وليُّ الدِّين يَكَن
لا شكَّ أنَّ وَلِيَّ الدِّين يَكَن يُعتبر من الظواهر الفريدة بين رجال الأدب والفكر؛ وذلك لأنَّ هذا التركي العنيد يُعتبر مثلًا قويًّا في صلابة الرأي، وجرأة الفكر، وانفعال العصب في كل أو معظم ما كتب من شعرٍ ونثرٍ.
ولا شكَّ أيضًا في أنَّ وضعه الخاص، وظروف عصره، وتضارب التيارات السياسية والاجتماعية في أيامه، لا شكَّ أنَّ كلَّ هذا قد أثَّر تأثيرًا بليغًا على مكانة وَلِيِّ الدين؛ ككاتبٍ، وشاعرٍ، وعلى ما خلَّف من شعرٍ ونثرٍ، وعناية النَّاس بدراسة تراثه الأدبي.
وذلك لأنَّ وليَّ الدين وُلد تركيًّا، وهو بحكم هذا المولد لم يكن يستطيع إلا أن يتعصب للجنس العثماني، وأن يغار على مجده وسُلطانه، ولكنَّه من جهةٍ أُخْرَى كان ساخطًا على الفساد الذي انتشر في قصر الخلافة، وفي حكم الخلفاء العثمانيين، وقد أخذ يُهاجم هذا الفساد والظلم والطغيان هجومًا عنيفًا لا هوادة فيه، وانضم إلى جماعة تركيا الفتاة، وحزب الإصلاح والتَّرَقِّي، حتى نفاه السلطان عبد الحميد إلى مدينة سيواس حيث ظلَّ في منفاه من سنة ١٩٠٢ إلى سنة ١٩٠٩، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن نجحت الثورة ضد الخليفة، وأرغمته على إصدار الدستور، وتقرير الحكم النيابي سنة ١٩٠٨، ومنذ أن أُطلق سراحه قدم إلى مصر، وظلَّ فيها حتى تُوفي.
وكانت هذه الوحدة في المصالح من العوامل القوية التي قَرَّبَت بينهم وبين الإنجليز، وذلك بينما كان الحزب الوطني يرى أنَّ تبعية مصر لتركيا لا تُعتبر تبعيةً استعماريةً، وبخاصةٍ بعد أنْ ضعُفت تلك التبعية، وأصبحت أمرًا شكليًّا، لا تعدو نتائجه الفعلية الإِتاوة التي كانت تدفعها مصر لتركيا سنويًّا، ثم بعض المظاهر المعنوية والروحية؛ كالمناداة بالخليفة، والدُّعاء له في خطب الجمعة بالمساجد.
وفطن الإنجليز بالفعل إلى ضرورة تحطيم فكرة الجامعة العثمانية، والوحدة الإسلامية، لكي تخلص لهم مصر، وغيرها من البلاد العربية، فأخذوا يناصرون المنادين بمبدأ مصر للمصريين، كما أخذوا يُناصرون الساخطين على فساد الخلافة وانحلالها وطغيان حُكَّامها، حتى لنراهم يُوحون بفكرة انتقال الخلافة إلى العرب، وأولويتهم بها، بحكم أنَّ الدين قد نزل على نبيٍّ منهم، كما نزل القرآن بلسانهم العربي.
ولقد ناور معتمدو بريطانيا في مصر — وبخاصةٍ اللورد كرومر — مناوراتٍ عميقةً مؤثرةً؛ لتغليب سياستهم، وجمع الأنصار حولها، فنراهم مثلًا يوحون ابتداءً من سنة ١٨٩٢ بإهمال قانون المطبوعات القاسي الذي كان قد صدر في سنة ١٨٨١ إبَّان الثورة العرابية، ويُطلقون للصحف حريةً مطلقةً قلَّما تشهد مثلها، وظلت هذه الحرية على هذا الإطلاق حتى تغيرت الظروف، فبعثوا من جديد هذا القانون العاتي في سنة ١٩٠٩، وكان بعثه من ضمن الأسباب التي أدت إلى اغتيال بطرس باشا غالي، وكانت السياسة الإنجليزية ترمي من وراء إباحة حرية الصحف إباحةً مطلقةً إلى هدفَيْن؛ أولهما: تشتيت الرأي العام الوطني في فِرَقٍ وأحزابٍ، يشغلها تطاحنها وسبابها وعنف خصوماتها عن التنبُّه إلى الاستعمار الإنجليزي، والتكتل لمحاربته، والتخلص منه. وثانيهما: شغل الرأي العام بمشاكل الإصلاح العاجلة وغير العاجلة، وصرفه عن المشكلة الكبرى، وهي مشكلة الاستعمار الإنجليزي.
