توطئة: كيف تُشفَى من حمَّى إنقاذ العالم؟
«بأي معنى نقول عن شيء ما إنه أكبر أو أصغر من شيء
آخر؟»
هذا سؤال شغل الفلاسفة منذ أفلاطون، الذي تعرض لهذا
الأمر في محاورة الفيدون (١٠٢ب)، مقرِّرًا أن الصغر والكبر
أمران عرَضيان لا يحدِّدان «ماهية» شيء ما. ويقول: «إن
سيمياس يفوق سقراط» ليس لأنه بالطبع هو سيمياس بل بسبب
«الكبر» الذي لديه «صدفةً»، وأنه يفوق (ὑπερέχειν) سقراط
بالتحديد، فهذا ليس لأن سقراط هو سقراط بل بسبب «الصغر»
الذي فيه «صدفة». لا أحد يمكن أن يشعر أو يُقال عنه إنه
«صغير» إلا داخل أفق إمكان محدد، قد يكون «جسمًا» أو
«ثقافةً» أو قصةً أو دينًا … إلخ. لا أحد صغير إلا داخل
قصته. و«الأشياء الصغيرة» هي تلك التي جعلناها «صغيرة»
داخل قصتنا. ومع أن الصغر ليس «لا-شيئًا»، فهو بلا
ماهية، قد يمكن لأحد أن يحتج بها «ضدها»، فالأضداد، كما
نبه أفلاطون في نفس الموضع المشار إليه (١٠٣ج)، لا يمكن
أن تكون ضد نفسها. إن صفة «الصغر» لا تنقص من «ماهية»
شيء أو شخص، كما أن «الكبر» لا يزيد في «ماهيته» شيئًا.
ليس هناك علاقة بين حجم شيء ما وصغره.
ومع ذلك، فإن «الصغر» قد عانى دومًا من «عبادة
الكبير». ومن المفيد جدًّا أن نفكر في «الصغر» بوصفه
مُشكِلًا جديرًا بالتفكير.
١ إن الفلاسفة
قد خلطوا دائمًا بين
«الصغير» و«قليل الشأن»، مثلما انتصروا دومًا لما يقوله
العقل ضد ما تحكيه الحواس، بحيث إن «الكبير» أو «العظيم
الشأن» هو «المعقول»، أما «الصغير» أو «القليل الشأن»
فيبدو مرادفًا لما هو «محسوس». لكن «الأشياء الصغيرة»
ليست قليلة الشأن دائمًا. كما أن المحسوسات ليست مخالفة
للمعقول بالضرورة. إن مساحة المعنى أو المفهوم لا تعترف
بهذه الحدود «المفروضة». ولكن ما هو منبع هذا الولع بما
هو «كبير» أو «عظيم الشأن»؟
يبدو أن منبع
هذه النزعة القديمة هو «حمَّى الحقيقة». وعلينا أن
نسأل: لماذا شعر الفلاسفة (والأنبياء) أن أعظم ما يمكن
لبشر أن يتعلق به هو «الحقيقة»
(vérité)، وليس «الوهم»
مثلًا؟ أجاب هَيدغر عن هذا النوع من التساؤل بفكرة
«معنى الكينونة»: افترض أن ما يحرك البشر
(الفانين/الكائنين — نحو الموت بالطبع) هو التعلق بشيء
يظل «حاضرًا» عند نفسه بلا رجعة، بحيث صار التماهي
مطلقًا بين «الكينونة» و«الحضور»، ومن ثم صارت
«الحقيقة» لا تعني سوى استمرار الكائن الحاضر في «عدم
الاحتجاب». إن «الشعور بالتناهي» أو بالفناء أو
بالكينونة — نحو الموت — هو الذي يفسر تعلق البشر
بالحقيقة، وهو ما تسرب إلى أسئلة الفلاسفة وبرامجهم
بوصفهم «بشرًا» مدربين على الموت. لكن نيتشه يمكن أن
يساعدهم أفضل من هَيدغر: إن حمَّى الحقيقة مُشكِل
«أخلاقي» سحيق القدم، ولم يصبح «ميتافيزيقا» إلا في وقت
لاحق. إن مقولات «الكينونة» و«الوجود» و«الماهية»
و«الذات» و«العقل» و«الله» و«النفس» … إلخ، هي أحداث
مفهومية متأخرة جدًّا في تاريخ المُشكِل الذي يشغلنا.
