الفصل الأول
فلسفة الأشياء الصغيرة
(١) الفلسفة في قرص مضغوط
تُقال «الفلسفة» (هذا النوع من «الحب» الذي لا
موضوع له) على معانٍ عدة؛ ولذلك نحن لا نسأل عنها
بنفس الطريقة في عصريْن أو مجتمعيْن مختلفين. كل
سؤال عنها هو يصدر عن توقيع لا مرئي يوجه أي علاقة
معها. إلا أنه قد يجدر بنا أن نميز بين نوعين على
الأقل من التساؤل عن معنى هذا الجنس من الخطاب الذي
ارتبط اسمه بتهديد مؤسسة الحقيقة في كل ثقافة:
أحدهما داخلي، يطرحه الفلاسفة أنفسهم، يفترض أن
أفضل إدراك لمعنى الفلسفة هو تعريفها وفق صيغة
السؤال «ما هو؟» كذا تساءل هَيدغر ودولوز وأغمبن،
من المعاصرين. وقالوا «ما هي الفلسفة؟» كأنه لا
معنى لأي تساؤل عن «الحاجة إليها اليوم» إلا «بعد»
إدراك مفهوم حقيقي عن «ماهيتها». أما النوع «الآخر»
من التساؤل عن «الشيء» المسمى «فلسفة» فهو ينتمي
إلى منطقة خارجية، حدودية، معها؛ ولذلك هو استفهام
يتحاشى السؤال «ما هو؟» ويفضل أن يتساءل عن
«جدواها» ولا سيما «في هذا العصر». وذلك يفترض أن
فهم «الحاجة إليها اليوم» هو أهم وأخطر من إدراك
ماهيتها. وعلى هذا النحو تساءل ماركس وأدورنو
وهابرماس مثلًا، بوصفهم متفلسفة يقفون على مسافة
نقدية وسوسيولوجية من ورشة التفلسف التقليدي؛ لأنه
صار يقع خارج مدار المجتمعات التي باتت تطرح أسئلة
أخرى من جنس تاريخها الجديد.
لكن فلاسفة آخرين قد أخذوا سبلًا أقل فضولًا في
احتمال هذا الإحراج الاستثنائي: فهم بقدر ما تخلوا
عن أسئلة «الماهية» والشوق إلى إعادة «تأسيس»
المسائل القصوى للفيلسوف (مثل الوجود والعالم
والنفس والإله … إلخ) هم أيضًا يستنكفون من أي
تعامل «اقتصادي» يحاسب الفيلسوف بوصفه «خبيرًا».
هكذا عمل فوكو ودريدا ورورتي وسلوتردياك، مثلًا،
على تغيير موضوع الفلسفة، والتساؤل مثلًا: ماذا
يمكننا أن نفعل بالفلسفة؟ كيف يمكن للفلسفة أن
تساعدنا على بناء عوالم أو تشكيل ذاتيات أو تصور
أجهزة معنى لم يعرفها الإنسان التقليدي، ودون أن
تحتاج لتسمية نفسها بما هي كذلك؟ إن اسم «الفيلسوف»
ليس ضروريًّا، المهم هو الحالة الفلسفية التي تنبثق
في مجتمع أو جيل ما.
من أجل ذلك فإن سؤال «لماذا الفلسفة؟» يشبه أن
يكون توقيعًا إنكاريًّا على توجسٍ ما من هذا النوع
من فن التفكير. فهو يصدر عن منطقة خارجية أو
حدودية، تفترض إمكانية الاستغناء عن الدخول في
علاقة معها؛ ولذلك هي تبدو «لماذا؟» بلا سبب واضح.
وكلُّ لماذا بلا سبب مرئي هي موقف لا يعادي الفلسفة
بالضرورة، بل يستعمل حقه في الإشارة إلى كل مساحة
الإشكال التي تثيرها الفلسفة في أفق الفهم السائد
لدى شعب ما، ولأنه لا يوجد خوف أو قلق بلا توقيع،
فإن التساؤل الإنكاري عن الفلسفة في جملتها هو
أيضًا السياق المناسب والمخصوص؛ حيث تُطرح الأسئلة
الإشكالية عن «الحاجة إليها» ليس فقط عمومًا، بل
«اليوم» تحديدًا. «اليوم» هو توقيع حادٌّ ولا يقبل
أي تفاوض أسلوبي معه قد يقلص من هيبته الأخلاقية.
معنى «اليوم» هو إذن أفق السؤال عن الفلسفة بواسطة
صيغة «لماذا؟» الإنكارية، وهي الصيغة الوحيدة
القادرة على تعويض صيغة السؤال «ما هو؟» وفجأة نرى
كل مساحة الانتقال من «ما هي الفلسفة؟» إلى «ما
الحاجة اليوم إليها؟»
إن عبارة «اليوم» هي التوقيع الذي يمتص كل خطورة
السؤال عن الفلسفة بوصفها يمكن أن تكون «حاجة»
عاجلة لم نفكر بها من قبل. ومن يملك مفهومًا
مناسبًا عن «اليوم» هو يملك سلفًا مقامًا مفيدًا
لمواجهة كل «لماذا» مهما كانت عصية على الفهم. ولكن
ما معنى «اليوم» المقصود هنا؟
لنقل دون مواربة: إن «اليوم» المشار إليه ها هنا
ليس شيئًا آخر سوى «عصر التقنية». وكل وصف آخر هو
ترجمة لما يحدث فقط دون أن يستقل بتعريف خاص لنفسه.
منذ هَيدغر صار علينا أن نعرِّف «اليوم» بالموقف
الأقصى من الكينونة في العالم الذي نعاصره من
الداخل. إنه موقف «عصر التقنية» الذي أطلق عليه
هَيدغر اسم «القشتال»
(Gestell): موقف
يجمع ماهية الكائن في قابليته لأن يتحول إلى كينونة
معللة ومحسوبة ومصوغة ومخزنة ومستودَعة ومُعَدة تحت
تصرف إرادة تقع خارجها. أن نكون اليوم هو أن نشعر
أن الكينونة في العالم قد صارت تتشبه في ماهيتها
بمحطة نفطية أو توليد كهرباء أو حاسوب أو برنامج
إنترنت أو هاتفٍ خلوي أو فضاءٍ افتراضي … إلخ. كل
هذه الأنماط من كينونة الكائن تستمد حقيقتها من
تأويل واحد لمعنى الكائن: إنه «القشتال»؛ نعني
معاملة الطبيعة وكأنها مخزون محاصر بالعلل، تقوم
التقنية باستفزازه وتحسيبه حتى يطلق كل الطاقة التي
يحتوي عليها حسب إرادة لا تملك برنامجًا أخلاقيًّا
لنفسها سوى تلك الطاقة.
إن التقنية هي شكل «اليوم» ما بعد الميتافيزيقي
الذي دخلته الإنسانية دون امتلاك أي مخرج منه أو أي
قدرة على إيقافه. التقنية هي نمطٌ كَشَفَ عن حقيقة
الكائن بوصفه كينونة مجمَّعة ومجهزة تحت تصرف إرادة
اقتدار تكمِّم كل شيء وتستهلكه دون أي حاجة للسؤال
عن معنى كينونته. لقد فقد الإنسان كل علاقة «قرب»
أو «قرابة» مع كينونة التقنية التي صارت تهيكل أفق
وجوده. وهكذا ينبهنا هَيدغر إلى أن إرادة التقنية
قد أفلتت من الإنسان، فهو واقع في لعبتها المرعبة
ولا يدري إلى أي جهة هي تنزلق به مسرعة.
في هذا السياق المخصوص علينا أن نعيد صياغة
السؤال الذي انطلقنا منه، وعلينا أن نقول عندئذ:
«لماذا الفلسفة في عصر التقنية؟» ما الحاجة اليوم
إليها؟ في يوم أصبح فيه الإنسان — الذي ظن يومًا
ما، حسب عبارة ديكارت، أنه بالتقنية سوف يصبح
بمثابة سيد ومالك للطبيعة — هو نفسه أسير «القشتال»
المرعب الذي امتص كل تأويل ممكن لمستقبل الطبيعة
البشرية بما هي كذلك.
قبل الدخول في عصر التقنية كانت الفلسفة تقدم
دروسها النموذجية في راحة ميتافيزيقية مثيرة. كان
درس سقراط: «اعرف نفسك بنفسك» سببًا كافيًا لمحبة
الحكمة والانخراط فيها بحثًا عن السعادة القصوى؛
إذْ كان الإنسان يشعر بأنه الخانة الفارغة التي يجب
ملؤها بالسؤال عن نفسه. ذلك أن سرديات «الوجود»
و«العالم» و«الآلهة» قد استولت على كل مساحة
الحقيقة، ولم تترك للحيوان «المائت» من مهمة سوى أن
يشغل نفسه بالسؤال عنها. وهو لا يملك من سبيل إلى
إنجاز مهمته سوى أن يتشبه بالآلهة بقدر طاقة
الإنسان، حسب عبارة أفلاطون. وكان الافتراض هو أن
معرفة أنفسنا سوف تقودنا من الداخل إلى معرفة
الوجود نفسه ومعرفة العالم أو الإله … إلخ.
لكن دخول الإنسانية في عصر التقنية بشكل جارف
ومعمَّم سرعان ما غير طبيعة الحاجة إلى الفلسفة،
وبالتالي من طريقة التفلسف نفسها.
إن الحدث ما بعد الميتافيزيقي الذي شكل ملامح
«اليوم» الذي نعاصره هو أن عصر التقنية قد جرَّد
الفلسفة التقليدية من صلاحيتها ولكن أيضًا من
خطورتها القديمة، بل هو قد ألغى الشخصية التقليدية
للفيلسوف ومع هذا الإلغاء هو قد سحب أيضًا كل التهم
المتوارثة ضده. ومن ثم فإن شطرًا واسعًا من الضغينة
على الفلاسفة ومن التجديف على اسم الفلسفة هو قد
تقادم بشكل مضحك. إن كراهية الفلسفة هي اليوم بلا
موضوع. كل التهم التي توجه إلى الفلسفة هي اليوم
اتهامات فقدت صلاحيتها؛ لأن الشخصية المتهمة قد
انسحبت من الركح. إن الفلسفة التي يمكن اتهامها
بإفساد الشباب أو التجديف على الآلهة أو نشر
الإلحاد … إلخ، لم تعد موجودة إلا في سرديات حزينة
لغير الناطقين بها. ولذلك فإن كل الاتهامات ضد
الفلسفة هي اليوم مجرد رواسب هووية لجيل سابق، جيل
ينتمي في مصادر نفسه إلى ما قبل عصر التقنية؛ حيث
لا يزال ممكنًا اتهام الفلسفة بتهديد عالم الإنسان
القديم، والحال أن هذا العالم قد بات أفقَ معنًى
بلا شرعية ذاتية، وتحوَّل إلى متسول ميتافيزيقي
للسرديات الحزينة.
ذلك أن التفلسف في عصر التقنية هو سلوكٌ ما بعد
ميتافيزيقي (لم يعد يؤسس شيئًا ولم يعد يدحض أحدًا)
صار يقع ما وراء كل التهم التقليدية ضد الفيلسوف.
وإن الموضوع الوحيد المناسب لهذا النوع من التفلسف
ما بعد التقليدي هو السؤال عن «المستقبل». وحده
المستقبل يمكن أن يبرر الحاجة إلى الفلسفة؛ لأن
الفلسفة هي فن التفكير في المستحيل بوصفه مطلبًا
عاجلًا لسكان المستقبل. لم يعد الفلاسفة معنيين
بأسئلة «الأصل» و«العلة الأولى» و«ماهية» الموجود …
إلخ، بقدر ما صاروا مدعوِّين إلى تهيئة نوع جديد من
الكينونة في العالم يتصالح مع الكون ولا يتهمه بأي
شكل من الأشكال.
إن عصر التقنية قد أعاد إلى الفلسفة براءتها،
نعني قدرتها الأصلية على الدهشة من تعقُّد الكون
وجلاله العميق. ولأن الدهشة من الكون هي حب بلا
موضوع، فإن الفلسفة هي النوع الوحيد من الحب الذي
نجا من البداهة. ليس أخطر على حب حقيقي من البداهة.
وبهذا الثمن فقط هو حب لا يمكن أن ينخرط في أي تهمة
تقليدية. الفلسفة في عصر التقنية نوع من الحب بلا
موضوع، يشعر بأنه صار عليه أن يوجد «بعد» هويته
التقليدية، وذلك أن «الحكمة» التي تدعوه إلى محبتها
هي لا توجد في أي سردية جاهزة حول نفسه. إنها لا
تعدو أن تكون واقعة الكون نفسها. الفلسفة هي فن
السكن في الكون بوصفه واقعة لا أحد يملك سردية
نهائية عنها. ولم يفعل عصر التقنية غير إعادة
الفلسفة إلى مكانها.
