اليد واللسان أصل الرقي في الإنسان
كلما تأملنا أحوال الرقي في الإنسان الحاضر والغابر زدنا بصيرة في معنى هذا الرقي وأدواته، فهو يرجع إلى اللسان واليد أكثر مما يرجع إلى العقل.
فإننا نتباهى على الحيوان بكبر أدمغتنا، وهي في الواقع كبيرة ليس في العالم حيوان يدانينا في جرمها، وإن كان أحد القردة في أميركا الجنوبية يقاربنا فيها إذا اعتبرنا نسبة دماغه إلى جسمه، ولكن كِبر الدماغ وحده ليس العامل المهم في الرقي، بدليل أن هذا القرد الذي ذكرناه لا يبدي من الذكاء أكثر مما تبديه سائر القردة العالية، بل الواقع أنه دونها في الذكاء.
وإنما العامل في هذا الرقي العظيم الذي بلغه الإنسان وتفوق به على سائر الحيوان يرجع إلى يده ولسانه، وقد كان يجب علينا أن نلحظ ذلك من قبل؛ إذ إن ثقافة الإنسان وما له من لغة راقية ومعارف مدونة أو مروية ومأثورٍ في الأدب أو العلم ينقله الخَلَف عن السلف، ترجع كلها إلى لسانه، ثم إن حضارته وما فيها من فنون في البناء والصناعة والترف ترجع إلى يده.
وقد يعترض القارئ بأن اليد واللسان لا قيمة لهما بدون هذا العقل الذي هو ثمرة الدماغ الكبير، فالجواب على هذا الاعتراض أنَّ نصف هذا العقل يكفي لإيجاد حضارة وثقافة تنقلان من السلف إلى الخلف، فإننا نرى من اختباراتنا أن معايشنا لا تحتاج إلى استعمال كل عقولنا، فإننا نعيش ونحصل على القوت والأنثى والمسكن بقليل جدًّا من استعمال عقولنا، وكثير جدًّا من استعمال يدنا في الصناعة وألسنتنا في التفاهم، ولكي نزيد قولنا أيضًا يمكن أن نفرض فرضًا سخيفًا فنقول: إننا لو أخذنا مائة أبله جُرم الرأس في كل منهم لا يزيد عن ثلثي الرأس العادي، ووضعناهم في جزيرة منفردة لأمكنهم أن يعيشوا، ويُحدثوا لأنفسهم نظامًا إنسانيًّا فيه ثقافة وحضارة بشرط واحد، وهو أن يكونوا قد تعلموها قبلًا في وسط إنساني عادي، ولكننا لو أخذنا مائة فيلسوف وقطعنا ألسنتهم وأيديهم، ووضعناهم في مثل هذه الجزيرة المنفردة، لما استطاعوا أن يعيشوا إلا عيشة بهيمية سرعان ما تقضي على حياتهم.
فاليد هي أداة الحضارة، واللسان هو أداة الثقافة، وهما كفيلان بالرقي الإنساني إذا صحبا بقليل من الذكاء، وربما كانت أكبر نكبة نكبت بها القردة، فحالت دون رقيها، هو فقدانها إبهام اليد أو الجزء الأخير منها، حتى باتت أيديها لا تحسن التناول، فلا تحسن لذلك أية صناعة، وهي إنما فقدت إبهامها لاقتصارها على السكنى في الأشجار واحتياجها للوثوب من غصن إلى غصن، وهذا الوثوب يقتضي أن تعوق الإبهام سائر الأصابع في التعلق.
ولكن الإنسان لم يقصر نفسه على الشجر أو الأرض، وإنما سكنهما جميعًا، فانتفع بالأرض لبقاء إبهامه، وانتفع بالشجر لتحرير قواه العصبية وضبط أعمال اليد، ولسنا نشك في المعيشة القديمة على الشجر، أو على الأقل في استعمال الأشجار وسيلة للفرار من العدو، بدليل أن المزاولة البسيطة القصيرة تجعل البهلوان من الإنسان الآن يسلك مسلك القردة في الانقلاب والوثوب والتعلق، ولو لم تكن أعضاؤنا مهيأة لهذه الألعاب لما استطاع إنسان أن يؤديها، ومعيشة اليابسة وحدها ليس من شأنها أن تهيئ الإنسان لهذه الأعمال، وهذه الألفة بالأشجار قد حررت أعصابنا، وجعلتنا نقدِّر لكل مجهود مقداره من القوة العصبية؛ لأنه من السهل على القارئ أن يرى أن الحيوان في الماء أو على اليابسة لا يميز بين المجهود كبيره وصغيره، وإنما هو يفر من أي خطر تافه أو عظيم بمجهود عصبي واحد لا يتدرج، ولكنما الإنسان لِأُلْفَته الغصون قد صار يحتاج إلى تقدير قفزاته؛ لأنه لو كانت كل قفزاته متساوية كما هي قفزات حيوان اليابسة وقت الخطر أيًّا كان مقداره لوقع وهلك؛ لأن الغصون غير متساوية في البُعد.
