مرآة المزاج الإنجليزي في اللغة الإنجليزية

اللغة مرآة الأمة التي تنطق بها، وتعرب عن المعاني المستكنة في ضميرها عن سبيلها، وبمقدار شذوذ هذه المعاني أو عمومها، يكون شذوذ الألفاظ وعمومها أيضًا، فجميع اللغات مثلًا تشترك في معان عمومية تؤديها بألفاظ يمكن ترجمتها من أية لغة إلى أية لغة أخرى، ولكن هناك مِن المعاني عند بعض الأمم ما لا يمكن ترجمته؛ لأنه خاص بالإقليم الذي نبت فيه، أو لأنه نبع من مزاج الأمة، وقد لا يشترك هذا المزاج وأمزجة الأمم الأخرى.

فكلنا مثلًا حاول عبثًا أنْ يجد لفظة تؤدي معنى الشماتة في اللغة الإنجليزية فلم يقدر، وليس منَّا من يستطيع ترجمة لفظتي خال وخئولة إلى الإنجليزية، ولا بدَّ أنَّ كثيرين منَّا قد تأملوا في أصل معنى السياسة عند العرب وعلاقتها بسائس الخيل، واللفظة المقابلة لها في اللغات الأوروبية وعلاقتها بالمدينة: Politics.

ويمكن الإنسان بتحليل بعض الألفاظ العربية أنْ يعرف مزاج العرب وأحوال البيئة البدوية التي كانوا يعيشون فيها، فالراعي والرعية مشتقان من تربية الغنم والجمال، وسياسة الأمة مشتقة من سياسة الخيل، والفراسة مشتقة من الفرس، وهلمَّ جرًّا.

وموضوع درسنا الآن ليس البحث في المعاني العربية، بل في المعاني الإنجليزية ودلالتها على مزاج الأمة الإنجليزية وخلقها، أو قل عقليتها ونفسيتها.

وقد وجدتُ أنَّ خير طريقة لبلوغ هذه الغاية أنْ ندرس الألفاظ الإنجليزية التي لم يستطع الفرنسيون أنْ يترجموها إلى لغتهم، فنقلوها بأعيانها كما هي، فإذا أتممنا هذا عرجنا على بعض الألفاظ الإنجليزية الأخرى فنظرنا فيها.

فمن هذه الألفاظ لفظة Character التي نترجمها أحيانًا ترجمة مخلة ناقصة بالخُلُقِ، وأقرب منها إلى الصحة أنْ نترجمها بلفظة طَبْعٍ؛ لأن هذا المعنى هو أصل اشتقاقها، وبها سميت لذلك حروف الطباعة، والخلق والطبع كلاهما لا يؤدي المعنى الإنجليزي على وجه التحقيق، فإن الإنجليز يقصدون من هذه اللفظة جملة خصال تتركب في الخُلُق العظيم، أهمها الثبات والاستقامة، والدأب في بلوغ الغاية، وعدم التقلب مع الأهواء أو الأحوال، ويمكننا أنْ نفهم المعنى أكثر إذا روينا حكايتين صغيرتين: الأولى أنَّ الإنجليز ينسبون هذه اللفظة إلى ستانلي المكتشف الإفريقي العظيم؛ لأنه على طول إقامته في غابات إفريقيا وفيافيها، وعلى كثرة ما كان يشغله من الأخطار، وعلى أنَّ الذين كانوا يحيطون به من البشر لم يكونوا إلَّا من الهمج والمتوحشين، لم يهمل يومًا واحدًا أنْ يحلق لحيته كما هي العادة الإنجليزية، وقد نشأ ستانلي إنجليزيًّا، ثم صار بعد ذلك أميركيًّا، فمواظبته على حلق لحيته دليل على متانة خلقه.

وللكاتب الإنجليزي ولز قصة مشهورة افتتحها بوصف الخُلق أو الطبع الإنجليزي، فعرض للقارئ صورة صانع يصنع المركبات الثقيلة المتينة، ويقوم حوله منافسون يصنعون المركبات الخفيفة، ويبيعونها بالأثمان التي تباع بها هذه المركبات الخفيفة، ولكنه لهذا «الطبع» المركب في مزاجه يأبى أنْ يغيِّر خطته أو ينزل عن رأيه، فهو يعتقد أنَّ المركبة المتينة الغالية أنفع للأمة وأصلح لها من هذه المركبات الرخيصة الخفيفة، فهو يدأب في صنعها غير مبالٍ بكسادها.