وعلينا أن نشير في النهاية إلى أن ما يقوله الغرب
عن نفسه لم يعد ممرًّا إجباريًّا للتفلسف: إن عصر
التقنية قد اكتسح الجميع وطرد كل السرديات
التقليدية. نحن لا نرى بعدُ ما هي الحقائق التي تم
كنسها وما هي العوالم التي لم تعد صالحة للسكن،
ولكن أيضًا ما هي أنواع الذات التي انهارت وتحولت
إلى عبء هوويٍّ على أطفالنا. إن التقنية ما تزال
تحجب عنا ما وقع لنا، بمجرد أن تقنعنا بأن ما وقع
هو أمر «تقني» فقط ولم يلحق أي ضرر بمصادر أنفسنا.
لكن الفلسفة تنبهنا — بعد أن تتخلص من كل التهم
التقليدية ضدها — إلى أن كل طفل على الأرض دخل في
عصر الديجتال هو اليوم مشروع «فيلسوف» صغير، ولكن
من نوع غير مسبوق: إن الفيلسوف القادم هو مؤرخ
المستقبل، ذلك الذي بإمكانه مساعدة نباتات المستقبل
على ترويض المستحيل بوصفه مطلبًا لم يعد يحتمل
التأجيل. إن الطفل هو مستقبل الفيلسوف.
(٢) كيف تم إفراغ العالم من المعنى؟
في كتابه
أزمة العلوم
الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية١ (١٩٣٦ / ١٩٣٧م) طرح هوسرل
مسألة «العالم»، ليس بوصفها مُشكِلًا جزئيًّا
للفلسفة، بل بوصفها المُشكِل الفلسفي الأعظم في أفق
الحداثة الأوروبية والإنسانية الأوروبية. ويكمن وجه
الطرافة في طرح هوسرل في كونه يسائل العلوم
الأوروبية من حيث إنها فشلت في مساعدة «الإنسانية
الأوروبية» على معرفة العالم الذي تعيش فيه. بل
عوضته بعالم آخر، عالم «موضوعي» ولكن لا يمتلك صلة
حقيقية بالإنسانية أو بالذاتية التي أنتجته.
والسؤال هو: كيف يمكن للفلسفة أن تنجح في إعادة طرح
معرفتنا الحديثة بالعالم في ضوء مساءلة
فينومينولوجية لمعنى العلوم الأوروبية باعتبارها
ظاهرة روحية متميزة جدًّا هي آخر أكبر معرفة
بالعالم؟
لنحدد أولًا معنى أزمة العلوم الأوروبية حسب
هوسرل. إنها أزمة ثقافة بأكملها. وأهم معنى لأزمة
العلوم هو «فقدان دلالتها بالنسبة للحياة» (ص٤٣).
ولكن لننتبه إلى أن الأمر لا يتعلق بالتشكيك في
منجزات العلوم الحديثة. إن «مشروعية إنجازاتها
المنهجية» لا يمكن التشكيك فيها. إذن: يمكن أن ينجح
العلم منهجيًّا لكنه يظل من الناحية الفلسفية موضع
سؤال. ونواة الإشكال للفلسفة حسب هوسرل هي: «لغز
الذاتية» التي جعلت العلم الأوروبي ممكنًا. لا يوجد
العالم إلا بالنسبة إلى ذاتية ما. والحال أن العلوم
الأوروبية تفترض أن موضوعيتها غير ممكنة إلا بالقطع
مع الذات السيكولوجية التي أنتجتها، ومن ثم فإن
العلوم لا تصبح موضوعية إلا بقدر ما تخرج من
اعتبارها كل «الأسئلة المتعلقة بمعنى هذا الوجود
البشري بأكمله» (ص٤٤). والسؤال هو: «هل يمكن في
الحقيقة أن يكون للعالم وللوجود البشري فيه معنى
إذا كانت العلوم لا تعتبر حقيقيًّا إلا ما يقبل
الملاحظة الموضوعية؟» (ص٤٥).
المُشكِل هو أن العلم الوضعي قد أخرج أسئلة
الميتافيزيقا من أُفقه، ومنها السؤال عن «العالم»
الذي نعيش فيه أو عن «الإنسان» الذي نكونه بوصفه
مُشكِلًا ميتافيزيقيًّا، أو الإله الذي قد نؤمن به
أو الحرية التي قد نطالب بها، وبالتالي أسئلة
«المعنى» بعامة. وحسب هوسرل فإن كل هذه الأسئلة
الميتافيزيقية «تتخطى العالم من حيث كلية
(Universum)
الوقائع المحضة» (ص٤٩). السؤال الفلسفي عن العالم
ليس سؤالًا عن الوقائع التي تؤثث فضاء الطبيعة؛ لأن
ما تسأل عنه الميتافيزيقا هو أمرٌ يتجاوز مستوى
الوقائع الموضوعية. العالم ليس موضوعًا، أو واقعة
موضوعية. لقد عوَّلت الإنسانية منذ عصر النهضة
الأوروبية على «العلم» كي يبلغ بها إلى معرفة
العالم معرفة كلية. لكن العلم — حسب هوسرل — قد
«فشل»، وهذا الفشل «غير مفهوم» فلسفيًّا (ص٥٠).
وهكذا فإن تهمة الوضعيين للميتافيزيقا بأنها قد
أخفقت في أن تكون علمًا هي تهمة مخاتِلة؛ لأن
العلوم هي التي فشلت في الإيفاء بما وعدت به
الإنسان الحديث من معرفة كلية بالعالم.
مسألة العالم هي نموذج مثير على الأزمة التي دخلت
فيها العلوم الأوروبية. وكل الفلسفات الحديثة منذ
هيوم وكانط تحاول بناء «فهم ذاتي» للفشل الذي تعاني
منه النظرة العلمية للعالم حين تحصر نفسها في العقل
الوضعي. يتمثل الفشل في هذا: «أصبحت الفلسفة
بالنسبة لذاتها مُشكِلًا، وفي البداية، كما هو
مفهوم، في صورة إمكانية الميتافيزيقا» (ص٥١)؛ لأن
معرفة العالم صارت مستحيلة بسبب العقل الوضعي فإن
الفلسفة قد صارت مُشكِلًا أمام نفسها. لكن مُشكِل
إمكانية الميتافيزيقا ليس مُشكِلًا فرعيًّا، بل هو
يتعلق بمسألة «معنى وإمكانية إشكالية العقل بأسرها»
(ص٥٢).
ما كان انتصارًا فذًّا للفلسفة الحديثة مع ديكارت
صار سؤالًا محرجًا مع العقل الوضعي. كان تدشين
الفلسفة الجديدة مع ديكارت إعلانًا عن «إنسانية
أوروبية» جديدة. وميزتها أنها تريد أن تعيد تشكيل
ذاتها بكل حرية. «أن تتجدد جذريًّا من خلال فلسفتها
الجديدة، ومن خلالها فقط» (ص٥٣). ومن ثم فإن أزمة
الفلسفة الأوروبية ليس مُشكِلًا عاديًّا. إنها
«أزمة تمس البشرية الأوروبية ذاتها في معنى حياتها
الثقافية بأسره، في «وجودها» بأسره» (نفسه).
أما أهم مَفصِل حاسم في هذه الأزمة فهو يتعلق
بالنظرة الفلسفية إلى معنى العالم.
يقول هوسرل: «هذا الريب لا يفتأ عن الاحتجاج بأن
العالم المعيش واقعيًّا، عالم التجربة الفعلية، لا
يوجد فيه شيء من العقل وأفكاره. أصبح العقل ذاته …
العقل الذي يمنح من ذاته للعالم الكائن معنًى، وفي
مقابله العالمُ من حيث إنه كائن انطلاقًا من العقل،
غامضًا أكثر فأكثر، وهكذا إلى أن أصبح أخيرًا
مُشكِلُ العالم … لغزُ كل الألغاز، التيمةَ الحقة»
(ص٥٥).
ما أدى إليه العلم الحديث هو جعل العالم الذي
نعيش فيه، عالم الحياة، هو المُشكِل الأكبر ومن ثم
«التيمة» أو الموضوعة الحقة للفلسفة. فبما أن العلم
قد أزاح عالم الحياة وعوضه بعالم الوقائع المصطنع
في المخابر، فقد حرم الإنسانية الأوروبية من عالمها
المعيش، وحول وجودها الحي إلى مجرد علاقات موضوعية
بلا معنى.
لا يصبح العالم مُشكِلًا فلسفيًّا إلا بقدر ما
ننجح في الإبصار بأزمة العلوم الأوروبية؛ أي عندما
نفهم أن المُشكِل الفلسفي هنا هو: «ظاهرة البشرية
التي تكافح من أجل فهم ذاتها» (نفسه) الباحثة عن
«بداية جديدة» أو «تأسيس جديد» لذاتها، بعد أن
أصابها اليأس من قدرة العلوم الحديثة على مساعدتها.
ودور الفلسفة هو: «أن تكتشف أولًا الألغاز الحقة
للعالم، وتضعها على طريق الحسم» (ص٥٦).
وأول هذه الألغاز أن تاريخ الإنسانية مؤسس على
تاريخ الفلسفة التي جعلته ممكنًا: أي التي منحته
«وحدة المعنى» الذي يخترق تاريخها. وهذا المعنى لا
يزال حيًّا، لكن العقل الوضعي قد طمسه. يقول هوسرل:
«إن الطريق الوحيد لجعل الميتافيزيقا تتحقق … هو
دفعُ العقل الكامن إلى الفهم الذاتي لإمكانياته،
وبالتالي جعلُ إمكانية الميتافيزيقا بينة كإمكانية
حقيقية» (ص٥٧).
وحسب هوسرل هناك «غاية»
(Telos) عظيمة في
تاريخ الإنسانية الأوروبية، وهي رغبتها في أن تبني
نفسها على العقل. هي بشرية تريد أن تكون فلسفية.
وكل الأجيال التي تعاقبت هي أجيال فلسفية؛ أي تحقق
مستوًى معينًا من تاريخ العقل. وهكذا فإن «الفلسفة
أو العلم هي الحركة التاريخية لانكشاف العقل الشامل
«الذي يسكن» البشرية بما هي كذلك» (ص٥٨).
إن ما قامت به الأزمنة الحديثة هو أمر بالغ
الخطورة: «لقد تم تصور عالم لامُتناهٍ، وهو هنا عالم من المثاليات، كعالم
لا تكون موضوعاته في متناول معرفتنا بكيفية فردية …
بل يبلغه منهج عقلي موحد نسقيًّا» (ص٦٥).
إن التعبير الكبير عن هذا التنصيب غير المسبوق
لعالم لامتناه ومثالي هو «ترييض غاليلي للطبيعة»
(ص٦٦) … أن تصبح الطبيعة فضاءً متجانسًا من الأجسام
المتجانسة التي يمكن التعبير عنها بشكل رياضي.
وبالتالي لم يعد ممكنًا الاعتقاد في وجود أكثر من
عالم. هناك «عالم واحد يضم الأشياء نفسها التي تختلف فقط
من حيث كيفية تجليها» (ص٦٧).
والفكرة الأساسية للفيزياء الغاليلية هي حسب
تعبير هوسرل: «الطبيعة
بوصفها كونًا رياضيًّا» (ص٧٥). كونٌ
رياضي أي عالم من الأشكال الهندسية التي يتم
«بناؤها» بشكل منهجي. وفي تلك اللحظة بالذات وقع
إخراج الفلسفة بأكملها من معركة «المعرفة العلمية
بالعالم» (ص٧٩)؛ ذلك أن معرفة العالم أصبحت مشروطة
بمدى قدرة علماء الفيزياء على «ابتكار منهج
لتركيب العالم في
لانهائية سببياته تركيبًا نسقيًّا» (نفسه). تركيب
العالم يعني هنا بناءه رياضيًّا. وكان دور
الرياضيات هنا حاسمًا: لقد تم تعويض المكان والزمان
العاديين في «عالم العيش» أو عالم الحياة البشرية
بشكلين هندسيين ورياضيين من الامتداد داخل «عالم
موضوعي»، أي «كلية لا متناهية من الموضوعات
المثالية» (ص٧٩-٨٠).
