بعض الرذائل في ضوء التطور
نظرية التطور مفتاح سحري نفتح به ما يستغلق علينا من نزوات الطبيعة البشرية ونزغاتها، ففي كل منَّا عِرق، بل عروق مستسرة، تمتُّ إلى آبائنا الوحوش القديمة التي عاشت القرون الطويلة في ظلام الغابة تحوطها الضواري والأفاعي، فتأوي منها إلى الأشجار أو الكهوف.
وما زلنا في أحلامنا وسرائر نفوسنا نحمل قلوب هذه الوحوش القديمة في صدورنا، فنحن نخاف الظلام، ونحس كأنه يخبئ لنا الجن والعفاريت، وما هذه الجن والعفاريت سوى الضواري والأفاعي التي كانت تكمن لآبائنا وتفترسهم في جنح الظلام.
وما زلنا نحلم أو بالأحرى يحلم صغارنا أنهم يهوون من علٍ، ويوشكون أنْ يهلكوا، ولكنهم قبيل الصدمة الأخيرة يستيقظون وقد أفاقوا من هذه الغشية، وليس هذا الحلم سوى الذاكرة القديمة حين كان آباؤنا يأوون إلى أغصان الأشجار، فينامون حريصين على ألَّا يقعوا، ولعلهم كانوا يقعون، ولكن اليقظة كانت تعاودهم قبل ساعة الخطر فكانوا يتعلقون بغصن ينجيهم، وانطبعت هذه الذكريات المؤلمة في عقولهم الباطنة حتى أورثوها لنا في أحلامنا.
وليس شك في أنَّ أحلامنا تمثل يقظة آبائنا، فنحن في الحلم نتكلم بلغة الآباء ونستعمل رموزهم؛ لأن العقل الباطن هو أداة الأحلام، وهو عقل الجدود القدماء.
ولكننا ذكرنا مثالين من تراث هؤلاء الجدود، يجب أنْ نقف عندهما لنرى عبرتهما في التطور، فقد قلنا إننا نخاف الظلام، وأننا نحلم بالسقوط، ولكن مما يجب الانتباه له أن الصبيان، بل الأطفال أكثر تعرضًا لهذا الحُلم ولهذا الخوف من البالغين، وهذه الحقيقة تتسق ونظرية التطور، فالجنين يختصر في الأشهر التسعة التي يقضيها في الرحم تطور الإنسان من عهد ظهور الحياة على الأرض إلى أنْ يصير إنسانًا سويًّا، فيكون أولًا خلية فردة، ثم يكبر إلى أنْ تصير له خياشيم كالسمك، ثم يتخذ هيئة البرمائيات كالضفادع، ثم يقف هنيهة بين الزواحف واللبونات، فيكون له ذنب وشعر، ثم يدخل في طول الإنسانية، وهو إنما يسلك هذه السبيل؛ لأن له ذاكرة خفية أو عقلًا باطنًا يحتفظ بتاريخ الإنسان منذ بدء نشوئه إلى الآن.
ولكن إذا كان للجنين ذاكرة تلهمه بأن ينمو على طريقة بعينها، فإن للطفل أو للصبي ذاكرة خفية تبعث في نفسه غرائز الجدود الأقربين عادة والأبعدين أحيانًا، فالطفل يمشي على أربع، ويولد وذراعاه في طول ساقيه شأن الحيوان القديم الذي خرجنا منه، ثم يخرج من هذا الطور ويستوي على ساقيه، وتتأخر ذراعاه عن النمو بالنسبة إلى ساقيه، وهو يبقى مدة غير قصيرة يحب التعلق والتسلق، ويلذ له السير على الحافات الدقيقة ونحو ذلك، مما يرجع به إلى غرائز الآباء الأقدمين الذين كانوا يتحصنون أغلب وقتهم على الأشجار.
وبعد هذه المقدمة الصغيرة ندخل في موضوع هذا الفصل، وهو البحث عن أصل رذيلة اللواط التي نراها فاشية بين بعض الناس، ونريد أنْ ننظر إليها في ضوء التطور.
فليس شك في أنَّ الصبيان، بل الأطفال يشعرون أحيانًا بدافع الغريزة الجنسية قبل سن البلوغ بأعوام كثيرة، وأحيانًا نحتاج إلى أنْ نضرب الطفل لنكفه عن العبث بأعضائه التناسلية، أمَّا الصبيان فليس ينكر أنهم يفكرون كثيرًا في أعضائهم التناسلية، بل هم يشعرون ببعض اللذة في إيقاظ هذه الغريزة وهم أحيانًا فيما بينهم يختلطون اختلاطًا يقصدون منه اللذة، ويجدون هذه اللذة فيما نسميه اللواط.
