العقول الأربعة لنفس الإنسان
يسير النفسلوجيون من المدرسة الحديثة سيرًا حثيثًا في استكناه العقل الإنساني، ونعني بالمدرسة الحديثة أولئك الرواد في هذا الميدان الجديد، أمثال فرويد وبونج ومكدوجال ورفرز وبودوين، رجال العقل الباطن الذين يدرسون الأحلام والخواطر والجنون، ثم يعطفون على الإنسان، فيدرسون العقل الواعي والأساطير ومنشأ اللغات والأديان بما استخلصوه من هذا العلم الجديد.
وليس غريبًا أن ندرس المرض لكي نفهم الصحة، بل يكاد لا يكون هناك طريق آخر نفهم به الصحة إلا من طريق المرض، فإذا وقفنا على التيار الذي يسير بعقل المجنون، وأدركنا بعض غاياته، أو إذا درسنا أحوال السكران وهو يتدرج من اللعثمة البسيطة إلى العربدة، ثم إلى الخمول، وإذا درسنا أيضًا خَرف الشيخ وقرنَّاه إلى مخاوف الطفولة، أمكننا أن نقف على العقل السليم، ما هو وكيف نشأ؛ وذلك لأن حالات الضعف من الغفوة العارضة التي تتوارد فيها الخواطر إلى العقل، إلى السبات غير العميق، حين ينشط العقل، ويجعلنا نحلم ونرى الرؤى، إلى نشوة الخمر التي تبيح لنا ما تكف أنفسنا عنه وقت الصحو، كل هذا يجعلنا نفهم أن لنا غير عقل واحد في رءوسنا، بعضه يغفو وبعضه ينام، وبعضه يصحو في غير اختلاف، بل أحيانًا في ائتلاف عظيم، والواقع أن العقل الإنساني حيٌّ قد أضمر فيه جملة أحياء، وأقوى هذه الأحياء هو أقدمها في تطور الإنسان، وأضعفها هو أحدثها.
وهذا الاختلاف في القوة والضعف بين هذه العقول المضمرة في نفوسنا، يتضح عندما نمرض أو نشرب الخمر، فنلقى أنفسنا عند أول النشوة قد زايلتنا قوة الصبر على الدرس وإنعام النظر، فلا نستطيع أن نقرأ كتابًا في الفلسفة أو العلم، ولكنَّا يمكننا أن نقرأ قصة، ثم إذا زدنا شربًا احتشدت برءوسنا أفكار همجية، فنضحك ونبكي كالأطفال، وقد نرتكب من الجرائم أو الأفعال ما هو أشبه بالمتوحشين، وإنما ذلك؛ لأن العقل الحديث — عقل الحضارة والثقافة — لم يرسخ بعد في نفوسنا رسوخ العقل القديم، عقل الجدود من ناس وحيوان، فإذا أصابتنا نشوة الخمر زايلنا هذا العقل، وعدنا نستند إلى العقل القديم الذي لا يتزعزع بهذه السرعة، وكذلك الحال عندما نغفو أو نمرض أو نحلم، فإن العقل الباطن ينشط، فنرانا نفكر في أشياء نضحك منها، ونحن في وعينا ويقظتنا، فنتخيل مثلًا أننا ملوك أو أغنياء، أو أننا نقتل خصمًا لنا نكرهه، أو نحو ذلك من خيالات العقل القديم الرابض في رأس كل منَّا.
والحقيقة أن في رأس كلٍّ منا — نحن أبناء القرن العشرين — جملة عقول، تتسلط على نفوسنا وتعمل لسعادتنا أو لشقائنا، وهي كلها من تراث الآباء، مع القليل الذي يجدُّ في نفس كلٍّ منا مما هو مضمر في الحياة، يسمو بنا نحو الرقي والكمال.
(١) عقل الحيوان
وأول هذه العقول وأقدمها عقل الحيوان، فقد عشنا ملايين السنين ونحن حيوانات؛ ولذلك فإن تفكيرنا مشرب بعقل الحيوان، وهذا يبدو لكل منَّا إذا سلَّم قياده لخواطره، فهناك ينساب هذا العقل، فيخيل لنا الأكلة الشهية أو المرأة الجميلة؛ لأن هاتين الشهوتين هما محور الحياة عند الحيوان، فإنه لا يعيش إلا من أجلهما، وكل منَّا يعرف أن معظم تفكيره وهو في سن المراهقة إنما كان في المرأة، وهذا يتسق مع ما نراه من إلحاح هذه الشهوة على الحيوان، حين تتقاتل الذكور وتموت من أجلها، وإنما تخف هذه الشهوة عندما يخرج الإنسان من طور المراهقة إلى الشباب ثم إلى الكهولة؛ وذلك لأن الإنسان من بدء تكونه جنينًا إلى أن يُحمل إلى القبر، يمثل في نفسه تلك الأطوار التي مرَّت بالأحياء قاطبة، من بدء ظهور في العالم إلى الآن، فهو في باطن أمه حيوان رابض، غائب الذهن، أخرس، منطرح كالسمك، ثم لا همَّ له بعد أن يولد إلا الطعام، وهذا هو الشأن في تطور أنواع الحيوان كلها، فإنها قضت فترة طويلة وهي لا تعرف الحب، بل لا يزال بين الأسماك ما يلقي الذكر بذره في الماء كما يطرح النخل لقاحه للريح. ثم يظهر الحب والعائلة، فيخرج الصبي من الشغف بالحلوى والنهم للطعام إلى إحساس الحب للجنس الآخر.