وبمقتضى «أسلوب العالم» الجديد تحولت كل أشياء
العالم الحدسي المحسوس إلى «أجسام» محضة. بعبارة
مختصرة: لقد تمت «موضعة» العالم (ص٨١). وذلك أمرٌ
قام منذ غاليلي على افتراض أن الطبيعة هي شيء قابل
للتحديد بشكل تركيبي في كل جوانبها. لقد تم تنصيب
«كيفية تفكير» أخرجت عالم الحياة من الاعتبار، وتم
فرض عالم له «بنية قبلية» هي البنية الرياضية: «إنه
كعالم، أو كهيئة
شاملة لكل الأجسام، له إذن صورة كلية تشمل كل الصور، وهذه يمكن إمثالُها والسيطرة عليها عن
طريق التركيب» (ص٨٣). كل شيء في عالمنا
يجب أن يقبل الصورة الرياضية. ومن ثم يمكن بناء
صورة «مثالية» عنه واعتبارها حقيقته «الموضوعية».
وكل ما كنا نجربه في حياتنا قبل العلمية في الأشياء
ذاتها كألوان وأصوات … «هو لم يعد تلقائيًّا، بل لا
بد من إثباته علميًّا» (ص٨٦). ذلك أن الفكرة
الجديدة و«الغريبة» للعلم الحديث هو الافتراض بأن
«كل ما يعلن عن ذاته في الكيفيات الحسية النوعية
كواقعي يجب أن يكون له مؤشر
رياضي» (نفسه).
وبالتالي فما لا يمكن قوله رياضيًّا عن العالم هو
ليس العالم. والغريب هو أن غاليلي لم يكن يفهم ذلك
«كفرضية» (ص٨٩)، بل إن ذلك تأسس على قناعة تلقائية
تفيد بأن الطبيعة «كونٌ سببي»، وأن الفيزياء هنا هي
«فيزياء مكتشفة» (ص٩١) لبنية العالم. إن الأمر
يتعلق منذ غاليلي بضرب من «الترييض غير المباشر
للعالم الذي يجري الآن كموضعة منهجية للعالم الحدسي»
(ص٩٢-٩٣). ما تم نسيانه هو أن الفرضية تبقى فرضية،
ولا نحصل إلا على «مسارٍ
لامتناهٍ من التأكيدات» (ص٩٣). وعندئذٍ
ما تم نسيانه هو وجود «عالم
العيش العملي» (ص٩٥)، تحت حُجُب
الترييض. الترييض هنا كموقف منهجي من الحياة نفسها.
والنتيجة المرعبة فلسفيًّا هي «فقدان المعنى» (ص٩٦) مع
عملية تنصيب «المنهج» الرياضي الحديث كطريق وحيد
لمعرفة العالم. فقد عالم الحياة معناه وانقلب إلى
«موضوع» رياضي. قال هوسرل: «قاد تحسيب الهندسة من
تلقاء ذاته بكيفيةٍ ما إلى إفراغها من معناها» (ص٩٧)؛ إذ تحولت
الهندسة إلى «منطق صوري مطبق» (ص٩٨) أو «فكرة
منطقية-صورية لعالمٍ على العموم» (ص٩٩).
والعنوان الحديث الأكبر هنا هو حسب تعبير هوسرل
«إفراغ علم الطبيعة الرياضي
من المعنى بفعل التقننة»
(Technisierung)
(ص١٠٠). التقنية تفرغ العالم من المعنى وتحوله إلى
موضوع منهجي. وذلك تحت راية فكرة عظيمة الشأن هي
إمكانية العمل تحت غطاء «علم كلي» أو «رياضيات
كلية» (mathesis
universalis) تُنحِّي العالم
وتعوِّضه بفضاء هندسي. وذلك من خلال «تقننة العمل
الفكري-الرياضي-الصوري»، وتحويله من فكر يجرِّب
ويكتشف إلى تفكير يعمل بمفاهيم رمزية، ومن ثم «يصبح
التفكير الهندسي المحض أيضًا فارغًا، وعند تطبيقه
على الطبيعة الواقعية يصبح أيضًا تفكير علم الطبيعة
فارغًا» (ص١٠٢-١٠٣). ما وقع هو أن التفكير الرياضي
الفارغ من المعنى قد نقل فراغه إلى الفيزياء، ومن
ثم إلى معنى العالم. وتاريخ الفيزياء الحديثة هو —
حسب هوسرل — تاريخ خضع فيه علم الطبيعة «عدة مرات
إلى تحويلٍ وحَجبٍ للمعنى» (ص١٠٣)، وصارت الفيزياء
تعمل في «أفق متحول المعنى» (نفسه) باستمرار. وهي
في كل مرة تنقل فراغها من المعنى إلى عالم الحياة
نفسه.
إن الحرب على الإنسان، المستعرة في كل مكان، هي
ليست بُشرى لأحد. ليس لأنها خبر ميتافيزيقي سيء، بل
فقط لأنها نابعة من قرار أوروبي بتدمير العالم
اتخذته الإنسانية الأوروبية منذ بضعة قرون، وهو لا
يزال ساري المفعول كأفق أخلاقي للعقل العلمي نفسه،
وذلك ما لم تقم إنسانية أخرى بافتكاك المشعل
الميتافيزيقي من الغرب، والإقدام على اختراع علاقة
جديدة وغير أوروبية تمامًا بلحم العالم. عندئذٍ فقط
يمكنها أن تساهم في إعادة المعنى إلى العالم. ومن
ثم الشروع مرة أخرى في تنصيب الإنسان في
مكانه.
(٣) ماذا تقول اللغات حين تموت؟
هل ثمة من معنى لأن يكون شهر أيلول ٢٠٠١م هو
بالذات الشهر الذي وافقت فيه منظمة اليونسكو أخيرًا
ولأول مرة على إدراج «اللغات التي في خطر» ضمن
«الإعلان العالمي عن الآثار الكبرى للتراث الشفوي
وغير المادي للإنسانية»؟ أية دلالة لهذه الصدفة
الثقيلة بين أحداث ١١ أيلول وبين الوعي العالمي
أخيرًا بالتهديد الذي يُحدِق بشطر واسع النطاق من
اللغات التي يتكلمها البشر الحاليون على كوكبنا؟
وفي سنة ٢٠٠١م أيضًا، نظم البرلمان الأوروبي «السنة
الأوروبية للغات».
بالطبع لم تجد اليونسكو (مثلًا حسب وثائقها ما
بين ٢٠٠١م و٢٠٠٣م حول مصير اللغات التي في خطر) من
أفق أخلاقي للدفاع عن اللغات المهددة بالانقراض سوى
التشجيع على التنوع اللغوي، ولم تر من طرَفٍ ملائم
للاضطلاع بهذه المهمة سوى علماء الألسُنية. ولكن
إلى أي مدى يمكن للتنوع اللغوي أن يحمي لغة ما من
الانقراض؟ ثم هل يجوز ائتمان اللسانِيين دون غيرهم
على مستقبل اللغات القومية؟ نعني: هل موت اللغات
مسألة لسانية بحصر المعنى؟ أم أنها تعبر عن خطر
أوسع نطاقًا يُحدِق بماهية الإنسانية الحالية
نفسها؟
تقول الجدة ناتاليا سانغاما (١٩٩٩م) وهي تتكلم
لغة مهددة بالانقراض تُدعى «شاميكورو»
(
chamicuro)،
تُستعمَل في منطقة الأمازون الواقعة في البيرو، ولم
يعد ينطق بها إلا المسنون جدًّا:
«أنا أحلم بالشاميكورو،
لكن أحلامي لا يمكنني أن أحكيها إلى
أحد،
لأنْ لا أحد غيري يتكلم
الشاميكورو.
يشعر المرء بأنه وحده حين لا يبقى له
سوى ذاته.»
فلسفيًّا يقع هذا الخاطر العابر للذاكرة في أفق
إشارة فتغنشتاين الشهيرة إلى أنه لا توجد «لغة
خاصة» أو للاستعمال الخاص (تحقيقات فلسفية، الفقرة ٢٤٣ وما
بعدها). لا يحق لأحد أن يمتلك ما تقوله لغته؛ لأنه
لا أحد يمتلك لغة خاصة به. وحسب فتغنشتاين، سبب ذلك
أننا بمجرد أن نتكلم نحن ننخرط في «لعبة لغوية»
تعبُرنا ولا تنتمي إلينا. ومعنى «اللعبة» هنا يحيل
على هذا: أن كل لغة هي بنية عميقة ﻟ «شكل من
الحياة»، ومن ثم لنوع من البشر. لا يمكننا فلسفيًّا
أن «نتصور أناسًا لا يتكلمون إلا مع أنفسهم». وخطأ
ديكارت، وربما خطأ الفيلسوف الكلاسيكي بعامة، هو
الظن بأن اللغة شيء يمكن أن نستغني عنه حين نفكر.
قال فتغنشتاين: «إن الصحيح والخاطئ هو ما يقوله الناس، بينما يتوافق
الناس في اللغة.
ليس هذا توافقًا في المقاصد، بل توافقًا في شكل
الحياة
(Lebensform)»
(نفسه، الفقرة ٢٤١).
ولكن ماذا لو أن شعبًا ما فقد لغته وتحول إلى
ذاكرة منسحبة من أذن الإنسانية؟ ما معنى أن تنقرض
لغة ما؟ هل يتعلق الأمر حصرًا بعدد المتكلمين؟ أم
على الأرجح بالوقوع في «مرض» لساني أدى إلى وفاتها؟
وعندئذٍ: ما هو «الداء» الكوني الذي يصيب اللغات
حتى تنقرض؟ وفي أي طور من عمرها اللساني؟
يقول فتغنشتاين: «الفلسفة تعالج مسألة من المسائل
وكأنها تعالج مرضًا» (نفسه، الفقرة ٢٥٥). وعليه: ما
هو المرض الذي يُحدِق باللغات ويهددها بالانقراض
الكوني؟ إن اللغات لا تنقرض سدى، بل تحت وطأة تدافع
لساني تقوده لغة أو مجموعة لغات ضد أخرى أو ضد لغة
بعينها. ولكن «ما» (أو من) هي تلك اللغة «الكونية» التي تنطوي
بالضرورة على خطر دفع بقية لغات الإنسانية إلى
الانقراض؟ أولًا: تلك اللغة يمكن أن تكون أي لغة
تزعم أنها لغة كونية ينبغي أن يتكلمها النوع
الإنساني بعامة (في نجمة
الغفران صبا فرانز روزنزفايغ إلى ادعاء
كهذا حول اللغتين المقدستين في التاريخ الإبراهيمي؛
نعني: العبرية والعربية؛ لغات الإله التوحيدي، إلا
أن تراثنا الإسلامي لا يخلو من صبوة كهذه).
وثانيًا: أن اللغة الحديثة التي رفعت لواء الكونية
هي جملة الألسنة «الغربية» — الأوروبية-الأمريكية —
التي نجحت في تشكيل روح الحداثة وامتلاك شكل
التعبير الكوني عنها؛ أي وفقًا للنحو الذي يضبط
الألسنة الكولونيالية (الفرنسية والإنجليزية خاصة).
واقعةُ انقراض اللغات غير الغربية — وهو انقراض
معنوي في بعضها ولكنه مادي بالنسبة إلى البعض الآخر
— هي إذن واقعة كولونيالية؛ أي ناتجة عن سياسة
احتلال لساني لمناطق تعبير غير غربية وتقع خارج
نطاق ما سماه هوسرل «الإنسانية الأوروبية».
كان دأب الفلاسفة أن يحسموا الأمر بين «لغة
مثالية» (تصلح لإنتاج الحقيقة في العلوم) وبين
أحقية «اللغة اليومية» في أن تقول معنًى أصيلًا حول
معنى العالم. قال فتغنشتاين: «لفظة «مثالي» قد تكون
مضللة؛ لأن لها رنينًا وكأن مثل هذه اللغات أفضل
وأكمل من لغتنا اليومية، ولأننا في حاجة إلى
المنطقي ليبين للناس المظهر الحقيقي للقضية» (نفسه،
الفقرة ٨١). إن طرافة هذا التقابل النظري الكلاسيكي
(الداخلي لمنطق الفلسفة منذ أفلاطون) بين لغة
مثالية ولغة يومية أو عادية، قد انقلب راهنًا (في
أفق ما بعد الحداثة) إلى تقابل ثقافي-تفكيكي، هو
لئن احتفظ بنفس الدور البنيوي إلا أنه غيَّر
الطرفين المتقابلين: لقد صار التقابل بين لغات
«غربية» (كولونيالية، مهيمنة، كونية) وبين لغات
«غير غربية» (مستعمَرة حتى في بِناها النحوية،
فضلًا عن مصطلحاتها، تابعة، محلية، منزوعة الكونية،
مدعوَّة باستمرار إلى الترجمة)، بل أكثر من ذلك: هو
تقابل راهن بين لغات لها مستقبل أخلاقي على مستوى
الإنسانية ولغات في خطر ثقافي أو مهدَّدة بالانقراض
«اللساني».
