صراع في الأعماق!
كان الصوت يأتي من الظلام الدامس، فلم يظهر مصدره، بدأت أعينهم تجري على الشاطئ الطويل، لعل أحدًا يظهر، إلا أن أحدًا لم يكن هناك، وظل «أحمد» ممسكًا بالحبل، بينما كان بقية الشياطين يقفون في قلب الزورق. وتردد الصوت من جديد، فحدد المكان، وفي الحال اتجهت أنظارهم إلى مصدر الصوت. كان أسفل الرصيف الحجري الذي يحمي المدينة من موج المحيط.
قال الصوت الذي اقترب، وإن كان مصدره لم يظهر جيدًا: إلى أين في هذه الساعة، والموج يرتفع مع مرور الساعات؟
قال «أحمد»: نحن في رحلة بحرية …
الصوت: في هذا الوقت؟!
أحمد: نعم …
ظهر صاحب الصوت، كان يلبس ملابس سوداء ثقيلة، حتى لم يكن يظهر سوى وجهه فقط، وقال: هل معكم تصاريح؟
نظر «أحمد» إلى «مصباح» وقال: أظن أنها في التابلوه الأمامي للزورق! كان يقولها بلهجة من لا يهمه الأمر، حتى لا يلفت نظر الرجل. وعندما اختفى «مصباح» لإحضار التصاريح سأل «أحمد»: هي يمكن أن أتعرف إليك؟
قال الرجل: إنني الحارس الليلي …
عاد «مصباح» بحقيبة جلدية صغيرة، فقدمها ﻟ «أحمد» اقترب الحارس أكثر، وأضاء بطارية صغيرة، يساعد بها على رؤية التصاريح، وقلب «أحمد» بعض الأوراق، ثم قدم للحارس عددًا منها. قرأها الحارس بسرعة، ثم هز رأسه وهو يعيد الأوراق ويقول: أنصحكم ألا تبحروا الليلة، إن الجو غير مضمون …
شكره «أحمد» ثم فكَّ الحبل، وقفز إلى الزورق، بينما كان «باسم» قد أدار الموتور. وفي لحظات، كان الزورق يشق الموج المرتفع إلى قلب الليل، كان الزورق يهتز بشدة، حتى إن «مصباح» قال: إننا لعبة طيبة بين أحضان الموج … لم يرد أحد من الشياطين. كان «باسم» يجلس إلى عجلة القيادة، وأمامه البوصلة، وقد تحدد الاتجاه عليها، نظر «أحمد» إلى عداد السرعة، ثم قال بعد لحظة: نحتاج إلى تقسيم الوقت …
قال «باسم»: سوف أبدأ أنا الآن، ومعي «بو عمير» …
رد «مصباح»: إذن، علينا أن ننام مباشرة …
نظر «أحمد» في ساعته، ثم قال: أربع ساعات … إنها تكفي لأن ينال الإنسان قسطًا معقولًا من الراحة …
تحرك هو و«مصباح» إلى صالون الزورق، ثم ألقى كل منهما نفسه فوق أريكة، في نفس الوقت، كان «بو عمير» يأخذ مكانه بجوار «باسم». لم يكن يظهر أمامهما شيء، فقد كان الليل شديد السواد، غير أن رادار الزورق كان يكشف الطريق، فلم يكن أمام الزورق ما يعوق انطلاقه، حتى هذه الساعة.
ارتفع الموج أكثر، وازداد هبوب الرياح، حتى إن «أحمد» لم يستطع النوم. فاقترب منهما في هدوء، ثم قال: يبدو أننا سوف نلاقي صعوبات في الطريق. إن هذه الأمواج لا تنبئ بخير. فقال «باسم» دون أن ينظر إليه: هل تقترح شيئًا؟
لم يُجِبْ «أحمد» مباشرة، غير أنه قال بعد فترة: أعتقد أنه ينبغي أن ننزل إلى الأعماق …
لم يرد «باسم»، وظلت عيناه مثبتتين إلى الأمام، بينما الزورق، كان قد أصبح كالريشة وسط الرياح، وفجأة ظهر «مصباح» وهو يقول: النوم مستحيل الآن، لماذا لا ننزل إلى الأعماق؟
قال «بو عمير» مبتسمًا: حتى تستطيع النوم؟ …
باسم: أظن أننا يجب أن نفعل ذلك!