ويبدو أن أفلاطون قد كان أول من دشَّن الطريق نحو
«الأشياء الكبيرة» وسماها باسم «المُثُل» أو «الأشكال»
التي تتمتع بصفات «الوجود»
(ousia) و«الكمال»
و«الحقيقة» (réalité)
و«الأبدية».
إن هذا الكتاب مجرد تمارين من أجل استكشاف مساحات
السؤال عن «الأشياء الصغيرة» التي قد «يتعرض» لها
الفيلسوف التقليدي لكنه لا «يفكر» فيها بوصفها «ماهية»
نفسها.
قال نيتشه في سيرته
هذا هو
الإنسان، وهو يجيب عن تساؤله الطريف «لماذا
أنا بهذا القدر من الفطنة؟» (الفقرة ١٠ من كتاب هذا هو
الإنسان): «سوف يسألني الناس، لماذا تحدثت عن كل هذا
الأشياء الصغيرة، وبحسب الحكم التقليدي: الأشياء التي
لا يكترث لها أحد. أنا بذلك أسيء إلى نفسي لا سيما
وأنني منذور كي أضطلع بالمهمات الكبرى. الجواب: هذه
الأشياء الصغيرة — الغذاء، المكان، المناخ، الراحة، كل
حِيَل حب الذات — إنما هي أكثر أهمية من كل المفاهيم
(
Begriffe) التي
اعتبرها الناس هامة إلى حد الآن. هنا تحديدًا على المرء
أن يبدأ في
التعلم من
جديد.»
٢
علينا أن نستحضر هنا أن ما يُسمى «فلسفة» قد ظل دومًا
مقترنًا بالأشياء الكبيرة، حتى تم تنصيب مجموعة من
«المفاهيم» على أنها هي بنية العقل البشري بما هو كذلك.
منذ بارمنيدس إلى كانط، ظل الفيلسوف يمتهن خطابًا
يفضِّل الابتعاد عن «اللغة العادية» من أجل استحداث
رطانة خاصة يجد فيها راحة العقل: أي متعة الادِّعاء بأن
ما يقوله «يطابق ماهية الأشياء»؛ لأنه يتعالى على
صيرورتها الحمقاء في نوع من الخلود المفهومي. هكذا تم
تسريب «الأبدية» إلى العقل البشري حتى تصبح مهنة
«الحقيقة» ممكنة. لم يكن النظر في طبائع الموجودات
تعريفًا مفضلًا للفلسفة التقليدية إلا لأن هذا النوع من
السلوك قد كان مريحًا لحيوان ناطق يشعر في كل لحظة أنه
كائن فانٍ وأن ما يقوله عن الموجود هو فرصته
الميتافيزيقية الوحيدة كي ينال قسطه من الخلود
المستحيل. كانت الفلسفة حيلة لتأبيد نوع من «الأشياء
الكبيرة» (وهي — حسب نيتشه — أشياء من قبيل «الإله»
و«النفس» و«الفضيلة» و«الخطيئة» و«الآخرة» و«الحقيقة»
و«الحياة الأبدية») بوصفها طريقة ملكية كي يصبح
المستحيل ممكنًا: كان ذلك صكَّ غفران الفلاسفة من جحيم
«التناهي». كانت الفلسفة «مهمة كبرى» في معنى أنه في
مقدورها أن تخرج لصيد الموجود. ولهذا تم اختراع مهنة
«المفاهيم»؛ وهي مهنة ليست مشرِّفة إلى حد هذا الحد،
إذْ هي كانت حيلة اليائس من خلوده. وليست ترفًا
أخلاقيًّا سعيدًا. وبتعبير نيتشه لم تكن هذه المفاهيم
«وقائع، بل مجرد تخيلات، ومتى تكلمنا بشكل صارم،
أكاذيب صادرة عن
غرائز سيئة لطبائع مريضة، وبالمعنى الأكثر عمقًا طبائع
مضرة» (نفسه).
ثمة تغيير في براديغم التفلسف لم يصل إلى وجهته إلا
نادرًا: إنه الانزياح من مهنة «المفاهيم» التي سنَّها
اليونان إلى وظيفة جديدة للتفكير هي سردية «الأشياء
الصغيرة». لا يمكن للمتفلسف أن يصدق هذا التحول إلا إذا
أدرك إلى أي حد كان المفهوم خدعة أخيرة لنوع من الإنسان
الذي يتميز بمرض «الخلود». لا يمكن أن نفصل بين هوس
المفاهيم التي تطابق ماهية «الأشياء الكبيرة» وبين مرض
الخلود: هما وجهان لإنسانية واحدة. كان الهدف العميق هو
تأكيد النسب «الإلهي» للحيوان البشري. وهذا يعني أن
الفرق بين الفيلسوف اليوناني وبين النبي التوحيدي لم
يكن بالقدر الحاسم الذي يدَّعيه المؤرخون الذين يخلطون
بين الثأر من الصيرورة وبين البحث عن الحقيقة.
