الحكومات الحاضرة: أنواعها ومقدار ثباتها
لما عرف الإنسان الزراعة واستقر في مكان لا يريم عنه، احتاج بطبيعة حاله إلى حكومة تحرس له حقله وتمنع عنه عدوان جاره، أمَّا قبل ذلك فإنه في تجواله في الغابة وضربه في البوادي، لم يكن في حاجة إلى حكومة، ولا يزال البدو حتى الآن بلا حكومة، أو ليس لهم من الحكومة إلَّا مقدار ما اكتسبوه من أهل الريف والزراعة.
وترجع حكومة الإنسان الأول إلى أصلين نشأت منهما الملوكية أو الإمارة الأولى، فقد كان الملك الأول إمَّا كاهنًا عظيمًا، وإمَّا قائدًا منصورًا، وكان لا يستمد قوته في كِلتا الحالتين من الشعب المحكوم، وإنما كان له من وجاهة الدين والسحر أو من قوة الجيش، ما يجعله يستبد في أساليب حكمه، وينسب نفسه وسلطانه إلى الآلهة، ومن هنا نجد أنَّ معظم الملوك الأقدمين كانوا مقدسين بل مؤهلين، حتى الإسكندر المقدوني نفسه اعتزى إلى الآلهة عندما جاء مصر، وإمبراطور اليابان حتى الآن لا يزال إلهًا له حرمة الآلهة القديمة.
هذا هو حال الأمم القديمة، إنما يجب مع ذلك أنْ نميز بين مبدأين في الحكم يختلفان في الشرق والغرب، وهما أنَّ حكم الشرق كان على الدوام حكم استبداد، في حين أنَّ حُكم الغرب كان حتى في عصوره القديمة قائمًا على مبدأ النيابة، وليست علة ذلك راجعة إلى استعداد الشرقي لقبول الاستبداد وإباء الغربي إياه، بل ذلك كله راجع إلى وفرة الطعام في الشرق؛ حيث الحرارة والضوء يسرعان في نمو الزراعة، وكثرة غلات الزراعة تؤدي إلى كثرة السكان، ثم إنَّ كثرة السكان تضع من مقام العامل؛ لأن الأجور عندما يكثر طلَّابها تنزل إلى أحطِّ قيمة يطلبها أحط عامل، وبعبارة أخرى نقول: إنَّ الوسط الزراعي الشرقي يعمل لإيجاد فقر دائم بين العمال، والفقر مدعاة عجز العامل واستبداد الحاكم به.
وفي العالم المتمدين أو الشبيه بالمتمدين خمسة أنواع من الحكومات، وأول هذه الأنواع وأقدمها وأقربها إلى الزوال، هو الحكومة الملوكية المطلقة، حيث يحكم الملك مستبدًّا برأيه دون التقيد برأي الأمة، وقد كان هذا شأن معظم الحكومات قبل القرن التاسع عشر، وأقربها إلى عهدنا حكومة قيصر روسيا وعبد الحميد وشاه الفرس، وكلها قد زالت، ولكن ما زال الحكم المطلق قائمًا في سيام من جنوب آسيا، وفي بعض إمارات الهند.
والنوع الثاني هو الملوكية الدستورية المقيدة، وأقدمها في العالم الآن حكومة إنجلترا، بل يمكن أنْ نقول: إنَّ دستور إنجلترا هو أبو الدساتير التي في العالم أجمع، وكفى الإنجليز فخرًا هذا الفضل الذي أسدوه إلى الحضارة الحديثة، فإذا أنت فتَّشت عن دستور أي قُطر في العالم — سواء أكان في الشرق أم في الغرب — ألفيته يهتدي بهدي الدستور الإنجليزي ويستنير بضوئه؛ إذ ليس للدساتير الحديثة أية علاقة بأنظمة الحكم في روما أو أثينا القديمتين، وقد هدمت الحرب الأوروبية أكثر من عشرة عروش كان ملوكها دستوريين اسمًا، ولكنهم لم يسيروا على رأي الأمة التي كانوا يتولون أمرها، فلم يحمهم الدستور لهذا السبب، وإنما بقي الملوك الدستورين بالفعل، وهؤلاء ما زالت عروشهم ثابتة لم تتزعزع.