والواقع أنَّ الإنجليز قد استطاعوا بهذه السياسة الخبيثة وأمثالها أن يجتذبوا إليهم عددًا من الوطنيين المستنيرين، الذين طربوا لهذه الحرية، وآثروها على الاستبداد التركي، حتَّى أصبحت مصر عندئذٍ موئلًا لكثيرٍ من الترك والعرب والأرمن وغيرهم، ممن نزحوا من بلادهم التي كانت تركيا تُسيطر عليها سيطرةً مطلقةً، وتنشر فيها أنواعًا من الظلم والإرهاب البالغة القسوة.
والواقع أيضًا أنَّ الإنجليز قد استطاعوا أن يُوهموا نفرًا من المصريين المستنيرين بأنَّهم سينقلون إلى مصر الحضارة الأوروبية، ويُساعدون على إصلاح مرافق البلاد، وتعميم الخدمات الشعبية، ويستبدلون بظلام الأتراك نور الحضارة الغربية، بل واستطاعوا أن يقنعوا عددًا من المفكرين بأنَّ تعصب رجال الدين في الإسلام وجمودهم وتخلفهم عن مجاراة روح الحضارة، من بين الأسباب الأساسية في تخلف مصر، وغيرها من البلاد الإسلامية، وعجزها عن مجاراة الحضارة الحَدِيثة.
واستفحلت هذه الدعاية حتى رأينا عددًا من المفكرين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة، وقصر الدين على تنظيم العلاقة بين الإنسان وربه، بل وتطرف البعض فأخذ يشكُّ في صلاحية الدين الإسلامي نفسه لأن يكون دين حضارة.
ولم تقتصر هذه التيارات المتضاربة على محيط المصريين الأصلاء، بل امتدت إلى عددٍ كبيرٍ من المهاجرين، واللاجئين السياسيين الذين وفدوا إلى مصر من تركيا، أو من البلاد السورية اللبنانية؛ فرارًا من استبداد الأتراك، أو مما ظنوه تعصبًا دينيًّا، واحتضن الإنجليز كلَّ هذه العناصر الدخيلة، واستخدموها في تغليب سياستهم، ونشرها بين طبقات الشعب العميقة، وكان من بين هؤلاء النازحين أصحاب المقطم والمقتطف بنوعٍ خاصٍّ، إذ نراهم يُناصرون الاستعمار البريطاني ورجاله في مصر مناصرةً علنيةً صريحةً، بل يكوِّنون حزبًا وهميًّا سموه بالحزب الوطني الجديد، لمناهضة حزب مصطفى كامل، وسياسته الوطنية المتطرفة، واتجاهه العثماني الديني.
وعلى ضوء هذه الحقائق والتيارات نستطيع أن نُحدِّد الوضع، الذي لم يكن بدٌّ من أن نجد فيه وليَّ الدِّين يَكَن العثماني بمولده، والساخط على الخلافة العثمانية، وحكمها الظالم الفاسد، بطبعه ومزاجه وثقافته وظروف حياته، ثم موقفه من الإنجليز، وموقف الإنجليز منه، بعد أن تيقنوا من أنَّه من رجال تركيا الفتاة، الذين يُناهضون عبد الحميد الثاني وخلافته الفاسدة المستبدة، بل وموقفه من حركة الإصلاح في مصر وغيرها من البلاد الإسلامية، وفضلًا عن نزعته العنيفة نحو التحرر الفكري، والتخلص من سيطرة الكهنوت الديني، بل والتزمُّت الإسلامي كله، واتجاهه بكل قوته نحو النظم المدنية والحضارة الحَدِيثة.
وهكذا تآمرت الظروف والأحداث لكي تضع وليَّ الدِّين يَكَن في وضعٍ لم يكن يُرضي التيار الوطني المسيطر، أو الآخذ في السيطرة عندئذٍ، وهو تيار مصطفى كامل وأنصاره من رجال الحزب الوطني، الذين كانوا يُحاربون الإنجليز حربًا لا هوادة فيها، ويتمسكون بحكومة الخلافة، ويستمدون منها العون ضد الاستعمار الإنجليزي، ويحرصون على الروح الدينية والوحدة الإسلامية. وكان هذا الوضع من الأسباب الرئيسية التي أصابت وليَّ الدِّين يَكَن وأدبه بالخمول حتى يومنا هذا، بالرغم من قوة نزعته التحريرية ونبلها، وإفناء حياته في سبيل مثل الحرية والتقدم التي آمن بها، وتعصب لها، ودفع في سبيلها أبهظ الأثمان؛ من عذاب النفي، والفقر، والمرض، وإنهاك الأعصاب.
