التقليد في الإنسان والحيوان
التقليد صفة أو غريزة عامة في الحيوانات العليا، وبمقدار ارتقاء الحيوان في سلم التطور تكون قدرته على التقليد، فأرقى الحيوانات هو الإنسان ويليه القرد، وكلاهما يفوق العالم الحيواني في حب التقليد.
ولا تكاد الحيوانات الدنيا تفهم معنى التقليد، فالحشرات والعناكب والأسماك، وما يلي هذه الحيوانات نزولًا في لسلم التطور، لا تكاد تُبين في حركاتها وخلقها العام ما يدلُّ على أنها تقلد في سلوكها.
فيتضح من ذلك أنَّ التقليد صفة راقية، اخترعته الطبيعة للحيوانات سلاحًا حديثًا تستعين به في مهام حياتها، وكأننا بذلك نثبت فائدة التقليد للحيوان، فما هذه الفائدة؟
من لوازم التقليد أنْ يكون مصحوبًا بالإحساس الذي يحسُّ به الشخص المقلَّد، فإذا رأينا شخصًا متهيجًا غاضبًا وقلدناه في جميع حركاته الواعية وغير الواعية، أدى بنا هذا التقليد إلى إحساس الغضب الذي عند هذا الشخص، وإذا رأينا رجلًا يضحك فقلدناه في ضحكه وتضاحكنا، أدى بنا هذا التضاحك إلى ضحك حقيقي وسرور فعلي نشعر بهما، وإذا رأينا أحدًا يبكي وتباكينا، أدى بنا هذا التباكي المدعى إلى بكاء فعلي.
هذا ولكل حيوان عواطف لا تزال خافية علينا ما دامت ساكنة، فإذا اهتاجت تحركت في جسم الحيوان أعضاء خاصة تدلنا على نوع العاطفة المهتاجة.
ولكل عاطفة عضو أو أعضاء تخدمها في تأدية أغراضها، وهي في الوقت نفسه تنم عليها.
على أنَّ هناك خاصة غريبة في جسم الحيوان، وهي أنَّ تنبيه عضو ما أو تحريكه، بحيث يمثل تأدية غرض من أغراض العاطفة الموكلة به والمتسلطة عليه، يؤدي إلى تنبيه هذه العاطفة نفسها.
فإذا وقفنا منفردين في غرفتنا، وعقدنا حاجبينا، وقبضنا أكفنا، واستوينا كأننا نتهيأ لقتال، اجتمع لنا من هذه الحركات ما ينبه فينا غريزة القتال، فتشعر للحال بالغضب والغيظ كأننا نقاتل بالفعل، وتطفو إلى ألسنتنا ألفاظ السباب، ويزداد نشاط رئتينا، وتتوتر أعصابنا كأن هناك قتالًا حقيقيًّا، ومن هنا ندرك السبب الذي من أجله ينتهي مزاح بعض الناس والحيوانات إلى قتال حقيقي، فالصراع والمهارشة يؤديان أحيانًا إلى قتال حقيقي.
وإذا وقفنا بهيئة خليعة تنافي الوقار أو الآداب، جالت في رءوسنا للحال أفكار سافلة، وانتبهت فينا عواطف الدركة السفلى، وهلمَّ جرًّا، فالوظيفة تحرك العضو، والعضو يحرك الوظيفة، فربما كنا مثلًا لا نشعر بالجوع، فإذا جلسنا إلى المائدة وبسط الطعام، كان لنا من تحريك أعضائنا تلك الحركة الآلية التي تسبق الطعام ما ينبه فينا شهوة الجوع، ومن هنا يقول المثل الفرنسي: «شهوة الطعام تأتي عند تناوله».
فالتضاحك — كما قلنا — يؤدي إلى الضحك والسرور؛ لأنه يحرك أعضاء عاطفة السرور، والتباكي يؤدي إلى البكاء؛ لأنه يحرك أعضاء البكاء وبذا ينبه عاطفة الحزن.
ومن هنا كان التقليد سلاحًا ينفع ذويه في الملمات؛ لأننا إذا رأينا خصمنا وهو يزيد اهتياجًا وغضبًا، كان لنا من تلك الخاصة التي تمكننا من تقليد حركاته أنْ ندرك إحساساته نحونا، ونستعد لمقاومته ودفعه عنَّا، فندفعه ونصده لا بحكم العقل والروية، بل انصياعًا لوحي الغرائز والعواطف.
وقد صار التقليد غريزة نؤديها على غير إرادة منَّا، وأحيانًا على غير وعي منَّا، فالطفل الصغير يبكي على الرغم منهُ إذا رأى أمه قد ضربت أخاه فبكى أمامه، وإذا رأينا رجلًا على سطح عالٍ قد اقترب من حافته حتى أشرف على السقوط، دبَّ في قلبنا على غير وعي منَّا رعب، وسَرَتْ في جسمنا قشعريرة، كأننا نحن على وشك السقوط والهلاك.
فالتقليد وسيلة قد ابتكرتها لنا الطبيعة بُغية استكناه نيات أخصامنا، ولكن ليس هذا هو الغاية من التقليد فحسب، فقد اخترعت لنا الطبيعة العقل للتمييز والحكم بين غرائزنا، ومعرفة النافع والضار في أحوال معاشنا، ونحن الآن نستعمل هذا العقل فيما هو أرقى من ذلك؛ في درس الفَلَك والرياضة والفلسفة.