ضغط «أحمد» عدة أزرار في تابلوه الزورق فبدأت سرعته تقل شيئًا فشيئًا، ثم بدأ يغوص في الماء، وكان عداد الغوص يسجل المسافة التي غاص إليها الزورق.
فجأة اهتز بشدة، ثم بدا أنه سيلف حول نفسه، فقال «أحمد» بسرعة، وهو يضغط نفس الأزرار: يبدو أن هناك دوامات شديدة في هذا العمق، يجب أن ننزل إلى القاع تمامًا.
أخذ الزورق ينزل شيئًا فشيئًا، حتى استقر في النهاية على أرض المحيط، فأوقف «باسم» الموتور، ثم جلس هادئًا صامتًا. لم يكن أحد ينطق بشيء، فلقد تعرض الزورق لدوامة عنيفة عند نزوله أوشكت أن تحطمه، غير أن الموقف لم يستمر طويلًا. ففي الأعماق تكون الدوامات أقل أو منعدمة، لقربها من الأرض. فأدار «باسم» الموتور ثم انطلق بالزورق الذي ارتفع قليلًا، ثم تقدم.
كانت أضواء الزورق تكشف المساحة التي ينطلق فيها، بينما الرادار يكشف المسافات البعيدة، ولم يكن يسجل شيئًا. وكانت الأسماك تمر بجوار جسم الزورق بألوانها المختلفة، غير أن واحدة منها، لم تكن من الحجم الذي يعوق سير الزورق.
استسلم «أحمد» و«مصباح» للنوم، وكان إيقاع الموتور يساعدهما على ذلك.
قال «بو عمير»: لقد تأخرت رسالة خالد!
أجاب «باسم»: لا بد أن هناك شيئًا ما …
فجأة … ظهرت الدهشة على وجهه، عندما وقعت عيناه على شاشة الرادار؛ لقد كانت هناك مساحة سوداء كبيرة على الشاشة، لفتت نظر «بو عمير» إليها، فظل يحدق في الشاشة، بينما أبطأ «باسم» من سرعة الزورق.
كانوا يقتربون من تلك المساحة السوداء … حتى غطت الشاشة كلها، وأصبح واضحًا أن الزورق قد يصطدم بها. أوقف «باسم» الزورق ثم أضاء الكشافات العالية في مقدمته، فغمر الضوء المساحة الأمامية كلها، حتى بدت تفاصيل تلك الكتلة السوداء الضخمة. ظل «بو عمير» يحدق فيها، حتى قال: يبدو أنها إحدى الناقلات الغارقة! ثم تساءل: هل ننقذها؟
فكر «باسم» لحظة، ثم قال: لا أظن أننا سوف نتوقف هنا. إن رحلتنا طويلة، ويجب أن نستمر … وانحرف يمينًا، ثم انطلق يدور حول الناقلة الغارقة، حتى خرج من محيطها.
غير أن «بو عمير» قال: أعتقد أننا يجب أن نترك إشارة ما؛ فقد نحتاجها …
نظر له «باسم»، ثم أطلق سمكة صغيرة، تحمل جهاز استقبال دقيقًا، وظل يلاحظها على شاشة الرادار، حتى التصقت بجسم الناقلة، ثم انطلق بالزورق. وأراد أن يختبر السمكة التي أطلقها، فأرسل رسالة ضوئية إليها، لم تمضِ لحظة، حتى ارتدت الإشارة الضوئية، في شكل موجة، ظهرت على شاشة الرادار، هز «باسم» رأسه، ولم يتكلم.
