أديب الحرية
إذا كان ولي الدِّين يَكَن أديبًا مُلتزمًا، وكان له رأيٌ ثابتٌ محددٌ فيما يحتمل الرأي من موضوعات الشِّعْر والنثر، وكان من الأدباء القلائل الذين يَجِبُ على الدارس لهم أن يبحث عن آرائهم، بقدر ما يجب عليه أن يبحث عن فنهم؛ وذلك لأنَّ لهم آراءً وصَلَ إيمانهم بها وتحمسهم لها إلى حد الانفعال، الذي جعل من آرائهم أدبًا لا فلسفةً أو تفكيرًا فحسب، بل وأعطى هذا الانفعال أدبهم مميزاته الفنية الخاصة من حيث الأسلوب ووسائل العبارة. إذا كان كل هذا حقًّا؛ فإنَّ البحث عن آراء ولي الدِّين يَكَن لا يمكن أن يطول بالباحث، أو أن يتعثر به في مزالق المواربة والتحايل أو الغموض والإلغاز؛ لأنَّه لن يلبث أن يُلاحظ أنَّ النواة التي تتبلور حولها جميع آراء ولي الدين، أو تنبعث عنها كما ينبعث النبات عن البذرة، هي الحرية؛ حرية الفرد وحرية المجتمع وحرية الفكر وحرية العقيدة، وعلى أساس هذه الحرية بنى كافة صداقاته وعداواته في مجال الحياة وفي مجال التفكير.
وحُبُّ ولي الدِّين يَكَن للحرية يمتاز بأنَّه لم يكن حبًّا عاطفيًّا يمكن أن يخبو أو يهتز ككل حبٍّ عاطفيٍّ، كما أنه لم يكن إعجابًا فكريًّا يتسم ببرود الفكر وهدوئه، وقبوله للمُهَادنة وأنصاف الحلول والنزول على الضروريات، وهو من باب أولى لم يكن تظاهرًا ولا اصطناعًا لتحقيق مجدٍ شخصيٍّ أو تَمَلُّق جمهورٍ؛ وذلك لأنَّ ولي الدِّين يَكَن كان أبعد ما يكون بطبعه عن النزعة الديماجوجية، التي لا هدف لها غير استهواء الجماهير أو كسب الأنصار، وهو الذي لم تُرهبه عداوة الأفراد والطوائف، بل تحداها أحيانًا كثيرةً، وعارض التيارات العامَّة الجارفة، وخاصم شخصياتٍ ومشاعر كانت تستهوي لبَّ الجماهير، وتستطيعُ أن تنفع وأن تضر، وأن ترفع وأن تخفض في ميادين النجاح المادي والأدبي.
لم يكن حبُّ وليِّ الدِّين يَكَن للحرية شيئًا من كل هذا، وإنما كان كما أشرنا من قبل انفعالًا فكريًّا انتهى به — وهو داعية التسامح والحرية بكافة أنواعها — إلى التعصب للحرية تعصبًا عنيفًا لا هوادة فيه ولا رفق، تعصبًا يجمع بين شهوتي الحب والبغض العنيفَيْن المُسرفين، اللذين قد يغشيان أحيانًا بصيرة المُتعصب في تبين حقيقة الوسائل التي يستخدمها، واختياره للمعارك التي يقودها لمناصرة ما يحب ومحاربة ما يكره، وهذا التعصب الناشئ عن انفعالٍ فكريٍّ لما يراه حقًّا، هو الذي دفعه إلى مهاجمة شَوْقِي هذا الهجوم العنيف عندما رآه يعطف على خصمه وخصم الحرية والعدل عبد الحميد الثاني في قصيدة «عبرة الدهر» التي سبق لنا الحَدِيث عنها.
ولولي الدِّين يَكَن في نثره وشعره أناشيد تغنَّى فيها بالحرية، وهاجم الاستبداد، نكاد نلمحها أو نلمح صداها في كلِّ ما كتب، حتى ليُعتبر باب السياسة أو الوطنيات في ديوانه الصغير أهم أبوابه، كما يعتبر كتابه الكبير «المعلوم والمجهول» بجزْأَيه حديثًا مُتَّصِلًا عن الحرية، وتاريخ الكفاح في سبيلها في تركيا والإمبراطورية العثمانية كلها، كما أنَّ كتابيه الآخرين الصغيرين وهما الصحائف السود والتجاريب يضمان أيضًا الكثير من مقالاته التي تدور حول الحرية وتفريعاتها، وقد زاده الاضطهاد والتنكيل تعصبًا لهذه الحرية، التي اختلط معناها بمأساة حياته الخاصة وما لقيه في تلك الحياة من محنٍ وأهوالٍ.
ففي فصلٍ طويلٍ له عن حزب تركيا الفتاة في الجزء الأول من المعلوم والمجهول (ص٣١–٥٠) نراه يستهل فصله بتعريفٍ للاستبداد وتعريفٍ للحُرِّية، نحسُّ إحساسًا واضحًا بأنه قد استقاه من تجرِبة حياته وأحداثها المؤلمة، فيقول: «ملكٌ من الملوك شديد البطش قاسي الفؤاد دائم الحقد، جريءٌ في غضبه، خائفٌ في حيلته، مطلق اليدين على أمةٍ تتوجع ولا تدري مكان وجعها، يبعث بأمره إلى رجلٍ من رجاله، ويجرده من ماله ونشبه، ويسلبه عزه وسلطانه، ويخرجه من بين أهله وجيرته، ويسجنه صاغرًا، كل ذلك لنصحٍ نصح به أو قول صدق فيه، أو حقٍّ عرف حبه له، أو ظلمٍ أبى أن يعين عليه، ثم يفرق أهله ويشرد أولاده، ويقفل باب داره، ويختم عليها رجال الشرطة بالشَّمع الأحمر، ويمسي الرجل وذووه خبرًا من الأخبار. هذا هو الاستبداد.»
«ودولةٌ عظيمةٌ جَم ثراؤها، رغد عيش أبنائها، يتقلبون في النعيم، ثغورهم باسمة، وألحاظهم غير زائغةٍ، يتسابقون ولكن إلى المجد، يتنافسون إلا أنَّ تنافسهم في الفضل، ربوعهم آهلةٌ وخيراتهم عميمةٌ، لا يخافون مسيطرًا إلا كتابًا هو القانون، ولا يتقون مُعاديًا إلا الأجل المحتوم، أيديهم مطلقةٌ في عمل ما يفيد، مغلولةٌ عن عمل السوء، تخفض الملوك رءوسها أمام إدارتهم، وتنصاع الحكومات إلى إشاراتهم، لا يعرفون الحزن إلا وصفًا، ولا يجهلون من السرور طعمًا ولا شكلًا؛ هذه هي الحرية.»
