الأديب: أميرٌ أم عبد؟
لما زال استقلال الإغريق وتسلط الرومانيون عليهم، نزل الأدب من مركز الإمارة إلى مركز العبودية؛ فقد كان أدباء الإغريق أصحاب الفلسفات وواضعو الدرامات ينظرون إلى الشعب نظر الملك إلى رعيته، يبحثون في طرق إصلاحه وتنظيم حكوماته، ورفع مستوى أخلاقه، والسير به نحو الرقي، تقرأ أرسطوطاليس أو أفلاطون فتجد أميرًا مهمومًا بهموم رعيته، يريد أنْ تسموا أخلاقهم وتنتظم حكوماتهم، ولستَ تجد فيهما العبد الذي يتملقهم ويخدعهم ويمتدح نقائصهم.
فلما تسلَّط الرومانيون على الإغريق أخذوا يستظرفون اللغة الإغريقية، ويتنافسون في تعليمها لأولادهم، فصاروا يكثرون من اقتناء عبيد الإغريق لهذا الغرض ويسلمونهم أولادهم، فكان العبد الإغريقي يقف من هؤلاء الأولاد موقف المعلم، يستمعون لأقواله وينتصحون بنصائحه، ولكن كما نسمع نحن لنصائح السائق حين يختار الطريق القريب، أو حين نسترشد برأي الحمَّال الذي يحمل حقائبنا للقطار، نطيعهما كليهما طاعة وقتية، وفي سريرة نفوسنا أننا أرفع منهما، وكان لهذه الحالة أثرها في المعلم نفسه؛ لأنه وجد أنه يجب عليه أنْ يسر ويقف من أسياده موقف المهرج الذي يضحكهم لا موقف الأستاذ الذي يعلمهم ويؤنبهم.
ثم جاءت القرون الوسطى التي استوى فيها العرب والإفرنج أو كادوا يستوون، من حيث نظام الحكومة الاستبدادية التي يسيطر عليها رئيس ديني هو البابا أو الخليفة، ومن حيث الأدب أيضًا، فقد انقسم الأدب قسمين عظيمين؛ أحدهما يعالج الدين والآخر يعالج الحياة.
فأمَّا هذا الذي يعالج الحياة فإنه لم يرتفع إلى مركز الإمارة الذي كان لأدباء الإغريق القدماء، بل نزل إلى مركز العبودية الذي انحدر إليه الموالي الإغريق حين كانوا يعلمون صبيان الرومانيين.
ففي بغداد نجد أيام الدولة العباسية عددًا كبيرًا من الموالي — أي العبيد — اصطنعوا الأدب وقضوا أعمارهم في امتداح أمرائهم وإطراء ما فيهم من صفات، كما تجد ذلك أيضًا عند أمراء إيطاليا، حين كان لكل أمير شاعر يشيد بذكره وينوه بمناقبه، ومضى الأدباء على ذلك يعتقدون أنَّ مهمتهم مقصورة على سرور الأمراء، حتى إذا تخلَّص الأدب من رعاية الأمير بعض التخلُّص صار الأديب يشغل نفسه بغير امتداح الأمراء والأغنياء، ولكنه بقي مع ذلك يحسب أنَّ مهمته هي سرور القارئ ولذته وليست فائدته، يجري في ذلك على مأثور الأدباء من الموالي قبله، فنشأت طبقة من المهرجين مثل الحريري والهمذاني، يعملون بالألفاظ ما يعمله المشعوذ والمهرِّج بالحركات، حين يطيف بهما الناس ويضحكون من تهريجهما.
ثم قامت النهضة الأوروبية تستوحي أمراء الأدب القدماء وتنفض عن نفسها غبار العبيد، حتى صار الأدب الأوروبي الحديث يتسم بسمة الإمارة، لا يحبو إليك المؤلف على أربع يتصاغر لك أو يهرج أمامك لكي تضحك، وإنما هو يسومك درس هذا العلم بما يوجعك أحيانًا، وقد تجد أنت لذتك في هذا الإيجاع؛ لأنه بذلك يفتح بصيرتك ويبسط وعيك لهذا الكون.
ونحن هنا في مصر، بل في العالم العربي، لا يزال بيننا طبقة من الأدباء يؤثرون مركز العبيد على مركز الأمراء، يتظرفون أحيانًا مثل الرافعي والمازني، وأحيانًا يهرجون، قصاراهم أنْ يقولوا «فحسب» في مكان «فقط»، أو أنْ ينقلوا عبارة فخمة من الجرجاني أو من غير الجرجاني، يدسونها في ثنايا ألفاظهم، يحسبون أنَّ مهمتهم مقصورة على سرور القارئ.
ولست في ذلك أنكر فائدة التأنق أحيانًا، وإنْ كنتُ أعرف أنَّ الكأس من الذهب أجمل ما يكون إذا لم يكن عليه نقش، وأنَّ الجسم الجميل أفتن ما يكون إذا تجرَّد من الثياب، وأنَّ الثوب الحريري لا يحتاج إلى توشية وتطريز؛ وذلك لأني لا أجهل أنَّ الذهب والحرير ليسا في وسع كل أحد اقتناؤهما، وأنه ليس بين النساء من نستجملها عارية إلَّا واحدة أو اثنتان في المائة، فنحن في حاجة من وقت لآخر إلى التأنق؛ لأننا لا نطيق البساطة، فإن الشيء البسيط لا يكون جميلًا إلَّا إذا كان من أرفع مادة ومن أعلى طراز، وليست تسعفنا اللغة على الدوام بالمادة الحسنة والطراز العالي، ولكني أنكر أنْ يكون همُّ المؤلف مقصورًا على التأنق في اللفظ، والتظرف في العبارة، حتى يقف من القارئ موقف العبد من سيده، يقنع بسروره ورضاه عنه، كلَّا، إنما أحب من المؤلف أنْ يقف موقف الأمير، يقصد إلى فائدة القارئ وتعليمه وتنويره، وهو لن يستطيع ذلك حتى يمد بصره وبصيرته في هذا العالم، بل في هذا الكون، ولا يكون ذلك إلَّا بالدرس المتواصل للإنسان؛ تاريخه، وأصله، ومستقبله، وحاضره، ومؤسساته، وما ارتكب من جهالات وأساطير، وما حقق من علوم وآداب.
هذا هو موضوع الأديب درسًا لنفسه وبسطًا للقارئ؛ حتى يكون أدبه أدب الإمارة لا أدب العبودية.