صورته النفسية
يُخيل إلينا أنَّ الآنسة مي زيادة قد أجادت وصف حالة وليِّ الدِّين يَكَن النفسية عندما قالت: «هو نفسٌ كثيرة الأهواء، منهوكة القوى، متمردةٌ وثَّابةٌ حساسةٌ رقيقةٌ، حتى لَتَخال رقتها وإحساسها سقامًا أحيانًا، وإذا جاء وقت الوثب كان متهورًا في شجاعته غير مبالٍ ولا هيَّابٍ.»
وقد جاء هذا الوصف في مقالٍ نشرته في مجلة الفجر ببيروت بعدد أكتوبر سنة ١٩٢٠، ثم جمعته في كتابها «الصحائف» (ص٨٨–٩٣). وأوردت فيه بعضًا من أحداث حياته وبدواته التي لاحظتها وسجلتها بإحساس المرأة المرهف الدقيق، بحيث يمكن أن يعتبر هذا المقال من المفاتيح الأساسية التي تُعين على فهم نفسية وليِّ الدين يكن، وبالتالي فهم أدبه واتجاهاته فهمًا دقيقًا؛ ولذلك رُبَّما كان من الخير أن نثبت هنا هذا المقال القصير كاملًا.
قالت: «استوقفني في ردودٍ على استفتاء قول فتاةٍ أنها تودُّ أن تموت غرقًا، وقد سبق أني سمعت هذا التمني ممن لم يكن فتاةً، بل كان شاعرًا، ولا يندر أن يكون الشاعر فتاةً في بعض تخيلاته اللطيفة، وأعني وليَّ الدين بك يكَن.
إن حياة وليِّ الدين بك تعددت فيها الفواجع البكماء.
هذا الرَّجل الذي يُعَدُّ من أعظم البيوتات الإسلامية في المشرقَيْن، ومن أعظم أسرةٍ مصريةٍ على الإطلاق، قد جلب على نفسه سُخْط ذويه بزواجه من سيدةٍ يونانيةٍ مسيحيةٍ، ولأجل شغفه بالحرية تعرض لصواعق عبد الحميد، فخسر منصبه العالي في الحكومة التركية، وذاق — وهو النفس الكبيرة الأبيَّة — الفقر والسجن والنفي، والبُعد عن الأهل والوطن، ثم عاد إلى مصر وتكاثرت عليه المصائب في السنوات الأخيرة، فمات ثاني أنجاله — وله من العمر ٢٦ سنةً — فجأةً بلمس سلكٍ كهربائيٍّ، ثم توفيت والدته، وآلمه أكثر من ذلك فَقْدُ شقيقته التي كان يُحِبُّها حبًّا شديدًا، وهي قرينة أحد أعضاء الأسرة اليكنية، وها هو اليوم في حلوان يستشفي من مرضٍ ألمَّ به، وقد قاطع جميع معارفه وأصدقائه، فنسمع زفراته هنا في نتاج قلمه، كما يسمعونها في سوريا وفي البلدان الأخرى.
ورغم ما نزل به من الرزايا كان مجلسه مجلس ظرفٍ وأدبٍ، وتكاد النكتة تبرز في كلِّ جملةٍ يقولها، وللأشياء عنده مقارناتٌ غريبةٌ، رأى يومًا خط المرحوم شميل — وكانت رداءة خط الدكتور مشهورةً — فوضع وليُّ الدين إصبعه على أحد الحروف قائلًا: «تعجبني هذه الألِف لأنها تُشبه النبوت!» أما كرهه لكلمة «أيضًا» فلا حدَّ له، وهو يهجوها بألفاظٍ ونعوتٍ تُضحك الحاضرين حتى تستدر دموعهم، وتجعلهم يتجنبون لفظها ما استطاعوا، فقد يتفق أني أكتب مثلًا كلمتين أو ثلاث كلماتٍ أو جملةً بتمامها لأتخلص من وجود «أيضًا»، وإذا اضطررت وكتبتها مرةً أو قرأتها أو سمعتها يومًا عاودني بعض ما أضحكني في هجوها، فأسفت لأني دونتها مسوقةً.
سألت مرةً وليَّ الدين بك: متى يجاوب الكاتب الذي يناقشه في إحدى الصحف؟ فأجاب بمنتهى الجد: وكيف يمكنني أن أناقش رجلًا يدمج في مقالةٍ واحدةٍ عشرين أيضًا ولا يموت؟ إذا جاوبته أقول له: ما لي ولك يا أيضًا!
