أرى لغرامي بالحضارة الأوروبية، وهي حضارة العالم أجمع الآن، أن أحث بني وطني على أنْ يلبسوا القبعة دون الطربوش — لا لأنها تقينا من الشمس والمطر وهو لا يقينا — لأنها تبعث فينا العقلية الأوروبية.
واللباس يصنع الإنسان كما قال شكسبير، وأحيانًا يدعوه نوع اللباس الذي يلبسه إلى الخمول أو إلى النشاط، فاللباس الأوروبي يساعد الأوروبيين على النشاط، ولا يوافقهم على الاضطجاع والاستسلام للخمول، كما يساعدنا الجلباب الواسع، والواقع أنَّ جلبابنا هو لباس النوم عندهم، وهو أيضًا لباس النساء، والمرأة أقل نشاطًا من الرجل، ولعل هنا علة من علل خمول الشرق، أو قل: إنَّ هذا الجلباب الواسع الذي يدعوه إلى الخمول والدعة، هو نفسه نتيجة مزاجه الذي يولده الحر في نفسه من حب الدعة.