وكذلك الحال في التقليد، فنحن نستعمل هذه الخاصة في أشياء لا تتناول معاشنا اليومي، فمن ذلك أنَّ التفاهم العادي بين شخص وآخر لا يتم مع وجود اللغة، إلَّا بأن يقلد كل منهما الآخر تقليدًا غير واعٍ، فيفهم أحدهما إحساس الآخر ويستطيع إجابته، وليس العقل أساس التخاطب؛ لأن العقل بطيء لا يسعفنا بضالتنا من الألفاظ، وإنما يقوم التخاطب بإلهام الغرائز، وهذه تنتبه لأننا نقلد من يخاطبنا، فنحرك على الرغم وعلى غير وعي منا أعضاء تماثل ما تحرَّك منه، فنحس إحساسه وندرك موقفه بإزائنا، ونرد عليه بما يلائم مصلحتنا.
وأكثر الناس يعزون تقدم الإنسان على سائر الحيوانات إلى كِبر دماغه وقوة عقله، وهذا خطأ، فإننا لم نصل إلى مركزنا الحاضر في سُلَّم النشوء بهذا فقط، فإن قدرتنا على النطق وخفة أيدينا، ثم قدرتنا على التقليد، كل هذه الخواص قد رفعتنا فوق البهيمية وتعزى إليها إنسانيتنا أكثر مما تعزى إلى العقل.
إذ ماذا ينفع الثور أنْ يكون له عقل مثل عقلنا، ما دامت يداه لا تستطيعان صنع الآلات، وما دام لسانه لا ينطق فيقيد المعاني بألفاظ، وما دام لا يستطيع التقليد فيسهل عليه التخاطب؟
وربما لا يخرج عن موضوعنا أنْ نبين ما للتقليد من القيمة الأدبية والتعليمية، فقد ألَّف أحد القصصيين الروس الذين أتوا بالمعجزات في فنِّ القصص قصةً تدلُّ على قيمة التقليد، وبطل هذه القصة طبيب أراد أنْ يقتل خصمًا له من غير أنْ يقع في جريرته، فادعى الجنون وقلَّد حركات المجانين، حتى أتقن الحيلة وأقنع الناس بجنونه، ثم سنحت له فرصة فقضى لبانته وهو في إحدى نوباته المدعاة، فلما قبض عليه وسجن استمر في ادعاء الجنون، فنجا بذلك من القصاص، ولكنه جُنَّ بالفعل؛ لأن تقليده للجنون ومداومته على محاكاة المجانين في حركاتهم وإشاراتهم، أدى به في النهاية إلى أنْ يحسَّ إحساسهم ويجن.
ومن هنا كانت فائدة التعليم، فالطفل البليد الطبع الواني الحركة، ينشط ويتذكى إذا قسر على النشاط والانتباه؛ لأنه يحرك أعضاء في جسمه تنبه فيه هذه الصفات، فهو يقلد حركات النشاط أولًا، فينتهي بأن يصير هو نفسه نشيطًا، ومن هنا أيضًا كانت فائدة القدوة الحسنة والمثل الطيب، فقليل الدِّين يتورع إذا قسر على الصلاة مع الورعين، وينتهي تورعه المدَّعى إلى ورع حقيقي، ومما يثبت الدِّين في قلوب أصحابه أنْ تكون الصلاة جماعة، وأن تتكرر جملة مرات في اليوم بحركات خاصة بها، فتحريك الأعضاء ينبه العاطفة الدينية، والقدوة الحاصلة بالاجتماع تحرك غريزة التقليد.
ويمكننا لو أردنا أنْ نعمم الآداب بين التلاميذ مثلًا، أنْ نقسرهم على مراعاة بعض الحركات التي تصحب الرجل المؤدب، فينتهي بهم الحال إلى أدب حقيقي.
وإذا شعرنا بالغيظ من أحد وثارت عليه عواطفنا، أمكننا أنْ نزيل ما بأنفسنا منه بأن نذكر اسمه مبتسمين، ثم نمدحه بصوت عالٍ ونحرك أعضاءنا بحركات الوداد نحوه، فتنتعش فينا عواطف الميل إليه، وهلمَّ جرًّا.
غير أنَّ في التقليد مضار كما أنَّ فيه منافع، فالقدوة الرديئة تؤثر فينا على الرغم منَّا، وتفت في خلقنا، وإذا اتهم أحد المغفلين أو ضعاف العقول بتهمة ما وكان بريئًا، ثم أجريت معه مراسم التحقيق ومثل ساعة أمام مدير السجن، وأخرى أمام وكيل النيابة، ثم بين يدي القضاء، أدَّت به هذه الحركات إلى أنْ يحسب نفسه أنه مجرم حقيقي، فيعترف بجرم لم يرتكبه؛ لأن تكرار ذكر الجريمة أمامه وتقليده لحركات المجرمين في السجن والمحكمة ونحو ذلك، وضعفه العقلي الأصلي، كل هذه الأشياء تجسم في ذهنه صورة جريمة لم يرتكبها، فيتوهم أنه ارتكبها.
ويمكنك أيضًا أنْ تقول: إنَّ حرية الفكر المزعومة وهم، وإننا كلنا يحاكي بعضنا بعضًا، نستعير الأفكار والآراء من حيث لا ندري، وإنَّ الاستقلال في الفكر يحتاج إلى جهد عظيم قد لا يطيقه غير القلة.