فكيف نشأت هذه الغريزة المجنونة؟
إذا نحن رجعنا إلى نظرية التطور، وتذكرنا أنَّ الطفل ثم الصبي كل منهما يختصر في نفسه طورًا أو أطوارًا مرَّت بأسلاف الإنسان القدماء، جاز لنا أنْ نفتش عن أصل هذه الغريزة في هؤلاء الأسلاف.
ولكن قبل ذلك يجب أنْ نذكر أنه ليس كل صبي يفعل ذلك؛ لأنه وإنْ كانت بذور الغريزة كامنة في نفس جميع الصبيان إلَّا أنها قوية في بعضهم ضعيفة في آخرين، فقد يجتاز الصبي هذا الطور من حياته ويدخل في طور الشباب دون أنْ يشعر بها إلَّا ضعيفة، لا يأبه لها ولا تبلغ من نفسه سوى الاستحسان لجمال صبي آخر يلعب معه.
ولا بدَّ أنَّ القارئ قد لحظ أنَّ خصيتي الديك تبقيان داخل جسمه، ولا تخرجان منه وتتدليان على نحو ما نرى في الحيوان اللبون، ولا بدَّ أيضًا أنه لحظ أنَّ للدجاجة فتحة واحدة من خلف، وأنَّ التلاقيح يتم بينها وبين الديك عن سبيل هذه الفتحة، بحيث يلي بطن الديك ظهر الدجاجة، والآن إذا قلنا: إنَّ بعض الأطفال يولدون وإحدى خصيتيهم لا تزال داخل أجسامهم، بل أحيانًا تبقى الخصيتان كلتاهما داخل الجسم، أفلسنا نفهم من ذلك أنَّ هؤلاء الأطفال قد ساروا سيرة الجدود القدماء من برمائيات وزواحف؟
فهذه ردة حدثت في تكوين الخصيتين، رجع فيها الطفل إلى الوراء بمعنى أنَّ ذاكرة الجدود القدماء كانت أقوى فيه من ذاكرة التطور الجديد الذي قضى أنْ تخرج الخصيتان وتتدليان من الجسم، على نحو ما نرى في اللبونات، وهذه الردة كثيرة الحدوث في الإنسان، وربما كان أكثرها شيوعًا ذلك الشعر الكثيف الذي يكسو أبدان الرجال والنساء أحيانًا، ونحن نسمي السمات القديمة إذا ظهرت شاذَّة في الإنسان «ردَّة» كالشعر مثلًا، ولكنها إذا ظهرت فيه وعمت جميع الأفراد تقريبًا لم نطلق عليها اسم الردة، ففي كل منَّا مثلًا «زائدة دودية» تظهر في جميع الناس، وهي أثر حيواني قديم لا فائدة لنا منه، فهي لذلك ليست شاذة وليست «ردَّة».
ولكن الردة كما تحدث في أعضاء الجسم كذلك تحدث في غرائز النفس، فالطفل الذي يولد وخصيتاه في باطنه على طريقة الطيور والزواحف والبرمائيات قد نجد بإزائه طفلًا يولد، فإذا صار صبيًّا استيقظت فيه غرائز هذه الحيوانات القديمة التي يمتُّ إليها كلٌّ منها بنسب في نسيج عقله وجسمه معًا، فالصبي يستحسن الاختلاط من خلف بقوة هذه الذاكرة القديمة وهذه الغريزة المماتة، فهو يوقظ في نفسه غريزة كان يجب أنْ تموت ولكنه يحييها، فإذا عاونته الظروف استحيت وطاوعته وقويت، وصار لها في الأعصاب مسالك تتأدى بها، وفيها تلك الشهوة التي دمغناها بصفة البهيمية؛ لأنها هي في الحقيقة كذلك ردَّة بهيمية إلى البهائم القديمة التي خرجنا منها.
والعادة أنه إذا كان الوسط الذي يعيش فيه الصبي يسمح له بالزواج عند سن البلوغ أو بُعيده، فإن تلك الغريزة البهيمية التي كانت قد انتبهت فيه تُكبت وتُكتم، حيث تطغى عليها الغريزة الإنسانية باستحسان المرأة، ولكن إذا كانت الظروف لا تؤاتي الفرد على الزواج أو التعارف الجنسي الصحيح، فإن تلك الغريزة تبقى إلى طور الشباب، بل قد تتعداه إلى الكهولة، فتتأصل عندئذٍ في النفس وتصبغها بصبغة حيوانية قديمة يعسر تغليب الصبغة الإنسانية عليها.