ولكن ماذا تعني فلسفيًّا «لغةٌ في خطر» أو «لغة
مهددة بالانقراض»؟ يبدأ الخطر، دومًا، قبل أن نتفطن
إليه. وحين يُحدِق بإحدى اللغات هو يعني أنها لم
تعد تمتلك المبادرة «الاصطلاحية» لقول الأشياء. لا
يكفي أن نواصل تسمية الأشياء بأسماء أصيلة كي نقول
حقيقتها. مثلًا: «سيارة» هي لفظة قديمة لكنها كفَّت
عن قول نفسها (أي معنى «القافلة»: سورة يوسف، الآية
١٩)، والتبست بدلالة «حديثة» (أي معنى «مركبة
آلية») لا معنى لها قبل القرن التاسع عشر. ولكن هل
هذا وضع خاص باللغات «غير الغربية» حقًّا؟ فإن
الأوروبيين (خاصة الفرنسيين) يشعرون بالضيم الكبير
الذي ألحقته الإنجليزية المعولمة بسائر اللغات
القومية في أوروبا (بالألمانية مثلًا).
منذ أفلاطون تكوَّن وهمٌ ميتافيزيقي مؤسَّس: أن
المعاني «مثالات» وبالتالي فإنه لا شيء يمنع
فلسفيًّا من بناء لغة كونية قادرة على قول المعاني
الكونية. كل الفلاسفة إلى حدود ليبنتز لم يخرجوا عن
هذا الافتراض: أن المعنى ليس مُشكِلًا لفظيًّا بل
هو أخطر من ذلك؛ لأنه يقول «ماهية» الموجودات أو
يتمثل «وعينا» بالعالم الموضوعي الذي يحيط بنا. ومن
هنا تأتَّت إلى ليبنتز فكرة بناء لغة كونية وصورية
أطلق عليها اسم characteristica
universalis — حروف أو
لغة كونية — قادرة على التعبير الحسابي عن جميع
المفهومات؛ أكانت رياضية أو ميتافيزيقية، وبالتالي
تنتهي إلى إبطال أي مجادلة عقيمة بين
المتفلسفة.
ولذلك كان لا بد من انتظار القرن الثامن عشر،
وخاصة كتابات هِردر وهومبولدت في ألمانيا، حتى
يتبين حجم الإشكال الميتافيزيقي والروحي العميق
الذي يطرحه وجود اللغات الإنسانية. وفي هذا الصدد
نشأ قران مَهيب بين «اللغات» و«الشعوب». قال هردر:
«إن عبقرية لغة ما هي أيضًا عبقرية الأدب الخاص
بأمة ما». وهو يتصور أن الأغاني الشعبية هي «أرشيف
شعب ما»؛ ولذلك هو يُعرِض عن أي ادعاء تنويري
بالبحث (وَفق إرث يصعد إلى سفر التكوين، ١١) عن لغة
«بابلية» أي لغة كونية ربما تكلمها الجنس البشري
قبل «تبلبل الألسنة». إن الإنسان يختص بأنه «يسكن»
أرضه، كذلك لغته: إنها دومًا — حسب هِردر — «لغة
الأرض» التي يسكنها. كل لغة هي إمضاء روحي خاص بشعب
بعينه. ولذلك يعتقد هومبولدت أن «الفكر لا يتوقف
فقط على اللغة بعامة، بل أيضًا — إلى حدٍّ ما — على
كل لغة فردية معينة». وهو على خلاف هيغل (المكرس
لفكرة الغرب)، لا يؤمن بأي ضرب من نزاع الاعتراف
بين الشعوب، ليس على الشعوب أن تدخل في قبضة اللغة
الكونية لفلاسفة التنوير؛ وذلك لأن الاختلاف بين
اللغات ليس مجرد اختلاف بين الأصوات اللسانية بل هو
اختلاف بين «رؤى العالم» التي تحضن شعوبًا دون
أخرى.
لكن آمال الرومانسيين قد ذهبت أدراج الرياح. ولئن
لم ينجح مفكرو عصر التنوير في خلق اللغة الكونية
التي وعدوا بها — اللغة «الكوزمو-سياسية» أو لغة
المواطنة في العالم — فهم قد وفَّروا سياقًا
ثقافيًّا صالحًا (سياق الحداثة كأفق روحي إجباري
للإنسانية الراهنة) كي يتمكن الغرب من تنصيب بعض
اللغات الكولونيالية (الفرنسية والإسبانية، ولكن
الإنجليزية خاصة) في داخل عوالم حياة غير غربية
تشعر أنها تتكلم لغة إمبراطورية مفروضة بواسطة
فلسفة التاريخ تارة، وبالقوة الاستعمارية (العسكرية
أو الاقتصادية أو السياسية أو العلمية أو الجمالية
…) تارة أخرى.
في هذا السياق ربما يمكننا تنزيل قولة مثيرة
لرولان بارت: إن اللغة هي «بكل بساطة فاشيَّة؛ ذلك
أن الفاشيَّة هي ليست أن نمنع أحدًا من الكلام، بل
أن نفرض عليه أن يقول شيئًا ما». لكن ما كان المفكر
الغربي يطرحه بشكل «استطيقي» — حول طريقته في تأثيث
العالم التقني كأثر فني أو كجماليات وجود خاصة —
ويعاني منه لأنه يهدد فردانيته «المريضة»، هو قد
أصبح خطرًا ثقافيًّا أوسع نطاقًا صار يهدد كل
اللغات غير الغربية: إن اللغات غير الغربية هي رؤى
عالمٍ مهدَّدة بالانقراض، تحت سنابك اللغة
الإمبراطورية أو المعولمة التي تطبع المساحة
اللسانية في أفق أي شعب غير غربي بطابع كولونيالي.
لا تعني «الكولونيالية» (حسب والتر منيولو، أحد
أبرز الباحثين العالميين في أفق «التحرير
الديكولونيالي» من براديغم الحداثة) مجرد واقعة
الاستعمار. بل هي «حقبة ميتافيزيقية» مرت بها
الإنسانية. وعلينا أن نتحرر منها. وإن من أخطر
الخطوات نحو هذا النوع من التحرير «الديكولونيالي»
(decolonial) هو فك
الارتباط
(delinking) اللغوي
الذي تفرضه لعبة الحداثة على عقول المعاصرين. إن
«الحداثة» هي لغة كولونيالية أو «استعمار لغوي»
(colonization of
language)، لا غير. لا يعني ذلك
مجرد عدم تكلم الفرنسية أو الانجليزية مثلًا، بل
الأمر أكثر جذرية من ذلك: الأمر يتعلق بتحرير
اللغات القومية من «النحو» الغربي الذي يخترقها
(تداوليًّا) حتى من دون حاجة إلى الترجمة. وحسب
والتر منيولو، فهذا الجانب «غير الغربي» لا يمكن أن
يهم ناقدًا للحداثة مثل جورج بالاندييه (الذي كتب
سنة ١٩٥١م عن «الوضعية الكولونيالية») أو يهم صاحب
حفريات عن سلطة الخطاب مثل فوكو. والحال أن
«الاستعمار اللغوي» لبقية الشعوب هو قد بدأ — حسب
منيولو — منذ تنصيب الغرب لأيديولوجيا الحرف
المكتوب في أعقاب اكتشاف المطبعة في القرن السادس
عشر.
وهكذا فإن وقوع بعض اللغات التي تتكلمها أقليات
إثنية تحت الخطر أو تحت تهديد الانقراض هو ليس مجرد
مُشكِل لساني، بل هو نتيجة بنيوية لرؤية العالم
الكولونيالية: أن ثمن الحداثة هو التخلي عن المعنى
الرومانسي للغة الأم والانخراط في اللغة
الكولونيالية أي الإنجليزية المعولمة وبعض اللغات
التي تشاركها في قدر الغرب (مثل الفرنسية أو
الإسبانية). لا يتعلق الأمر بمدى تشجيع الناس على
التمسك بإرثهم اللغوي أو بمدى عزوفهم عن لغتهم الأم
أو تشبثهم بها. إن ما تتعرض له اللغة المهددة
بالحداثة الإجبارية هو جزء فقط من جملة التهديدات
الكولونيالية التي بنى عليها الغرب استراتيجية
الاستيلاء الميتافيزيقي على العالم وتحويله إلى
«موضوع» أخرس للتملك والسيطرة التقنية. الدخول في
عصر المطبعة خلق وضعًا كولونياليًّا أمَّن مرورًا
غربيًّا (ضد توصية أفلاطون في محاورة فايدروس) من
عصر الشفوي إلى عصر المكتوب. إن «العالم الجديد» هو
حدث لغوي أو سيميوطيقي، مثله مثل «الأزمنة
الجديدة». وكل حدث لغوي أو سيميوطيقي هو منذ ذلك
الوقت حدث كولونيالي، ونتيجته الحاسمة هي: إخراج
شعبٍ ما من لغته الأم والقذف به في أتون استعمال
لساني بلا لغة أصيلة. عندئذٍ هو سوف يكف عن سرد
حكايات ذاته وينقطع شيئًا فشيئًا عن ذاكرته
العميقة. ويتحول إلى أطراس لا يقرأ نفسه إلا من
وراء حجاب. نداءُ كل لغة حية منذ الآن هو أن
يتكلمها أهلُها، ليس فقط كممارسة يومية بل كموقف
سياسي: المسئولية تجاه مستقبلنا بوصفه في ماهيته
مُشكِلًا لغويًّا يطرحه كل نموذج عيش أو كل شكل من
الحياة على نفسه. إن مستقبل أطفالنا هو رهين نوع من
السياسة اللغوية تجاه اللغة الأم؛ إذ لا يتكلم
الناس أي لغة كانت، بل لغة يُمْكنهم الانتماء إليها
لأنها توفر دون غيرها أفقًا مخصوصًا لفهم
أنفسهم.
(٤) اليأس لا يفكر
قال أدورنو في كتابه
الجدل
السالب: «أن نفكر هو أن نحدد هوية شيء ما»،
٢ بحيث إننا لا نفهم «العالم» الذي نعيش
فيه إلا بقدر ما نبني «مفهومًا» مناسبًا عنه. لكن
ذلك يعني أن ثمة دومًا مسافة فاصلة بين «المفهوم»
(وكل تفكير هو عمل مفهومي أو لا يكون) وبين ما هو
«غير مفهومي» أو يوجد «خارج المفهوم» (أي موضوع
التفكير). والخطأ القاتل الذي يهدد كل تفكير هو أن
يخدعه «ادِّعاء الهوية»
٣ الذي يسكن داخله ويميل إلى معاملة نفسه
بوصفه «كلية»
(
Totalität) لا
تحتاج إلى العالم الذي تفكر فيه؛ ولذلك فإن الفلسفة
لا تتخلص من «عدم تناسبها مع الواقع» إلا عندما
تتخلى عن وهم القدرة على «استقطاب
(
monopolisiert)
الكل الذي تتخذه موضوعًا، وأن تعترف إلى أيِّ حد هي
في تركيبتها الداخلية، في حقيقتها المحايثة، متوقفة عليه.»
٤ إن العالم يوجد خارج مقولاتنا، وعلينا
أن ننطلق من أنه شيء «غير مفهومي» بالنسبة إلينا.
لكن ذلك يعني بنفس القدر أن العالم لا «هوية» له أو
ليس له هوية جاهزة عليه أن يرتديها من أجلنا. ومن
ثم إن كل علاقة معه هي «جدل» لا مفر منه؛ لأنه نابع
من «نقص» أو «ذنب» كامن في طبيعة التفكير نفسه.
يقول أدورنو: «إن الجدل هو الوعي المتسق مع نفسه
باللاهوية
(
Nichtidentität).
فهو لا يتعلق مسبقًا بوجهة نظرٍ ما. والفكر مدفوع
إلى الجدل بسبب نقصه الذي لا مناص منه، بسبب ذنبه
تجاه ما يفكر فيه.»
٥
لا يمكن أن «ننقد» العالم إلا بقدر ما ننجح في
الاحتفاظ بمسافة «غير مفهومية» معه هي بمثابة ذنب
نائم في كل تفكير. وذلك يعني أن كل تفكير في عالم
بلا هوية جاهزة أو بدون وجهة نظر مسبقة حوله هو في
سره لا يعدو أن يكون نوعًا صعبًا من «سياسة اللاهوية».
٦ نحن لا نفكر في العالم الذي نعاصره إلا
بقدر «عدم التماهي» مع ما يقوله عن نفسه، وبهذا
المعنى فقط يكون هذا التفكير موقفًا «نقديًّا».