ثم يستطرد إلى مأساة العثمانيين وما عانوه من استبدادٍ، فيقول: «الاستبداد الذي اشتكاه العثمانيون هو أكبر مما جاءت به هذه السطور، والحرية التي كانوا يقنعون بنيلها أقل بكثير مما مثلته في الكلمات المتقدمة، نعم كانت الأمة تريد شيئًا ولا تدري ما هو، كانت تشكو ولا تعلم ما يشكيها، بل كانت لا تطمع أن تعلم، فلمَّا حلَّ ميقات الخلاص انتفضت فتساقطت من عليها نبال الظلم، فوقفت مستبسلةً لا ترجو إلا الله، ولا تريد إلا الوطن، حتى إذا ذاقت وصال الحرية، واستمتعت بجمالها وشبابها، علمت أنها كانت تئنُّ من أجل ذاك، ودرت أن هذا ما لا بدَّ منه لحياة الأمم.»
ويتحدث عن رجال تركيا الفتاة، فيقول: «وإنما نقم رجال تركيا الفتاة على الملوك العثمانيين جهلهم وخمولهم، وما ألفوه من البذَخ والترف، وما جروا عليه من ظلم الرَّعية والتأله عليهم، وإنكارهم على الأمة ما تطلبه من العدالة، وهي أصل الحرية والمُساواة والإخاء، واستكبروا أن يكونوا كالملوك في البلاد المتمدينة، وأبناء الملوك عندنا لا يُربون على ما يفتح أذهانهم ويهذب أخلاقهم.»
ولما كان سلاطين تركيا يستمدون سلطتهم من الدين باسم الخلافة التي يستترون خلفها، للبطش بالرعية وإشباع شهواتهم الحقيرة الحيوانية، ويصطنعون رجال الدين في تثبيت تلك السلطة، فقد كان من الطبيعي أن يُهاجم ولي الدِّين يَكَن ورجال تركيا الفتاة رجالَ الدين هجومًا عنيفًا، وأن يبذلوا كل جهدٍ لتقويض سلطانهم على الأمة، وفي هذا يقول ولي الدين في نفس الفصل من نفس الكتاب: «أما رجال الدين وهم عيال الرجال فينبشون عن منسوخة الأحاديث وغير الصحيح منها، فلا يروون للملوك إلا ما كان حثًّا على طاعتهم، مثل قولهم: «قلب السلطان بين إصبعي الله يقلبه كيف يشاء.» وقولهم: «الملوك مُلهمون.» وقولهم: «اسمعوا وأطيعوا ولو وُلي عليكم عبدٌ حبشيٌّ كأن رأسه زبيبةٌ.» كل ذلك يفسدون به أخلاق الملوك تقربًا إلى جِفانهم واستجداءً لحبواتهم.»
ويُهاجم الشُّعراء المداحين المتملقين فيقول بعد حديثه عن رجال الدين: «فما يخرج هؤلاء إلا يدخل السائلون المادحون، ونسميهم مسامحةً شعراء، ليمدحوا الظالم سفاك الدماء ناهب العباد فيقولوا له: «إن بين غلائلك لَعدلًا من الله، وبين جنبيك لروح القدس! يا مجزل العطاء ومولى النعم! يا من يخصب بأمرك المحل وتجري الرياح، وتنقاد لمشيئتك الأقدار، وتحسد السماء الأرض إذ كانت موطئًا لأقدامك! يا ظل الله وباني الكون، يا من عتبته فوق الأفلاك …» إلى غير ذلك مما يستحي من ذكره ويشمئز من سماعه كل من كان في فؤاده مثقال خردلةٍ من العقل والإنصاف.»
وهو يصف الحكومة العُثمانية التي كان يُحاربها هو ورجال تركيا الفتاة بقوله: «أمَّا الحكومة العثمانية فلم تشبه حكومةً في الوجود، وما انتظم لها أمرٌ في ماضيها ولا في حاضرها، ومثل رجالها كمثل سكان الخيام في زمان الجاهلية، إذا وليهم سيدٌ عاقلٌ، واتخذ بطانة خيرٍ وحاشية عدلٍ، أنعش نفوس محكوميه وأحيا موات آمالهم، وإذا وليهم غاشمٌ جب منم الغارب والسنان، وأذاقهم مضض الذل ومرارة العذاب، تُجبى أموال الرعية بلا حسابٍ، ويضيع بعضها في جيب الجابي، وبعضها في جيب مَنْ هو فوقه، فلا يبقى لبيت مال الدولة إلا ما يُتصدق به عليه السارق والناهب فضالة، ينفق جانبٌ منها على طرب الملوك ولذاتهم، وجانب على المقربين من الغرانقة، ويبقى الموظف الصغير صفر اليد أو تدرك أمره رحمةٌ، فيُنبز إليه بما يسد به رمقه.»
والظَّاهرُ أنَّ شدة سخطه على الخلافة المستبدة الفاسدة، وعلى من يمكنون لها في الأرض قد دفعه إلى إساءة الظن برجال الدين أجمعين، فقال في الجزء الثاني من المعلوم والمجهول (ص١٣٧): «رجال الدين في كل أقطار الأرض حربٌ على النَّاس، فهم يبدون غير ما يخفون، ويأمرون بما لا يعلمون، ومنهم من صدق إيمانه، وكانت سريرته كعلانيته وهم أقلُّ من القليل.»
والواقع أنَّ مسألة رجال الدين من المسائل العالمية المُزمنة؛ وذلك لأنَّ الأديان كلها تدعو إلى المحبة والإخلاص والأخوة بين البشر، ومع ذلك لم تُرَق دماءٌ في تاريخ الإنسانية الطويل مثلما أُريقت بسبب الأديان، ولم يكن ذلك لتعارض تلك الأديان وتعصب أهل كل دينٍ ضد الآخرين، على نحو ما حدث في الحروب الصليبية فحسب، بل وكان ذلك داخل كل دينٍ على حدةٍ، وما انشق إليه من فِرَقٍ ومذاهب وطوائف، فضلًا عما فُرض على البشر باسم الدين من حجرٍ على الفكر البشري، وإعاقة تقدمه، وتقدم البحث العلمي، على نحو ما شهدت الإنسانية من محاكم التفتيش واضطهاد الكهنوت وجامعاتهم للعلماء والمفكرين.
