الفصل الثاني
اقتصاد الأشياء الصغيرة
(٦) ما الفرق بين أن نحيا وأن نعيش؟
في كتابه السلطة السيادية
والحياة العارية (ترجمة فرنسية، باريس،
سويْ، ١٩٩٧م)، نبَّه الفيلسوف الإيطالي المعاصر
جورجيو أغمبن، مستأنفًا بعض إشارات حنَّا أرندت،
إلى أن اليونان القدامى كانوا يشيرون إلى معنى
الحياة بلفظتين اثنتيْن مختلفتين:
zôè «مجرد الحياة
الطبيعية بعامة»
وbios «طريقة
الحياة أو نمط الحياة الخاص بالبشر». كأنْ نقول
بالعربية: بين الحياة (وهو ما نتقاسمه مع النبات
والحيوان والإله، مثلًا) وبين «العيش» (الذي ينفرد
به بنو البشر). كل الكائنات الحية لها
zôè، ومساحة الحياة
لديها أوسع من مدينة البشر، لكنها لا تملك
bios وبالتالي لا
تملك bios
politikos أي «حياة مدنية أو
سياسية»، بالعربية: هي «تحيا» لكنها لا «تعيش».
وعلينا أن نسأل: إلى أي مدى يمكننا أن ندَّعي، نحن
«المحدثين» و«ما بعد المحدثين» (دونما انتماء قومي
أو ثقافي حقيقي إلى هوية الحداثة أو ما بعد الحداثة
من داخل تاريخها الروحي الخاص)، أننا نلتزم بالفرق
اليوناني بين مجرد الحياة وبين رغد العيش؟ وهل هو
فرق يصمد أمام المراجعة الفيلولوجية؛ إذْ يبدو
مثلًا أنه فرق متعسر في الكلمة اللاتينية
vita؟ أم أن أغمبن
قد قدم صيغة متحجرة؛ أي مفهومية عن فرق سائل ومرن
وغير مستقر بين zôè
— اليونانية (مجرد الحياة بعامة) —
وbios — اليونانية
(طريقة الحياة أو نمط الحياة الخاص بالبشر)، وذلك
دون سائر اللغات «غير الفلسفية»؟
ولكن ألا نعاني في كثير من المواضع من خلط مزعج
بين مجرد الحياة وبين معنى العيش؟ اللاجئون مثلًا،
هل هم مجرد «أحياء»، أي لهم «حياة عارية»
(nuda vita)، حسب
عبارة أغمبن، المأخوذة من القانون الروماني، أم
يمتلكون «نمط عيش» يختصون به، أي لهم
eu zèn أي «حياة
كريمة» (bonne
vie)؟
هذا الفرق بين
zôè (مجرد الحياة)
وbios (طريقة
الحياة) من المؤكد أنه ليس ترفًا خطابيًّا أو صدفة
لفظية، بل يبدو أنه يخترق النصوص الفلسفية الأولى
(أرسطو مثلًا) كما يوجد عميقًا في الكتب
المقدسة.
نذكر مثلًا:
-
أرسطو، كتاب
النفس (المقالة الثانية خاصة)؛
حيث يميز أرسطو بين «مجرد الحياة» (وهي صفة
كلية لدى الحيوان والنبات بعامة) و«العيش»
(الذي يعني عنده طريقة الحياة التي يتفرد
بها أو يختص بها كائن حي معين، لا سيما
الإنسان).
-
الإنجيل (الذي كُتب باليونانية) يحتوي
استعمالات تبين أن «الحياة الأبدية» هي
zôè (مثلًا
هي مذكورة ١٢٦ مرة: إنجيل متى ٧: ١٤، ١٨:
٨، ١٩: ١٦، لوقا ١: ٧٥، ١٠: ٢٥، ١٢: ١٥ …)،
في حين أن «لذة العيش» أو حتى خيرات
«المعاش» هي
bios
(مثلًا: لوقا ٨: ١٤، ٨: ٤٣، ١٥: ٣٠، ٢١:
٤/يوحنا ٢: ١٦، ٣: ١٧ …).