استمر الزورق في انطلاقه … حتى إذا انتهت الساعات الأربع الأولى، قال «بو عمير»: هل أوقظهما؟ …
قال «باسم»: نعم. إنني أشعر بحاجة إلى النوم.
أسرع «بو عمير» إليهما فأيقظ «أحمد» أولًا، الذي قام من نومه مباشرة. ولم يكد يقف، حتى ألقى «بو عمير» نفسه مكانه، وهو يقول: أيقظ «مصباح»، وأرسل «باسم» مكانه …
أيقظ «أحمد» مصباح، الذي قام بسرعة هو الآخر، وتقدما حتى «باسم» الذي تسلم منه «أحمد» عجلة القيادة، فأخذ طريقه للنوم مباشرة.
قال «بو عمير»: ما رأيك في كوب من الشاي … هز «أحمد» رأسه مبتسمًا، فانصرف «بو عمير» لإعداد الشاي الذي كان ساخنًا في «ترمس» متوسط الحجم، غير أن «أحمد» لم يشرب الشاي، فقد اهتز الزورق بشدة، بينما كان «بو عمير» يحمل الكوبين، حتى إنه لم يستطع أن يحتفظ بتوازنه، فوقع منه الكوبان.
كان الاهتزاز عنيفًا، تبعه ما يشبه السحابة المحملة بالغبار، فأوقف «أحمد» الزورق … وانتظر. وظلت السحابة تنتشر، حتى غطت الزورق.
أضاء «أحمد» الكشافات العالية، فظهرت من بعيد فقاعات مائية كثيرة، ثم ظهرت أسماك كثيرة ميتة. فقال «أحمد» بصوت هادئ: يبدو أنها إحدى قذائف الأعماق … لا بد أن هناك شيئًا!
زاد «أحمد» من سرعة الزورق، ثم انطلق، ولم يمر وقت طويل، حتى سجل الرادار جسمًا متحركًا، يأخذ طريقه إلى الزورق، فقال «مصباح»: يبدو أنها قاذفة جديدة! …
ظلت الإشارة ثابتة فوق شاشة الرادار، لا تتقدم، فأوقف «أحمد» الزورق، ثم قال: إنها قذيفة موجهة، وسوف تتحرك في اتجاهنا في الوقت المناسب …
ترك عجلة القيادة ﻟ «مصباح»، ثم اقترب من جهاز إطلاق القذائف، وحدد المسافة التي يقع عندها الهدف، ثم ضغط زرًّا، فانطلقت قذيفة، كان الرادار يرصدها.
ظل «أحمد» يتتبعها على الشاشة، ثم فجأة، ملأت الرادار سحابة، غطت شاشته وكان واضحًا أنه أصاب الهدف.
رفع «مصباح» إصبعيه علامة الانتصار، إلا أن «أحمد» قال: ليست هذه هي المشكلة. لا بد أن هناك من يرصد تحركاتنا …
قال «مصباح»: لكننا ما زلنا بعيدين عن القاعدة البحرية العائمة!
أحمد: من يدري، قد تكون هناك نقطة حراسة مائية، بعضها في الأعماق، وبعضها على السطح. عمومًا ينبغي أن نكون حذرين …
بدأ الزورق يتحرك، وكانت كمية كبيرة من السمك تبدو معلقة في الماء، وكانت كلها ميتة نتيجة الانفجار. ازدادت سرعة الزورق، حتى بلغت أقصى سرعة فيه، وكان يشق الماء في قوة.
ظل «أحمد» يرقب الشاشة التي لم تكن ترصد شيئًا الآن، وقال «باسم»: إذا كانت هناك نقطة حراسة في الأعماق، فلا بد أن بها أجهزة ضد الرادار، وإلا فإنها سوف تظهر فوق شاشته!