ولما لم يكن من المعقول تحميل الديانات السماوية مسئولية هذه الدماء، فإن المؤرخين والمفكرين لم يروا بدًّا من أن يحملوا رجال الدين وكهنوته هذه المسئولية الجسيمة، وأن يدعوا الكثير منهم إلى فصل الدين عن الدولة، والحد من نفوذ رجال الدين، حتى تواصل الإنسانية تقدمها وتنجو من التعصب الديني والنفاق الممقوت. وكان وليُّ الدِّين يَكَن من هؤلاء المُفكرين أنصار حرية الفكر، وخصوم رجال الدين، حتى لنراه يستشهد على تعصبهم وجهلهم بمُناقشةٍ طريفةٍ جرت بينه وبين أحد رجال الدين في سيواس أثناء نفيه بها، وأوردها في ص١٤٠ من الجزء الثاني من «المعلوم والمجهول»، فقال: «ذهب رجلٌ منهم إلى أنه يحرم على المسلم أن يدعو غير المسلم أخاه، واحتج بآية: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فقلت له: أنا لا أجادل بالقرآن، ولكني أخالف الساعة عادتي، وأثبت لك فساد دعواك وخطأك في تأويلك، قال: هاتِ ما عندك، قلتُ: إنَّ في علم المعاني بابًا اسمه باب القصر، قال: أعرفه، قلت: وفي الآية قصر موصوف على صفةٍ، فهذا لا ينفي الإخاء من غير المسلمين، ولو كان فيها قصر صفةٍ على موصوفٍ، كأن تكون: إنما الإخوة المؤمنون، لنفى من غيرهم الإخاء، ثم يضيف: فغضب الرجل من كلامي وقال: أعوذ بالله أن يكون في علم المعاني شيءٌ من هذا الكفر، وما هو إلا اختلاقٌ منك، وهب جدلًا أن دعواك صحيحةٌ، أيحملني ذلك على أن أصدق علم المعاني ولا أصدق القرآن.»
ويعلق على هذه الحادثة بقوله: «فأيقنت يومئذٍ أنَّ الرجل ممن أُفرغ في رأسه عشرون قنطارًا قطرًا، فآثرت إهماله وأنشدت قول أبي الطيب:
هؤلاء الرجال يحلِّلون من الأمور ما يوافق أهواءهم، ويحرِّمون منها ما يخالف أهواءهم، يسطون على النَّاس بسيوفٍ من الإيمان الكاذب، فلا يثبت على لقائهم إلا من:
فما تحكم عبد الحميد بالأمة إلا بنصر هؤلاء، أمَّا جنوده فأولئك منخدعون، ولقد فطنوا لذلك فجعلوا صلواتهم وابتهالهم وقفًا لظالم الأمة، استجلبوا له القلوب الخالية والنفوس الطامعة، فوقفوا كلهم لقاء الأحرار يكيدون لهم كيدًا، وكانوا يدعون المنفيين في بلادهم أعداء الدين والدولة، وكانوا يذمون الشورى ويذمون من يدعو إليها، ولو أمكنتهم غرةٌ من الأحرار لاجتثوا أصولهم وأبادوا أعقابهم، فإذا طهرت البلاد من شر هذه الفئة راجعتها السعادة.»
وانفعال ولي الدِّين يَكَن العنيف للحرية أو تعصبه لها، هو الأساس الذي بنى عليه — كما قلنا — صداقاته وعداواته، وبه نستطيع أن نفسر حبه للإنجليز، وبخاصةٍ للورد كرومر الذي أطلق حرية الرأي والكتابة وحرية الصحف في مصر لأغراضٍ سياسيةٍ معلومةٍ سبق الإشارة إليها، وأوقف قانون المطبوعات منذ سنة ١٨٩٢، وظلَّ موقوفًا حتى سنة ١٩٠٩، كما حمى الأتراك الأحرار الذين احتموا بمصر، وحمى غيرهم من رعايا الإمبراطورية العثمانية عندما نزحوا أيضًا إلى مصر فرارًا من بطش الحكومة التركية.
ففي مُقدمة الجزء الثاني من «المعلوم والمجهول» يقول ولي الدين: «نظر أناسٌ في الجزء الأول من المعلوم والمجهول فرأوا صورة اللورد كرومر وقد كتب تحتها «مصلح مصر» فألقوا بالكتاب جانبًا، وأطبقوا جفونهم وولوا عنه هاربين، راعهم شخص ذلك الرجل الجليل على الورق، فأخذتهم سورته، ولم تقوَ عيونهم على النظر في وجهه، فكيف بهم لو تمثلوا بين يديه ورنَّ صوته في آذانهم، وقد زعموا بعد ذلك أني صنيعة الرجل، والرجل لا علم له بكتابي إلى يومنا هذا.»
وهو في الجزء الأول من المعلوم والمجهول يعقد فصلًا عن حال الأحرار وجمعياتهم بعد هرب مراد من الآستانة، يتحدث فيه عن مراد الطاغستاني أحد أحرار الأتراك، واحتجاجه على اضطهاد عبد الحميد الثاني للأرمن وتذبيحهم، ثم هرب مراد هذا إلى مصر، ويقول: «وجاءت الرَّسائل برقيةً وغير برقيةٍ، تطالب فيها الحكومة العثمانية الحكومة المصرية بإعادة مراد إلى الآستانة، أو طرده من مصر، أو عدم الإذن له بإصدار جريدةٍ فيها، فلم ينل عبد الحميد من لجاجه سوى الفشل وسوء المصير، والفضل في ذلك للورد كرومر حبيب الأحرار، ومصلح مصر ورجلها العظيم.» وإن يكن قد غاب عنه — كما سبق أن قُلنا — حقيقة سياسة كرومر الدفينة، التي لم تكن تبغي خير مصر والأحرار، بل كانت تبغي تحطيم الإمبراطورية العثمانية والتهام ممتلكاتها، وفي مقدمتها مصر، كما أثبتت الأيام من بعد.
وهذا التعصب للحرية هو الذي يُفسِّر لنا أيضًا إعجابه بإخواننا العرب، ولا سيما المسيحيين السوريين المُهَاجرين إلى مصر، وصداقته لهم على غير تبصرٍ ولا دقةٍ في الاختيار، حتى لنراه يوثق صلته بأصحاب «المقطم»، الذين لم يكن حُبُّهم للإنجليز مبعثه حب الحرية، وبغض الاستبداد التركي فحسب، بل كان يرجع إلى عوامل أخرى كثيرة أقل شرفًا ونبلًا، كالمصالح المادية، بل والتعصب عند نفرٍ من تلك الجماعة.