علينا أن نفهم «اللاهوية بوصفها نقدًا للسياسة»
٧ التي تقود العالم. وفي تفكير أدورنو لا
يعني ذلك سوى نقد «العالم المعاصر» الذي انجرَّ عن
مشروع التنوير؛ أي ما يسميه «العالم الإدارة» أو
الذي ينتصب مثل إدارة،
٨ والذي يوهمنا بأن له «روحًا». وهذا
الوهم هو أحد اختراعات عصر التنوير، والذي منحته
فلسفة التاريخ منذ هيغل رؤية ميتافيزيقية مرعبة،
إلى حدٍّ حوَّل «الذهن البشري، المريض بصحته»
٩ إلى نوع من «اللعب برؤى العالم»
١٠ من طرف «روح كوني» لا يرانا. وهو وضع
روحي لا يمكننا أن نقاومه (كل تفكير هو مقاومة حسب
أدورنو) إلا بتبني أطروحة والتر بنيامين، في تصدير
كتابه
أصل المسرح التراجيدي
الألماني، القائلة ضد هيغل بأن «أصغر
خلية من الواقع المنظور هي تعادل في وزنها كل بقية العالم.»
١١
قال أدورنو: «إن روح العالم يوجد، ولكن ليس بما
هو كذلك، إنه ليس روحًا، وإنما على وجه الدقة هو
العنصر السالب (
das
Negative) الذي تنصل منه هيغل
وألقى به على أولئك الذين ينبغي عليهم أن يطيعوه،
والذين من شأن هزيمتهم أن تضاعف الحكم القاضي بأن
اختلافهم عن الموضوعية سوف يكون ما هو غير حقيقي
وما هو سيئ.»
١٢ إن افتراض «روح للعالم» يخاطب شعبًا
دون غيره أو حضارة دون غيرها هو تأليه أفلاطوني
لا-راهن لعلاقة هيمنة تعتبر ما يختلف معها «غير
حقيقي» و«شريرًا». لكن خطر «روح العالم» هذا هو
كونه مجرد «مفهوم» أنتجه نوع من الإنسان يزعم أنه
يمتلك «أنا» متعالية مستقلة بذاتها ترفع «اليقين»
أو «التفكر» الذي تؤسس نفسها عليه إلى براديغم
للحقيقة حول العالم بوصفه مجرد «موضوع» لمقولاتها،
ومن ثم تعتبر، كما كرَّس ذلك فيشته خاصة، كل
«لا-أنا» وكل «آخر» وكل ما يذكِّر بالطبيعة شيئًا «دونيًّا».
١٣ وبالتالي فإن هذه «المثالية» المهووسة
ببناء «نسق مطلق» يعبر عن مبدأ الأنا الحديث الذي
لم يعد يرى غير «نفسه» المعلمنة المنتصبة كبديل عن
الإله التقليدي، قد صارت، كما يصفها أدورنو، نوعًا
من «داء الكَلَب» الذي أصاب روح العالم. قال: «إن
النسق هو البطن الذي صار روحًا، وإن الكلَب هو
توقيع كل مثالية.»
١٤ كان التنوير نوعًا من «الكلَب المعقلن
تجاه ما هو غير هووي» الذي يحركه ادِّعاء إنسانوي
شعاره هو «ألا يترك شيئًا دون أن يضعه موضع سؤال»
١٥
كانت المثالية تريد أن تبني «كلًّا» روحيًّا
مستقلًّا بنفسه ومتألهًا أو «ملغِّزًا»
(
mystifiziert)
تسمِّيه «روح العالم»، لكن «روح العالم مفهوم تفكري
وهو لا يهتم بالأحياء الذين يحتاج إليهم ذلك الكل.»
١٦ وبمجرد أن يدخل في عمًى مثالي تجاه
الأحياء فإن «مجرى العالم» سوف يبقى بالنسبة إلينا
ميدانًا حيث يتحول «اللامعقول» إلى ظاهرة «صنمية»
(
fetischistisch):
ذلك أن «التاريخ لم يكن له إلى اليوم أي ذات كاملة
قد يمكننا بناؤها بأي طريقة كانت.»
١٧ ما وقع مع «روح العالم» الذي تدعيه
الحداثة هو أنه لا يعدو أن يكون مجرد «علمنة» لمبدأ
القدرة الإلهية، بحيث إن «جدل التنوير» الحقيقي ليس
التحديث العلمي بل سياسة العالم على نحو يحكم على
«الروح المنزوع السحر والمحتفظ به بأن يتطابق مع
الأسطورة أو أن يتقهقر إلى رجفة أمام شيء هو في نفس
الوقت فائق القدرة ولكن بلا صفات.»
١٨
وجد الإنسان الحديث نفسه مدعوًّا مع التنوير إلى
بناء «عالم متشيِّئ»
(
verdinglichteWelt)
لا يمكن إنقاذه إلا بوصفه «موضوعًا» لا معنى له إلا
المقولة «الذاتية» التي يستند إليها. لكن ما وقع،
كما نرى ذلك في إشكالية كانط، هو أن «التشيؤ»
و«الذاتية» قد صارا ظاهرتين لا تنفصلان وتستدعي
إحداهما الأخرى: بقدر ما يتذوَّت الشيء يتحول إلى
موضوع ميت.
١٩ لكن ما يظل محجوبًا في هذا الإشكال هو
قرار «العلمنة» الذي يتوارى وراء التنوير: «لأن
علمنة المحتوى اللاهوتي، الذي كان يُعتبَر يومًا ما
واجبًا موضوعيًّا، هي أمر لا يمكن دحضه، فإنه ينبغي
على المدافع عنه أن يحاول إنقاذه بواسطة الذاتية.»
٢٠ وهي خطة تمتد — حسب أدورنو — من
الإصلاح الديني إلى كانط، ومنه إلى «تقوى الكينونة»
لدى هَيدغر. وهذا الأخير يثير مُشكِلًا كبيرًا في
تأويل أدورنو: فهو من جهة قد «بلغ إلى عتبة الإبصار
الجدلي باللاهوية في صلب الهوية. لكن التناقض في
صلب مفهوم الكينونة هو أمر لم يتحمله. لقد كبته.»
٢١
لكن أدورنو يعتبر أن الفكر لا يكون حقيقيًّا حتى
يستطيع أن يفكر ضد نفسه أيضًا ولا سيما بعد أن تحصل
كارثة تهدم كل خطاب أخلاقي مثل ما وقع من إنتاج
عقلاني للجثث في أوشفيتز،
٢٢ ويمكننا القول بأن العصور القادمة لن
تخلو من شهوة مماثلة للجثث؛ ولهذا فإن الأمر
الأخلاقي الجديد لم يعد له مضمون تَقَوي: بل هو قد
صار متعلقًا بعلاقة الثقافة بالموت. ومن ثم فإن
المطلوب الأقصى هو هذا: لا يجب إدماج الموت في الثقافة.
٢٣ ومن يصر على الإبقاء على «ثقافة مذنبة»
يتحول إلى «مشارك» فيها، ومن «يحافظ على رعبه
(
Unwesen) بوصفه
تراثًا» يحول الثقافة إلى «بربرية إدارية للموظفين»،
٢٤ ويؤسس بذلك إلى ضرب معلمن من «لاهوت
الأزمة» (
Theologie der
Krise)؛ ذلك اللاهوت الذي ارتبط
باسم كارل بارت، وحيث تكون «الأزمة» كامنة في
المحنة المضنية للبشر ما بين الزمن والأبدية، بين
العالم والله.
٢٥ يقول أدورنو: «إن لاهوت الأزمة قد سجل
ما كان يتمرد ضده بطريقة مجردة وبالتالي بلا طائل:
أن الميتافيزيقا قد انصهرت مع الثقافة.»
٢٦
هذا النوع من التشخيص حيث يعمل «النقد» بوصفه
«جدلًا سالبًا» على بينة حادة بحجم «اليأس» الذي
يحرك التفكير بعد الكارثة، هو موقف من شأنه أن يضع
موضع سؤال كل بحث تقليدي عن «المعنى»؛ إذ يفترض
أدورنو أن «الموت» بعد انهيار مؤسسات العزاء
القديمة التي كانت توفرها الأديان الموضوعية الكبرى
هو قد أصبح «غريبًا».
٢٧ لقد صار للموت توقيع لم يعرفه الناس من
قبل حيث تحول معنى التاريخ إلى تاريخ للموتى. لكن
خاصية الموتى هنا هي أنهم بالتحديد «أفراد» بالمعنى
الحديث: إنهم يموتون بوصفهم أفرادًا. وخطورة ذلك
تتمثل في أن «انهيار الفرد يجرُّ معه كل بناء
الكيان البورجوازي»
٢٨ للحداثة. ومن ثم فإن الموت لم يعد يتم
في نطاق سردية تقليدية تحميه من العبث. إنه موت
عارٍ من أي معنى. يقول أدورنو: «إنه لرعبٌ جديد قد
اكتنف بالموت في المعتقلات: منذ أوشفيتز صار الموت
يعني أن نخاف، أن نخاف من شيء أسوأ من الموت.»
٢٩ وهو نوع من الموت أخذ اليوم مع فيروس
كورونا تطورًا مرعبًا؛ لأنه لم يعد موتًا سياسيًّا
نتيجة استعمال سيء لمنطق الدولة الكليانية. إنه موت
ما بعد حديث يتم بشكل ديمقراطي تمامًا وهو أعدل
الموتات توزيعًا بين الناس؛ لأنه يتعلق بمستقبل
طبيعتنا البشرية بما هي مجرد «استعمال للأجسام»
الحية في بيئة لم تعد جاهزة للدفاع عنها. لقد فقدت
صلاحيتها الدينية بحيث لم يعد العالم «مسخرًا» من
أجلنا، بل صار مجرد مساحة لملاقاة الموت خارج
قواعده التقليدية.
وعلينا أن نسأل: إلى أي مدى يمكن للحياة أن تحافظ
على معنى العالم الذي تسكنه إذا كان الموت قد غير
من حقيقته؟ لقد صار الأفراد يواجهون موتهم من دون
أي حماية ميتافيزيقية؛ ذلك أن العلمنة قد حولت كل
تساؤل ميتافيزيقي إلى تفكير شاحب وبلا جدوى. ولأن
«المثالية» لم تعد ممكنة فإن الفلسفة قد انخرطت في
«العدمية» محاولة الفصل بين «القيمة» (المنحطة)
و«المعنى» (الذي يمكن أن يبرر وجودنا في العالم).
يقول أدورنو: «إن المقولات الميتافيزيقية هي تواصِل
البقاء حية فيما يسمى، بالنسبة إلى حاجة عاميَّة
تمامًا، السؤال عن معنى الحياة.»
٣٠ ويبدو أن بين السؤال عن المعنى وبين
الشعور باليأس صلة متوارية علينا مساءلتها. إذْ
يعتبر أدورنو أن «اليأس هو آخر أيديولوجيا.»
٣١ وبعبارة أخرى إن اليأس قد أصبح بمثابة
سياسة للمعنى. ولكن من حيث إن المعنى هو أمر «تتم
صناعته فهو قد صار قصة
(
Fiktion)»
٣٢ حيث ينبغي على «الذات» أن تساهم في
تشكلها؛ وذلك بأن تمتلك «ملكة النظر فيما أبعد من نفسها».
٣٣ إن المفارقة هي أن ندعوَ الناس إلى منح
حياتهم معنى هو يوجد خارجها. ذلك أن «الحياة التي
امتلكت معنًى ما هي لن تسأل عن هذا الأمر، فهو سوف
يهرب من أمام السؤال.»
٣٤ إن اليأس يأتي كي يجرد الحياة من أي
مؤسسة معنى جاهزة ومنغلقة على ذاتها. لكن اليأس ليس
عدميًّا بالضرورة، بل على العكس من ذلك ينبه أدورنو
إلى أن العدمي ربما هو لم يكن عدميًّا بما فيه
الكفاية؛ إذْ تدعي العدمية أن انعدام القيم سوف
يجعلنا في وضعية حيث لا نستطيع أن «نتعلق بأي شيء»،
ويجيب أدورنو بأن ذلك ربما سيكون، ولأول مرة،
«الوضعية التي تسمح للتفكير بأن يتصرف أخيرًا بوصفه
تفكيرًا مستقلًّا بقدر ما تطالبه الفلسفة بذلك.»
٣٥ كل النقاش حول عدمية القيم ينهار من
نفسه عندما نبدأ، كما فعل بكيت
(
Beckett)، في
افتراض «الكينونة» في العالم بوصفها تشبه «معتقلًا».