-
هذا العارض التأويلي نجده أيضًا راسخًا
في النص القرآني: فالتمييز بين «الحياة»
وبين «العيش» ليس فقط هو مستعمل بشكل بيِّن
بل قد تم إثراؤه بمفردات أخرى من قبيل
«الإحياء» و«المحيى» و«الحيوان» و«الحي»
و«الأحياء» (وهذا مبثوث في جميع السور بشكل
لافت جدًّا ولا نحتاج إلى حصره أو ذكره)،
وذلك على خلاف مفردات العيش، فهي لئن كانت
كثيرة أيضًا في صيغها، من قبيل «العيشة»
و«المعاش» و«المعيشة» و«المعايش»، إلا أن
علينا أن نشير إلى أن لفظة «العيش» نفسها
غير واردة في القرآن، علاوة على أن عدد
الآيات التي وردت فيها معنى العيش قليل
جدًّا (٨ سور) بالمقارنة مع الآيات التي
وردت فيها لفظة الحياة أو ألفاظ الحياة (ما
يقارب ١٧٠ آية).
والسؤال الفلسفي هو: كيف نفهم هذا التوكيد على
«الحياة» والإعراض إلى حدٍّ ما عن معنى «العيش» في
نص ديني كبير ومؤسس لأنفسنا العميقة مثل كتاب
القرآن؟ كيف نتأول أطروحة الأديان التوحيدية حول
الحياة، وذلك في ضوء الآراء الفلسفية الأساسية حول
طبيعة العلاقة بين الحياة والعيش من أرسطو، الذي
دشن أطروحة المماهاة بين «الحياة» و«النفس»، إلى
هابرماس مثلًا، الذي تساءل عن «مستقبل الطبيعة
البشرية» في ضوء أطروحة «تحسين النوع» أو
«اليوجينيا»، في عصر صار فيه «الاستنساخ» الجيني
وبالتالي التكنولوجي للبشر مطروحًا؟ هل تاريخ أشكال
الحياة هو تاريخ نماذج العيش؟ أم أن الحياة ميدان
«بيولوجي» يجب أن يبقى حكرًا على علماء البيولوجيا
بجميع أطوارها؟ ولكن إلى أي حد بقيت «الحياة»
مُشكِلًا علميًّا صِرفًا ولم تقع تحت سياسات العيش
«البيو-سياسية» للدولة الأمنية الحديثة، كما أرخ
لذلك فوكو الأخير بشكل مثير؟ وإلى أي مدى يمكن
المماهاة بين الشفرة الوراثية
(DNA) وبين هوية
البشر؟ أو بين «الجينوم» البشري و«نمط العيش»
البشري؟ ألسنا نبدو أكثر من جيناتنا في كل
مرة؟
في حقيقة الأمر لا يخلو كتاب فلسفي أساسي من
أفلاطون إلى نيتشه ومن دلتاي وهوسرل إلى حنَّا
أرندت وفوكو وأغمبن ودريدا، إلخ … من طرح مثير حول
معنى «الحياة». ومن ثم أن علينا أن نبني استشكالًا
مخصوصًا حتى نستطيع أن نستدعي المفاهيم المناسبة
لمعالجة نمط الصعوبات الخاصة بمصطلح الحياة حين
يستعمله الفلاسفة. ومن ثم فإن التمييز الرشيق الذي
أشار إليه أغمبن في لغة اليونان بين
zôè (مجرد الحياة
الطبيعية بعامة)
وbios (طريقة
الحياة أو نمط الحياة الخاص بالبشر) هو لن يكون
المقام الإشكالي الوحيد الذي يجدر بنا أن نعتمد
عليه في بلورة مسألة الحياة. صحيح أن اليونان قد
عرفوا، كما نرى ذلك في كتاب أخلاق نيقوماخوس لأرسطو، وكما أكدت
عليه حنَّا أرندت في كتابها الوضع الإنساني (١٩٥٨م)، قد عرفوا
التمييز بين «الحياة التأملية»
(bios
theoretikos) و«الحياة
العملية» (bios praktikos)، إلا
أنهم لم يعرفوا طريقة المحدَثين في طمس الفرق
بينهما، وخاصة حرص الدولة الحديثة على بلورة نظرة
«بيو-سياسية» تكسر الفصل اليوناني (أرسطو) بين
bios (العيش الخاص
بالمدينة، وهو معنى الحياة المدنية)
وzôè (الحياة
باعتبارها تقع في مساحة
oikos أو العيش في
المنزل).
