الحرية الفكرية
الإنسان أسيرُ وسطه، ينطبع فيه أثر بيئته، وينفعل هو بما يحيط به من العادات والأقوال والنُّظم الاجتماعية والسياسية، ينشأ صغيرًا فتؤثر فيه مبادئ التربية التي يتلقنها إلى حين يشيخ ويهرم، ويخالط من الأصدقاء مَن يكتسب منه القدوة الرديئة أو المثل الحسن، ويقرأ من الكتب ما يستهوي فؤاده على الرغم منه، أو يكرِّهه في أشياء قد كان لا يكرهها لو لم يقرأها، ثم هو يجد نفسه فردًا في وسط مجموع يضطره إلى السير على غراره، يقسره على أنْ يلبس لباسه، ويستطيب طعامه، ويتكلم لغتهُ، ويحد ذهنه بحدود معانيها.
فمهما ادعى أحدنا أنه حر الضمير، طليق الفكر، نزيه الرأي، فهو في الواقع وفي أغلب أفعاله قد أوعز إلى ضميره وأوحى إلى فكره، وقد تسرب الغرض على غير وعي منه إلى جميع آرائه.
فقد يسير أحدنا في الشارع ليس في نيته أنْ يشتري صحيفة، فيأخذ باعة الصحف في الصياح أمامه بأسماء صحفهم، فلا يأبه لصياحهم أول مرة، ولكنه ينتبه المرة الثانية، فإذا كانت المرة الثالثة أو الرابعة لم يجد بدًّا من أنْ يشتري الصحيفة.
وهكذا الشأن في سائر أعمالنا، حتى لقد قال لوبون إنَّ خير طُرق الإقناع ليس البرهان، وإنما هو التكرار.
فنحن ننفعل بالوسط الذي نعيش فيه؛ لكثرة ما تتكرر أمامنا أحواله وتعاودنا آثاره، فالحرية الذهنية قلما توجد مطلقة كاملة عند أي فرد، وإنما مقدارها نسبي يتناسب وذكاء المرء، فأكثر الناس ذكاء أبعدهم عن الانفعال بالوسط، وأقلهم لذلك تقليدًا، وأكثرهم ابتكارًا في شئون حياته وتفكيره، وأضعف الناس ذكاء أميلهم إلى التقليد والتأثر بالبيئة، والجري على السُّنن الموضوعة والعرف الفاشي.
ثم إنَّ الابتكار يجهد الفكر، ويكد الذهن أكثر من التقيد؛ ولذلك نجد كثيرين من الناس يكرهون الحرية الفكرية لما يشعرون بالجهد المضني الذي تتطلبه.
فالتقليد راحة وخمول، في حين أنَّ الحرية جهد ونشاط وبلاء.
ولم يتقدم الإنسان في العلوم هذا التقدم الهائل؛ إلَّا لأنه تناولها بشيء من الحرية ساعدته على الابتكار في طرقها وترقيتها، وليس ذلك إلَّا أنَّ الأغراض التي كانت تؤثر في العلوم كانت قليلة، وكان النقد مباحًا؛ لأنه لم يكن لأحد مصلحة في ترويج نظرية دون أخرى أو إيثار طريقة على أخرى.
فتقدم العلوم الكيمائية والطبيعية هذا التقدم الرائع إنما يعزى إلى انبساط علماء هذه العلوم في الحرية، وانطلاقهم في بحبوحتها، وهم لم يكونوا في ذلك أحرارًا تمام الحرية، فقد ورثوا عبئًا من النظريات لم يتخلصوا منها إلَّا بالجهد، بل هم لم يتخلصوا منها إلى الآن تمامًا، ولكن علماء العلوم المادية مع ذلك أكثر العلماء حرية فكر ونزاهة رأي.
وسبب ذلك أنَّ العلوم لا تمس عواطفنا، فلسنا نبالي ما يحدث فيها من التغيير والتبديل، فقد حدث مثلًا منذ سنوات قليلة أن وقف أينشتين وقال: إنَّ نظرية نيوطن في الجاذبية خطأ، فلم يشعر أحد منَّا بالحنق عليه أو الطرب له، ولم تضطهده حكومة، ولم تعاقبه محكمة، ولم يخسر قرشًا من ماله في ذلك.
والناس يقولون الآن إنَّ العلوم الطبيعية قد تقدمت بينما العلوم الاجتماعية لم تتقدم، وهكذا الشأن في الحالة الروحية في الإنسان وفي الآداب الثقافية.
وهذا حق، ففي الحرب الكبرى مثلًا كانت الجنود تقاتل بوسائل جهنمية أحدثها العلم، ففنيت ملايين من الناس بهذه الوسائل التي لم يعرفها العالم قبلًا، والفرق بينها وبين ما كان يستعمل من الوسائل الحربية منذ ألف عام هو فرق ما بين الرمح والسيف، وبين المدفع والغازات السامة، ولكن عندما قعد رجال السياسة إلى مائدة الصلح تبين للناس أنه ليس هناك فرق بينهم وبين رجال السياسة منذ ألف عام.