والنوع الثالث من الحكومات هو الحكومة الجمهورية، وجميع الحكومات الجمهورية ديموقراطية؛ أي أنَّ الرأي القاطع فيها للأمة، بل لدهماء الأمة، وأكبر مثال لهذه الحكومة هو الجمهورية الفرنسية، وهي ليست في ثبات الملوكية الدستورية التي في شمال أوروبا، مثل حكومات دنماركا وأسوج ونرويج وهولندا وإنجلترا.
والنوع الرابع للحكومات هو الحكومة الاتحادية مثل سويسرا والولايات المتحدة وألمانيا، وتختلف الاتحادية عن الجمهورية من هذا الاعتبار التالي: ففي الجمهورية لا يوجد سوى دولة واحدة، هي صاحبة الحق في سن القوانين لجميع سكان الدولة، فالفرنسي في أي بلدة كانت من بلاد فرنسا يخضع للقوانين التي يسنها برلمان الدولة في باريس، وهذا بخلاف الحال في الاتحادية؛ حيث توجد عِدة دول متحدة كل دولة منها، مستقلة في تشريعها، لها قوانينها الخاصة بها، وإنما لها حكومة مركزية، قد اتفقت هذه الدول المتحدة على إعطائها بعض الحقوق، وهذا هو السبب في أنَّ في فرنسا شرعة واحدة للزواج يخضع لها جميع السكان، أمَّا الولايات المتحدة ففيها من الشرع للزواج بقدر ما فيها من الولايات، وكذلك الحال في ألمانيا، فقوانين بروسيا غير قوانين بافاريا، وقوانين همبرج تختلف عن قوانين ساكسونيا.
أمَّا النوع الخامس فهو الحكومة السوفيتية؛ أي القائمة على مجالس العمال، كما هو الحال في روسيا، ولا يمكن البتُّ في ماهية نظامهم؛ فالأحقاد والأغراض لا تزال تحول دون معرفة أحوالهم على وجه التحقيق، وإنما يبدو من ارتباك روسيا الذي لا ينتهي أنَّ نظام الحكم عندهم لا يمكن أنْ يحمد كثيرًا.
ويبدو من التجارب الجارية في أنواع الحكومات، ومن تاريخ القرن الماضي والحاضر أن أثبت الحكومات هي الحكومة الإنجليزية، وهذه الحكومة لا توصف بكلمة، وإنما كمال وصفها أنْ يقال: إنها ملوكية دستورية ديمقراطية أرستقراطية، وربما كان احتواؤها على جميع هذه العناصر هو سبب استقرارها في الحوادث المدلهمة التي زعزعت غيرها.
فهي لا تمثل الدهماء بواسطة مجلس العموم فقط، بل تمثل الأشراف والأغنياء أيضًا بواسطة مجلس اللوردات، وفوق هذين المجلسين نجد عنصر الاستقرار المكين، هو الملك، فإنه من أكبر عوامل التوفيق بمكانه لا بسعيه، فإن الأشراف والأغنياء يلتفون حول العرش، فإذا نازعهم النواب وتفاقم النزاع نزلوا هم عن بعض مطالبهم محافظة على العرش، ومن السُّنن التي تتبعها الأسرة المالكة في إنجلترا في زواج أبنائها، أنها تصاهر أشراف الإنجليز بدلًا من مصاهرة الأسر الملوكية في أوروبا، وهذا يجعل الأشراف يلتفون حولها.
ولا يعرف مصير الحكومات في المستقبل، فإن الرأي العام في أوروبا إذا قيست ميوله المقبلة بميوله في العشر السنوات الأخيرة، رأيته يتجه نحو الحكومة الجمهورية والاتحادية، ومن الإنجليز مَن يطلب إلغاء الملوكية ويصرح بذلك على صفحات الجرائد الآن.