لا يتردد نيتشه في وصف هذا النوع من التفكير الذي
يفضل مهنة تأبيد «الأشياء الكبيرة» — أي مهنة الصيد
الميتافيزيقي — على مرافقة الصيرورة البريئة للعالم،
بأنه لا يفعل سوى «أن يزوِّر
(gefälscht) مسائل
السياسة ونظام المجتمع والتربية في أساسها وتربتها»، أي
أن يزوِّر حياته، ومن هذا التزوير يأتي أخطر موقف
أخلاقي للعصور القديمة والحديثة، ألا وهو «أن يتعلم
الناس احتقار
(verachten) الأشياء
«الصغيرة»، أي الشئون الأساسية للحياة». وعلينا أن
نسأل: لماذا أصر الفيلسوف التقليدي على اعتبار «الأشياء
الكبيرة» هي المقياس لتقدير ما هو «سياسي» أو «اجتماعي»
أو «تربوي»؟ لماذا أقام تفكيره على الربط بين الحياة
والحقيقة؟ ما الذي جعل الحقيقة تأخذ كل هذا الحيز في
تقدير الناس لأنفسهم أو لعلاقتهم ببعضهم البعض؟
كل أخلاق تنبع من افتراض كونها ستساعدنا على تحمل عبء
أكبر من وجودنا نفسه: من «قَدَر» يفرض حَمِيَّة
ميتافيزيقية خاصة. وهذا ما تفطن له «الحكماء» في كل
عصر: أن البشر يعانون غالبًا من غرائز أقوى من إرادتهم،
وبالتالي يحتاجون إلى المساعدة. لكن المساعدة التي
تتعالى على حواس الناس سوف تحولهم سريعًا إلى ضيوف داخل
أجسادهم. ومن ثم سوف تقترح عليهم أن يكرهوا أنفسهم التي
وجدوها فيهم. وراء كل أخلاق «كوجيطو» كراهيةٍ جاهزٌ
للاشتغال.
إن الحل هنا هو — حسب نيتشه — أن «نحب قَدَرنا»، ومن
ثم لن يكون لأي حَمِيَّة ميتافيزيقية أن تعمل.
أن نفكر في الأشياء الصغيرة لم يعد يعني إذن أن نبحث
عن «ماهيتها»، بل فقط أن نرافقها داخل قصتها. فأن
«تجوع» مثلًا أو «تتألم» فهذا حدث وليس ماهية، الجوع
ليس مقولة حجاجية، مثلما أن الألم ليس مفهومًا. فمن
يجوع لا يقول شيئًا عن الحقيقة أو عن الأشياء الكبيرة
للعقل. ولذلك غالبًا ما كانت الأشياء الصغيرة خارج
الاعتبار، كان الميتافيزيقي المحترف يعاملها وكأنها
تقبع خارج ماهية الأشياء الكبيرة التي يفكر فيها؛ كانت
خارج الله وخارج النفس وخارج العالم وخارج العقل … هذا
«الخارج» كان يقبع منتظرًا بلا مفهوم أو بلا ماهية. لكن
من يريد أن يستدعي الأشياء الصغيرة إلى قول كلمتها لا
يعني بذلك أنه يسدد دَينًا قديمًا أهملته الميتافيزيقا.
هو فقط يغير الطريق إلى المُشكِل. هو يريد أن يرافق هذه
المشاكل من دون أي ادِّعاء حول ماهيتها.