وعلة ذلك أنَّ العلوم الكيمائية تقدمت؛ لأن المشتغلين فيها أحرار في انتقادها، لا تشوب أذهانهم الأغراض، في حين أنَّ العلوم السياسية تشوبها الأغراض من كل ناحية، والحرية فيها غير مطلقة، فالتقدم فيها يسير، أو ليس فيها تقدم البتة، ونتيجة ذلك أننا نحارب بوسائل القرن العشرين، ولكننا يسالم بعضنا بعضًا بوسائل القرن العاشر.
فلو وضع أحدنا كتابًا يفضل فيه الأساطيل الهوائية على أساطيل البحار، لما اغتاظ أحد منه، ولما انعقدت له محكمة لمحاكمته، ولكن لو وضع أحدنا كتابًا في ذم الاستعمار، أو في إيثار نظام الاشتراكية على غيره، أو في تفضيل نظام الولايات المتحدة المستقلة على النظام الجمهوري المتمركز، أو في نقد الدستور أو نحو ذلك، لوجد الناس حنقًا، وقد تنعقد محكمة لمحاكمته على هذه الوقاحة.
فبدهي من ذلك أنَّ العلوم الحربية تتقدم بينما العلوم السياسية تركد.
وكذا الحال في الآداب الثقافية؛ فهي متصلة بتاريخ الأمة، وبها تنعقد نَخوتها وعزتها، فما هو أنْ يبدأ الإنسان في نقد هذه الآداب حتى يرى هياج العواطف وتأثر النفوس، ولكن الآداب مثل العلوم، لا تتقدم إلَّا إذا تجردنا أو حاولنا أنْ نتجرد من هذه العواطف.
ثم هذه الحالة الروحية في الإنسان ليس ينكر أحد أنها قد تأخرت تأخرًا هائلًا، وكيف لا تتأخر إذا كنا نمنع الناس من انتقادها ونعاقبهم بالحبس والتشنيع من أجل ذلك، وهل كان علم الكيمياء يتقدم لو كنَّا نمنع الناس من انتقاده، كما نمنعهم من انتقاد الأديان؟
وهذه الآداب الخلقية في الناس قد أحيطت بسياج يحول دون نقدها أيضًا، فلو أخذ أحدنا في نقد تركيب العائلة الراهن، أو سلطة الآباء على الأبناء أو نحو ذلك، لأقام حوله قيامة من السب والتشهير.
وقلْ مثل ذلك في الحالة الاجتماعية أو الاقتصادية، فإن الثابت المعروف الآن بين العلماء أنه لم يوجد إلى الآن «علم اجتماعي» أو «علم اقتصادي»، وذلك أنه ليس في العالم طبقة من الأحرار تستطيع أنْ تبحث هذين العلمين وتستقرئ نواميسهما؛ لأن للناس مصالح في الحال الحاضرة، وهم يمنعون بقوة الرأي العام وقوة المحاكم أية محاولة من أي أحد في البحث الحر الصادق لهذه الموضوعات.
وخلاصة القول إنَّ الإنسان مهما ظنَّ نفسه حرًّا، فهو أسير الوسط الذي يعيش فيه، فحريته في أحسن أوقاتها هي حرية مشوبة بالرق، لما تركَّبَ في النفس البشرية من الانطباع والتأثر بالبيئة الاجتماعية، وبالتاريخ الماضي، وبحدود اللغة وأثر المناخ وما إلى ذلك.
فيجب ألَّا نزيد هذه القيود التي تقيد حرية الإنسان عفوًا، وعلى الرغم منه بقيود أخرى نضعها عمدًا أو نوكل المحاكم في تنفيذها وإمضائها، وتثير عواطف الناس عند كل مخالفة لهم في الرأي أو العادة.
فإنما التقدم منوط بنزاهة الرأي والجرأة على ارتياء الآراء، وقد كانت هذه ميزة الإغريق علينا، فإن أفلاطون مثلًا يتكلم في كتابه: «الجمهورية» بنزاهة وصراحة وجرأة، لا نجد مثلها الآن إلَّا فيمن يتكلمون في العلوم الطبيعية، فقد كان ينتقد العائلة والحكومة والزواج وما إليها، دون أنْ يخشى سخط الناس أو حكم محكمة.
فما لم نفعل نحن ذلك، وننظر إلى الآداب والعلوم الاجتماعية والسياسية والدينية كما ننظر إلى الكيمياء، فإننا لن نتقدم، ولست أقول إنَّ هذا سهل هين، وإنه يكفي أنْ نطلبه حتى نجده، وإنما أقول أولًا إنه يجب أنْ نمنع المحاكم من أنْ تستعمل سطوتها في هدم الآراء الجديدة الدينية أو الاجتماعية، وأنْ نربي الجمهور على المياسرة والتسامح في وجود ما يصدم عواطفه الموروثة من الآراء، فعلومنا المادية هي الآن علوم القرن العشرين، بينما سياستنا وعمراننا وآدابنا يعود بعضها إلى الوراء نحو ألفي أو ثلاثة آلاف عام.