تدريس التاريخ
كان المؤرخون إلى عهد قريب إذا وضعوا كتابًا في التاريخ، عمدوا إلى الملوك والأمراء والقواد، فترجموا حياتهم واختصوهم بتدوين أعمالهم، ووصف عيشتهم جَّلت أو دقَّت، لا يلتفتون إلى عامة الأمة، ولا يبالون بحالهم الاقتصادية أو الثقافية أو السياسية، وهذا هو ما نجده في كُتب التاريخ العربي والإفرنجي القديمة، بل بعض الحديثة أيضًا.
وقد كان كارليل — الأديب الإنجليزي المعروف — يزعم أنَّ فلسفة التاريخ تقتضي درس العظماء دون العامة؛ لأن العظيم — سواء أكان فيلسوفًا أو قائدًا أو نبيًّا — هو خلاصة الأمة التي نبت فيها، وهو جماع فضائلها، وهو النور الذي به تهتدي وعلى طريقه تسير، وهو لم يقصد في ذلك إلى قصر تاريخ الأمم على ملوكها، كما هو الشأن في كتاب العرب والإفرنج إلى عهد قريب، وإنما كان يرمي إلى درس تاريخ العظماء مهما كان نوع عظمتهم في الأدب، أو الفلسفة، أو الحرب، أو الصناعة.
والعجب من كارليل أنه كتب في مدح الحداد قطعة من أجمل ما كتب في اللغة الإنجليزية، يصف فيها عبالة ساعديه، وجده وأمانته ولزومه كِيره، وعظم منفعته للناس، ومع ذلك كان إذا نظر في التاريخ أهمله كأن لا شأن له البتة.
وقد عارض سبنسر هذه الطريقة في كتابه التاريخ، ودعا إلى أنْ يكون التاريخ شاملًا لجميع طبقات الأمة، يبحث أحوالهم المعيشية والدينية والاقتصادية وما إليها.
وضرب مثلًا على صحة مذهبه بالقائد أو الجندي المدرب، يقف إلى جانب المدفع الضخم، ويضع القنبلة في أنبوبته، ثم يشد زنده، فتنطلق القنبلة وتفعل أفاعيلها من الدمار، ويقول سبنسر: إنَّ هذا الجندي هو «العظيم» عند كارليل، ولكن قيمته في التاريخ هي دون قيمة ذلك الرهط الذي سبقه، واشتغل رجال منه في صهر الحديد للمدفع، واكتشافه، وجلبه من مناجمه، واختراع البارود، وتنظيم الجيوش، وما إلى ذلك، فمعرفة تاريخ جميع هؤلاء لا ينبغي أنْ تقل أهمية عن معرفة تاريخ هذا الجندي.
فعظماء الأمم في رأي سبنسر هم طفاوتها وزبدها الذي يظهر على السطح، والذي لا بدَّ من ظهوره حتمًا.
وهذا أيضًا هو رأي المستر ولز، صاحب التاريخ العام، الذي ألَّفه منذ نحو خمس سنوات، وارتأى فيه — فضلًا عن العناية بتاريخ العامة وسواد الأمة — إزالةَ النعرة الوطنية من تواريخ الأمم، والنظر إلى العالم كأنه أمَّة واحدة، وقد أعجبتني من ولز خاصة عنايته بأهل الرحلة، ووصف رحلاتهم في الأزمنة المختلفة سواء في الشرق أم في الغرب.
وذلك لأن السائح يصف أحوال العامة، ويذكر في تجاربه الشخصية ما يمكن أنْ يعد صورة لتجارب كل شخص حوله.
ونريد مما تقدم أنْ نستخلص وجوب تغيير طرق تدريس التاريخ في بلادنا، بل طرق وضع الكتب التاريخية أيضًا للمدارس ولغير المدارس.
فيجب أنْ ننزل من ذلك الأفق العالي، حيث يقتصر المؤرخ على ذكر الملوك والأمراء، ومن إليهم إلى ذكر أحوال الأمة، وليس هذا بالمستطاع على الدوام — وخاصة عند تنائي الزمن — كما هو الحال في عصر الفراعنة، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فعندنا من كتب السياحة والرحلة لابن جبير، وابن بطوطة، والمسعودي، وأبي الفدا، وسير العلماء الذين ارتحلوا في سبيل العلم والدين أمثال البخاري، والرازي، والبغدادي، وغيرهم، ما يبصرنا بأحوال العامة في العصر الإسلامي، وكذلك أيضًا نجد في كُتب التراجم لابن خلكان وابن أبي أصيبعة وغيرهما ما يدلنا على نوع المعيشة التي كان سواد الأمة يعيشها في تلك الأزمنة.