على الرغم من أن مفهوم «الحياة»
(das Leben, la vie, the life
…) قد ظل يعمل داخل نصوص الفلاسفة
في كل العصور، فإنه كان لا بد من انتظار القرن
التاسع الأوروبي حتى يتبلور سياق فلسفي قادر على
الاشتغال على الحياة باعتبارها مُشكِلًا محوريًّا
وليس طورًا بدائيًّا من طبيعتنا أو مجرد موضوعة
جانبية. ولكن منذ شوبنهاور ونيتشه فقط صارت الحياة
مفهوما فلسفيًّا حاسمًا. لكن دلتاي هو الذي بلور
المفهوم الذي صار — حسب غادمير — منطلقًا لتأويلية
الحياة في أفق القرن العشرين، ونعني مفهوم
Erlebnis، وما
ترجمه الفرنسيون والإنجليز بعبارة تعني «التجربة
المعيشة»، وهو مصطلح أدخلته الكانطية الجديدة في
معجم الفلسفة بوصفه «المادة نفسها التي تشكل الوعي»
(غادمير، الحقيقة
والمنهج، ت. ع.، دار أويا، طرابلس،
٢٠٠٧م، ص١٢٠).
يقول غادمير: «من المدهش اكتشاف أن الاسم
Erlebnis، على خلاف
الفعل Erleben، لم
يصبح شائعًا إلا خلال عَقد السبعينيات في القرن
التاسع عشر فقط، أما في القرن الثامن عشر فلم يكن
موجودًا بالمطلق، ولم يكن يعرفه حتى شيللر وغوته.
وعلى ما يبدو فإن أول ظهور له كان في إحدى رسائل
هيغل … والظاهر أن هذه الكلمة قد دخلت الاستعمال
العام في الوقت الذي بدأت فيه تُستخدَم في كتابة
السيرة» (نفسه، ص١٢١).
تكمن أهمية هذه الإشارة الاصطلاحية في توقيتها
الفلسفي: إن سياقًا محددًا هو الذي جعل نحتها
ممكنًا أو مطلوبًا. وحسب غادمير من نحت هذا المصطلح
هو هيغل، ولكن ليس هيغل النسقي (أي في مؤلفاته
الكبرى، من قبيل فينومينولوجيا الروح أو علم
المنطق) بل هيغل اليومي، كاتب الرسائل، هيغل الذي
لا «يدرك عصره في الفكر» فقط، بل يدركه أيضًا في
سيرته الخاصة بما هو «فرد حديث». وفضلًا عن ذلك
هيغل وهو يتحدث عن «نفسه»؛ إذ إن العبارة وردت في
أصلها بهذه الصيغة؛ حيث قال هيغل:
meine ganze
Erlebnis، «خبرتي كلها» أو «تجربتي
كلها»، أو «تجربة حياتي بأكملها» …
يفيدنا هنا تعليق غادمير في هامش أثبته في كتابه
الحقيقة والمنهج
(نفسه، الهامش ١١٢، ص١٢١) قائلًا: «من الواضح أن
هيغل كان يبحث عن مصطلح شامل لم يوجد بعد (كما
يتكلم عند استعماله كلمة
Erlebnis في صيغة
المؤنث).»
يهمنا أن نطرح هنا السؤالين التاليين: ١. ما هو
المعنى الذي نحت من أجله هيغل مصطلح
Erlebnis؟ ثم ٢. ما
دلالة التأنيث هنا؟
لا يمكن الإجابة عن هذين السؤالين إلا بشكل مؤقت.