وهو يشيد في الجزء الأول من المعلوم والمجهول (ص٧١) بهؤلاء المسيحيين السوريين، ويوازن بينهم وبين المسلمين الأتراك المُقيمين بمصر، فيقول: «ويشهد الله وكلُّ محبٍّ للحق أنَّ إخواننا العرب لا سيما المسيحيين السوريين منهم كانوا أشد النَّاس ضجرًا وأعظمهم أنفةً من احتمال الذل، فهم الذين تاقت نفوسهم إلى الفضيلة العصرية من وراء حجب الاستبداد فأقبلوا على مصر، وعلَّموا إخوانهم المصريين إنشاء الصحف واتخاذ المطابع واحتراف الأدب العصري واصطفاء الحرية، هذا مع أنهم محرومون في بلادهم من التمتع بمثل هذا النعيم.
غير أن حب المعالي في أكثر النفوس طبعٌ لا تطبعٌ، وإلا فمن علَّم الطير ترجيعه ومن وهب البلبل حب الورد؟ ولما طال عليهم احتمال الضيم هجروا أوطانهم وضربوا في أقطار الأرض، يجوبون قاصيها ودانيها، يحلون من منازلها آهلها وحاليها، أعوانهم عزائمهم، وبضاعتهم عقولهم، فحيث عثرت جدودنا انتهضت جدودهم … إلخ.»
وهو يتحدث بعد ذلك عن الأتراك المسلمين الذين استوطنوا مصر من الأزمنة السالفة، فيقول عنهم: «لا يهمهم من السلطان إلا كونه سلطانًا، وهم يعتقدون أنْ لا حق للأُمَّة في مُشَاركة الملوك في أعمالهم، وأنَّ الرعية عبيدٌ للملوك، يُؤمرون بالطاعة لهم وإن ظلموا، والشكر وإن أساءوا، يتحدثون بذلك في مجامعهم وبأيديهم السبح وأمامهم النارجيلات، يمتصونها حتى تستطلع حبابها، يُؤتى لهم بالشاي منقوعًا، وبين يديهم جماعاتٌ من المشايخ، منهم المدَّعون لعلوم الكيمياء القديمة، ومنهم أولياء الله الناطقون بالغيب (بالسرياني)! ومنهم المتصوفون من أتباع الرفاعي والكيلاني ومحي الدين العربي والبكطاشي والمولوي، ومنهم أئمة الشرع ورواة الأحاديث والمفسرون، كل هؤلاء يكفِّرون الأحرار، ويدعون لعبد الحميد، ويمدون أنامل أكلت أطرافها حبات السبح يجرون بها دراهم أعوانهم عدًّا، بطلًا وجشعًا ولؤمًا، كانوا يؤثرون حب عبد الحميد على حب العادل الحميد.»
والذي لا شك فيه أن كل هذا إنما هو تفريع عن العقدة النفسية الأصلية عند ولي الدين، وهي عقدة بغضه العنيف لاستبداد عبد الحميد باسم الدين، وهو في موضع آخر من نفس الكتاب يُقارن عبد الحميد بالجُعَل ويجمع بينهما في حكمٍ واحدٍ، حيثُ يقول: «كريهان يؤذيهما طيبان: الجُعَل يؤذيه ريح الورد، وعبد الحميد يؤذيه نسيم الحرية!»
وهو يناصر المضطهدين من الأرمن، ويدفع عنهم في الجزء الأول من المعلوم والمجهول (ص٤٨) تحت عنوان «مذابح شهداء الحرية من إخواننا الأرمن»، ويشرح أسباب تلك المذابح، ويقرع التعصب الديني والعنصري تقريعًا شديدًا، ويُهاجم المتعصبين من الأتراك والأكراد هجومًا عنيفًا، ويستشهد في وصف حالة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية، واضطهاد المسلمين لهم بأبياتٍ قديمةٍ بالغة القوة، حيث يقول: «وقد صدق أحد شعراء الحماسة، إذ يقول:
وليس من شكٍّ في أنَّ استشهاده بهذه الأبيات ينمُّ في ذاته عن مدى تعصبه للحرية، وكرهه للظلم والاضطهاد، وهي أبياتٌ جاهلية الروح تنطق بالحكمة الجاهلية المأثورة: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، وهي روح تخالف روح التسامح التي كان يدعو إليها ولي الدِّين يَكَن، بل لكأننا به يود أن لو تكتل الأرمن وتعصبوا ليفتكوا بمن أخذ يذبحهم من مسلمي الأتراك والأكراد. ولا عجب فإنَّ ولي الدين كان يتعصب للحرية وضد الظلم والاضطهاد، أكثر مما يتعصب لأي شيءٍ آخر كوحدة الدين أو وحدة العنصر أو الجنس أو غيرها.
وهو يبرر دفاعه عن الأرمن وثورته لمذابحهم بقوله: «هناك أناسٌ يقولون لنا: إنَّ الأرمن أعداءٌ لنا، ويزعمون أنهم هم المعتدون دائمًا، وأن المسيحيين لا يخلصون للمُسلمين ودًّا، ولا يصفون لهم سريرةً، وينعتونهم لنا بالكافرين وأهل النار، وغير ذلك من كلام الجهل والجنون، وبسطاؤنا يصدقون هذه الباطلات، حسن ظنٍّ منهم بقائليها، ولبعدهم عن مواضع العلم وفهم الحقائق، فإذا ذكرت لهم تلك الفظائع لم تهز منهم موضعًا من قلبٍ، ومنتهى إنصافهم أن يقولوا: إن الأرمن جنوا على أنفسهم.»
وهو يقص طرفًا من مذابح الأرمن، فيروي كيف كان المتعصبون من أهل سيواس يذبحون كالوحوش من عثروا عليه من الأرمن بالمناشير.
على أن دفاعه عن الأرمن وتعصبه لهم في محنتهم لا يُفيد أنه كان ضعيف الإحساس بعُثمانيته، مُتهاونًا في التمسك بها والدفاع عنها، وذلك بدليل أنَّه كان يكره العُرابيين ويسفه ثورتهم، كما كان يُخاصم عبد الله النديم لأنه كان «من قدماء من يقولون: مصر للمصريين، ونحن نقول: مصر للعثمانيين» (ص٣٠ من المعلوم والمجهول ج١).
