الشباب وناموس التحول
أهم صفة في الأجسام الحية هي تحولها المستمر، بل ربما كانت هذه أهم صفة في الجماد أيضًا، وإنْ كان إيضاحها يدق على أفهامنا وحواسنا، وصفة التحول هذه ظاهرة في الأحياء، لا تجد نباتًا أو حيوانًا على حال واحدة في دقيقتين متواليتين، فالحي دائم التمثيل والإفراز والنمو، لا تني ذراته عن التجدد والاندثار، فهو في هذه الساعة يختلف عما كان قبل ساعة، وسيختلف عما سيكون بعد ساعة؛ أي أنه في تحول مستمر، والتحول إذا اطرد وتمادى عليه الزمن صار تحورًا كالجلد «يتقرن» إذا كثر احتكاكه، والتحور إذا اطرد وتمادى عليه الزمن في جملة أجيال متتابعة، صار تطورًا كالسلالة الداجنة من الحيوان تنشأ من سلالة برية قديمة.
فالتحول هو ناموس الحياة الرئيسي، وإليه تستند جميع نواميس الحياة الأخرى التي هي في الحقيقة صورة أخرى منه، فإذا قلنا إن التمثيل أو النمو هما من نواميس الحياة، فإننا لا نعني أكثر من قولنا إن التحول قد يكون أحيانًا بالتمثيل وأحيانًا أخرى بالنمو.
ومن هذه الطبيعة العجيبة تنشأ لدينا صعوبة وضع القواعد للحياة، وخاصة للحياة العليا التي تتجلى في الإنسان وجماعاته، فالقواعد والقوانين والمؤسسات كلها جامدة ثابتة، وحياة الإنسان مرنة في تحول لا يقف لحظة، وكلاهما لذلك في تناقض.
وعلى هذا نقول: إنَّ الإنسان على الدوام في صراع مع مؤسساته، هو صراع مرونة الحياة مع جمود القاعدة، ولكن التحول نفسه يحتاج إلى قواعد؛ لأنه عندما تتفاقم الحالة بين قاعدة قديمة وتحول جديد نحتاج إلى إيجاد قاعدة جديدة؛ لكي نمكن الناس من السير في منهج جديد.
ومن هنا كانت فائدة المصلحين والأنبياء والمشترعين والفلاسفة، يؤسسون المؤسسات والقواعد العمرانية، ويغرسون في الناس العوائد الجديدة، ولكن من هنا أيضًا كان ضرر هذه المؤسسات والقواعد والعادات؛ لأنها وإنْ كانت قد أصلحت في الأول، فإنها بدورها تجمد أمام مرونة الحياة، فتعوقها عن التقدم، ومن ذلك يمكنك أنْ تقول: إنَّ جرثومة الفساد أصلية في كل إصلاح، فما من مؤسس أو قانون أو عادة يقصد بها خير الناس إلَّا والشر كامنٌ فيها، والضرر يعود عليهم منها في وقت من الأوقات.
ولكن مع كل ما قلناه لا يمكن الناس أنْ يعيشوا بلا نظام، والنظام يقتضي وجود المؤسسات والعادات، إنما المهم ألَّا تمسح عليها مسحة القداسة، بحيث تكتسب حرمة تمنع الناس من ارتياء الآراء فيها وتغييرها وتبديلها عند اللزوم، فيجب أنْ يكون الناس أحرارًا في تبديل قوانين الحكم والزواج والطلاق والتربية والامتلاك، وسائر ما يؤثر في حياة الفرد أو السلالة؛ وذلك لكي نجعل هذه الأشياء تجاري الحياة في تحولها، أو على الأقل تتابعها؛ لأنها لم تخرج عن أنْ تكون آراء قديمة لأحد الناس أو لجماعة منهم حالوا أنْ يبلغوا الحقيقة، وحقائق هذا العالم ليست مطلقة، بل أغلب الظن أنَّ الحقائق تتطور كما تتطور الأحياء، فليس شيء جدير بالتقديس والتضحية في هذا العالم غير حرية الرأي؛ لأنها هي وحدها الوسيلة لأنْ تجعل عادات الإنسان ومؤسساته تتابعه ولا تعوقه، فأول ما يجب أنْ يتجه إليه نظر مصلح في مصر أو غير مصر من أقطار الشرق العربي، هو الحصول على حرية الرأي وسائر ما يتفرع من هذه الحرية كحرية الخطابة والاجتماع والصحافة؛ لأن هذه الحرية تكفل بتصادم الآراء تمحيص الأفكار، وتبديل المؤسسات والعادات وفقًا لتحول الحياة.
بقي أنْ نقول: إنَّ شباب الأمة أوفق لحريتها، وأقبل لسياسة التحول من شيوخها؛ لأن العادة تثبت وترسخ بنسبة طول ممارستها، وليست المؤسسات والقوانين إلَّا عادات أكثر رسوخًا في الشيوخ منها في الشباب؛ لأنهم أطول عمرًا وأكثر ممارسة لها؛ ولهذا السبب يتهم الشيوخ بحق بأنهم جامدون، ويتهم الشباب بالطفرة، وليست الطفرة في الحقيقة سوى عدم احترام العادات الماضية. ولكن الطفرة على كلِّ حال خير من الجمود، وخاصة في مثل قطرنا وفي مثل وقتنا، حين نجد كثيرًا من العادات الآسيوية تكاد تزهق أرواحنا، وتعمل لإبادتنا أمام الحضارة الأوروبية التي تغزونا بشراسة الظافر واستكلاب القوي.
وأظن أني أقرر الواقع حين أقول إن نهضة تركيا تعزى إلى الشباب، وإنها أقيمت على الرغم من الشيوخ، وليس هذا مدحًا لها، وإنما هو — كما قلت — تقرير للواقع الذي يرويه المحتكُّون برجال أنقرة، ومن البديهي أنْ تكون الحال كذلك؛ لأنه من المحال أنْ يعيش إنسان في عصر عبد الحميد، ويألف عادات الحكم الاستبدادي في ذلك الزمن، ويشيخ وهو يمارسها، ثم يستطيع أنْ يطفر هذه الطفرة الكبيرة التي قام بها شباب الأتراك الآن.
ولا حياة للشرق العربي إلَّا بأن يسلِّم مقاليد أحكامه لشبابه.