لمحة في الطبيعة
من أخطائنا أننا نتوهم أنفسنا في الطبيعة، فنعكس فيها صورتنا، فتعتقد مثلًا أن الأحياء تسعى في النهار وتنام في الليل كما نفعل نحن، ولكن الحقيقة أن معظم أحياء العالم من هوام وحشرات وسباع تسعى ليلها وتنام نهارها.
وإذا قيس الليل بالنهار في اعتبار الطبيعة من حيث نشاط الحيوان وهدوئه، كان الليل وقت السعي والحركة، وكان النهار وقت الدعة والسكون، ونحن نعرف ذلك في بيوتنا وقرانا وحقولنا، فالبعوض مثلًا لا يهيج إلا في الليل، ولا تسلطه علينا الطبيعة إلا ونحن نيام في الظلام، وكذلك الصراصير والخنافس لا تدبُّ إلا وقت الظلام، فالمطبخ خلوٌّ منها ما دام ضوء النهار يغمره، فإذا كان الليل وذهب النور، خرجت الحشرات تتقمم كناسة المطبخ.
وكذلك تفعل سائر الحيوانات في حقولنا، فالثعبان لا يسعى في طلب البيض والعصافير والجرذان إلا عندما يحميه ظلام الليل من كواسر الطير ومن الإنسان، وكذلك الذئاب تتعاوى في الليل، ولا نسمع عواءها في النهار، بل لا نراها في النهار، فالنهار هو وقت سكونها، والليل وقت هبوبها وغاراتها. ذكر أحد الإنجليز أنه كان في روسيا، وقد ركب مزلجة يجرها فرس على الثلج في الظلام الدامس، فأغارت عليه بعض الذئاب، فأعمل السائق السوط في الفرس يستحثها على العدو، وأخذ الإنجليزي يطلق النار على الذئاب المطارِدة، ولكنه كان طول الوقت يرى بصيص النور على طول الطريق كأنه ضوء مصابيح، فقال للسائق: علام العدو؟ ألست ترى المصابيح؟ فنحن في قرية، فلندخل أحد هذه الأكواخ حتى تذهب عنَّا الذئاب، فأجاب السائق قائلًا: إن ما تراه يا سيدي ليس مصابيح، وإنما هو عيون الذئاب المتربصة بنا في الطريق.
والخفاش هو حيوان الليل غير مدافع، والعجيب في هذا الحيوان أنه يحس البعوضة بأطراف أجنحته، ويتوقى العوائق في طيره ولو كان أعمى. فقد فقئت عيون الخفافيش، فطارت في الليل، وصادت بعوضها، ولم تتأثر بالعمى، وليس يمكن تفسير ذلك إلا بأن حاسة اللمس قد اشتدت في أطرافها، حتى صارت تحسُّ تموجات الهواء التي تحدثها بعوضة أو فراشة، وبعض الخفافيش تعيش في الكهوف، حيث الظلام حالك دامس، لا يمكن العين — حتى عين الخفاش — رؤية شيء فيه، ومع ذلك تسلك طريقها وتعرف أوكارها، وفي أميركا خفاش مصاص يمص دم الحيوان إنسانًا كان أو فرسًا أو بقرة، بحيث لا تحس هذه الحيوانات أن الخفاش قد حط عليها أو مص دمها، والحقيقة أن الخفاش لا يحط عليها، وإنما يلامسها بفمه، ويبقى وهو يمص دمها رافعًا نفسه في الهواء برفرفة جناحيه، وليس لرفرفته صوت يسمع، وكذلك ليس لعضته من الألم أكثر مما لعضة البعوضة، فإذا كان الإنسان نائمًا لم يشعر بشيء، فإذا استيقظ وجد أنه قد فقد نحو رطل من دمه.
وفي حقولنا لا نرى الخلد أو القنفذ إلا في الليل، فهما لا يسعيان إلا عند الظلام، أما الثعلب فقد نراه في النهار، ولكننا لا نراه يسعى سعي الجد، فالنهار وقت لعبه ومرحه لا وقت سعيه للمعاش؛ ولذلك لا تخشاه الحيوانات في هذا الوقت ولو رأته، فقد ذكر أحد الإنجليز المختصين برعاية الأرانب والثعالب في مصطاد لأحد اللوردات أنه رأى الثعالب تلعب في النهار قريبًا من جحر الأرانب، وكانت هذه الأرانب تلعب أيضًا خارج الجحر، وترى الثعلب فما كانت تخشاه أو تحاول الهروب منه والاختفاء في جحرها، حتى إذا آذنت الشمس بالمغيب دخلت الأرانب أجحارها وبان الجد في وجه الثعلب، ومن الرياضات المعروفة عند أثرياء الإنجليز أن يصيدوا الثعالب في مصطادات خاصة، وهم لذلك يطلقون الأرانب في هذه المصطادات لكي تقتات بها الثعالب.
وفي الصباح، في شوارع القرى، بل في صحون البيوت، تجد آثار سير الثعبان مما يدل على نشاطه طول الليل.