فمن هؤلاء وغيرهم يمكننا أنْ نضع تاريخًا جديدًا للعالم العربي، نرفع فيه سواد الأمم العربية إلى المستوى الذي يليق بهم، ونزيل عن الملوك والأمراء تلك الأهمية التي نسبت خطأ إليهم، ونحن الآن نعيش في زمن يطلب منا ذلك؛ لأن الملوك قد نزلوا عن عروشهم وصار الحكم في يد سواد الأمة، فمن المصلحة أنْ نجاري تيار العصر وننظر إلى التاريخ نظرًا ديمقراطيًّا.
وفرضوا على الجواميس كل رأس عشرين قرشًا، وعلى الجمل ستين قرشًا، وعلى الشاة قرشًا، والرأس من المعز سبعة وعشرين نصفًا وثلثًا، والبقرة خمسة عشر والفرس كذلك.
ثم أخذ يصف كيف أنَّ الباشا احتكر الصابون والشحوم.
فمن هذه الفقرة يتبين القارئ ما كان يعانيه الفلاحون والعامة في المدن من سلطة محمد علي، وكيف كان ينظر هذا الوالي إلى مصر كما ينظر الإنسان إلى ضيعته، يريد غلتها ولا يبالي بأناسها.
ثم هناك من دقائق التاريخ ما يجب أنْ يسترعي المؤرخ أكثر من الوقائع والحروب والفتوح وما إليها.
فمن ذلك أنَّ العرب عندما جاءوا مصر لم يكونوا قد ذاقوا الرز، وهذا معقول؛ لأن الرز يحتاج في زراعته إلى كمية كبيرة من الماء لا يمكن أنْ توجد في بلاد العرب، ومن ذلك أنَّ الحديد لم يوجد في قبر توت عنخ آمون؛ لأنه لم يكن قد اكتشف بعد، ومن ذلك أنَّ العرب لم يعرفوا معنى الدستور أو المجالس النيابية، مع أنها كانت معروفة عند الورمان، ومن ذلك أنَّ شارع الخليج الذي يمر به الترام الآن في القاهرة هو نفسه الخليج الذي حفره نخاو فرعون مصر، ووصل به النيل بالبحر الأحمر، ومن ذلك أنَّ القبط كانوا منذ ثلثمائة سنة فقط يتكلمون اللغة القبطية في صعيد مصر.
وقد يقابل الإنسان نظام الموالي في الإسلام عند العرب بنظامهم عند الإفرنج في القرون الوسطى، وقد يبحث أيضًا في نظام الصناعات مدة حكم المماليك في مصر، وهل كان مثل نظام النقابات (الجيلد) في أوروبا في ذلك الوقت.
ثم هناك تلك الداهية الكبرى التي أصابت العالم الإسلامي بنزول المغول وهدم مدنيته على يد جنكيز خان وتيمورلنك، وما علاقة نزوح هذه الأقوام بسد الصين، فإن الصينيين بنوا هذا السور لكي يحموا أنفسهم من غارات هؤلاء المغول، وهل هذا السد هو سد يأجوج ومأجوج الذي ذكر في القرآن؟
وكثيرًا ما تكون اللفظة واشتقاقها دليلًا على أصل من أصول المدنية، فمن لفظة جاموس نعرف أنَّ هذا الحيوان جاءنا من فارس، فهو مركب من لفظتين: «جاو» أو «كاو»؛ أي البقرة كما هي في الإنجليزية إلى الآن و«موش» أي أسود.
ومن لفظة «عزبة» نعرف أنَّ المماليك كان يملكون الأراضي في مصر، لا يتركون منها شيئًا لأهل البلاد؛ لأن هذه اللفظة روسية شركسية بمعنى الضيعة، وأيضًا نجد في لفظة «بوظة» الشركسية دليلًا على هجرة الشركس إلى السودان، وأنهم هم الذين أدخلوا هذا الشراب إليه.
ومن الحوادث الصغيرة ما يبصرنا بقيمة الحرية الدينية، أو الأمن العام في عصر الدولة العباسية، فقد قتل الشاعر الأعمى بشَّار لاتهامه بالزندقة، وكان المعري وهو ينحدر في النهر إلى بغداد نهبت منه سفينته عنوة، فلم يلجأ إلى القضاء لكي ينتصف له، بل لجأ إلى الحاكم، وكانت ميادين قرطبة تكتظ بالنساء يجلسن؛ لكي يؤجرن في نسخ الكتب بدلًا من المطابع.
بمثل هذه الصغائر وأشباهها نعرف كيف كان يعيش العرب، وماذا كانوا يأكلون، وما كان رأيهم في المرأة والحرية، وكيف كانت نظمهم الحكومية والعائلية والاقتصادية، وكل هذا جدير بالدرس أكثر من الفتوح والغزوات.
وبعبارة أخرى يجب أنْ ندرس تاريخ الأمة بدلًا من أنْ ندرس تاريخ أمرائها.