أدب الفقاقيع
لفقاقيع الماء أو نفَّاخاته التي تعلوه مَلَاحَة لا تنكر، وخاصة إذا ضربتها الشمس، فازدهت وسطعت تعكس على العين ألوانها العديدة، ولكنها مع ذلك فقاقيع، سرعان ما تتفقأ إذا مرَّ عليها النسيم.
وكذلك الحال في أدباء الصنعة، يكتبون وكل همهم محصور في تأليف استعارة خلَّابة، أو مجاز جميل، أو كناية بارعة، أو غير ذلك من الفقاقيع، فإذا أراد أحدهم أنْ يؤلف كتابًا أو يضع مقالة، لم يعن أقل عناية بالموضوع الذي يكتب عنه، وإنما هو يعمد إلى الفقاقيع فيؤلف منها عبارته إذا استطاع، أو يذهب إلى أحد القدماء فيجمع منه بعد الكد والعناء جملة عبارات خلَّابة، يتوبل بها إنشاءه أو يرصها رصًّا؛ إذ كثيرًا ما يعجز أمثاله عن تأليف عبارة من إنشائه الخاص.
وهكذا يعيش كتَّاب الصنعة هذه الأيام بما خلفه لهم القدماء، يتداولون الصيغ القديمة في الأداء، ويجترونها اجترارًا كما تجتر البهيمة طعامها طول حياتهم، أو يقضون وقتهم في العبث واللهو بتأليف السجعات والاستعارات والتشبيهات، ولستُ أنكر أنَّ لهذه الأشياء جَمالًا، ولكنه جمال الفقاقيع والزبد الذي يذهبُ جفاء عندما تسطو عليه أشعة الشمس أو تهفو به ريح.
فقد قرأنا كلنا مقامات الحريري ورسائل الهمذاني، واستملحناها ولهونا بها، وتشدقنا بألفاظها، وللآن لا نزال نستملحها كما نستملح فقاقيع الزبد، ولكن لا يخطر في بالنا أنْ نقلِّد هذين الكتابين؛ لأن أسلوبهما لا يتفق والإنشاء الرصين في الموضوع الجدِّي، أو الإنشاء الدقيق في الموضوع الفلسفي أو العلمي.
ولكن كتَّاب الصنعة يكرهون الفلسفة والعلوم، وقد قال أحدهم وهو المنفلوطي (وربما كان أقلهم صنعة): «ما دخلتِ الفلسفة أيًّا كان نوعها على عمل من أعمال الفطرة إلَّا أفسدته.»
وهذه نزعة خطرة نطلب أنْ يعمد رجال الذهن في جميع البلاد العربية إلى وقفها بكل الوسائل، فيجب أنْ نحبب لتلاميذنا الفلسفة والعلوم، ونكرِّه لهم فقاقيع الاستعارات والكنايات، أو بعبارة أخرى يجب أنْ نحبب إليهم الجد ونباعدهم من اللهو، ونُكبر لهم من قيمة المعنى والغاية، ونصغِّر لهم من شأن الزخارف اللفظية.
وهذه الزخارف اللفظية كثيرًا ما يعشقها الشباب الذي تستوي أسماعه رناتها الموسيقية، فيسترسل فيها، ويعنى بتنميقها فيذهب وقته في تفكير ركيك وعبارات مزخرفة، وبدلًا من أنْ يعمد إلى الدرس الجدي المفيد، يأخذ في استظهار عبارات وألفاظ خلَّابة كتبها الجاحظ، أو رواها الأغاني، أو دبجها الحريري، ونحن نعيش في زمن لا يتسع الآن للأساليب المزخرفة في الكتابة؛ لأن علينا أنْ ندرس آلافًا من الشئون التي لم يعرفها القدماء.
الاتفاق وما أدراكم ما الاتفاق؟ الاتفاق هو حمامة بيضاء تحمل بفمها غصن زيتون؛ لتبشر القوم بنجاتهم من الطوفان.
هو بلبل غِرِّيد يطرب بأنغامه البديعة قلوبَ مَن لمستهم الأحزان.
هو عندليب يرتفع في الفضاء، ومن هناك يرسل لنا بنغماته الشجية ممزوجة بنسيم الجنان.
هو ملك سماوي يرفرف بأجنحته النورانية فوق أرواح الشجعان.
الله أكبر، مَن أنت؟ وما اسمك؟ بماذا أصفك؟ وبمن أسمك؟ أأصفك بجمال الطبيعة في يوم من أيام الربيع قد صفا أديمه، ورقَّ نسيمه، وتلألأ زهره، وغرَّدت عنادله، وشدت بلابله، وسجعت حمامته، وتميلت أغصانه، وفاح عبيره، وترنَّحت أنفاسه؟ إلخ، إلخ.
فاعتبر هذا الشاب يطلب إليه أنْ يكتب عن فوائد الاتفاق والاتحاد، فلا يجد سوى هذه الألفاظ المرصوصة، وهذا اللغو السخيف يملأ به أربع صفحات كبيرة، وهو شاب شرقي عاش في بلاد عرفت ما جرَّه عليها الاختلاف المذهبي والطائفي من الخراب، فيترك أمثلة التاريخ وعظاته، ويكتب عن البلابل وأجنحتها والحمائم وأسجاعها، وليس ذلك إلَّا لأنه نشأ يحبُّ الفقاقيع من الألفاظ الرنانة ويؤثرها على الدرس الصحيح.
وهذا كاتب آخر هو مصطفى الرافعي يضع كتابًا عن الحب والجمال، ويبدأ الفصل الأول منه بوصف «فقاعة»، هي نصاب قلم مصنوع من زجاج، ويحتوي على مداد أحمر، ويباع في القاهرة بنصف قرش، فيكتب عن هذا النصاب عدة صفحات، ويستوحي منه التأملات والخواطر في الحب والجمال، فهو كاتب صنعة لا يبالي إلَّا برنين ألفاظه وخلابة استعاراته.
وهذا لعمري هو اللهو واللعب، فإن للأدب غاية، وغايته هي صلاح الناس وهديهم، وكشف حقائق هذا الكون، والتمتع بجمال هذه الحقائق والسكون إليها، وهذا لا يكون إلَّا بالدرس المتواصل والنية الحسنة لهذا العالم، الذي هو وطننا الأكبر، والبعد عن غرور اللفظ وزهوه وخلابته.