ولكن إلحاح هذه الشهوة الجنسية يخف بالتقدم في السن، وكما أن الشاب يخرج من طور الطفولة من حيث الطعام، فلا يجعل للنهم من السلطة عليه مقدار ما للصحة، كذلك الكهل يخرج من غرام الشباب وإلحاح الغريزة الجنسية إلى تسليط العقل الحديث ومراعاة المصلحة العائلية.
ولكننا في خواطرنا وأحلامنا كما في نشوة الخمر نفكر كثيرًا بعقل الحيوان، يجري خيالنا وراء الأكلة الشهية، كما تنتفض أعصابنا عند رؤية الأنثى الجميلة.
(٢) عقل الهمج
إذا كان عمر الإنسان نصف مليون سنة على هذه الأرض، فقد قضى ٩٩ في المائة من هذه المدة وهو همجي أخرس أو شبيه بالأخرس، لا يحمل من الآلات إلا أجفاها، يعيش منعزلًا لا يعرف الاجتماع، حظه من الثقافة قد لا يزيد عن حظ طفل عمره ثلاث سنوات، يقتل خصمه من أجل جذر من اللفت، ويأكل العصفورة أو الصرصور وهو حي، يقتل زوجته إذا رآها آثرت نفسها عليه في ثمرة فجة أو بضعة من لحم. يخاف طول وقته، يخشى الظلام والوحوش، وينتفض من تهافت ورقة جافة، أو من رؤية ثعبان أو قنفذ.
وهذا الإنسان هو أبونا الحقيقي، ومنه ورثنا أكبر تراث، ولشدة ما نعاني الصعاب حين نريد أن نتخلص مما أورثنا هذا الهمجي القديم، فنحن كلنا نخاف، ونعرف مع ذلك أنه لا فائدة من الخوف في حياتنا الحاضرة، وأن أكبر ما يعين الطاغية على الطغيان هو عرفانه بهذا الإحساس الكارب الذي ينساب تحت الجلد قشعريرة مجنونة لا نعرف كيف نقفها، ثم هذه الجرائم التي ترتكب كل يوم ليست في الواقع سوى غريزة هؤلاء الآباء، قد طغت على ثقافتنا الحديثة، والغيظ أو الحقد كلاهما يعمل في النفس عمل الخمر، فتستيقظ كفاياتنا القديمة، وتكبت كفاياتنا الجديدة، وكم تمرُّ بنا ساعات نتذكر فيها إهانة لحقتنا من أحد الناس، فنرى يدنا تنقبض ونحن لا ندري، ثم يجري خيالنا بالعصا الغليظة، ننزل بها على أم رأسه ضربًا وخبطًا، ونحن نصحب هذا الضرب باللعنات الدسمة، ونشعر عندئذٍ بالراحة، والواقع أننا نستريح؛ لأننا نرضى بهذا الخيال، هذا الجد الهمجي القديم الذي يضمره كلٌّ منا في نفسه، والذي نكبته أحيانًا في يقظتنا، فيغتفل عقلنا الواعي، ويبدو خواطر لذيذة أو أحلامًا نرى فيها هذا الخصم مقهورًا أو مقتولًا، وقد مضى على الإنسان نحو ٧٠٠٠ سنة، وهو يعيش مجتمعًا له ثقافة الزراعة، ولكنه لم يمح هذا العقل الهمجي القديم، وليست الشرائع إلا محاولات لمحوه أو كبته في نفوسنا.
(٣) عقل الثقافة القديمة
وعقل ثالث تنطوي عليه نفوسنا، هو ثقافة آبائنا منذ أن أخذوا يتحضرون بالزراعة في الآلاف القليلة من السنين الماضية، وقبيل هذا التحضر بقليل حين عرفوا الصيد، واجتمعوا يحتوشون الوحش، وعرفوا شيئًا من البداوة التي وصلت ما بين المعيشة الهمجية الانفرادية والمعيشة الزراعية الراقية، وفي هذه المدة تثقف الإنسان بأشياء عدة، فعرف اللغة والكتابة والبناء، والمحرمات في الزواج والامتلاك، وعرف الحرب والصناعة والطبخ والخبز، ثم نشأت له أديان، ونبتت عليها آداب من شِعر وقصص وأساطير، وهذا هو عقل الحضارة القديمة، عقل الأدب القديم.