وذلك لأن الغريزة الجنسية عندما لا تجد مخرجًا إنسانيًّا لها تعود إلى مخارجها القديمة فتنكفئ إلى اللواط، ومن هنا انتشار هذه العادة بين جموع من يحرمون من النساء كالرهبان والجنود، فالإنسان وهو ينتقل من الطفل إلى الصبي إلى الشاب، تتجدد عاداته ينسخ منها الجديدُ القديم، وإذا لم يكن جديد بقي القديم، فإذا لم يجد الشاب المرأة رجع إلى عادته وهو صبي، فيستحسن الصبيان أمثاله، فإذا بقي على ذلك مدة تأصلت فيه العادة فيشق عليه عندئذٍ الإقلاع عنها، فالشاب الذي ينغمس في اللواط، هو كالصبي الذي يروح ويغدو وهو لا يزال عالقًا بثدي أمه يرضعه، فإن الصبي قد عدا طور الرضاع، ولكنه وجد تشجيعًا عليه فثبت فيه، والشاب عدا هذا الطور الصبياني، ولكنه لما حرم من الاختلاط الجنسي الصحيح استبقى لنفسه هذه الغريزة القديمة، ينفِّس بها عن الشهوة الجنسية الملحَّة.
فيكف إذن نعالج الرجل أو الشاب من هذه العادة الصبيانية؟ نعالجه بأن نظهره على حقائق غرائزه، ونخبره بأن غريزة الصبي هي غريزة الحيوانات السابقة ذوات المخرج الفرد كالزواحف والبرمائيات، فكما أنَّ الجنين يمثل السمكة في أحد أطواره، وكما أنَّ الطفل يمشي على أربع، كذلك الصبي يمثل تلك الحيوانات القديمة في طريقة التلاقح، ولكنه ما دام قد دخل في طور الشباب فقد استكمل إنسانيته، ويجب أنْ يسلك المسلك الإنساني لهذه الغريزة.
إنَّ الجسم الإنساني بإزاء كفاياته القديمة المنسوخة منها والجديدة الطارئة عليه، أشبه شيء برجل قد تعلم في صباه الطعن بالحراب، ثم سمع عن القوس فتعلمه، ثم جدَّ اختراع البندقية فتعلم تسديدها، فهو إذا قاتل عَمِدَ إلى آخر أسلحته وأقواها وهي البندقية، فإذا تلفتْ هذه انكفأ إلى القوس، فإذا تلفتْ هذه أيضًا انكفأ أخيرًا إلى الحربة، فالرجل الذي يحرم من النساء يعود صبيًّا في غريزته الجنسية فيحب الصبيان؛ لأن اللواط سلاح قديم، كان الجسم يدفع به عنه إلحاح الشهوة، ولكن ثم اعتبارًا آخر يتسق مع تشبيهنا، وهو أنه إذا كان هذا الرجل الذي فرضناه قد طالت مدة استعماله للقوس دون الحربة أو البندقية، فإنه في القتال يؤثرها على كلا هذين السلاحين؛ لأن طول الممارسة يورد العادة التي هي أشبه بطبيعة ثانية، فإذا شبَّ الصبي إلى المراهقة وهو يستحسن الصبيان، وألف عادة اللواط وأكب عليها، شق عليه عندئذٍ أنْ يخرج منها ولو عرضت له نساء.
ولننظر الآن إلى العادة السرية «جلد عميرة» في ضوء الشرح السابق، فإننا نلاحظ أنَّ الأطفال والصبيان يلذ لهم مس أعضائهم التناسلية ومسحها، ونرى من واجبنا أنْ نزجرهم ونكفهم عن ذلك، فإذا صار الصبي إلى سن المراهقة ووجد للشهوة سبيلًا طبيعيًّا تنفرج إليه فذاك، وإلَّا فهو عائد إلى الطريقة التي ألهمته إياها غريزته وهي صبي، فيعود عندئذٍ إلى المس والمسح ويعرف من ذلك «جلد عميرة»، وتنتظم له من ذلك عادة ملحة لها أوقاتها.
وإنما الإنسان في غرائزه شبيه بالبصلة تتراكب الغرائز عليه طبقة بعد طبقة، فالطبقات العليا هي الحديثة والسفلى هي القديمة، والحديثة تتغلب على القديمة ما دامت الظروف عادية، ولكن إذا عوكس الفرد في غرائزه الجديدة انكفأ إلى غرائزه القديمة؛ لأن في الجسم قوة تندفع إلى الخروج، فإذا وجدت أبواب الغرائز الجديدة مقفلة دونها عمدت إلى الأبواب القديمة ففتحتها، وبعبارة أخرى نقول: إذا وجد الفرد أنَّ باب التعارف الجنسي بالطريقة الإنسانية مقفل، عمد إلى باب الطريقة البهيمية طريقة الزواحف وهي اللواط، وأيضًا إذا وجد الشاب أنَّ هذه الطريقة القديمة قد أقفلت دونه أيضًا عمد إلى طريقة الصبا، طريقة المس والمسح وهي جلد عميرة.