٣٦ وعندئذٍ فقط يكف «اليأس» عن أن يكون
مجرد لفظ ويصبح من المبرر عندئذٍ أن نتساءل «ألم
يكن من الأفضل ألا يكون أي شيء بدلًا من أن يكون
شيء ما.»
٣٧ وفجأة سوف يغير «الأمل»، من دلالته.
إذْ حين تكون الكينونة نفسها مذنبة أو معتقلة فإن
«الأمل الوحيد الذي سيبزغ في الأفق هو أنه لم يعد
هناك أي شيء.»
٣٨ لكن هذا النوع من «العدمية» هو أبعد ما
يكون عن التماهي مع مذهب «العدم»: ألَّا «يكون» أي
شيء ليس «عدمًا». إن المطلوب هو بالتحديد ألا يبقى
العالم كما هو، هذا العالم هو الذي يجب ألا يكون
كما هو. وكل «تصالح» مع عالم تحول إلى ضرب من إدارة
اليأس التي لا ترى غير ذوات «متخلية» عن حياتها، هو
تصالح مع قرار الموت. ومن ثم «إن شرف الفكر هو في
الدفاع عما يُجدَّف عليه باعتباره عدمية.»
٣٩ ومنذ الآن فإن تصنيف الفلسفات لن يتم
بحسب موقفها من عدمية القيم أو سؤال المعنى، بل
بحسب قدرتها على «التفكير في اليأس». قال أدورنو
معلقًا على طريقة كانط في بناء «خلود النفس»: «إن
سر فلسفته هو في عدم إمكانية التفكير في اليأس.»
٤٠ كان التفلسف يعني بالنسبة إليه أنه لا
يستطيع التفكير في اليأس؛ أن اليأس شيء غير قابل
للفهم، شيء لا مفهوم له. كانت فكرة «خلود النفس» هي
الحل الأخلاقي الوحيد لاحتمال معنى الموت. كان كانط
يتمتع بترفٍ ميتافيزيقي يسمح له بتحاشي مفهوم اليأس
بواسطة المصادرة على الخلود. كان ينصحنا بأن نفكر
«وكأن» الحياة «بعد الموت» ممكنة، ولكن ماذا لو
افترضنا العكس: أن الحياة نفسها قبل الموت لم تعد
ممكنة، أن اليأس وليس تجربة الموت هو الذي يمكنه أن
يمنحنا شكلًا جديدًا من «الأمل». قال والتر
بنيامين: «إنه فقط من أجل اليائسين نحن قد مُنحنا الأمل.»
٤١ ليس الأمل وصفة رجاء جاهزة لمن صادروا
على خلودهم بطرق أخرى. لا يأمل إلا من يفكر؛ نعني:
من يعامل التفكير بوصفه سياسة إنقاذ لشكل من الحياة
الذي لم يعد ممكنًا. كانت «رغبة الإنقاذ»
٤٢ لدى كانط ملتبسة لأنه في اللحظة التي
حرص على منع التفكير من القفز نحو أي نوع من
«المطلق»، ومن ثم أنه لا يوجد أي طريقة داخل العالم
لإقامة «العدل تجاه الموتى»، هو قد اضطر في النهاية
إلى «تقييد» العقل ومن ثم إلى أن يختار «الأمل ضد العقل».
٤٣ إلا أنه كان أملًا غير جاهز لما يقوم
بإنقاذه: كان يعتبر اليأس شيئًا لا يقبل أن نفكر
فيه؛ لذلك هو قد جهد نفسه من أجل «تخليص العلم من
أي شبهة»
٤٤ والانخراط في التركيز البورجوازي على
نتائجه الباهرة. كان «الأمل» نوعًا من سياسة
الحدود، بحيث إن «منظومة كانط هي منظومة علامات الوقوف»
٤٥ التي وضعها المجتمع البورجوازي لعقول
الأفراد حتى يظل الأمل في التقدم ممكنًا. كان كانط
يلبي للمجتمع البورجوازي مطلبه بضرورة أن يحصر مهمة
العقل في إنتاج «العلم» الذي يحتاجه، ومن ثم يفرض
عليه أن يحول «سلطة» الحقيقة إلى قرار «إرهابي»
(
terroristisch)
بمنع «التفكير في المطلق»، وبالتالي ينتهي إلى «منع
حرية التفكير» نفسها.
٤٦ لقد صارت الحقيقة نفسها ورشة يعمل فيها
«العقل على تشويه نفسه» كنوع من «طقوس» الدخول إلى
نطاق «العلمية»
٤٧ بطريقة أخلاقية. وحين صارت «دائرة
المعقول» فارغة صار يمكن المصادرة على وجود الله أو
خلود النفس داخلها؛ نعني: صار يمكن أن «نأمل ضد
العقل». رُب أمل يبدو ساحبًا من الداخل؛ لأنه لا
يملك أي قدرة لتحديد «معنى» المأمول فيه. ذلك أن
مفهوم المعقول هنا لا هو مفهوم «واقعي» ولا هو
«خيالي» بل هو «معضلي»
(
aporetisch)،
ويعني ذلك — حسب أدورنو — أن «الدفاع» عنه لا
يمكِّننا من «إنقاذ» أي شيء
٤٨ دون أن نلحق به ضررًا جوهريًّا أو
نغيره. قال: «لا شيء يمكن إنقاذه دون أن يصيبه تحول
ما، لا شيء، لم يتخط باب موته. وإذا كان الإنقاذ هو
الدافع الباطني الأشد في كل روح، فإنه لا يوجد أي
أمل إلا في إهدار بلا تحفظ: للمنقذ كما للروح الذي
يأمل. إن إيماءة الأمل هي تلك التي لا تتعلق بأي
شيء تريد الذات أن تتعلق به، بأي شيء مما تعد نفسها
بأنه سيدوم.»
٤٩ بذلك فقط سوف يكون أملًا حرًّا.
(٥) الأفيون والحدود
أو
من
قال إن الحجر لا عالم له؟
كيف يجدر بنا أن نعيد فهم قولة ماركس الشهيرة
«الدين أفيون الشعوب» في ظل «مجتمعات ما بعد
علمانية»؟ حيث تحول «المؤمنون» إلى مواطنين صنف ب؛
نعني مواطنين لا تقتصر مصادر أنفسهم على المعايير
«العلمانية» للدولة الحديثة (مصادر التشريع
الوضعية)، مثل المواطنين صنف أ، بل نجحوا في تنشيط
المضامين الدلالية للتجارب الدينية التقليدية
(مصادر التشريع التي ترتبط بسردية مقدسة)، وعملوا
بشكل لافتٍ على ضخها في نقاشات الفضاء العمومي
بوصفها هي أيضًا تمتلك أنواعًا موجبة من ادعاءات
الصلاحية. كيف نتأول عندئذٍ طبيعة العلاقة بين
الأفيون (كجزء من ظاهرة المخدرات الحديثة) والدين
(في ثوبه «ما بعد العلماني»، أي كنوع موازٍ من
الحجج والممارسات الخطابية التي تعوِّل على طاقتها
الإنجازية أكثر مما تعوِّل على قدسيتها
التقليدية)؟
يقول شارل بودلير سنة ١٨٥٧م في قصيدته «السم» من
ديوانه
أزهار
الشر:
«يوسع الأفيون ما لا حدود له،
يمد في اللامحدود،
يعمق الوقت، يحفر الشهوة،
وبلذائذ سوداء كئيبة
يملأ النفس فوق ما تسع.»
إن الشاعر هنا يرسم مسافة المُشكِل دون أن يراه.
هو يمنحنا البُعد الذي يصبح فيه التفكير ممكنًا، ثم
ينسحب. لا يهمنا هنا استهلاك الأفيون، بل علاقة
الأفيون بالحداثة، ومن ثم تاريخ استعارة الأفيون
بالواقعة البيو-سياسية للغرب ونظرته إلى الثقافات
غير الغربية أو «التقليدية». لقد مثل الأفيون في
القرن التاسع عشر واجهة «الشرق» في أدبيات
الأوروبيين، وهو شرق رومانسي يمتد من الصين إلى
البلاد الإسلامية مثل مصر أو الشام أو تركيا.
٥٠ إن الشرق مادة مخدِّرة وشبقية يتطلع
إليها كل أديب أوروبي ينخرط فيما سُمي «أدب الفراغ».
٥١ لكنه يدخل أيضًا بنفس القدر في تاريخ
الألم كما في تاريخ اللذة، وهذه الصورة المزدوِجة
تجعل الأفيون لا يحتوي بالضرورة على مضمون ديني. إن
الدين هو الذي يأتي إلى تاريخ الأفيون وليس العكس.
بل إن أوروبا القرن التاسع عشر كانت تنظر إلى
الأفيون بوصفه مادة مفيدة وطبية، ولا سيما بالنسبة
إلى الفقراء الذين لا يملكون المال للذهاب إلى
الطبيب. وكما توجد «حروب الأديان» توجد أيضًا «حروب
الأفيون». وهي حروب استعمارية ضد الصين في القرن
التاسع عشر من أجل شرعنة تجارة الأفيون.
٥٢ إن الأفيون هو الذي أدى إلى سقوط الصين
الإمبراطورية وانطلاق الحداثة في أفقها.
وإنه في هذا السياق غير المسبوق، الذي يكشف عن
العلاقة الخطيرة بين الحداثة والأفيون، أتى ماركس
الشاب سنة ١٨٤٣م — والذي كان يستعمل الأفيون بشكل
منتظم لتخفيف آلام الإرهاق — إلى قولته الذائعة
الصيت: إن «الدين أفيون الشعوب» (مقدمة من أجل نقد فلسفة القانون لدى
هيغل). كل حدس كبير يُولَد في رحم
ميتافيزيقي مخصوص. وإخراج الدين من نطاق السجال
اللاهوتي إلى نقد المخدرات هو شطحة أدبية وفلسفية
رشيقة في معجم الحداثة لم نفكر بها كثيرًا.
إن ما يمسك الشعوب إذن داخل الحدود، أي حدود،
أكانت مرئية بالأسلاك الشائكة أو غير مرئية في خيال
الناس أو في تاريخ أجسادهم، هو أفيون ما، قد لا
تسميه كذلك. وحده أفيون جيد يكبر الحدود، يخلق
المدى الذي يتسع لما لا حدود له حتى يبقى داخل حدود
أنفسنا. وجه المفارقة هنا ليس هو أن الحدود لا يمكن
الانتصار عليها إلا بما لا حدود له، بل إنه من دون
أفيون مناسب لن يكون بإمكان أي حدود أن تصمد. تحتاج
الشعوب المحبوسة داخل تصور معين لنفسها، أو داخل
دولة أصغر من قدرتها على الحياة، أو في أرض مفتوحة
على انتماء أكبر منها، تحتاج إلى سياسة مكان
محتملة؛ نعني: تمتلك طرقًا لائقة للتفاوض مع ثقل
الحدود وبرودة حضورها الأجوف.
لقد قرأ المعاصرون قولة ماركس عن مفهوم الدين دون
استبصار تاريخ استعارة الأفيون تحتها. فهي قولة
توجد داخل سلسلة سردية وأخلاقية لها علاقة بتاريخ
المخدرات أكثر منها بتاريخ الأديان. لا نتحرر من
سطوة الدين إلا بقدر ما نؤرخ جيدًا لما
يخدرنا.
قال هِردر سنة ١٧٨٥م في كتابه أفكار حول فلسفة تاريخ الإنسانية
(الكتاب ٨، الفصل ٥): «إنه من العبث أن
نتخيل أن كل سكان العالم يجب أن يكونوا أوروبيين
حتى يكونوا سعداء، ونحن أنفسنا، هل كنا لنصبح، خارج
أوروبا، ما نحن عليه الآن؟ إن من وضعَنا حيث نحن،
هو بلا ريب قد أعطى للذين يحتلون أمكنة أخرى، حقًّا
مساويًا في مباهج الحياة.» يؤكد هردر بذلك أن هوية
الشعوب ليست اختيارًا أخلاقيًّا. «نحن» نكون أنفسنا
بقدر ما ننتمي سلفًا إلى مكانٍ ما من الأرض: نحن
توقيعات أرضية على مكان ما باعتباره «نحن». وهكذا
لا تمتاز أوروبا عن غيرها من الأماكن بأي شيء هووي.