وفي حديثه عن عبد الله النديم في نفس الموضع من نفس الكتاب ما يلقي ضوءًا على الكثير من مشاعره نحو العُرابيين وثورتهم، حيث يقول: «إن عبد الله النديم انتحل لنفسه السيادة، وجاراه إلى تسميته باسمها جماعةٌ من محبيه، ولكن اتصل بي ممن حضر مجالسه وسمع حديثه وألمَّ ببعض أموره أنَّه لم يكن في طباعه ما يُشبه طباع السادة، وما كان إلا رجلًا من الرجال ذكي القلب، شديد العارضة، ذَرِبَ اللسان، سريع الخاطر، حاضر البديهة، ظريف المحاضرة، حلو الشمائل، وكان كذلك جريئًا على مَنْ يخافه، كثير الوقيعة بمن يُعاديه، مُحاسدًا أهل الفضل ممن هو دونهم، سهل الغضب صعب الرِّضاء، مدمن الهجاء دائم السخط، فمن صاحبه على حذرٍ منه فاز بوده، ومن وثق به ضاع وضاعت ثقته معه، قرض الشعر فلم يملك له ناصيةً، ولا فاز منه بسهمٍ، ورام الزجل فوفر منه حظه، وحلا في فمه نشيده فكان يرتجله ارتجالًا، ويُسابق أهله فلا يشقون له غبارًا.
هذا عبد الله النديم صاحب «الطائف»، و«التنكيت والتبكيت» من قبل، وصاحب «الأستاذ» من بعد. اختفى بعد ثورة العرابيين، وكان حارثهم بن حلزة أو عَمْرَهم بن كلثوم، رغا فتجمعوا، وعقر فتفرقوا، ثم آوته قرى الريف فبات كأبي زيد السروجي، يحترف الحرف، وينتقل في الأزياء والأشكال، فيومًا هو واعظٌ، ويومًا هو ماجنٌ، ويومًا هو عالمٌ، ويومًا هو خليعٌ، وما زال كذلك يطوف في البلاد حتى تَعَرَّفه بعضهم فوشى به إلى الحكومة، فجيء به إلى نظارة الداخلية عليه غبرةٌ ترهقها قَتَرةٌ، فأظهر الذلة والاستكانة ووعد بالتوبة والإنابة، فزين بعض شيعته لمقام الإمارة المصرية أن تعفو عنه بعد ذلك فعفت، فبدأ بعدئذٍ في نشر «الأستاذ»، وبيان النديم مشهورٌ ومألوفٌ تفهمه العامة، وتبتذله الخاصة، ولو مسح على لفظه بشيءٍ من جزالة اللفظ وسمو المعنى، وأمعن النَّظر في غلطاته فاجتنبها لصح أن يُعد من كبار الكتاب، فقد شهدتُ له ببعض الذوق السليم، وأعجبني ترسله، وقرأتُ له في الأستاذ مقالةً عنوانُها «لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا»، فعلمت أن البيان سجيةً في الرجل، وكتابه المسمى «كان ويكون» يجوز أن يُقال فيه: إنه ابن قريحةٍ وقادةٍ.
ومن المعلوم عند أهل الدَّهاء أنَّ حزب العرابي — وإن تمزق شمله بعد نكبة صاحبه — بقيَ مختبئًا في مكامن خوفه اختباء الأفاعي في جحورها، وكذلك الفزع يستولي على أهل الدعوة فيلجم أفواههم ويكبهم على أذقانهم؛ فلمَّا عاد النديم وأعاد لهم نغماته، تطربوا وعرتهم هزةٌ أفلتوا بها من مرابطهم، فقال فصدقوا، ودعا فأجابوا، وما زال في غلوائه وهم في غوايتهم، يدعو إلى الفتنة ويحض على الثورة، والإمارة تحبوه ما يقوم أوده، ويُطلق لسانه حتى آل أمره إلى الطرد؛ فترك مصر مأسوفًا عليه من أشياعه، مغضوبًا عليه من العقلاء.»
والذي لا شكَّ فيه أن دعوة العرابيين «بمصر للمصريين» هي التي أغضبت ولي الدين العثماني. ومن المعلوم أنَّ العرابيين قد ثاروا على مُحاباة الحكام للجراكسة والأتراك في مناصب الدولة وبخاصةٍ في الجيش، واحتقار هؤلاء الدخلاء للفلاحين المصريين، وإن يكونوا قد اضطروا إلى مصانعة الخلافة الإسلامية وأظهروا خضوعهم لها، مع أنَّ هذه السياسة لم تجدهم فتيلًا، وحاربهم توفيق باسم هذه الخلافة الإسلامية، وأذاع على الشعب منشوراتٍ يتهم فيها عُرابيًّا وأنصارَه بالكفر والخروج على الخلافة. وأكبر الظن أنه لو قلب العرابيون سياستهم، وهاجموا الخلافة المستبدة الفاسدة وتمسكوا — على العكس — بالوحدة العثمانية، لرأينا ولي الدين يناصرهم ويتعصب لهم.
ومع ذلك؛ فإنَّ المُناداة بالوحدة أو الجامعة العثمانية لم تكن تكفي لكسب تأييد ولي الدين، أو على الأقل تجنب عداوته، إذا لم تقترن هذه الدعوة بمحاربة الحكومة التركية المستبدة، والخلافة الحميدية الظالمة، وذلك بدليل أنَّ ولي الدين كان يخاصم أيضًا مصطفى كامل والحزب الوطني ويتهمهم بالنفاق والتهريج؛ وذلك لأنَّ أنصار هذا الحزب، وإن لم يهاجموا الجامعة العثمانية إلا أنهم ناصروا الخلافة الحميدية والحكومة التركية، واعتمدوا عليها في مُحَاربة الاستعمار الإنجليزي، وذلك بينما كان ولي الدين يرى عدوه الأَوَّل في ظلم عبد الحميد وفساده، وإن لم يهاجم الخلافة العثمانية في ذاتها، ولا ناصر فكرة نقل الخلافة من الأتراك إلى العرب، ومن الخليفة العثماني إلى الخليفة الهاشمي، كما كان يدعو البعض من العرب، وكما كان الإنجليز يوحون لأغراضهم الخفية.
