الإنجليزي وجسمه
أظن أنَّ الإنجليز — على الرغم من خصومتنا معهم، وشدة إسفافهم في استغلال ضعفنا — أرقى أمة موجودة الآن في العالم.
وأقول هذا القول وأنا أتحفظ ببعض الشُّبَه والشكوك، فقد يكون النروجيون أرقى أمة، ولديهم على أي حال دليل قوي من دلائل الرقي، فقد جاء في إحصاء مطبوعات العالم أنَّ مؤلفاتهم في العام الأسبق أربت في العدد على مؤلفات الألمان، والألمان أكثر أمم العالم تأليفًا، وهذا على الرغم من أنَّ عدد سكان نروج أقل من سدس عدد سكان ألمانيا.
ولكن كثرة مدارسة الكتب ليست سوى دليل واحد من دلائل الرقي، وهو مع ذلك دليل ضعيف، فإننا لا نعرف ماهية هذه الكتب، وكثيرًا ما يكون تأليف الكتاب دليل الغباوة، وحسبك أنْ تعرف أنَّ أحد أهالي دمشق ألَّف كتابًا منذ شهرين يقول فيه بتكفير المسلمين؛ لأنهم لا يلبسون العمائم.
فلنترك إذن نروج لجهلنا بها، ولننظر ثانيًا في الإنجليز، فعند هؤلاء الناس جملة صنوف من الرقي الاجتماعي، فحكوماتهم في بلادهم أرقى الحكومات في العالم، ولا تنس أنَّ لهم في بلادهم حكومات لا حكومة واحدة، فإن مجالسهم البلدية تدير الشئون الداخلية، وكل منها مستقل عن الآخر، ومن هذه المجالس يشرف مجلس لندن على مصالح نحو ٧ ملايين نفس، ولا تقل ميزانيته عن ميزانية الحكومة المصرية، والبرلمان الإنجليزي يسيطر على هذه الحكومة، ولكنه لا يمارس هذه السيطرة، ولا يعارض نزعة الأمة في هذا الاستقلال المدني، وقد يقرأ الناس أخبار حكومة فرنسا مثلًا ويقرنونها إلى أخبار حكومة إنجلترا، أو يظنون نظام كل منهما مطابقًا للآخر، ولكن شتان بين الاثنين، فإن باريس تحكم جميع المدن الفرنسية؛ تعين لها جميع موظفيها أو أهم موظفيها، أمَّا لندن فلا شأن لها بما تفعله لفربول؛ لأن في لفربول مجلسًا هو برلمان المدينة يعين شُرطتها، وينظم مدارسها، وينظر في صيانتها، ويدير مستشفياتها وما إلى ذلك، وليس للحكومة المركزية في لندن إلَّا الإشراف الذي لا تزيد قيمته أحيانًا عن تقديم النصيحة.
ثم انظر إلى نظام العائلة تجد أنه ليس في العالم كتلة بشرية أكثر تماسكًا من هذه العائلة الإنجليزية، وحسبك أنَّ زوجين أرادا الطلاق من مدة قريبة في إنجلترا، فلم يجدا ما يسوغان به هذا الطلب أمام القاضي، إلَّا بأن ادعى كل منهما بأن الآخر قد ارتكب جريمة الزنا، وقدَّم كل منهما خطابات مزورة تدلُّ على صحة هذه التهمة.
ويمكنك أنْ تتناول سائر الشئون الاجتماعية في إنجلترا أو تقابلها بما يماثلها عند الأمم الأخرى، تجد تفوُّق الإنجليز أو على الأقل عدم انحطاطهم عن غيرهم فيها.
ولكن هذه الشئون الاجتماعية كلها لا تصح مقياسًا للرقي، فإن مجال الشك فيها واسع، فإننا للآن لا نعرف ما هو أصلح نظام للعائلة، وما أنفع نظام للحكومة أو للهيئة الاجتماعية، فقد تكون الاشتراكية أرقى من النظم الراهنة، بل هؤلاء الروس يقولون إنَّ الشيوعية أفضل الأنظمة، وليس عندنا ما يدلُّ أيضًا على أنَّ تماسك العائلة وعدم تيسير الطلاق أنفع للناس من ترخيص الطلاق.
والحقيقة أنَّ علم الاجتماع لا يزال علمًا ناقصًا، بل هو ليس علمًا للآن، فإنه لا يزال كثير الاشتباك بالتقاليد الدينية والتاريخية والحكومية، بحيث لا يمكن التبسط في شرح إحدى نظرياته، دون أنْ تمتد يد القانون وتمنع البحث الطليق، وحسبك أنْ تعرف أننا لسنا مطلقين في أنْ نتكلم عن فوائد الشيوعية أو ضررها، فإن حكومتنا تمنعنا من ذلك، ولسنا أيضًا أحرارًا في الكلام عن ضرر التزوج بأربع أو فائدته، فإن التقاليد الدينية تمنعنا من ذلك وهلمَّ جرًّا.
ولو كان الناس يتحرجون من البحث في علم الكيمياء أو الطب أو الهندسة، مثلما يتحرجون الآن من الكلام في علم الاجتماع، لما تقدمت هذه العلوم.