والواقع أنَّ وليَّ الدِّين يَكَن قد اتُّهم بمناصرة الإنجليز، والإشادة بعدلهم في مصر، وتعميرهم لها؛ وذلك لأنَّه قد وجد فيهم حماةً من الظلم التركي، حتى كانت مصر تُعتبر عندئذٍ موئلًا للأحرار من الأتراك والعرب الخاضعين للحكومة التركية المستبدة، وكان وليُّ الدين يُجاهر بهذه الآراء، وينشرها في الصحف في مقالاتٍ أو قصائد، مثل المقال الذي نشره في جريدة المقطم، وأعاد نشره في كتابه «الصحائف السود» (ص٤٥–٥١) تحت عنوان «المحتلون يخرجون من مصر» وفيه يقصُّ حلمًا لموكب خروج الإنجليز من مصر، وما يترتب على ذلك من آثارٍ مدمرةٍ، ويختتم المقال أو الحلم برؤيته لتمثال إبراهيم باشا، وهو ينزل إلى الميدان ليمنع جيش الاحتلال من الخروج، قائلًا: «تريدون اليوم أن تخرجوا من مصر؛ ليصبح عاليها سافلها، وليجري هذا النيل أحمر قانيًا، كلا ثُمَّ كلا، لأصيحنَّ صيحةً تخرق حجب الأزل، وتنفذ إلى من ولجوا غابته، ولأبعثن لكم من تحت المقابر أجسادًا تسد دونكم طرق الرحيل، أما والهرمين والنيل ليدخلن أهل الطيش غدًا على العذارى في خدورهن، وليأخذون بغدائرهن، وليقومون بعد زماعكم من الشر أضعاف ما أتى بمقامكم من الخير، ارجعوا إلى ثكناتكم مأجورين غير مأزورين، إنَّما يأنس إليكم أهل الوقار وأنصار الفضل.» وهو يعترف بجميل إنجلترا على الأحرار من أعضاء تركيا الفتاة في رثائه لإدوارد السابع سنة ١٩١٠، فيقول:
ومع ذلك فالظاهر أنَّ وليَّ الدِّين يَكَن لم يكن يُناصر الإنجليز؛ إلا لأنَّهم يحمونه من عَسف الأتراك، ولم يكن كشاعرٍ آخر هو نسيم الذي كان يمدحهم ويذود عنهم طمعًا في مغانم الحياة؛ وذلك لأن وليَّ الدِّين يَكَن كان رجلًا أبيًّا عفيفَ النفس ذا كبرياءٍ، وقد خاصم السلطان عبد الحميد الثاني خصومةً عنيفةً لا هوادة فيها ولا رفق، وتحمل في شجاعةٍ الذل والفقر والشقاء طوال حياته، وبخاصةٍ أيام نفيه في سيواس على نحو ما نُطالع في بعض فصول كتابه «المعلوم والمجهول».
والظاهر أنَّ بُغض ولي الدين لعبد الحميد كان من ذلك النوع العنيف الجامح الذي لا تهدأ له ثائرةٌ، والذي قد يُغشي البصيرة، ويسوق إلى التماس كافة السبل لإرضاء ذلك البغض، حتى لنراه يستمر في بغضه وهياجه ضد عبد الحميد بعد عزله، كما نراه يغضب من شَوْقِي؛ لأنه رثى لحال عبد الحميد، وأبدى أسفه لعزله عن الخلافة في قصيدته التي مطلعها:
ثم يقول:
يغضب وليُّ الدِّين يَكَن من شَوْقِي بسبب هذه القصيدة، ويرد عليه قائلًا:
وبعد أن عدَّد مآسي عبد الحميد وظلمه وفجوره، انتهى إلى التعريض بشَوْقِي ومن نحا نحوه من الشُّعْراء، فقال:
وفي الحق أنَّ المقارنة بين قصيدة شَوْقِي «عبرة الدهر» التي قالها في سنة ١٩٠٩ في خلع عبد الحميد الثاني، وقصيدة وليِّ الدِّين يَكَن التي سماها أيضًا «عبرة الدهر»، وقالها مناقضةً لقصيدة شَوْقِي السابقة، وجُمعتا جنبًا إلى جنبٍ في ديوان وليِّ الدِّين يَكَن (ص٢٦–٣٢)، نقول: إنَّ المقارنة بين هاتين القصيدتين يمكن أن نخلص منها إلى تحديد منهج كلٍّ من الشاعرين في الحياة، ومزاج كلٍّ منهما الشخصي، مما يعيننا على أن نفهم كيف استطاع شَوْقِي بلباقته ومرونته أن يكسب أكبر عددٍ من النَّاس حتى يذيع صيته، ويشغل الدنيا بذكره، بينما نرى وليَّ الدين الصلب العنيد يستكثر من خصومه، ولا يُداري أو يواري أو يهادن فيما يراه حقًّا وعدلًا، في حين نرى شَوْقِي يتجنب المزالق، ويحاول أن يرضي الجميع، فهو يرثي لعبد الحميد، ويسهب في وصف ما كان فيه من نعيمٍ، ويتحدث عمَّا يظن أنَّ «حريم» عبد الحميد وجواريه الحسان سيجدنه من حزنٍ ومرارةٍ بعد عزل سيدهن، ويبدي أسفه؛ لأن عبد الحميد المحنك الخبير لم يستطع أن يتدارك الأمر بحكمته، فيحتفظ بعرشه وقصوره وجواريه، قائلًا له:
ثم ينتقل في مرونةٍ نخشى أن تكون نفاقًا ومُداراةً إلى تمجيد الثائرين الأحرار، فيقول:
بل ويودُّ أنْ لو احتفظ عبد الحميد بالدستور، ولم يتنكر له، ويشيد بذلك الدستور وبجدواه، ثم ينتقل إلى مدح الجيش الثائر وقادته أنور ونيازي وشوكت، قائلًا:
بل ويهنئ الخليفة الجديد ويُبايعه، وما كان لشاعر القصور شَوْقِي أن يغفل عن مثل هذه التهنئة، فيقول:
… إلخ (ص٤٩).