ولكي نستكمل آراء ولي الدين السياسية، وهي الآراء التي سيطرت على معظم إنتاجه الأدبي نثرًا وشعرًا، يجب أن نوضح أنه إذا كان بغض ولي الدين لعبد الحميد وخلافته الفاسدة وحكومته الظالمة لم تدفعه إلى مهاجمة فكرة الخلافة العثمانية في ذاتها، أو فكرة الجامعة العثمانية، إلا أنَّها لسوء الحظ قد دفعته أحيانًا إلى الاستخفاف ببعض أحكام الدين الإسلامي وشعائره، فضلًا عن مهاجمة رجاله وعلمائه، حتى لنراه يسخر ممن يدارون إفطارهم في شهر رمضان في مقالٍ له في «الصحائف السود» تحت عنوان «أكذوبة أبريل وأكذوبة رمضان» يختتمها بعبارة يتحدى فيها شعور المسلمين على صفحات جريدة «المقطم» فيقول بعد أن تحدث عن الشدة التي تأخذ بها نظارة الداخلية في تركيا المفطرين والسافرات من السيدات المسلمات: «وفي مصر من الحرية الشخصية ما لا يضطر إلى التواري عن الأبصار، والاختباء تحت الموائد، ولكن في النَّاس كثيرين يفعلون ذلك. ولولا أني شاركت بعض الأجانب في الكذب معهم في أول يومٍ من شهر أبريل، وذلك حين كنت ابن عشرين سنة، لجاريت أهل المسابح إلى الكذب، غير أني جالسٌ أمام مكتبي، وعيناي شاخصتان إلى الساعة وقد دوى مدفع الظهر الذي أفطر عليه!»
والواقع أنَّ ولي الدين لم يكن من أنصار الحريات السياسية فحسب، بل كان أيضًا من أولئك الذين عُرفوا في تاريخ الإنسانية باسم أحرار الفكر، والذين ازدهر مذهبهم في فرنسا مثلًا في القرن الثامن عشر، وكان من بينهم فولتير وجماعة دائرة المعارف، والحرية الفكرية عندهم أدت إلى التمرد لا على رجال الدين وحدهم، بل وعلى الكثير من أوامر الدين ونواهيه ذاتها، حتى لنرى عبارة حرية الفكر تقترن عند خصومهم من المحافظين المتدينين بعبارة الزندقة عندما يقولون «حرية الفكر والزندقة»، وإن يكن الجمع بين العبارتين على هذا النحو لا يخلو من إسرافٍ، فإنه إذا كان من بين أحرار الفكر من يبيح لمن يشاء الحق في الزَّندقة، إلا أنَّهم لم يكونوا يدعون إليها، كما أنَّ الكثيرين منهم لم يكونوا يصدرون عن خصومةٍ شاملةٍ مطبقة للديانات، بل إنَّ فولتير نفسه إذا كان قد أنكر الرسل والأنبياء، ووساطتهم هم ومن خلفهم من رجال الكهنوت بين الله والبشر، فإنه لم ينكر وجود الله في ذاته، بل وقال: إنه إذا لم يكن الله موجودًا لوجب على البشر أن يخترعوه، وإن تكن فكرة الألوهية عنده تختلف بالضرورة عنها في الديانات السماوية.
وعلى أية حالٍ، وسواء أكان ولي الدِّين يَكَن قد تأثر بأولئك الفلاسفة والأدباء الفرنسيين الذين كان يجيد لغتهم، أو سار في نفس الاتجاه الذي ساروا فيه بتأثيرٍ من العوامل المحلية في الإمبراطورية العثمانية وخلافتها الفاسدة، ورجال دينها المنافقين، فالثابت أنه من المُفكرين الأحرار، وأنه أحد حلقات تلك السِّلسلة الطويلة التي انتهت بظهور مصطفى كمال، وتحطيم الخلافة، وتكوين الدولة المدنية، والقضاء على كلِّ نفوذٍ لرجال الدين، والاتجاه بتركيا اتجاهًا كليًّا نحو الحضارة المادية الغربية.
وعلى ضوء هذه الحقيقة الكبرى نستطيع أن نفهم الكثير مما كتبه ولي الدين نثرًا وشعرًا في مُحاربة التعصب الديني، والدعوة إلى التسامح، ومناصرة كافة قضايا التحرر التي كان يحاربها رجال الدين، والواقعون تحت سلطانهم باسم الدين، إنْ حقًّا وإن باطلًا، مثل قضية تحرير المرأة، وقضية التوفيق بين الدين والعلم، كما كان يُناصر الدَّاعين لمثل هذه القضايا ويتحمس لهم وفي مقدمتهم قاسم أمين ومحمد عبده.
أمَّا عن حرية الفكر فله عنها مقالٌ في «الصحائف السود» بنفس العنوان (ص٩٣)، يستهله بقوله: «نحس بآلامٍ بين أحناء الضلوع، فنكتمها صبرًا، ونسكت عليها خيفةً، لو كان هذا الصبر في موضعٍ يحمل فيه لنطق من جوانبه الثناء، ولكنه قُصارى نفوسٍ جبنت ونصيرها الحق، وأقصرت وشأوها بعيدٌ.
تغلبت سورة الجدل على سورة الدليل، وبات كلام الإنصاف والصمت أحب منه إلى النَّاس، ألا قاتل الله اللجاج، لا العقل أغنى في الغلبة على سلطانه، ولا الهمم مضت في التغلب على فجاجه، كلما جهر بالحكمة ناطقٌ تألبت عليه عصب الغرور، فسدُّوا بأيديهم فمه، يا ليتهم يجعلون أصابعهم في آذانهم تصاممًا، أو يلفتون وجوههم إلى ورائهم إعراضًا، ذلك إذن يهون.
يحجهم الصواب فلا يلبثون أن يقبلوا عليه، غير أنَّهم يعتدون فلا يدعون مكلمهم يكلمهم، فكيف يجري فيهم نصح الناصحين.
إنما يُقبل القول بعد سماعه ويُرد بعد سماعه، وهذا البلد يتعجل أهله الحكم، سواءٌ عليهم أصابوا أم أخطئُوا، يريدون وليس الذي يريدونه صوابًا، ولكنهم يحاولون أن يجعلوه صوابًا، هذا محالٌ، حقائق الأشياء لا يدخلها تغيرٌ، ومَنْ لم يكن معه الهدى، عليه أن يكون مع الهدى إذا رام رشدًا.
قلت في إحدى الصحائف السود التي تقدمت كلامًا على الأضاحي، فهاج قلوبًا استوطنها التعصب، وهاج على أهل الشر من المخضرمين، عفا الله عنهم ماذا يبتغون؟ طوت الأيام برد الشباب، وأنالتنا من التجارب ما لا مندوحة فيها لجهلٍ، إن يستطيلوا فقد استطال أسلافهم من قبل، أنا ابن عصرٍ عيت فيه الألسن وأفصحت بعبرها الأيام، ولي بمحمد عبده وقاسم أمين أسوةٌ حسنةٌ.