هي فقط سمة جغرافية لنوع من الأجساد التي تشكلت على
تربتها منذ زمن بعيد. ومن ثم هي لا يحق لها أن
تدَّعي أكثر من حضانة نوع خاص من البشر لا مكان له
خارجها، وليس له أي تميز هووي على غيره من أنواع
البشر. كل مكان من الأرض له «حق مساوٍ» من كمية
الانتماء إلى نفسه. ولذلك يقول هردر: «إن سعادة
الإنسان هي دومًا خيرٌ فردي أو خاص». لا يمكن لأي
شعب أن يستلف سعادته من شعب آخر. وهذا يعني أنه:
«لا يحق لأي طرف آخر أن يفرض عليَّ أن أتبنى مشاعره
كما لا يستطيع أن ينقل إليَّ نمطه الخاص في الإدراك
أو أن يجعل هويته هويتي.» إن الفكرة العالية هنا هي
دفاع هردر عن حق رومانسي لجميع الشعوب في الانتماء
إلى نفسها، ومن ثم إلى اعتناق نمط السعادة الذي
يخصها. في تقديره لا توجد قيم كونية يمكن فرضها على
شعب آخر. مثلًا: إن تفاخر الأوروبيين بتأنقهم
الأخلاقي هو حسب هردر ليس تميزًا بالضرورة بل قد
يكون سبب تعاستهم. وهنا نبلغ إلى الجملة التي
ننتظرها:
«إن التأمل، مثلًا، لا يمكن أن يعجب إلا عددًا
ضئيلًا من الناس الفارغي البال، تمامًا مثل أفيون
الشعوب الآسيوية، يتعلق الأمر غالبًا بلذة من شأنها
أن تهلك العقل وتهيجه في غمرة أمواج ورؤى
خاملة.»
إن هردر يشبِّه «التأمل»، وهو أعلى قيمة كونية في
التقليد الفلسفي الغربي، باستهلاك «الأفيون»، وهو
أقصى هلاك للعقل لدى الأسيويين. ومن المفيد أن نشير
إلى أن الرَّبط السردي في كتابات الأوروبيين بين
الأفيون والشرق، ثم بين الأفيون والدين (في معنى
الحديث عن «لذَّات إلهية» و«صحة إلهية» و«كنوز
روحانية» و«جو فردوسي» … إلخ) هو موضوعة أدبية
منتشرة، كما نرى ذلك خاصة في كتاب الإنجليزي توماس
دي كينساي
اعترافات إنجليزي
آكل للأفيون٥٣ الذي تعود طبعته الأولى إلى سنة ١٨٢١م
وفي كتابات بلزاك («الأفيون» في جريدة
الكاريكاتور، ١٨٣٠م) أو
بودلير في كتابه
الجنات
الاصطناعية (١٨٦٠م).
لكن ما قاله هردر عن هوية الشعوب قد فهمه كانط
باعتباره نوعًا من التحدي الرومانسي للفكرة
الأساسية لبرنامج التنوير: أن الإنسانية هي فكرة
أخلاقية تشترك فيها جميع الشعوب على نحو لا يحق لأي
انتماء هووي أن يدعي الاستقلال المعياري عنه. قد
تسعد الشعوب بطرق جمالية مناسبة لتقاليدها الخاصة،
لكن لا يمكن أن تحكم على مستوى ادِّعاء الصلاحية
الأخلاقية لفكرة الإنسانية التي تشارك فيها إلا
بالتوفر على مقاييس كونية. هذا يعني أن أفيون
الشعوب لا يوجد في آسيا، بل في ضمير كل مؤمن بما هو
كذلك، أي بما هو إنسان. وإن «إعطاء الأفيون إلى
الضمير» يحتاج إلى تنوير من نوع خاص، يتخطى أفكار
هردر عن فلسفة التاريخ التي تعيد الإنسانية إلى
مكانها. إن المكان الجغرافي لا يكفي كي نعيد
الأفيون إلى حدوده.
قال: «إن قصد الذين يطلبون حضور القساوسة عند
نهاية الحياة هو أمر معهود: أنهم يريدون أن يحصلوا
منه على نحوٍ ما من العزاء، وليس ذلك بسبب العذابات
الفيزيائية التي
يحملها المرض الأخير معه، من قبيل الخوف الطبيعي
أمام الموت (إذْ إن الموت نفسه الذي يُنهي الحياة
يمكن أن يكون ضربًا من العزاء والمواساة)، بل بسبب
العذابات الخلقية، نعني تأنيبات الضمير. إلا أنه
ها هنا إنما يجب على الأرجح أن يُستفز هذا الضمير
وأن يُشحذ شحذًا، وذلك حتى لا يغفل المرء عن القيام
بما تبقى من خير أو عن إزالة شرٍّ ما (واستدراكه)
في سائر نتائجه الباقية … أما أن نعمد بدلًا عن ذلك
إلى إعطاء الأفيون إلى الضمير، فهو ذنب في حق نفسه
والذين يعيشون من بعده؛ إذْ هو أمر بعين الضد من
الغاية النهائية، التي يمكن من أجلها أن يُؤخَذ ذلك
النحو من عون الضمير بوصفه شيئًا يُحتاج إليه عند
نهاية الحياة» (الدين في
حدود مجرد العقل، القطعة الثانية، ١،
د).
إن استدعاء رجال الدين هو بلا ريب ظاهرة عامة
ولها أشكال عديدة لدى كافة الشعوب. لكن التوقيت
المثير هو دومًا «نهاية الحياة». ثمة بين التدين
والشعور بنهاية الحياة علاقة مرعبة. كل تدين، مهما
كان شكله، هو تفاوض صامت مع الشعور بالنهاية. كل
دين هو استثمار طويل الأمد في آلام الفانين. ومن ثم
لا يوجد مضمون آخر للدين غير سياسات العزاء. الدين
هو سياسة عزاء نسقية لنوع من البشر من العبث خوض أي
جدال ضدهم على أساس تنويري. إن التنوير لا معنى له
ما دام المؤمن لا يفكر خارج سرديته. التنوير ليس
إلحادًا. فإن القصد هو تعقب الأفيون داخل الضمير
والانتصار عليه. لكن المؤمن غير جاهز من نفسه
لمناظرة داخلية كهذه. وهو ينتظر دومًا أفيونًا ما
لمساعدته على أداء طقوس العبور. وعلى الرغم من أن
المسيحية وحدها تعوِّل على القساوسة في معالجة
الضمير المعذب؛ نعني: تعوِّل على مؤسسة الكنيسة من
أجل توفير الأفيون، فإن الإسلام السياسي يقدم نفسه
في كل نقاشاتنا العمومية حول الدين؛ نعني حول
سياسات العزاء التي تتعلق بنهاية الحياة التي يشعر
بها كل فرد على حدة، بوصفه وصيًّا نهائيًّا حول
علاقتنا بالله بعامة. صحيح أن الإسلام السياسي لا
يملك حق الغفران لأحد، لكن سياسة الوصاية على الناس
لا تختلف في شيء عن سياسات العزاء المسيحية. ولذلك
فما تقترحه الفلسفة ليس أقل من تعطيل مؤسسة الأفيون
برمتها، أكانت تتعلق بالعزاء أم بالوصاية.
ما يريده كانط هو إبطال الحاجة إلى تناول الأفيون
وليس استدعاء القساوسة. ولا تجد الفلسفة طريقة أخرى
أكثر ملاءمة للذات البشرية من تحميلها مسئولية
سيرتها في الحياة، وليس الاكتفاء بمساعدتها على
تحمل هول الموت الشخصي. هذه الطريقة هي: شحذ الضمير
على التحلي باليقظة على الحياة الحرة التي لا تحتاج
إلى قساوسة، نعني تلك الحياة التي لا تفعل إلا ما
شرعته بنفسها. وعندئذٍ لا فائدة من دين يعطل قوانين
الحرية الإنسانية في ضمائر الناس من أجل عزاء يقع
خارج أفقهم. ومن ثم يتوضح السياق الذي يمكننا داخله
أن نفكر في دين عمومي أو في استعمال عمومي للدين:
إنه فكرة «الدين في حدود مجرد العقل»، أي الدين في
حدود لا يحتاج فيها الناس إلى تناول
الأفيون.
لكن ما يصبو إليه كانط يبدو غير ممكن إلا في نطاق
إنسانية تحول فيها جميع أعضائها إلى ذوات حرة.
والحال أن عالم الحياة منذ القرن التاسع عشر قد تم
استعماره بأدوات غليظة أدت آخر المطاف إلى طمس كل
معالم الطريق إلى تنوير الشعوب. إن تنوير الشعوب
غير ممكن ما دامت محتاجة إلى مؤسسات الأفيون، نعني
إلى سياسات العزاء أو مؤسسات الوصاية على
الضمير.
إن الأفيون ليس حيلة الآسيويين فقط وليس داء
باطنيًّا في الضمير المسيحي، بل هو حسب تشخيص ماركس
ظاهرة روحية يجب سحبها بلا حدود على كل الشعوب. كل
الشعوب يمكن أن تستهلك الأفيون الآسيوي، ولكن هذه
المرة من دون حاجة إلى التدخين. إن الدين هو أفيون
الشعوب، لكن الفهم السائد لهذه العبارة قد حرمها من
بسط دلالتها الموجبة وحوَّلها إلى شعار لا يفكر.
طبعًا، كل استعمال للأفكار خارج طرافتها الخاصة
يحولها إلى فاحشة ثقافية. وهذا قد حدث حتى للنصوص
المقدسة. لكن فهم الشعوب لما يُقال عنها ليس
نهائيًّا أبدًا. إن الفهم هو في كل مرة عمل إنجازي،
نعني نوعًا متفوقًا من سياسة الحياة قد يتم
الاستيلاء على مقاليدها لفترة معينة لكن ذلك ليس
دليلًا على أي حقيقة قد تتجاوز أفق الهوية الذي
تقتات منه تلك الشعوب قدرتها على المعنى. ولو أعدنا
عبارة ماركس إلى الخدمة لأصبح لدينا مُشكِل من نوع
آخر.
يقول ماركس الشاب: «إن أساس النقد المضاد للدين
هو هذا: أن الإنسان هو الذي
يصنع الدين، وليس الدين هو الذي يصنع
الإنسان … إن الإنسان هو عالم الإنسان وهو الدولة وهو
المجتمع.»
تبدو عبارة «النقد المضاد للدين»
(
die irreligiöse
Kritik) أو «النقد اللاديني»
وكأنها قد حسمت المسألة. لكن قصد ماركس هنا ليس
بالضرورة هو نقد الدين بالمعنى اللاهوتي. فهو يقر
صراحة بأن الدين هو «وعي الإنسان بذاته، تلك التي
فقدها أو التي لم يكتسبها بعد.» والدين هو «النظرية
العامة للعالم» حين يكون «عالمًا مقلوبًا» أي لم
يجد من طريقة لتحقيق ماهية الإنسان إلا بشكل وهمي.
نقد الدين إذن لا يقصد الدين بل العالم المقلوب
الذي يدَّعي تأسيسه. «الصراع مع الدين هو بشكل غير
مباشر صراع مع هذا العالم الذي يمثل الدين رحيقه
الروحي.» وذلك أن «البؤس الديني هو في نفس الوقت
تعبير عن البؤس الواقعي واحتجاج ضد البؤس الواقعي.
الدين هو زفرة المخلوق المكبل، روح عالم بلا قلب …
إنه أفيون الشعوب.» ومن الطريف أن هذه العبارة
عندما تُرجمت إلى الروسية في العهد السوفياتي تحت
قلم لينين قد فُهمت وكُرست تحت عبارة مختلفة
قليلًا: ليس الدين أفيون الشعوب بل هو «الأفيون
للشعب» (
opium for the
people). والقصد هو أن الشعوب ليست
متدينة في أصلها بل تم فرض الأفيون عليها؛ أي تم
فرض الدين عليها بوصفه — حسب تعبير لينين — «خمرة روحانية».
٥٤
لا تفيد جملة ماركس بالضرورة نقد الدين بالمعنى
التنويري. بل ربما هي تحتوي على تعاطف عميق مع
الشعوب التي لا تملك أية طريقة أخرى لتحقيق ذاتها
المفقودة أو التي لم تكتسبها بعد إلا من خلال
«سعادة وهمية». الدين سياسةُ وهمٍ تساعد الشعوب
المكبلة خارج وعيها بذاتها على تحقيق نوع من
السعادة. علينا أن ننسى هنا أمر الدين وأن ننتبه
إلى خطورة حق الشعوب في
السعادة. في قرننا الجديد أصبحت
المطالبة بالحق في السعادة مُشكِلة أخلاقية بلغت حد
التحول إلى مطلب دستوري. لقد ابتعدنا عن منطق
الإلحاد الأجوف، الذي هو مُشكِل لاهوتي تقليدي، يتم
بين متدينين أو داخل معجم الملة، ودخلنا عصر أسئلة
من نوع غير مسبوق: أسئلة عن حق الشعوب في مستوًى
معين من السعادة، أي من الرضا بشكل الحياة أو
بنموذج العيش الذي أقامت عليه هويتها.