ولكن لم يرغب أحدهم في بناء مرافقة فلسفية لمشاكل
«صغيرة» مثل جوعه مثلًا أو تغذيته أو ألمه. يبدو أن
السبب الأعمق، والوحيد ربما، هو ذلك الشعور بخيبة أملٍ
من كل الفلاسفة تقريبًا إلى حدود كانط وأبعد. هذا الرهط
من الشخوص الاصطناعية التي تخاطبنا من خارج أجسادها
وكأنها مفاهيم مجنَّحة. كيف نفهم متكلمًا بلا جسم؟
متكلم لا يجوع ولا يعرَى ولا يتألم. ومع ذلك يصر على
أنه «حقيقي» أو يمتلك مدخلًا مفضلًا إلى الحقيقة. ربما
لم تخل الفلسفة التقليدية من «قلة لياقة» تجاه أجسادنا
سواء كانت متألمة أو جائعة. وفي أغلب كراسي الفلسفة في
كل مكان لا يزال الجو كئيبًا؛ أي بلا جسد، ولا يَزيده
الغمام الديني المتساقط من لحظات الوهن القديم الذي صار
يخيم على دروسها إلا روحًا ثقيلة قلَّما تنجو من
صفاقتها. ما ينقص حقًّا هو دفاع الأجساد عن نفسها ضد كل
ادِّعاء بأن التفكير مهنة مجردة. ولا تحتاج إلى تجربة
عميقة في الفقر أو إلى رجفة من الألم. ولا أظن أن نيتشه
كان محقًّا حين عرَّف غريزة الدفاع عن النفس بأنها هي
«الذوق» الذي يبدو في أحيان كثيرة نوعًا من التملُّق.
إن ما ينقص الناس هو فقط «أجسادهم». ومن النادر حقًّا
أن تصادف شخصًا يحمل جسده معه حين يفكر. إن الفلسفة هي
خدعة الخطاب القصوى، تلك التي تنجح بشكل فظيع في إقناع
المتكلم بأنه حيوان لغوي بلا رجعة، أنه مركَّب متأنق من
الجمل والألفاظ المنزلقة في حدور، وأن ما عدا ذلك هو
فضول. نحن لا نفعل — أغلب الأحيان — سوى تركيب الجمل
كأننا دُعينا إلى مكالمة مع كوكب آخر، حيث لا فائدة من
أجسادنا.
أن تفكر هو أن «تكون» من أنت وليس شخصًا آخر. إن
البداهة الشرسة هنا هي أنه لا أحد يمكنه أن يكون بدلًا
عنك. كأنك تمثل في فيلم عنك ولم يجدوا بديلًا عنك إلا
جسمك. وأنت مطالَب بأن تؤدي دور حياتك من خارجها كأنك
شخص آخر. هذا هو معنى أن تفكر. أنت البديل الوحيد عنك،
ولا مفرَّ من تأدية هذا الدور المستحيل. أن تكون مَن
أنت وهم ينتظرون منك أن تجسد شخصًا نجح في الانفصال
عنك. نعني: نجح في الاستغناء عن جسده. وهذا هو «الخطاب»
الذي يمنح شرعيةً مرعبةً لمن يتكلم وكأنه يعيد توزيع
أشياء الكون من حولك. ومن الحماقة ألا نرى كيف أن
الآلهة تسكن اللغة قبل أن نتكلم. ليس هناك كينونة في
اللغة، بل فقط أشباح تنتظرنا حتى نتكلم فتقبض على
عقولنا وتحولنا إلى حيوانات نحوية. قال نيتشه: «أنْ
يصير المرء ما هو، يفترض أن المرء لا يخمن من بعيد ماذا
(
was) يكون.»
٣ يعني ذلك ما يلي: أن يصير أحدهم ما هو عليه
من الوجود الذي يخصه إنما هو أمر يفترض قبلُ أنه لا
يملك أدنى فكرة عما يمكنه أن يكون. إن وجوده هدية لم
يحصل عليها بعدُ؛ لأنه لم يأخذ طريقه إلى نفسه
بعدُ.
كان الفلاسفة يعتقدون دومًا أن «الماهية تسبق الوجود»
ومن ثم أن المطلوب ليس أن تصير ما أنت بل فقط أن تقبل
بما أنت، وتمر. فما دامت ماهيتك جاهزة فأنت مُعفًى من
أي معركة مع نفسك أو جسمك من أجلها. ما عليك سوى أن تقر
بالتنصيب الميتافيزيقي الذي ستحظى به مثل أي تنصيب صادر
عن سلطة لا تقبل التفاوض. ولكن ما الفائدة من خوض معركة
مع أنفسنا والحال أنه يمكن الركون إلى ماهية جاهزة
ومريحة لأنفسنا؟
يقول نيتشه: «ومن هذه الزاوية فإنه حتى الأخطاء التي
نقترفها (Fehlgriffe)
في الحياة لها معناها الخاص وقيمتها الخاصة، وكذا الطرق
الجانبية والطرق الضالة لبرهةٍ من الوقت، ومظاهر
التأخر، وأشكال «التواضع»، و«الجدية» التي تُهدَر في
مهامَّ تقع بعيدًا عن المهمة المطلوبة. وإن في هذا
لفطنة كبيرة، بل الفطنة الكبرى. إذا كانت
nosce te ipsum (اعرف
نفسك بنفسك) هي وصفة الانحطاط، فإن نسيان الذات،
سوء فهم الذات، تصغير
الذات، تقليل الذات، حملها على الاعتدال
(Vermittelmäßigen)
إنما يصبح هو عين العقل. [..] على المرء أن يحافظ على
سطح الوعي — إن الوعي ضرب من السطح — صافيًا من أي
أوامر قطعية كبيرة. حذارِ حتى من كل كلمة كبيرة، من كل
موقف كبير! إن مخاطر جمَّة تُحدِق بالغريزة التي «تفهم
نفسها» (sich versteht)
قبل الأوان.»