على أنني لا أعجبُ من أهل القدم والمنتحلين صيغة الدين، وإنما أعجب من قومٍ لبوسهم لبوس أهل التمدن، ومآكلهم مآكلهم يُطاف عليهم بالآنية والجام، في مجالسَ كأنَّها ديباجات الآفاق، ثم يصبحون فيقارعون النَّاس بالدين، يرموننا بالكفر والمروق والزَّندقة ليثيروا علينا أشياعهم، وما نبالي نحن مَن أشياعهم، يغالبون بالدين كلما تساقطت حججهم، وبه يحاربون كلما أجفلت نعائمهم … أنتم أعداؤنا اليوم، وأبناؤكم أنصارنا غدًا، لن نشكوكم وحدنا، بل سوف نشكوكم ومعنا أعقابكم، ولنعمت الشهود يومئذٍ يقولون آباؤنا كذبوا وهؤلاء صدقوا.»
وأمَّا عن الدين وقداسته، فله فيه (في التجاريب ص٢٦) رأيٌ صريحٌ، يقول فيه: «الأديان مناهجُ للناس إلى ما يُستطاع من الكمال، فإذا هي تجاوزت ذلك وأضحت سلعًا يتجرون بها كان شرها أكثر من خيرها، وإنَّ من أشد ما ينزل بالحُرِّ أن يُبلى بقومٍ لا تسمو مداركهم إلى مقاصده، فيتعسفوا في تأويلها الشبهات، حتى إذا أعيتهم المُناظرة وأعيتهم الحجج عمدوا إلى الفساد، فاستثاروا العامة إلى الوقيعة، وفزعوا إلى الختل والغدر، وأكبر من هذا أن تكون الحكومة عونًا للمفسد على المصلح، لا اعتقادًا بإيمانه ولا إعجابًا برأيه، بل تحببًا إليه وإقرارًا بالعجز عن إخضاعه وتقويمه.»
وهو يتحدى الرَّأي العام عند مقتل بطرس غالي فيرثيه شعرًا، وينشر في المقطم مقالًا بعنوان «بطرس غالي في موكبه الأخير» (الصحائف السود ص١٠١)، يستهله بقوله: «مشى بعاصمة مصر يوم الثلاثاء ٢٢ فبراير سنة ١٩١٠ مشهدٌ لم تشهد مثله، ذاك مشهد بطرس غالي العظيم من كرسي الرياسة إلى مضجع الأبد؛ لله درك من ظاعن … قال النعاة: قتل أحد الباغين بطرس باشا غالي. قلت: لقد قتل مصر.» وهو يُدافع عن الوزير الذي أثارت تصرفاته سخط الوطنيين بقوله: «ماذا جنى هذا الفقيد المظلوم، صاح أكثرهم مذكرًا بحادث دنشواي، وتشدق آخرون باتفاق إنجلترا ومصر على السودان، وشكا غيرهم من قانون المطبوعات، وهل كان لهذا الوزير هذا القدر من النفوذ بالإرادة والخيار في الفعل؟ ومن أهاج أهل دنشواي ومن أتى بقانون المطبوعات: سائلوا تلك الجرائد التي تود أن توقع البلد في الهلاك، عسى أن توافيكم بجوابٍ سديدٍ.» ثم يضيف: «الأقباط هم أولو مصر قبل كل مصري، ما زال الجَوْر يتصيدهم حتى قلوا عددًا، ووفرتم وخسروا، وكسبتم ثم مَنَّ الله بعدله، فقالوا نحن إخوانٌ، أفلا تريدون أن تكونوا لهم إخوانًا؟ فما لهذه البراثن إذن دامياتٌ؟»
وهو عندما يضطهد جميل صدقي الزهاوي لحرية فكره، ويتهم بالكفر والزندقة، يجرد قلمه للدفاع عنه ودعوة الأدباء إلى مناصرته في مقالَيْن حارين نجدهما في «التجاريب» تحت عنوان «التعصب يخرج الحرية من ديارها، هلموا إلى نجدتها يا أحرار» (ص١٩–٢٨)، و«الأحرار وأعداؤهم» (ص٢٩–٣٩)، وقد بدأ المقال الأول بقصيدته التي مطلعها:
وفيها يستثير الهمم لنصرة الزهاوي قائلًا: «إن ينزل بالزهاوي نازلٌ من الظلم فتلك سبيلٌ أبناؤكم سالكوها غدًا، فإلا يحزنكم مصرعه، فإنَّ في مصارع أبنائكم ما يستدر جامدات العبرات، إيه لكم، قطعت الشعوب أشواطًا في منازل الحياة، ونحن إلى الوراء راجعون، لا تكونوا واسطة السوء بين الأسلاف والأخلاف، أما لتقذفن لكم الأرحام بأضاحي كالتي شهدتم تلبسون ليومها السواد، ويطول عليها أنينكم تحت طيات الدياجير.»
وهو في المقال الثاني عن «الأحرار وأعداؤهم» يُهاجم رجال الدين هجومًا عنيفًا، فيقول: «الآكل من كسب غيره وهو قاعدٌ لا يحمل نفسه عناء السعي لرزقه، وإذا علمت الأمة حقائق الأشياء، وبصرت بضلالات أهل التعصب، قبضت عنهم جدواها ومنعتهم ورد جودها، والقوم يعلمون ذلك ولا يدانيهم فيه ريبٌ، فمن أي الطرق يأتي نحوهم الإنصاف، لو جمعنا العمائم التي بالبلاد العثمانية، وجعلنا بعضها فوق بعض بنينا حصنًا يعجز عن هدمه أسطول إنجلترا بأسره، ما في هذه الجوازات ما يُرجى منه أقل الفوائد إلا آحادٌ لا يصعب تسميتها، وما بقي من ذلك الجمع العديد فأنصارٌ للاستبداد سواءٌ عليهم حقٌّ وباطلٌ، لا يعجبهم من الحياة الدنيا إلا الجِفان، أو ما يكون ثمنًا للجفان.
أروني واحدًا من هؤلاء المبردين يكون جاد بدرهمٍ واحدٍ في خيرٍ يريده، ثم إذا التفت عليهم المحافل ألفينا كل عثنون كحديدة الفأس، يضطرب غضبًا لرأيٍ رآه أحد العقلاء، فكم من عنفقةٍ كذَنَبِ السمكة تهتز على أثرها وتغضب لغضبها، ما أشقانا بهذه المخلوقات!»
وهو يناصر قضية المرأة بشعره ونثره، فيقول في «الصحائف السود ص٩»: «قالوا: إن تعليم البنات مَهْيَعٌ إلى إفسادهن، وما في القائلين بذلك من تعلمت أُمه وعرف فسادها.» بل ويكتب في نفس «الصحائف السود» مقالًا خاصًّا عن المرأة يقص فيه مصارع ثلاث نسوةٍ، إحداهن قتلها الاستبداد، والثانية أرداها الجهل، والثالثة أودى بها الحجاب.
