استنقاذ المدنية: ناموس جديد للعالم
من الأقوال التي يرددها الكتَّاب هذه الأيام قولهم أن العلوم قد تقدمت تقدمًا عظيمًا في المستكشفات والمخترعات، في حين أنَّ الأخلاق لم تتقدم، بل بقيت متخلفة عنها، وهم يعنون بالأخلاق جميع علاقات الإنسان بالإنسان، يدخل في ذلك معايرة الحق والعدالة، واعتبار القوانين والأنظمة، ورأي الناس في الزواج والعائلة وما إليهما.
والواقع أنه قد حصل بعض التقدم في الأخلاق من هذه الوجهة، ولكنه لا يمكن أنْ يقرن إلى تقدم العلوم، فالتقدم في الأخلاق وإنْ كان وئيدًا، فإنه كثيرًا ما يقف، أمَّا العلوم فماضية تعدو تكشف كل يوم عن طور جديد أو نظرية طريفة.
وهذا التفاوت بينهما مدعاة إلى الارتباك والخلط في النظم الاجتماعية، وهو علة هذا القلق الذي يسود السياسة الأممية في أوروبا، كما يسود أيضًا طبقات الهيئة الاجتماعية، ويثير النزاع بين العمال والممولين.
وأظهر دليل على هذا التفاوت هو ذلك التقدم الهائل الذي بلغته المخترعات الحربية، في حين أنَّ الأخلاق الأممية لا تزال على المستوى الذي كانت عليه منذ خمسة أو عشرة قرون.
وهذه العلوم يطرد تقدمها في جميع فروعها، بينما الأخلاق راكدة أو بطيئة التقدم، وإذا استمر الحال على ذلك فلن يكون الزمن بعيدًا حتى تنفرج الهوة بين الاثنين، ويختل نظام الهيئة الاجتماعية اختلالًا لا يُقال منه.
فالمدنية الأوروبية — وهي مدنية العالم أجمع — توشك أنْ تقع في هوة الفوضى، إذا لم تستنقذ بمطابقة قوانينها ونظمها الاجتماعية وأخلاقها وآدابها على علومها، بحيث يسير الاثنان جنبًا إلى جنب.
وأول ما يجب أنْ يُسعى إليه في الحصول على هذه المطابقة هو قوانين حق امتلاك الأملاك، فإن العلوم قد أحدثت من المخترعات ما أتاح لفئة صغيرة من الناس احتكار الثروات الضخمة، والتصرف فيها دون الكثرة المطلقة من الناس، الذين صاروا عمَّالًا يكثرون ويباع عملهم بالقرش والمليم في سوق الأعمال، والناس ينظرون إلى العامل الآن كما كانوا ينظرون إليه منذ ألف عام، مع أنَّ العلم قد أحدث تغييرًا كبيرًا في مركزه، فقد كان قديمًا يشتغل ويأمل أنْ يكون ممولًا بعد قليل من الزمن، وكثيرًا ما كان أمله يتحقق؛ لأن رأس المال الذي كان يحتاج إليه لم يكن كبير المقدار، وهذا بخلاف الحال الآن، فإن المصانع الكبيرة التي عمت في زماننا لا يمكن عاملًا مهما قتر على نفسه أنْ يجمع ثمنها، ثم إنَّ الممولين هذه الأيام يختلفون عن الممولين في قديم الزمان؛ لضخامة ثروتهم وقدرتهم على الاستبداد بالعمال، وليس إنشاء النقابات من جانب العمال إلَّا محاولة منهم لمقاومة هذا الاستبداد، فنحن الآن نحتاج إلى أنْ نتطور في رأينا ونظرنا إلى حقوق الامتلاك، كما تطورت طرق الامتلاك.
والعالم منذ آلاف السنين مقسوم إلى أمم لكل منها وطن، وكلها تتباهى بوطنيتها، وتعتبرها أكبر رابطة، ويعلم الصبيان في كل أمة تاريخ آبائهم ومفاخرهم دون اعتبار للتطور الجديد في علاقات الأمم ومصالحها المشتركة، فإن أسباب المواصلات قد ربطت الأمم برباط قوي يتطلب منها أنْ تسيطر عليها جميعها حكومة واحدة، وهناك من الروابط الأخرى الراهنة ما له قيمة الوطنية، مثل الرابطة التي تربط عمال العالم، أو الرابطة التي تصل بين علمائه أو أدبائه، ويقترح بعضهم أنْ يربى الأولاد في كل أمة على الولاء لعصبة الأمم، وأنْ يطهر التاريخ من النزعات الوطنية حتى تسود العقلية الأممية في رءوس الصغار، وينشأ على اعتبار العالم أمة واحدة أو ولايات متحدة في حكومة واحدة.