فالألفة بغصون الأشجار جعلتنا نحرر أعصابنا، ونجيد تقدير الأبعاد، ولا نتفق من قوانا العصبية إلا بمقدار ما نحتاج فقط، والألفة باليابسة جعلتنا نحتفظ بإبهامنا، وتمت لنا بذلك ميزة على القردة التي هي أرقى الحيوانات بعدنا؛ لأننا نستطيع أن نزاول الصناعة بأيدينا وهي لا تستطيعها.
ومهمة اليد في رقي الإنسان لا تختلف عن مهمة اللسان، فكلاهما يعمل للإيضاح والتقييد، فإن من طبيعة العقل الإنساني أنه لا يدرك معنًى من المعاني إلا إذا وضع له اسمًا أو رمزًا، ولا خيالًا من خيالاته إلا إذا جسَّمه بجسمٍ ما، وليس الفرق بين سبنسر الفيلسوف الإنجليزي وبين الهمجي الذي يعيش للآن في الغابات في إفريقيا هو فرقٌ بين الجُرم في دماغيهما، فإنهما يستويان في ذلك، ولكنما هو فرق بين لغة كل منهما؛ فسبنسر يعرف نحو ربع مليون كلمة هي ربع مليون معنًى خاص بالحضارة والثقافة، وهذا الهمجي أقصى ما يعرفه نحو مائة كلمة، فالمعاني التي يتناولها دماغه لا تزيد عن هذا العدد.
فاللسان يقيد المعاني، ويجعل للفرد مأثورًا من الثقافة، فنحن مثلًا في مصر ليس عندنا تلك الثقافة الخاصة بالطيران والطب والهندسة والفَلَك؛ لأنه ليس في لغتنا ألفاظ لمعانيها، وما عندنا من منطق وذكاء وفهم يرجع معظمه إلى أن عندنا معاني واضحة؛ لأن الألفاظ لهذه الأشياء قيدتها في حدود معلومة؛ ولذلك فمن السداد ألا تتعدد المعاني للفظ الواحد ولا الألفاظ للمعنى الواحد.
وقامت اليد في الحضارة مقام اللسان في الثقافة، وهي أنها جسَّمت الخيال الذي يتخيله الإنسان في جسم ما، ومهمة هذا الجسم تشبه عندئذٍ مهمة الاسم في إيضاح المعنى، فالمخترع الذي يخترع لا يفهم اختراعه، ويدرك ما فيه من محاسن أو مساوي، ما لم يقبض بيده على المواد يجسِّم بها خياله، ويده — وهي تطاوعه — تفتح له المعنى بعد الآخر، وتزيده فهمًا، ويزيدها هو صنعة، فتتبادل اليد والدماغ هذه المعرفة الجديدة ويتم الاختراع، وتزداد ثروة الحضارة شيئًا جديدًا، فاليد كاللسان أداة تعبير وإيضاح، وفنون الحضارة كلها من كتابة إلى تصوير إلى عمارة إلى هندسة إلى طب قائمة على براعة اليد، التي يضع اللسان أسماء مفصلة لأجزائها، حتى تصبح مأثورًا ينقله الخلف بلا عناء عن السلف.
وخلاصة ما تقدم أنَّ أكبر عامل لرقي الإنسان هو لسانه ويده، فهذان العضوان عندنا من أدق الأعضاء، إذا قوبلا بما عند جميع الحيوانات، ففينا من يمكنه أنْ يحاكي بمزاولة قصيرة أي طائر في شدوه وأي حيوان آخر في صوته، ويمكننا ببراعة أيدينا أنْ نلعب كالبهلوان جميع ألعاب القردة.
فأما براعة اللسان فلا نعرف أصلها، وأما براعة اليد فترجع إلى ألفتنا الأشجار التي اكتسبنا منها ميزة أخرى هي ضبط أعصابنا، وتقدير الأبعاد في حركة أعضائنا، ومن براعة اليد واللسان نشأت حضارتنا وثقافتنا؛ وذلك لأن اليد صورت لنا الأشياء في صور مجسمة يمكن محاكاتها وإعادة صنعها بدون الحاجة إلى تَكرار الاختراع، واللسان أحدث الأسماء التي هي قيود المعاني.