وكان يومًا في حفلةٍ حافلةٍ بالوزراء والكبراء، وبعد انقضاء ساعةٍ تقريبًا قفز بغتةً، وخرج من القاعة مسرعًا ثم عاد بعد انتهاء الحفلة معتذرًا من الذين كانوا بجواره وذُهلوا لحركته الفجائية، اعتذر بأنه لم يكن عالمًا أنَّ فلانًا موجودٌ، وأنه لا يحتمل أن يكون وإياه في غرفةٍ واحدةٍ، فقيل له: «أنت تكره فلانًا، ولكن لو هو أحبك وطلب صداقتك فماذا تفعل؟» فأجاب لفوره: «أنتحر!»
والغريب أنه لم يكن من علاقةٍ بينه وبين الشخص المكروه، ولم يكلمه مرةً في حياته على ما يُقال، وليس في خُلق وليِّ الدين بك شيءٌ من التكلف، فهو صادقٌ في ميله، صادقٌ في نفوره، سواء أكان فيهما على هدًى أو على ضلالٍ، وللألحان والألوان تأثيرٌ شديدٌ في نفسه، قال لسماع فتاةٍ تغني بصوتٍ خافتٍ: «هذه نسمات البسفور.» أمَّا تلك القطعة الموسيقية المرقصة المعروفة باسم كارمن سيلفا، فلا يرى البيانو مفتوحًا إلا ويُطالب بأن تُعزف له، وفي إحدى زياراته لنا رأيت نظره جامدًا بعيد وصوله، وإذ سألته ما به قال: «هذه (مشيرًا إلى زهرةٍ ليلكيه في ثوبي)، يحزنني هذا اللون الليلكي.» فحاولتُ نزع الزهرة، فقال: «لا تفعلي أرجوك، يحزنني أن أراها، ويحزنني أكثر من ذلك أن تُنزع.» وأنشدنا ذلك المساء أبياتًا من شعره الحزين.
وكما أن كُرهه ونفوره شديدان، فكذلك حُبه وإعجابه، هو معجبٌ بالرسم الذي تعلم مبادِئَه في المنفى، فلا يندر أن يكتب أبياتًا يرسم فيها ذوات المعاني مثل: غرد الطير، فهو يكتب غرد كتابةً، ويرسم الطير رسمًا، وهكذا. وله ولعٌ بخليل مطران وبشعره، فقد رأيناه مرةً يضطرب وتتغير ملامحه لمجرد سماع أبياتٍ من قصيدة «الأسد الباكي»:
فهتف وليُّ الدين بك: «كفى!»
ثم تابع بعد سكونٍ قصيرٍ: «آه خليل! خليل! لو سُئلت كيف يُنظم موكب دفني، لتمنيت أن يرثيني خليل مطران بأبياتٍ ينشدها عزيز نصر على مقربةٍ من نعشي السائر، أريد أن أُشَيَّع إلى قبري على هذه الصورة في موكبٍ ينظمه سليم سركيس.»
كتبت كل هذا عن وليِّ الدين بك؛ لأني أعلم أنَّه كاتبٌ محبوبٌ في سوريا، وأنَّ أخباره تهم القُرَّاء الذين لا يستطيعون الوقوف على مثل هذه المعلومات من الصحف السيارة.
إنَّ الأدب العذب المتسم به هذا الرجل شأن من تربى تربيةً عاليةً ممتازةً، لا يحول دون شذوذٍ خاصٍّ به، هو نفسٌ كثيرة الأهواء، منهوكة القوى، متمردةٌ وثَّابةٌ حساسةٌ رقيقةٌ، حتى لَتَخال رقتها وإحساسها سقامًا أحيانًا، وإذا جاء وقت الوثب كان متهورًا في شجاعته، غير ميالٍ ولا هيابٍ. فلا عجب إذا جذبه البحر، ونبه فيه أشواقًا غير مألوفةٍ، ولا عجب أن تسمع منه هذه الجملة: «أود أن أموت غرقًا بدلًا من أن أموت في سريري بين جدران ضيقةٍ بعد عذاب أيامٍ وحشرجة ساعاتٍ. أريد أن أموت غرقًا في البحر على غير استعدادٍ؛ لأنَّ في مثل هذه الميتة الشِّعْرية عظمةً وشذوذًا».»
هذه هي الأخبار والنَّوادر التي سجلتها مي عن ولي الدين، فأعطتنا مِفتاحًا لنفسيته، وإن يكن من المُفيد أن نتم هذه الأخبار والنوادر بما ذكره أنطون الجميل، وبخاصةٍ عن موت ولي الدين وطريقة هذا الموت، فهو لم يمت بغتةً ولا غرقًا، وإنما مات بعد عذابٍ أليمٍ، ومرضٍ طويلٍ ألزمه البيت سنواتٍ.
وكان آخر ما كتب بيتين وُجدا قرب سريره بعد موته، وهما: