الثقافة الأوروبية ومصادرها
فرق بين الثقافة وبين الحضارة، فقد يكون الإنسان مثقفًا دون أنْ يكون متحضرًا، بل ربما تدعوه ثقافته إلى كراهة الحضارة، فليس ينكر مثلًا أنَّ ديوجينس الإغريقي كان مثقفًا، عارفًا بتاريخ الإغريق وآدابهم، ولكنه كان مع ذلك يكره حضارتهم ويؤثر العيشة البدوية الساذجة على رفاهيتهم وترفهم.
فالحضارة خاصة بالمعيشة، وما فيها من ترف، أو على الأقل من رفاهية، أمَّا الثقافة فخاصة بمعلومات الإنسان من علوم وآداب ومعارف عامة، وقد يكون الإنسان متحضرًا خلوًّا من الثقافة، كما هو الشأن في أكثر أغنياء أوروبا، وقد يكون مثقفًا دون أنْ يكون متحضرًا.
فالثقافة معنوية خاصة بالفكر، والحضارة مادية خاصة بالمعيشة، وفيما يلي نرغب في أنْ نوضح أصول الثقافة الأوروبية ومصادرها التي صدرت عنها، وإذا قلنا: «أوروبية»، فإننا نعني «عالمية» لسيادة أوروبا الآن على العالم.
فالثقافة الأوروبية أشبه شيء بالنهر الكبير، تمده عدة روافد، فنحن نبحث ههنا عن هذه الروافد ومصادرها.
وأول ما يجب إثباته أنَّ أوروبا الحديثة لم تستفد كثيرًا من «الشرق» من حيث الثقافة، فإن الإغريق — وهم أول أمة أوروبية عنيت بالثقافة — لم يكتسبوا شيئًا من المصريين؛ لأن الفلسفة الإغريقية ثم الآداب الإغريقية، لا تمتان بنسب إلى فلسفة المصريين أو آدابهم، وقد أنشأ الإغريق مدرسة الإسكندرية، ولكن علماءها كانوا كلهم من الإغريق، وكانت لغتهم إغريقية، فلم يكن للمصريين فضل في هذه المدرسة، ولم ينبغ منهم واحد فيها، بل يجوز لنا أنْ نشك في دخول المصريين فيها.
ويمكن أنْ نقول: إنَّ أوروبا استفادت ديانتها الراهنة من الشرق، ولكن يجب ألَّا نلقي هذا القول جزافًا، فالديانة المسيحية مؤلفة من عنصرين؛ أحدهما خاص باللاهوت والآخر خاص بالأخلاق.
فالأول وهو اللاهوت يرجع الفضل فيه إلى المصريين، فإن النظريات الخاصة بالثالوث المقدس أو التجسد أو البعث، هي نفسها تلك النظريات التي كانت شائعة عند المصريين، ونظرية الثالوث هي أهم أركان الديانة المصرية القديمة، فإن الربة إيسيس هي العذراء التي تلد هورس من رب الأرباب أوزوريس، ويمكن أنْ نتبع تطور الفن المسيحي من مصر إلى روما؛ حتى تصير إيسيس وابنها هورس كلاهما مريم وابنها السيد المسيح.
-
أثينا في الآداب والفنون والفلسفة.
-
وروما في القوانين والشرائع.
-
والأندلس في العلوم.
ولننظر في أول هذه المصادر، فالأوروبيون الآن ومنذ نحو خمسمائة سنة يدرسون اللغة الإغريقية، وينافحون عنها، ويدعون إلى درسها، فماذا اكتسبوا منها، وما هي الفوائد التي تعود عليهم من درسها؟
لم يكتسب الأوروبيون من الإغريق شيئًا من العلوم، إلَّا القليل الذي ظهر في الإسكندرية، فلست تجد خلاف ذلك نظرية علمية ترجع إلى الإغريق، أو قد أوحي بها أو بالبحث فيها قدماء الإغريق، كذلك لست تجد شريعة قائمة أو دراسة في أوروبا يعود الفضل فيها إلى الإغريق، فإن ثقافة الإغريق كانت خاصة، بل منحصرة في الفنون والفلسفة، ولا ينكر أنَّ في أرسطوطاليس شيئًا من الروح العلمية، ربما كان البذرة التي أنبتت بعد ذلك مدرسة الإسكندرية، ولكن هذه الروح ماتت، أمَّا الفنون والفلسفة فقد عاشت، بل هي لا تزال حيَّة إلى يومنا هذا، وهي إلهام حي يوحي إلى الأدب الأوروبي الآن، وما من أديب في أوروبا الآن يستطيع أنْ يؤلف في الدرامة ما لم يقرأ درامات الإغريق، وما من مثال يشتغل بنحت التماثيل يمكنه أنْ يستغني عن درس التماثيل الإغريقية، وكذلك قل في الخطابة والشعر والفلسفة.
وربما كانت ميزة الأدب الأوروبي الحاضرة على الأدب الشرقي، هي تشبعه بالروح الإغريقية التي تجعله مجازفًا وحرًّا في نزعته، ومما يعجب به الإنسان أنَّ المجددين في الأدب أمثال نيتشه أو المجددين في الفلسفة أمثال شوبنهور، كانوا متعلقين بالإغريق مدمنين قراءتهم، بل من الأوروبيين من يعزو اكتشاف أميركا إلى الأدب الإغريقي الذي يحثُّ على الاستطلاع والبحث، ولا أظنه يغلو في قوله هذا، ومَن يقرأ «جمهورية» أفلاطون، ويرى الحرية التي يتكلم بها عن الزواج، أو مَن يقرأ «الأخلاق» لأرسطوطاليس ويقف عند قوله: إنَّ الآلهة على قدرتها لا يمكنها أن تبدل النواميس الطبيعية، يأسف لفقدان هذه الروح من الأدب العربي، والغريب في العرب أنهم عنوا بعلوم الإغريق وطبهم، وهو أسخف ما كتبوا دون أنْ يعنوا بآدابهم وفنونهم.
وأصل آخر من أصول الثقافة الأوروبية، وهو ما اكتسبته أوروبا من روما، فإن شرائع أوروبا تستند إلى القوانين الرومانية القديمة التي لا تزال حيَّة في المحاكم للآن، وكما أننا نحن سكان القاهرة نرى في دار التمثيل درامة «أوديب الملك»، ونشهد برؤيتها على تفوق الأدب الإغريقي القديم، كذلك يمكن أي محامٍ في القاهرة أنْ يزج القوانين الرومانية في أي محكمة شاء، ويجادل بها القضاة دون أنْ يجد من يعترض عليه في ذلك، وهذه شهادة قوية على الأثر العظيم للقوانين الرومانية.
أمَّا الأصل الثالث القديم للثقافة الأوروبية، فهو الروح العلمية التي ظهرت في الأندلس على أيدي العرب، فقد انغمس الإغريق في النظريات الفلسفية، وانتقلت هذه العدوى إلى العرب، ولكنها لم تغمرهم، فإنهم أخذوا في العمليات أي في التجربة، وكان للتجربة العلمية عندهم شأن كبير، وخاصة عندما أخذوا في محاولة إيجاد الذهب من الزئبق، فدرسوا أشياء صحيحة وسخيفة عن الكيمياء، هي في الواقع أصل النزعة العلمية الحديثة التي تتسم بالتجربة، ومما هو ذو دلالة في النهضة الأوروبية أنَّ المجددين أمثال روجر بيكون كانوا يهتمون بالإسلام وبمعرفة اللغة العربية.
هذه هي الأصول الثلاثة القديمة للثقافة الأوروبية الحاضرة، ولكن ثَمَّ أصول حديثة أخرى لا يمكن إهمالها يرجع الفضل فيها للإنجليز.
وأول ذلك ما نراه من النزعة البرلمانية والحكم الدستوري، فالنزعة البرلمانية هي نزعة إنجليزية محضة، لا علاقة لها بالنظم الدستورية عند الرومان أو الإغريق القدماء، وحكومات الأمم الأوروبية الآن قد نشأت على النسق الإنجليزي الذي لا يمتُّ بأية صلة بالقدماء، ومن يقرأ تاريخ الدستور الإنجليزي، وتطوره من الملوكية المطلقة إلى الدستور المحبوك الأطراف، يجده نباتًا إنجليزيًّا لم يستمد أي غذاء من الرومان أو اليونان، وهذا بخلاف ما نرى في سائر الشرائع الشخصية والمدنية والتجارية، فإنها تستند إلى مدى بعيد إلى قوانين الرومان.
ونزعة أخرى جديدة فشت في الثقافة الأوروبية، وصارت أصلًا مهمًّا من أصولها، يرجع الفضل فيها أيضًا للإنجليز هي نزعة التطور، ففكرة التطور الآن هي فكرة إنجليزية، ولست في قولي هذا أتجاهل فضل الفرنسيين في محاولة الوصول إلى هذه الفكرة، ولا مجهودات الألمان في تعميمها، ولكني أعتبر الفرنسيين لم يتخطوا المحاولات الأولى، وروح الألمان كما نفهمها من كبار فلاسفتهم هي الروح الفلسفية كما كانت عند الإغريق؛ أي روح النظريات المجردة، أمَّا فكرة تنازع البقاء وبقاء الأصلح، وتطور الأحياء والأشياء، ففكرة إنجليزية، ونسبتها إلى الألمان حديثًا لم يكن إلَّا ترويجًا لدعاية الحرب؛ لإيهام الناس بأن الألمان يؤمنون بالقوة وتنازع البقاء وما إلى ذلك، ولكن الحقيقة أنَّ الفلسفة الإنجليزية هي أصل ذلك الإيمان، وهي صاحبة الفضل في نشره في الثقافة الأوروبية.
والخلاصة أنَّ الثقافة الحديثة الأوروبية اكتسبت ديانتها من المصريين والإغريق، واكتسبت آدابها وفنونها من الإغريق، أمَّا قوانينها فمن الرومان، والذي ابتعث الروح العلمية فيها — أي روح التجربة — أساس العلوم الحديثة هم العرب، وللإنجليز فضل النظم الدستورية وفضل نظرية التطور.