فلنترك إذن الشئون الاجتماعية ولننظر في معيار آخر نعاير به تفوق الإنجليز.
وأصدق هذه المعايير هو ما ينطبق على شخص الإنجليزي بالذات من حيث الجسم والعقل والخُلق، ولنذكر أنه إذا كان ثم نتيجة حسنة لأي نظام اجتماعي كائنًا ما كان، فإنما تكون هذه النتيجة في الجسم والعقل والخُلق، فإن بين الحيوان ما هو أصدق إخلاصًا لنظام العائلة منا، كما هو الحال بين الحمام، وما هو أقوى في الروح الاجتماعية منا، كما هو الحال بين بعض الغزلان، ولكن ليس بينهما ما يفوقنا في العقل أو الخُلق أو الجسم.
فهل يفوق الإنجليزي سائر البشر في هذه الأشياء؟
لست أشكُّ في أنَّ الخُلق الإنجليزي يمتاز عن سائر الأخلاق بالثبات في العمل، والدأب في بلوغ القصد وحكم الشهوات، والتبصر للمستقبل، وكل هذه صفات قد اشتهرت عن الإنجليز، وهي دليل الأعصاب المتينة، وأساس الأخلاق هو الأعصاب، فإذا قلنا مثلًا: إنَّ هذا الشخص أو ذاك يثبت في عمله عَنَيْنَا بذلك أنَّ أعصابه لا تتعب بسرعة، بل تتحمل المداومة على الشغل والدأب فيه، وإذا قلنا: إنَّ هذا الرجل أهوائي كثير التقلب، عنينا بذلك أنه ضعيف الأعصاب لا يقوى على تحمل سأم العمل على وتيرة واحدة، وهلمَّ جرًّا.
أمَّا من حيث العقل فقد يفوق الألماني الإنجليزي وقد لا يفوقه، ولنذكر أنَّ الإنجليز ألمان أو هم فرع من الجيل الألماني، بل قد يكونون «جرمانًا» أكثر من الألمان، فإن هؤلاء قد تسرب إليهم دم آسيوي كثير كما هو ظاهر في كثرة ما يرى عندهم من الرءوس المستديرة المغولية الأصل.
أمَّا من حيث الجسم فإننا يمكننا أنْ نعاير تفوقه بثلاثة أشياء: وهي الجمال والصحة والقامة، ولنذكر أولًا أنَّ الإنجليز أقل الأمم في البطون المستكرشة، وهم أكره ما يكونون للسمن، وهم إنْ لم يكونوا أطول الأمم قامة، فهم من أطولهم وأضمرهم بطنًا، أمَّا من حيث الجمال فلستُ أعرف نساء يشبهن في جلال الطلعة، وإنْ لم يكن في الفتنة نساء الإنجليز من الطبقة الراقية، أمَّا من حيث جمال الوجه والقامة في الرجال، فيكفي شهادة على جمال الإنجليز أنَّ الخياطين في جميع البلدان صاروا يقيسون على غرارهم، ويرسمون صورهم في نماذج التفصيل.
ولو اتبعت غريزتي وبصيرتي لقلت: إنَّ عناية الإنجليز بأجسامهم من أكبر الأدلة على رقيهم، فهم أكثر الدول رياضة واستحمامًا وتنزهًا، وهم أيضًا من أكثر الأمم سياحة وضربًا في الأرض، فهم بذلك أميل الناس إلى اكتساب التجارب، والتجارب في النهاية الربح الحقيقي لكل إنسان في هذا العالم، وقد صدق نيتشه عندما قال: «كل ما لا يقتلني يقويني»، ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن جميع التجارب مفيدة ما دامت لا تؤذينا أذًى يقضي علينا.
وميزة أخرى في المزاج الإنجليزي، وهي دليل شيء من التفوق في الأعصاب، أو العقل، أو أي شيء آخر، هي ما نجده من ميله الدائم إلى الاعتدال والبُعد عن الغلو والإسراف، فهو دائم التحفظ والاقتصاد، وهو في ذلك يشبه الإغريق القدماء الذين كانوا يتجنبون الغلو.
وبعد فقد جالت برأسي هذه الخواطر وأنا أقرأ إعلانًا في التَّيمس لإحدى الشركات الإنجليزية تطلب فيه: «رجلًا إنجليزيًّا طرازيًّا»؛ أي يعتبر مثالًا لهيئة الإنجليز، واشترطت فيه أنْ يكون: «شابًّا طوالًا خفيف اللون»؛ وذلك لكي تستخدمه بتصويره في إعلاناتها المختلفة.
وقد أذكرني هذا الإعلان إعلانًا آخر قرأته مدة الحرب لسيدة أيِّم إنجليزية، تطلب فيه رجلًا إنجليزيًّا طوالًا لكي يتزوجها.
فالإنجليز مثل الإغريق القدماء يطلبون الجمال والصحة، ويجهرون بهذا الطلب، وهم لو لم تكن هاتان الصفتان فيهم لصارتا فيهم؛ لأنهم يطلبونهما، ومن نشد شيئًا وداوم في طلبه لم يلبث أنْ يحققه.