فجأة، ظهرت بقعة سوداء صغيرة ثابتة، فقال «أحمد»: ها هي تظهر الآن، سوف ندخل في حالة صراع في الأعماق …
لم يرد «مصباح» فقد كان عليه أن يركز انتباهه مع اندفاع الزورق. وظلت المسافة تقترب، والبقعة السوداء تبدو أكثر وضوحًا، وفجأة … انطلق منها شيء، أخذ اتجاهه إلى الزورق، وفي لمح البصر، كان «أحمد» قد أخذ مكان «مصباح» وضغط عدة أزرار، جعلت الزورق يرتفع بسرعة. فلقد كان الشيء المنطلق عبارة عن صاروخ مائي. ارتج الزورق بشدة، فعرف «أحمد» أنه قد مر أسفله.
ظهر «باسم» وخلفه «بو عمير». سأل «باسم»: ماذا حدث؟ …
أخبره «أحمد» بما حدث، بينما كان الزورق مندفعًا بكل قوته. فقال «بو عمير»: يبدو أننا دخلنا منطقة الصراع …
ضغط «أحمد» أزرار الطفو، فظل الزورق يطفو، حتى أصبح فوق السطح، وكان ضوء الفجر يتسلل إلى الوجود، بينما كان سطح المحيط هادئًا، وكانت هذه فرصة للانطلاق.
نظر «مصباح» إلى العدادات الكثيرة في تابلوه الزورق ثم قال: إننا نقترب من المحطة …
فجأة، ظهر في الأفق زورق يشق سطح الماء، في قوة. أسرع «بو عمير» فرفع المنظار المكبر، وأخذ يرقبه، ثم قال، ولا تزال عيناه على الزورق المضاد: إنه يندفع في اتجاهنا. ينبغي أن نستعد …
لمعت لمبة صفراء في تابلوه الزورق، فعرف الشياطين أن هناك محادثة من مكان قريب، فرفع «مصباح» الميكروفون الصغير المثبت في التابلوه ثم بدأ الحديث:
من أنتم؟
باسم: نحن مجموعة من الأصدقاء!
الصوت: لماذا أنتم هنا؟
باسم: نحن في رحلة بحرية!
الصوت: ولماذا اخترتم هذه المنطقة بالذات؟!
باسم: إن المحيط متسع لأي إنسان!
الصوت: ينبغي أن تنسحبوا فورًا …
باسم: لماذا؟!
الصوت: إنها منطقة خطرة …
باسم: نحن نعلم ذلك!
قال الصوت الآخر، بما يشبه الصراخ: إنني آمركم أن تنسحبوا فورًا … وإلا …
كان الزورق المضاد يقترب، فقد كانت سرعة الزورقين مرتفعة. فجأة؛ توقف الزورق الذي أصبح واضحًا الآن جيدًا، وخفض «أحمد» من سرعة زورق الشياطين، حتى توقف هو الآخر، وترك عجلة القيادة «لمصباح» ثم أمسك بالميكروفون، يتحدث إلى الزورق.
أحمد: ما الذي تريدونه؟
أجاب الرجل: إنني أطلب منكم الانسحاب من هذه المنطقة، حتى لا تحدث أشياء أنتم لا تعرفونها …
أحمد: يا سيدي، إن هذه المياه ليست ملكًا لأحد! كيف تطلب منا أن ننسحب؟
صرخ الرجل: سوف أعطيكم مهلة خمس دقائق، وبعدها ستكونون طعامًا لأسماك المحيط …
لم ينطق «أحمد»: لكنه ترك الميكروفون ثم ضغط أزرار الغوص، بدأ الزورق ينزل إلى أعماق المحيط، في نفس الوقت الذي سجلت شاشة الرادار صورة صاروخ مائي يأخذ طريقه إليهم.
انحرف «مصباح» بالزورق بعيدًا عن مسار الصاروخ. وفي نفس اللحظة كانت شاشة الرادار توضح مكان الزورق والمسافة بينه وبين زورق الشياطين، فضغط «أحمد» زر الإطلاق، فاندفع صاروخ مزدوج من جوانب الزورق في اتجاه الزورق الآخر.
كانت أعين الشياطين فوق الشاشة ترى ماذا سوف يحدث، عندما قال «أحمد»: إننا فعلًا قد دخلنا منطقة الصراع!