الحيوان بين عاملي الحب والخوف

الخوف من غرائز الحيوان والإنسان معًا، فكلاهما مفطور على الحذر من كل غريب، والفرار منه عند اللقاء الأول، والحيوان يتفاوت في عاطفة الخوف، فمنه ما يفرق لأقل حس أو حركة — كما هو الحال في الأرنب البري — ومنه ما يسير في الغابة كأنه يسير في بيته كما هو الحال في الأسد أو الببر، يمشي أحدهما فيتخلع وكأنه يتبختر، يوهم الرائي أنه شاعر بقوته لا يهاب أي مخلوق، ومع ذلك هذا الأسد مع شجاعته كثيرًا ما يخاف الشيء الغريب ويفر منه، فقد ذكر بعض الصيادين أنَّ أسدًا هاجم خيامه وفاجأ زوجته، فلم تر شيئًا قريبًا منها سوى مظلة، فتناولتها وبسطتها في وجهه فتراجع الأسد مرتاعًا؛ إذ لم ير شيئًا في حياته يكبر وينبسط بهذه السرعة، فكأنه حسبه حيوانًا غريبًا قد يؤذيه، وقد يستمر على الانبساط حتى يلتهمه.

ولكن غريزة الخوف التي تولد مع الحيوان تكون في بدايتها شيئًا غشيمًا مبهمًا، فإذا نشأ الحيوان أخذ من والديه ومن تجارب الأيام ما يصقل به هذه الغريزة، ويوضح حدودها ويقويها من نواح، ويضعفها من نواحٍ أخرى، ففراخ الطيور تنشأ وكأنها لا تخشى شيئًا، فهي تتناول الطعام من أيدينا كما تتناوله من أفواه أمهاتها، ولكن ما هو أن تشب حتى تتعلم من أمهاتها الخوف، وتعرف عدوها من صديقها، وكذلك الحال في أكثر الحيوان.

فنحن نولد مثلًا وفي نفوس كل منا إثارة خوف ورثناها عن آبائنا، تجعلنا لا نطيق الانفراد في الظلمة، ولا شكَّ في أنَّ هذه الغريزة كانت مفيدة لآبائنا؛ إذ كانت تدفعهم إلى الاجتماع، فيشد بعضهم بعضًا، وكانوا لا يتطوحون في مهاوي الظلمة حيث وسائل الهلاك عديدة.

وقد ضعفت هذه الغريزة في نفوسنا بعض الضعف، ولكن قام مقامها مخاوف أخرى، اقتضتها الحضارة ورقي الفكر، فنحن نخاف الإفلاس والموت والأمراض وما إليها.

وجميع أفراد الحيوان التي عرفت الإنسان تخشاه وتفر منه، ولا يتورط معه حيوان في شجار إلا عند الاستقتال، وعندما تقفل في وجهه جميع منافذ الخلاص، أو عندما يعضه الجوع فيشفى منه على الهلاك، فالأسد مثلًا لا يهاجم القرى إلا عندما تقع أسنانه وتنهد قواه، فلا يطيق الجري وراء حيوان الغابة، فإذا ضري على أكل الإنسان لم يتحول إلى غيره.

وعلة خوف الحيوان من الإنسان يرجع إلى التجارب القديمة، وما أبلاه قديمًا في عامة الحيوان طيورًا أو دواب، فقد عاش الإنسان حقبًا عديدة وهو يقنص الحيوان للطعام واللهو، فانغرزت في ذهن الحيوان غريزة الخوف منه، وتوارثها الخلف عن السلف حتى صارت فيه طبيعة ثابتة، ومما يدلُّ على هذا أنَّ الحيوان الذي يعيش بعيدًا عن الإنسان منذ أزمنة طويلة لا يخالفه، ولا يحسب حسابه، أو يفر عند اقترابه، فقد ذكر داروين أنه كان في أرخبيل الجلاباجوس سنة ١٨٣٥ وهذا الأرخبيل لم يقطنه إنسان قط، فجميع أنواع حيوانه لا يخشى الإنسان، قال:

إنَّ جميع حيوان اليابسة كالعصفور والحمام كانت جميعها تقترب منَّا بحيث نقتلها بالمدية، وأحيانًا كنت أقتلها أنا نفسي بالقبعة، ولا ضرورة هنا للبندقية، فقد دفعت صقرًا عن غصن شجرة بطرف أنبوبتها، وكنت في أحد الأيام راقدًا، وكان بجانبي إبريق ماء مصنوع من صدف السلحفاة، فحط عليه العصفور، وأخذ يحسو الماء منه، ورفعت الإبريق عن الأرض وهو لا يطير عنه، وكثيرًا ما حاولت أنْ أمسك هذه الطيور من أرجلها وكدت أنجح.

فمن هذا يتضح لنا أنَّ معظم الخوف الذي يشعر به الحيوان من الإنسان هو نتيجة التجارب التي بلاها منه، فقد حدث تنازع بقاء بين الحيوان، مات فيه الجريء الذي لا يخشى أنْ يتعرض للإنسان، وبقي الخائف الحذر الذي يتوقاه ويفر منه.

فهل تبقى علاقتنا بالطير وسائر الحيوان علاقة عداء وخوف لا ينتهيان إلى الأبد؟ أو ليس ثم موضع للحب بيننا وبينها؟

لسنا في مقام الصوفية، فنقول مع القديس أوغسطينوس: «أخي الطير»، ونطلب تعميم الإخاء بيننا وبين الحيوان، ولكننا نقول: إنَّ زمن اعتماد الإنسان على الحيوان في المعاش يصيده، وينصب له الفخاخ قد مضى، فليس يعدو الصيد الآن أنْ يكون لهوًا لا فائدة مادية فيه، وقد كان تجار قبعات السيدات إلى عهد قريب يقتلون الآلاف من الطيور حتى كادت تفنى، وهذا أبو قردان قد كاد ينقرض في بلادنا عندما أعمل الصيادون فيه بنادقهم حتى شملته عناية حكومتنا، فعاد إلى الانتشار بين حقولنا يطهرها من الديدان. وقد منعت أغلب الحكومات صيد الطيور بغية الحصول على ريشها، وأسست حرمًا في أفريقيا الجنوبية يمنع فيه صيد الفيلة، والرأي العام في العالم المتمدين يدعو إلى حماية الطير والحيوان بوضع قيود وحدود لصيده.

وإذا جاء يوم يمنع فيه صيد الطيور وأنواع الحيوان التي لا تؤذي الإنسان، فلن يكون بعيدًا أو مستحيلًا أنْ يزول منها خوفها الراهن من الإنسان، فتعاملنا كما عاملت داروين طيور أرخبيل الجالاباجوس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