وإذا قلت عقل الأدب، فإنما أقصد به عقل الخواطر، فإن الأدب القديم يختلف من العلم بأنه يجري مع الخواطر؛ لأنه عند التحليل لا يعدو أن يكون خيالات العقل الباطن، تجري بلا تكلف أو عناء في قصيدة أو في قصة، ومن هنا نجد أن الكتب القديمة هي كتب آداب، من أشعار وأساطير، وليست كتب علوم؛ لأن «هوميروس» صاحب الإلياذة يسبق على الدوام «أرخميدس» صاحب المخترعات والآلات، وهذه قاعدة تجري على إطلاقها عند جميع الأمم، وماذا نعرف نحن عن عرب الجاهلية سوى الأشعار؟ وماذا نقرأ من مؤلفات المصريين القدماء سوى قصصهم وأساطيرهم؟
فالأدب هو موضوع كتب الحضارات القديمة؛ لأنه ثمرة الخواطر السائبة التي لا يقفها نقد، أو تعوقها مراجعة، أو يعتورها تحقيق.
وكل قارئ لهذا السبب يحب هذا الأدب ويقرؤه؛ لأنه — كما أوضحنا آنفًا — أقدم في نفس الإنسان من العلم، فالعقل الأدبي يجب لذلك أن يسبق العقل العلمي، وتجارب الفرد هي صورة مصغرة لتجارب الأمة، ولكن كما أن الكهل يعدو طور الغرام الملح الذي يغمر نفس الشاب، ويشرع ينظر إلى الحب نظر المصلحة العائلية، كذلك العقل العلمي الذي هو عقل الثقافة الحديثة قد شرع يتغلب على العقل الأدبي القديم.
ونحن في خواطرنا وأحلامنا نؤلف القصص، ونحن أيضًا في حبنا للطبيعة، للحقول والزراعة والجبال، وللحروب وللوطنية والخطابة وأبهة الملوكية ومفاخر المال والسطوة، إنما نفكر بعقولنا القديمة عقول هذه الحضارة البائدة؛ ولذلك يلذ لنا أن تجري خواطرنا هاملة سائبة في هذه الأشياء كلها.
(٤) عقل الثقافة الحديثة
عقل الثقافة الحديثة هو العقل الجديد، عقل العلم والاختراع والاكتشاف، وأنت عندما تريد أن تستكنه روح القرون الوسطى، وتحب أن تعرف ماذا كان العقل الغالب في تفكير المفكرين في تلك القرون، سواء في الشرق أم في الغرب، تجد أن هذا العقل إنما كان يتهيأ للنهضة العلمية الحديثة، فقد خرج من الأدب القديم إلى المجادلات اللفظية التي تبدو لنا الآن عقيمة، لا هي بالأدب ولا هي بالعلم، ولكنها كانت في الواقع تهيؤًا للتحقيق العلمي، وخروجًا من الاستسلام لخواطر الثقافة القديمة؛ لأن تلك المجادلات التي تجد بذرتها في أرسطوطاليس، والتي تجدها أيضًا في كتب الغزالي وابن رشد وكُتب اللاهوتيين من الأوروبيين، إنما كانت شحذًا لهذا العقل الجديد الذي شرع يشرق على العالم، يهجر الأدب ويطلب العلم، وهذا التحقيق في الألفاظ والتعاريف إنما كان رياضة ابتدائية للتحقيق في الحقائق ذاتها على النحو الذي تكون فيه رياضة الجندي في ميدان ثكنته تهيؤًا للحرب في المعركة.
فالعقل العلمي هو أحدث عقولنا الأربعة المضمرة في نفس كلٍّ منَّا، وهو لذلك أقلُّ ثباتًا، لم تضرب له عروق، ولم تسبق له فروع في أنفسنا، وكأس واحدة من الخمر تجعله يخمد في رءوسنا، فليس منَّا مَن يمكنه أن يقرأ كتابًا علميًّا في وصف آلة وهو منتش بعض الانتشاء من الخمر، ولكن كأسًا وكأسين لا تمنعاننا من قراءة القصص، أجل ولا من قراءة الشعر، بل ماذا أقول؟ أليس عندنا شعراء ينظمون الشعر وهم سكارى؟ وفي السُّكْرِ تجري الخواطر سائبة هاملة، فهل بعد ذلك نحتاج إلى برهان لكي نقول: إنَّ الشعر والأدب كله من الخواطر؟!
ولكن يجب أن نمضي فنقول: إن النشوة البسيطة التي لا تمنعنا من تلاوة الشعر وقرضه — إذا استحالت سُكرًا ثقيلًا — جعلتنا نعربد؛ لأنها تخرجنا من الثقافة القديمة إلى همجية الجدود قبل أي ثقافة أو حضارة، فإذا اشتد السكر، فنحن عندئذٍ لسنا همجًا فحسب، بل حيوانات نفكر فيما يفكر فيه الحيوان فقط، بل الحيوان الأعجم؛ لأن الخمر تَعْقِل لساننا.
وهذا كله يتسق وما قلناه آنفًا، من أن نفس الإنسان تنطوي على أربعة عقول أحدثها العقل العلمي الذي يستقرئ ولا يعرف العاطفة، ثم يليه عقل الثقافة القديمة، عقل العواطف والشعر والأدب والأساطير وأمجاد الوطنية والزراعة والحروب، ثم يليه ما هو أقدم منه، وهو العقل الهمجي، وأخيرًا نرى أرسخ عقولنا وأقدمها وأثبتها في نفوسنا وهو عقل الحيوان.