وكلُّ ذلك لا يروق رجلًا عنيفًا صارمًا لا يقول الشِّعْر؛ لأنَّ من واجبه أن يقوله، وأن يُراعي اللياقة، ويرضي كافة الجهات، بل يقول الشِّعْر لينفس عن مكنون صدره، ولا يضمن شعره إلا الحق الذي يؤمن به، والقول الذي يشفي نفسه مما بها، ولو أغضب من أغضب، وأرضى من أرضى.
وبالرغم من بغض وليِّ الدين لعبد الحميد، ولكلِّ حاكمٍ تركيٍّ مستبدٍ ظالمٍ، فإنَّه كان يتعصب للعثمانيين كما يتعصب للعرب، حتى لنراه يثور؛ إذ يُطالع في جريدة المقطم مقالاتٍ لكاتبٍ اسمه عزت الجندي، وفيه يحمل على الأتراك ونَكْبَتهم للبلاد العربية، فيرد عليه في مقالٍ ينشره في المقطم تحت عنوان «الشقاق»، يبدَؤُه بالبيتين العربيين القديمين:
ثم يقول: «شهد الله وكلُّ عثمانيٍّ حرٍّ يكون قد قرأ لي شيئًا أني لا أتعصب للدين، ولا للجنس، أنا تركيٌّ، وأبغض عباد الله إلي تركيٌّ يعتدي، أحب العناصر العثمانية كلها، وآخذ بناصر المستضعف منها، ثم أحب العرب حبًّا خالط الروح، وجرى مجرى الدم من العروق، وأنا عربيُّ الأدب والقلم، عربي النزعة، ومَنْ أبغض العرب فأنا مبغضه، أولئك إخواني الذين أغنيهم فيطربون، وأحدثهم فيقبلون علي بالسمع، غير أني لا أكذبهم، إني كذلك لا أحب من يسبُّ الترك، ولا مَنْ يكون لهم عدوًّا، وكذلك العرب لا يحبون من لا يحب إخوانهم، وإذا جرى بين العرب والترك شرٌّ أكون يومئذٍ بمعزلٍ عن كليهما، داعيًا عليهما بالفشل جميعًا.» ثم يندد بروح الخصومة بين العرب والأتراك، ويدعو إلى التآخي بينهم.
والواقع أنَّ العصر الذي عاش فيه وليُّ الدِّين يَكَن كان عصرًا شديد التذبذب بين الاتجاهات المختلفة، وكان من الشاق أن يتبين المرء السبيل السوي، بل لقد كُنَّا نرى كبار المفكرين والأدباء والسياسيين يتأرجحون بين اتجاهٍ وآخر من الاتجاهات المتضاربة المتعادية، التي كانت تستغلها قوى الاحتلال والتعصب العنصري الديني، بحيث لا يسهل علينا اليوم أن نحكم على هذا الرجل أو ذاك بالوطنية، أو الخيانة، وبالخير، أو الشر؛ لمناصرته هؤلاء، أو أولئك، ولاستعانته بهذا الفريق، أو ذاك؛ لمناصرة فكرته، وإن كنَّا بالرغم من كلِّ ذلك لا نستطيع إلا أن نأسف للظروف التي تآمرت، فساقت وليَّ الدين إلى المعسكر الإنجليزي يتقي به استبداد الأتراك، مما أساء إلى سمعته، وحدَّ من المجد الأدبي الذي يستحقه ككاتبٍ جيدٍ وشاعرٍ كبيرٍ، ورجلٍ حرٍّ عزيز النفس، لا يُهادن ولا يتملق، ولا يُسَخِّر قلمه ومواهبه لأعراض الحياة الفانية.