وأكثر الطيور تسعى في النهار، ولكن منها مع ذلك ما يقصر سعيه على الليل كالبوم، ونحن في القاهر لا نرى أفاعيل البوم في الليل رؤية العين، ولكننا نسمع بضجيج المعركة في هدوء الظلام، نسمع أولًا صوت العصفور الذي قبضت عليه البومة وهو نائم في الشجرة يصيح صيحات الألم، وهي عالية أولًا، ثم تخفت؛ لأن البراثن قد دخلت إلى باطنه، ثم تصمت؛ لأن ظفرًا قد وصل إلى قلبه، فنعرف أنه قد دخل في الأبدية، وعندئذٍ تصيح البومة صيحات الظفر، وتشرع في عشائها أو بالأحرى فطورها، وهكذا يستمر تنازع البقاء في الليل حتى يصح قول هكسلي: «الطبيعة حمراء بين الناب والمخلب».
ولكن الغاية هي مكان هذا التنازع، فإذا جاء الليل عجَّت وضجَّت بأفاعيل السباع ونشاط الحيوان، حتى البهائم أنفسها كالجاموس والظباء والأيائل لا تسعى إلا في الليل، تذهب إلى المشارع البعيدة لكي تشرب، فتجد الأسود والببرة والنمور قد كمنت لها، وترى التماع عيونها في الظلام، فتقف هنيهة بين ألم العطش الذي كاد يقتلها وبين الخوف على حياتها التي توشك أن تتطاير بين مخالب هذه السباع الفاتكة، وأخيرًا يقهرها العطش على الورود، فتقذف بنفسها إلى الماء، وتخطف كرعة واحدة، ثم تطير ناجية بنفسها على أقدامها الخفيفة، ولكن في هذه اللحظة السريعة تسمع اصطكاكًا يشبه التقاء جسمين جامدين في وسط الهدوء الشامل، فقد وثب أسد على جاموس وضربه بكفه العاتية على رأسه ضربة قوية، فمال الرأس إلى تحت لِعِظَم الصدمة، فطال العنق، وغرز الأسد أنيابه فيه، حتى التقت وكسرت الفقار، وقطعت عصب النخاع بين هذه الفقار، فوقع عندئذٍ الجاموس كأنه كومة تراب قد أهيلت، والجاموس الآن يتشحَّط في دمه، وينفخ ويضرب الهواء بأرجله، والأسد رابض على بُعدٍ قليل منه وعيناه تقدحان الشرر، ينتظر سكون الموت وهو يتلذذ بلذة الظفر، فإذا كان ذلك زأر زأرة أو زأرتين، ثم يشق البطن ويأكل الكبد والقلب وما إليهما من الأطايب، وعلى نحو عشرة أمتار من الأسد وفريسته تجد ابن آوى، أو ثعلبًا، قد وقفا ينتظران ما يتركه الأسد، ومن وقت لآخر يتقدم الثعلب فيخطف مزعة من اللحم، فيهجم عليه الأسد، فيطير الثعلب ورأسه إلى الوراء ينظر المسافة بينه وبين هذا الموت الجارف.
كذلك تستمر حرب تنازع البقاء في الغابة، في النهار سكون وهدوء، وفي الليل حركة ونشاط، حتى الفِيَلة نفسها، وهي لا تخشى حيوانًا، تسعى في الليل وترتاح في النهار، وفي جنوب إفريقيا تُغِيرُ على حقول قصب السكر في الليل، فتتلف في «عيادة» واحدة ضيعة بأكملها، فيذهب في ساعة ما قاساه الفلَّاحون من جد وتعب في عام. بل القردة أنفسها تهجم على الحدائق في الليل، فتأكل أثمارها وهي صامتة حتى لا يتنبه أصحاب المكان، فإذا كان ضوء الفجر ولَّت هاربة إلى الغابة.
فالليل في الغابة هو وقت المعركة بين السباع والبهائم، تلك تكمن وتثب، وهذه تعدو وتنجو بنفسها، وملتقى الاثنين هو المشرع؛ حيث تشرب البهائم والسباع، والبهيمة تعرف الخطر في ورود الماء، فهي تتقدم محاذرة مترددة، ولكن نار العطش تأكلها فتجازف، وإذا بجسم يرتمي عليها كالقنبلة، فإذا حادت عنه نجت وفرَّت، وإذا لم تسعفها أعصابها وعضلاتها وقعت وانتهت حياتها، بل من الماء تخرج لها أعداء، فضربة واحدة من ذنب التمساح، ثم ثلاث أو أربع فقاقيع، ثم ينتهي كل شيء كأن لم يكن في العالم غزال يروح ويجيء.
ثم لا يدخلن مع ذلك في ذهن القارئ أن هذا شر، بل كله خير في النهاية، فتنازع البقاء يعمل لحدة الذكاء في الحيوان كافة، ولسرعة العدو في البهائم، ولصدق الوثبة في السباع، يعلِّم الأولى الجلدَ على العطش والجوع، ويعلِّم الثانية الصبر في الكمون، ويُرقِّي فيها جميعها مادة أعصابها وعضلاتها.