أما الأولى فقد اشتراها باشا يُقيم في إحدى قرى ولاية سيواس، ولكنها كانت تنفر منه ولا تلبي رغباته، بل واحتالت فأنفذت لأبيها كتابًا تشكو فيه الحياة، وتعبر عما تجد من اشتياقٍ إلى أهلها، وعلم بذلك الباشا فقتلها.
وأما التي أرداها الجهل ففتاةٌ تلقت الدراسة في إحدى مدارس الراهبات ببيروت، ثم زوجها أبوها رغم أنفها من مجهولٍ، لم يلبث أن شق بطنها إذ رأى في يدها صورة رجلٍ مكشوف الرأس عليه ثياب قواد الجنود وفي يده قبعةٌ، ولم تكن هذه الصورة إلا صورة واشنطون الشهير محيي مجد أمريكا!
وأمَّا الثالثة التي قتلها الحجاب فقد تزوجها رجلٌ من أهل أدنه شديد الغيرة، دخلت بيته ليلة زُفت إليه ولم تخرج منه أبدًا، حتى إذا مرضت وثقل عليها المرض واشتد الألم دعا زوجها طبيبًا، وأخذ يصف له ما تشكوه، فقال: أنا لا أداوي على السماع، ولا بدَّ من رؤية المريضة، وفحص موضع العلة، فأبى الزوج الأبيُّ ذلك، «وما مضت أيامٌ قلائل إلا وقد أزروها في أكفانها وشيعوها إلى منزلها الأبدي من ضريحٍ إلى ضريحٍ.»
ويهاجم في نهاية المقال تعدد الزوجات قائلًا: «رأيت رجالًا يبذِّرون المال تبذيرًا، فإذا أقاموا الأفراح نصبوا السرادقات، ورفعوا الأعلام وأوقدوا الزينات، ومدوا الموائد، وجاءوا بالمغنين والمغنيات، واستكملوا أسباب المسرات. كل ذلك ليدخلوا بامرأةٍ لا يعرفونها، خطبوها لأنها خُلقت لتُخطب، فإذا صارت في أيديهم أيامًا ملُّوا حديثها، وسئموا قربها، وراحوا يفتشون على غيرها، فمثلهم كمثل الطفل المُدلل يرى اللعبة فيبكي لأبيه وأمه حتى يبتاعاها له، ثم لا يلبث أن يُحطمها ويطرحها جانبًا ليأتيا له بغيرها.»
ثم يختتم المقال بقوله: «هذا عصر غارةٍ شعواء يشنها المجددون على شيعة الرأي القديم، وما ضرني وقد اشتعل الرأس شيبًا أن أتقدم صفوف الشباب، فإن لم أكن صاحب أمرهم، فما علي أن أكون حامل رايتهم، فمن لي بصاحب «تحرير المرأة» أن ينفض عنه تراب القبر ويخرج إلى الأحياء ليرى مبلغ استفادتهم من رأيه، أما إنه لو فعل — ولن يفعل — وقرأ ما يكتبه قومٌ في إبقاء الحجاب، والتحكم على أمهات الأجيال الآتية، لكرَّ راجعًا إلى مرقده وأغمض عينيه حتى لا يرى، وأذنيه لكيلا يسمع.»
وأنشد قول الحكيم القديم:
هذه طائفةٌ من الآراء التي التزم بها ولي الدِّين يَكَن، وقد كانت — كما قلنا — آراء ثابتة لا خواطر شعراء يهيمون في كلِّ وادٍ، بل لقد نادى ولي الدين نفسه بدافعٍ من فطرته ومزاجه بالالتزام في الأدب والفكر والحياة، وندد بالتردد والنفاق، حيث قال في ص١٠٤ من التجاريب: «إنَّ من عجائب الشرق أن يشكو ابنه الرجل حاضرًا، وأن يشتاق إليه غائبًا، ومن عجائبه أن يكون لكل امرئٍ رأيان ليس له أحدهما، ولكنه يحملهما استخدامًا لهما، فكُلَّما حل بين جماعةٍ من أهل أحد الرأيَيْن كلمهم به.»
وبمُرَاجعة هذه الآراء وطوائف المُجتمع التي كانت ترضيها أو تغضبها عندئذٍ تلك الآراء، نستطيع أن نُدرك مقدار الشجاعة الأدبية التي كان يتصف بها هذا الأديب الشاعر المُلتزم، وذلك بصرف النظر عن كونه قد أخطأ أو أصاب في تمسكه بكل هذه الآراء والتعصب لها، وبصرف النظر عما إذا كان قد أحسن دائمًا فهم التيارات الظاهرة والخفية التي كانت سائدةً في عصره، أو أساء، والشيء المُؤكد هو أننا لا نستطيع أن نرميه بفساد الضمير أو التواء القصد، فهو رُبَّما يكون قد أساء الرأي، ولكنه لم يُسِئِ القصد.
وليس بخافٍ بعد ذلك أنَّ آراءه لم تكن تُصَادف هوًى إلا في نفوس طوائف ضيقةٍ محدودةٍ؛ لأنَّه كان مُخطئًا في بعضها، وسابقًا لعصره في بعضها الآخر، كما أنَّ عصره كان — كما قلنا — مبلبلًا مضطربًا بين الاتجاهات المختلفة والسبل المُتعارضة، وكان النَّاس لا يزالون يبحثون عن الوجهات المجدية الصالحة لأفرادهم ووطنهم، كما كانوا لا يزالون في حاجةٍ إلى غربلة القيم المختلفة المتوارثة والدخيلة، وانتقاء خيرها، وأجداها نفعًا.
وعلى أية حالٍ، فإنَّ رجلًا كان يغاضب العرابيين ورجال الحزب الوطني ورجال الدين والمتزمتين والمُحافظين، لم يكن من المعقول أن يحظى بجمهورٍ كبيرٍ يشيد بفضله وينزله المكانة التي يستحقها في عالم الأدب والشِّعْر. بل إن إشادته بعدل الإنجليز، وحماية كرومر للحرية والأحرار وإعجابه به كان وحده كفيلًا بأن يحط من ذكره، وأن يصمه بما لا نَزَال نسمعه حتى اليوم من أنه كان من أنصار الإنجليز المحتلين، وهذه تهمةٌ استطاعت أن تطمس ما كان له من اتجاهاتٍ أخرى خيرةٍ، كتعصبه للحرية السياسية والفكرية، وثورته على الظلم والاستبداد، ومناصرته للقضايا التقدمية.