ولا شكَّ في أنَّ ولز قد غلا في الوصف، ولكن غلوه يبين حقيقة ما يعني الإنجليز بلفظة Character التي لم نستطع للآن ترجمتها إلى لغتنا كما لم يستطع الفرنسيون.
وكلمة أخرى لم يمكن الفرنسيين ترجمتها، هي لفظة Sport فنقلوها بحروفها إلى الفرنسية، وقد اصطلحنا نحن على أنْ نترجمها بلفظة رياضية، وهي في اعتقادي لا تؤدي المعنى الإنجليزي كل الأداء؛ فإنها مصبوغة بالجد أكثر منها باللعب، وهي في الإنجليزية مصبوغة باللعب أكثر منها بالجد، وليس بين أمم العالم الآن من يلعب مثل الإنجليز، حتى دخل لفظ «اللعب» عندهم في جملة معانٍ، فالإنصاف والعدل عندهم Fair play أي اللعب النزيه، ومَن مات عندهم أو قُتل، فتحمَّل الموت أو القتل بجَلَدٍ وشهامة، فقد مات لاعبًا To die game.
ومن الألفاظ الإنجليزية التي اصطنعها الفرنسيون لفظة Humour، وهي تعني في العربية شيئًا يقرب من الفكاهة، أو قُل الفكاهة العالية، وهذا يدلُّ على أنَّ الإنجليز أكثر الناس في إيراد الفكاهة، وحسبك أنْ تعرف أنَّ أكبر كاتب وفيلسوف إنجليزي الآن هو برنارد شو، وهو كاتب فكاهي، وكان مارك توين من أكبر كتَّاب الولايات المتحدة الأمريكية، وهو أيضًا كاتب فكاهي، ولهذين الكاتبين غضبات في الحق ينسيان فيها كل فكاهة.
وأيضًا لفظة Home التي تقارب معنى بيت في العربية (وذلك إذا اعتبرنا أنَّ البيت هو المنزل وأهله) ليس لها ما يقابلها في الفرنسية، والرابطة البيتية كبيرة جدًّا في إنجلترا، والبيت بهذا المعنى عبارة عن منزل له حديقة، يتسم أثاثه بالرفاهية، يوجد بغرفة على الدوام موقد نار للاصطلاء، ويشرب فيه الشاي في أي وقت، وتجتمع العائلة في إحدى غرفه كل ليلة للمسامرة أو المطالعة، وبالحديقة كلبٌ وبالمنزل قط، والزوج يعشق زوجته عشقًا صحيحًا؛ لأنه لم يتزوجها لمال أو جاه.
هذا هو الجو الذي أتشممه من لفظة Home؛ ولذلك يشق على الإنسان ترجمتها لأية لغة.
وقد يمكنك أنْ تضيف إلى هذه الألفاظ الأربعة لفظة خامسة لم يستطع الفرنسيون ولا نحن ترجمتها، وهي لفظة Gentleman، فإن الإنجليز أنفسهم لا يعرفون جملة المعاني التي تنطوي عليها هذه اللفظة، وهي تعني في اعتقادي رجلًا شهمًا، صحيح الجسم، مقبول الملامح، يعرف آداب اللياقة، لا يكثر من الدرس ولا من اللعب ولا يتدنَّى للربح.
ولننظر الآن في بعض ألفاظ إنجليزية أخرى تدل على المزاج الإنجليزي، فالإنجليز يحبون اللحم، وهم أكثر الأمم أكلًا للَّحم، والحق يقال أنه ليس في العالم لحم يؤكل مثل ذاك الذي يباع في لندن، فليس عجبًا أنْ يجعلوا لفظة Meat وهي تدلُّ في الأصل على الطعام كله بأنواعه، مقصورة في المعنى على أحسن ما يحبونه في الطعام وهو اللحم.

والإنجليز مثل الإغريق القدماء يكرهون الأجانب، أو قل يحتقرونهم، فقد كان الإغريق يسمون كل أجنبي بربريًّا، والإنجليزي يشعر بهذا الشعور الإغريقي، ولكنه يتلطف في التعبير، وكثيرًا ما كنت أتعجب للمزاج الإنجليزي وأنا بلندن، عندما كنت ألاقي أحدًا من أبناء لندن إذا أراد أنْ يلاطفني ويؤانسني قال لي إني أشبه الإنجليز، كأنه من العار عليَّ أنْ أشبه المصريين.

وفي اللغة الإنجليزية ما يدلُّ على ذلك، فإن لفظة Outlandish تعني في الأصل «غريب» فقط، وهي الآن تدلُّ على شيء غريب بعيد عن الذوق والكياسة.
والإنجليز أبعد الناس عن التفتح والمؤانسة، فإذا جلس اثنان من الفرنسيين أو الألمان معًا في غرفة وكانا غريبين، لم يمضِ عليهما وقت طويل قبل أنْ يتكلما، ولكن إذا كان الجالسان إنجليزيين فقد ينقضي نهار كامل دون أنْ يفتح أحدهما فاه بحديث للآخر؛ لذلك يجب ألَّا نستغرب أنْ يقترض الإنجليز لفظة Rapprochement من الفرنسيين؛ لكي تؤدي لهم معنى التقرب والمؤانسة الذي ينافي مزاجهم، ولم توجد لمعناه لفظة في لغتهم.
ومن خصال الإنجليز التحفظ، والإمساك عن الكلام، وكراهة اللغو والمترادفات، والتبسط في الألفاظ، فالأسلوب الإنجليزي هو بلا شك الأسلوب التلغرافي؛ ولذلك يجب ألَّا نعجب من أنَّ لفظة Voluble وهي تعني في الأصل التدفق في الكلام، قد صارت تعني الآن الهذر والثرثرة.

فمن هذا البحث الصغير يتبين للقارئ أنَّ اللغة تدلُّ على مزاج الأمة التي تتكلم بها، وأعظم ما يدل فيها على ذلك هو تلك الألفاظ التي لا يمكن ترجمتها؛ لأنها تكون عندئذٍ صورة للخصائص التي اختصت بها الأمة وامتازت بها من غيرها، ومن اللغة الإنجليزية نفهم أنَّ الإنجليز يحبون اللعب كثيرًا، كما يحبون الثبات والدأب في العمل الذي يمارسه الإنسان، ويحبون الفكاهة واللطف في المعاملة، وهم أيضًا يحبون بيوتهم، ويسترئون اللحم أكثر من أي طعام آخر، ويحتقرون الأجانب، ويتحفظون في الكلام أو الكتابة، ويمسكون عن الإسهاب في الأداء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