وهناك تفاوت أيضًا بين تقدم العلوم وجمود الحال الروحانية في الإنسان، فليس يعقل أنْ يعيش الإنسان آلاف السنين يتعاوره التقدم المادي في جميع ما يلابسه وما يزاوله، ثم يبقى الدين جامدًا لا يتطور وفق التطور المادي.
وقد عالج ولز الكاتب الإنجليزي هذا الموضوع، فقال أنه يجب أن تؤلف توراة جديدة توافق العصر الحاضر، تضعها فئة منتقاة من العلماء والفلاسفة والأدباء، وينبغي تنقيحها كل عام وفق مطالب الحياة الجديدة، ثم تترجم إلى جميع اللغات في العالم فتكون دستورًا للناس، فتتحد بذلك وجهات نظرهم وآراؤهم، فينتفي الخلاف، ويحصل الوئام بينهم، بدل التنازع الحاضر، ويجب أنْ تؤلف التوراة الجديدة على غرار التوراة القديمة، فيبدأ فيها بسِفر التكوين، فتستبدل بقصة آدم وحواء تاريخًا علميًّا لتكون الأرض وظهور الحياة عليها، وتطور النبات والحيوان وتنازعها البقاء وانقراض بعضها، ثم ظهور الإنسان ووصف جهاده للطبيعة والتغلب عليها، وانتقاله من عهد الصيد إلى الرعاية ثم إلى الزراعة، ثم معرفته المعادن ونشوء الصناعة.
ويلي ذلك ناموس يسير عليه بنو البشر، يتضمن أهم قواعد الصحة وصيانة الجسد، وضرورة الرياضة التي لم تكن لازمة لليهود وهم يرعون أغنامهم في المروج، ولكنها تلزمنا الآن في أشغالنا الراهنة، ثم يجب أيضًا أنْ يتضمن هذا القسم كل ما عرف عن الحكمة الجنسية، والعلاقات الزوجية، وما تنبغي معرفته عن آداب الامتلاك، وعلاقة العمال بالملاك، وقيمة المراهنات والمضاربات وآداب البورصة وما إليها مما يلصق بحياتنا.
ثم يلي ذلك «نشيد الإنشاد» في التوراة، ويقابله عندنا الآداب الشهيرة عند الأمم المختلفة، وهذه في رأي المستر ولز لا يمكن إدماجها في التوراة الجديدة، وإنما يجب تخير أحسن ما في هذه الآداب من الشعر والقصص، ووضعها في مكان الملحق بالتوراة؛ لأنها أكبر من أنْ يحتويها كتاب على حدَّته، يراد منه أنْ يكون في متناول كل إنسان على هذه البسيطة وفي مستطاعه أنْ يقرأه.
ثم يلي ذلك فصل التنبؤات، وهنا يقترح المستر ولز على ساسة الأمم أنْ يضعوا هذا القسم ويسجلوا فيه على أنفسهم، وبمشهد من جميع الأمم، ما يتنبئون به عن مستقبل الأمم التي يسوسونها؛ لأنه ليس للسياسي حق في قيادة أمته ما لم تكن له خطة معينة ومثل أعلى.
ثم هذه التوراة يجب أنْ تكون لها لجنة عليا، ولها من المكانة ما يقسر جميع الأمم على احترامها، ويجب ألَّا تني عن تنقيحها كل عام بما يوافق المستكشفات والمخترعات، وما يروج تقدم العالم وينفي منه الأحقاد.
والخلاصة أنه لكي تنتفي الفوضى الراهنة يجب أنْ تجعل الأخلاق وفق المستكشفات والمخترعات العلمية الحديثة، وذلك بتعديل قوانين الامتلاك وتخفيف الروح الوطنية التي هي مثار الحروب في كل وقت، وذلك بإزالة النزعة الوطنية من التاريخ، وفرض الولاء لعصبة الأمم، أو أي هيئة أخرى عالمية على كل فرد من أفراد العالم، ثم لكي يتحد الناس في نزعة صحيحة؛ يجب أنْ يكون لهم ناموس جديد مؤلَّف على نمط علمي، يربطهم جميعًا في رابطة روحانية واحدة، توجههم إلى قصد واحد، هو خير الإنسانية ورفعها.