وهكذا لم تعد مسائل الدين مطروحة على مستوى مجرد
الاعتقاد أو الشهادة على وجود الله بل صارت تُحسم
على مستوى قيمة الحياة التي تدعي تأسيسها. وقد
عرفنا منذ نيتشه (١٨٨٧م) أنه «لا يوجد أبدًا سوء
فهم أكبر وأشنع من أن يبدأ السعداء والأسوياء
والمقتدرون جسدًا وروحًا، في الارتياب من حقهم في السعادة»
(في جنيالوجيا
الأخلاق،
III، ١٤). لو نظرنا
إلى «أفيون الشعوب» من زاوية حق الشعوب الأصلي في
السعادة لظهر لنا مُشكِل نقد الدين في ضياء آخر. إن
ما يؤرق الشعوب ليس الدين بل الحدود. «الحدود» في
معانيها جميعًا — أكانت تعني الحواجز أو النهايات
أو الأحكام أو العقوبات أو الخطوط الفاصلة أو حتى
التعريفات النهائية للأشياء وتكريس دلالتها
المألوفة وفرض نمط من اللياقة إزاءها — هي التي
تؤلم الشعوب الحرة وتحولها إلى جثث عمومية.
لا تحتاج الشعوب إلى الأفيون، أي إلى الدين، إلا
بقدر ما تحتاج إلى جرعة كافية من الوهم الصحي كي
تستمر على قيد الحياة. إن الدين بالمعنى التقني —
أي عبادة الإله التوحيدي على أساس تجربة الوحي — قد
انطمس منذ وقت طويل وانتصب مكانه اللاهوتُ السياسي
بوصفه شكل السلطة الممكنة على أساس ديني. لكن حاجة
الشعوب إلى تقدير ذاتها هو مطلب معياري لم يجد إلى
حد الآن حِضنًا تداوليًّا أكثر نجاعة من الدين.
الدين هو سياسة التوهم الأخيرة التي تلجأ إليها
الشعوب كي تحافظ على قدر مقبول من البقاء الروحي.
وإذا ما فشلت الدولة الحديثة في شيء فهي قد فشلت في
تعويض الحاجة إلى الدين أو في ترتيب آلية مناسبة
وصحية للاستغناء عن خدماته. وكل ضجيج التنويريين —
التنوير، هذا الواجب اللعين على عقول الأحرار اليوم
— لم يفد في أي تجاوز معياري حقيقي وحاسم لسياسات
الوهم، والتي يشكل اللاهوت السياسي آلتها
النموذجية.
ويذكر فوكو في مقالاته عن الثورة الإيرانية في
أواخر السبعينيات أن كثيرًا من الإيرانيين قد قالوا
له إن قولة ماركس عن «أفيون الشعوب» إما خاطئة أو
أنها لا تنطبق على ثورة تبرر ادعاءها الأخلاقي باسم
الدين. ويعترف فوكو بأن المسيحية قد لعبت مثل هذا
الدور في بدايات الحداثة.
٥٥ ونحن نلاحظ راهنًا أن المقاومة
الفلسطينية لم يعد لها من سند أخلاقي سوى نوع معين
من الحقوق الدينية على أرضها المحتلة ما دام العدو
لا يستند في نواته الأخيرة إلا إلى ادعاءات رمزية
من نوع ديني.
لا يمكن كسر الحدود إلا بواسطة أفيون مناسب. وإن
إلقاء الحجر على المحتل بشكل عابر للحدود هو اختراع
فلسطيني علينا أن نحوله إلى شخص مفهومي. لا علاقة
للمقاومة الفلسطينية بأي نقاش لاهوتي-سياسي حول
الدين حتى ولو كان المعجم الذي تستثمره يحمل رطانة
دينية.
قال هَيدغر في أحد دروسه (
المفاهيم الأساسية للميتافيزيقا: العالم – التناهي
– التوحد):٥٦ «إن الحجر لا عالم له، إن
الحيوان فقير العالم، إن الإنسان مُشكِّلٌ للعالم.»
يعني «العالم» هنا المدى المفتوح حيث يظهر معنى
الكينونة بالنسبة إلى الكائن القادر على طرح السؤال
عنه. العالم هو ما «يعلُم» لنا، أي يتجلى. وهذا
يعني أن الحجر لا عالم له في معنى أنه لا يرى
العالم أو أنه لا يحتمل أي انكشاف لحقيقة الكينونة.
يبدو الحجر وكأنه يمارس كينونة مغلقة، محجوبة بلا
رجعة.
لكن الفلسطينيين يكذبون هَيدغر حين يلقون بالحجر
على المحتل وهو يحتمي بحدود الدولة الحديثة، دولة
استعمار الأرض بواسطة كتلة بشرية تم استجلابها
للغرض، من أجل تصريف نوع معين من السيادة على
المكان. إن الفلسطيني الذي يلقي الحجر على المحتل
هو يلقي بالعالم عليه، يقذفه بكمية العالم التي
بحوزته. لكن المثير هو أنهم يبررون إلقاء الحجر على
المحتل بمعجم ديني يتم استعماله بطريقة
ما-بعد-علمانية تدعو إلى التساؤل. لماذا لم يبق
للمقاومين إلا المفردة الدينية كي يصمدوا على
الحدود؟ ألا تتوفر أية قوة طوباوية أخرى لهذه
الأجيال الجديدة من الغرباء؟
إن البشر يحتفظون بذاكرة المكان ويحتاجون إليها
لأداء طقوس العبور. يظن هَيدغر أن الحجر لا ذاكرة
له لأنه بلا عالم. فالحجر لا يعيش ولا يموت. هو أقل
من حيوان. هو لا يملك مقولة «له»
(
Haben). فهو لا
يحتوي من الكينونة على أكثر من القيمومة المجردة.
ومن ثم فإن نقل الحجارة من موضع إلى موضع لا يؤثر
على علاقتها بالمكان أو أن الحجر لا مكان له.
٥٧ لكن هَيدغر بذلك هو يريد أن يفصل بين
الأشياء والحياة ولكن خاصة بين الحياة والعالم: إن
«أشياء» الأرض المحتلة ليست «أشياء» بالمعنى
الفيزيائي، كما أن «الحيوان» المحتل ليس حيوانًا
بالمعنى البيولوجي، كما توهمنا بذلك النظرة
الوضعانية الحديثة. والفصل الفينومينولوجي بين
الشيء والعالم أو بين الحي والكائن-في-العالم ليس
ممكنًا إلا على نحو مقولاتي.
لكن الحجر في أيدي الفلسطينيين
«ما-بعد-العلمانيين» ليس مجرد حجر بلا عالم، تمامًا
كما أن الحيوان الذي يرعونه أو يصاحبهم (مثل حصان
درويش الذي تركه وحيدًا) هو ليس حيوانًا «فقير
العالم». إن المُشكِل الذي سيزعج هَيدغر هو أنه من
المستحيل أن نفصل الحجر عن عالمه ولا أن ننجح في
تفقير الحيوان من معنى العالم الذي ينتمي إليه. إن
الفصل الذي اخترعه هَيدغر بين «الدازين» — الكائن
الوحيد الذي ينجح في الانتقال من مجرد الكينونة
(السؤال ماذا؟) إلى مهمة الوجود (السؤال من؟) —
وبين «الحجر»، الكائن القائم أمامه بلا عناية
بالنفس، هو فصل أنطولوجي مصطنع ولا يؤدي إلا إلى
مواصلة ادعاء الذات الغربية بأنه من حقها أن تنظر
إلى «الآخر» على أنه «خارج» ذاتها. وحسب دريدا فإن
هَيدغر قد فشل في تقديم فهم أصيل لكينونة الحيوان
وبقي في هذا الأمر ديكارتيًّا.
٥٨ إن ما يجدر بنا أن نؤكده أكثر من ذلك
ليس فقر العالم لدى الحيوان، بل هشاشة ادعاء هَيدغر
بأن الحجر هو بلا عالم: ثمة مفارقة هنا حيث إنه لا
يمكن أن يكون الحجر بلا عالم إلا بالنسبة إلينا، أي
بالنسبة إلى كائن يتصف بالعالم. لا يمكن تجريد
الحجر من العالم إذا كان هو لا يملكه أصلًا.
٥٩ إلا أنها مفارقة مثمرة هنا: لا يمكن
للحجر الفلسطيني أن يُلقى به على الأرض المحتلة إلا
من أجل أن رابطة العالم بين الموضعين لا تزال تهيئ
المجال لظهور معنى الكينونة.
ويبدو أن هَيدغر لم يبلغ إلى التوضيح المناسب
للعلاقة مع كينونة الحجر إلا في مقالته «أن نبني،
أن نسكن، أن نفكر» المنشور سنة ١٩٥١م.
٦٠ ها هنا يكشف هَيدغر عن أن المعنى
الأصلي للفعل الألماني
bauen ليس فقط يشير
إلى المقام والإقامة والسكن
(
wohnen) بل إلى
الكينونة أيضًا. نحن لا نبني إلا ما يحمل بصمة
المقام أو السكن؛ حيث يصبح السكن ممكنًا، حتى
بالنسبة إلى البنايات غير المجعولة للسكن، مثل
القنطرة أو الطريق. نحن نكون ما نسكن. وحين نبني لا
نفعل غير تهيئة «المكان». إن إلقاء الحجر على حدود
الاحتلال هو أيضًا نوع من البناء العالي للكينونة،
أي هو تهيئة للمكان حتى يصبح ظهور معنى الكينونة
ممكنًا بالنسبة إلى شعب جُرِّد من مكانه في العالم.
هو تمرين على التذكير بأمر ميتافيزيقي دفين يهم
حقيقة الكينونة: أن المعنى الأصلي لاستعمال الحجر
هو تهيئة «المكان» أي تهيئة نمط المقام في أفق
الكينونة التي تخصنا.
وهذه هي المعاني التي أحصاها هَيدغر في مقالته:
١. أن نبني هو على وجه التخصيص أن نقيم. ٢. أن
المقام هو نمط كينونة الفانين على الأرض. ٣. أن
البناء، في معنى السكن أو المقام، هو ينبسط في نمط
من البناء الذي يوفر نوعًا من العناية أو الإنقاذ.
لكن ما يجمع بين هذه المعاني هو فهم المقام بوصفه
تهيئة لمكان «آمن» حيث تتوفر «السلامة» أو «السلام»
(Friede)؛ وأصل
السلام حسب تخريجات هَيدغر هنا هو «الحرية»
(Freiheit): السليم
هو الحر. وهكذا فإن الإقامة في الأرض هي تمرين على
تحقيق سلامتها، أي على «تحرير» المكان. إن خاصية
البشر أو الفانين هي تهيئة المكان «فوق الأرض» وهذا
يعني أيضًا «تحت السماء»، «أمام الآلهة» و«مع
البشر».
قال هَيدغر: «في تحرير الأرض، وفي استقبال
السماء، وفي انتظار الآلهة، وفي سيرة الفانين،
ينكشف المقام بوصفه تهيئة الجهات الأربع
(das Geviert).
التهيئة تعني: حراسة كينونة الجهات الأربع.»
إن الطفل الفلسطيني إذْ يلقي الحجر على حدود
الاحتلال هو يحرس الكينونة من الضياع، وبلمسة رشيقة
يخرج من فلك الدين إلى ملامسة فضاء المقدس. فهو
يحرر الأرض من الحدود ويهيئ المكان السليم للشعب
الأخير، النهائي لأنفسنا العميقة، ذاك الذي لا يزال
وحده مكلفًا بحراسة الجهات الأربع. لكن مهمة كهذه
سوف تتطلب دومًا أكثر من تناول الوجبات السريعة
للفرد ما بعد الحديث. سوف تتطلب جرعة كبيرة أخرى أو
ما-بعد-علمانية من أفيون الشعوب كي يصبح عبور
الحدود حالة إيكولوجية مستعصية للأطفال الذين
يهيئون اليوم طقوس «العودة الكبرى» إلى
الأرض.
وقديمًا قال تميم بن مقبل: «ما أطيب العيش لو أن الفتى
حجر.» الحجر الذي يمكنه أن يعبر الحدود
إلى حريته، إلى الحرية الحرة بوصفها فضاء «المقدس»
الممنوع، الذي يكون دومًا على مسافة حجر، ذاك الذي
عمل اللاهوت السياسي راهنًا على رفع عصًا
ميتافيزيقية غليظة ودموية في وجهه؛ إذ ليس له من
مهنة سوى وأد الحياة بواسطة أكثر ما يمكن من قطاع
طرق الملة، ومنع الأجيال ما بعد العلمانية من
اكتشاف أنفسهم على نحو جديد؛ نعني بلا حدود جاهزة
لأنفسهم.