إن الأشياء الصغيرة تقع إذن في خانة «الخطأ» وليس في
خانة الحقيقة. لكنه خطأ في الحياة وليس في الخطاب. إنه
الخطأ الذي لا يمكن تلافيه؛ لأن وقوعه جزء من شكل
حياتنا ومن ثم لشكل أنفسنا. إن أخطاءك جزء من هويتك،
ومن ثم لا معنى للطمع في تفادي الحياة بما هي كذلك.
الخطأ طريق جانبي نحو أنفسنا، أو طريق تائه، لكن التيه
لا يعني هنا أكثر من بعض «التأخر» عن أجل مفترض، أو هو
بعض «التواضع» أمام آخرين يمارسون حضورًا كثيفًا يجعل
العلاقة معهم «تبذيرًا» غير مبرر لأنفسنا؛ ولذلك لا
يجدر بالمرء أن يحاول «معرفة نفسه» التي عثر عليها في
انتظارات الآخرين. هذه «النفس» التي ينتظرها الآخرون هي
شكل من «الانحطاط» عن مستوى أنفسنا العميقة. ومن هنا
يقترح نيتشه برنامجًا معاكسًا لهاتف سقراط: إن على
المرء أن ينسى نفسه، أن يسيء فهمها، أن يصغِّرها، أن
يقلِّل منها، أن يجعلها جرعة معتدلة من الكينونة. ليس
عليه سوى أن «يحافظ على سطح وعيه»، أن يعامل وعيه بوصفه
قشرة الكينونة التي تحميه من فضول الآخرين الذين يطلبون
الأعماق، يطلبون جواره كي يجذبوه إلى شبكة الماهية؛ حيث
تقبع الأشياء الكبيرة. وعندئذٍ يصبح «العقل» حَمِيَّة
للمحافظة على السطح وليس تأسيسًا لأي وهم ميتافيزيقي
جديد. حماية السطح تعني هنا الحرص على إبقائه نظيفًا من
أي أوامر قطعية كانطية، أي من أي واجب أكبر من حياتنا.
ولذلك يحذرنا نيتشه من «الكلمات الكبيرة» و«المواقف
الكبيرة»: إنها تفرغ الذات من طاقتها على الحياة
وتحولها إلى ادِّعاء أخلاقي غريب عنها. كل ما هو «كبير»
يطمع في شيء أعمق من وعينا. هو يريد أن يخترق سطح
العلاقة معه وينفذ إلى منطقةٍ حيث لا يمكن للذات أن
تدافع عن نفسها، وذلك بتعلَّة نوع متعال من «الفهم». كل
كلمة كبيرة هي تدعي أنها «تفهم» الذات أفضل منها. وهي
تجبرها على فهم نفسها قبل الأوان. نعني قبل أن تقطع كل
المسافة التي تشير إليها عبارة نيتشه: «على المرء أن
يصير ما هو». «أن يصير» هو أن يأخذ وقته في نسيان تلك
«الذات» التي عثر عليها في فضول الآخرين.
إن فلسفة الأشياء الصغيرة هي تلك التي تخلت عن الرغبة
الرديئة في إجبار الأشياء على الأبدية أو على الكونية
أو على الحقيقة. هي فقط تدع الأشياء تكون. قال نيتشه:
«أنا لا أريد أبدًا أن يصير أي شيء على نحو مغاير لما
هو عليه، أنا نفسي لا أريد أن أصبح شيئًا آخر». تحتاج
الأشياء إلى مرافقة وليس إلى تأسيس يخلط بين السلطة
والحقيقة. إن «نعم» عميقة هي التي تحرك التفكير الذي
شُفي من دعوى إنقاذ العالم من نفسه.