مثلًا: إن «تجربة الحياة» التي أراد هيغل التعبير
عنها كانت تتعلق بهيغل «نفسه»، وليس بمُشكِل
«الحياة» بعامة، وهو ما كان هيغل قد تعرض له في
أنحاء شتى من مؤلفاته النسقية. وأعلى دلالة للحياة
عند هيغل الفيلسوف التأملي هي «الروح»، والتي تعني
«الله» أيضًا. إلا أنه لا بد أن معنى
Erlebnis الخاص
بهيغل/الشخص، إنما يتعلق بشيء آخر غير المعنى
النسقي أو الفينومينولوجي أو اللاهوتي أو المسيحي
لمفهوم الحياة. ومن ثم أن
Erlebnis لفظ يشير
أولًا وأخيرًا إلى تجربة خاصة في الحياة، وليس إلى
الحياة نفسها أو إلى الحياة بمجردها. كذلك: فإن
تأنيث هيغل للفظة في أول استعمال لها لم تقع
الإشارة إليه إلا لأن الألمان من بعده قد ارتأَوا
إثبات صيغة المحايد للفظة (das
Erlebnis)، وهذا الوضع «المحايد»
مثير للتساؤل، لا سيما وأنه يشير إلى تجربة حياة لا
يمكن أن تتم إلا بشكل «خاص» أو «حميم»، وبالتالي
غير محايد تمامًا. والمفارقة هي: كيف نعيش بشكل غير
شخصي؟ أليس هذا هو معنى مصطلح «مجرد الحياة»، والذي
هو خاصية النبات والحيوان؟
ويهمنا هنا أن نفهم طريقة غادمير في رسم ملامح
تاريخ مصطلح
Erlebnis في
الاستعمال المعاصر، وهو استعمال دخل جميع اللغات
العالمية مثل الفرنسية والإنجليزية، وأيضًا بما
فيها العربية المعاصرة، ربما مع كتاب وشعراء
الرومانسية، مثل جبران ونُعيمة والشابي …
يُرجِع غادمير لفظة
Erlebnis إلى الفعل
Erleben الذي كان
موجودًا قبلها. وظهر في عصر غوته. يعني هذا الفعل:
«أن تبقى حيًّا، حيث يحدث شيء ما» (نفسه). المعنى
إذن هو تجربة شيء ما «بأنفسنا». هناك دلالتان إذن:
١. التجربة أو ما هو مجرب بحيث أصبح ثمرة دائمة .
٢. ما جربناه بأنفسنا أو بخبرتنا الخاصة.
هاتان الدلالتان توجدان حسب غادمير في معنى
Erlebnis من حيث
إنه «قد أخذ جذره من أدب السيرة. وجوهر السيرة — لا
سيما سير الفنانين والشعراء في القرن التاسع عشر —
هو أن تفهم الأعمال انطلاقًا من الحياة» (نفسه).
علينا أن نحتفظ بالمعنى المزدوج لمصطلح
Erlebnis: أنه في
نفس الوقت شيء ١. مجرب. و٢. له تأثير خاص؛ لأنه
يتمتع بأهمية دائمة في حياتنا (نفسه، ص ١٢٢). خيط
الإشكال إذن هو وجه الربط بين معنى «التجربة» حين
نقول إننا عشنا تجربة ما في الحياة (والذي يخرج عن
المعنى الفيزيائي والعلمي للتجريب على الظواهر
الطبيعية) وبين طريقتنا في عيش ما نجربه على
أنفسنا؛ حيث تكون حياتنا نفسها هي مادة التجريب
(وكل مغامرات الفرد المعاصر، الوجودية منها
والمجتمعية هي توفر نماذج عيش أو «أشكال حياة» ذات
توقيع خاص تمامًا في كل مرة). يتعلق الأمر إذن بنوع
من «العيش الخاص» أو «العيش الحر»، ذاك الذي يتجاوز
مجرد الحياة، أي مجرد الوجود مثل وجود النباتات أو
الحيوانات. وعندئذٍ لا يمكن لنا أن ندَّعي أن لدينا
«نمط عيش» خاصًّا، أي يحمل توقيعنا، إلا إذا كان
هذا «المعيش» قد نجح في الجمع بخيط رفيع ولكن أصيل
وصحي بين أن «نجرب» شكلًا من الحياة بعامة وبين أن
يحمل هذا التجريب توقيعنا الشخصي.
وتاريخيًّا علينا أن نذكر عنوان كتاب وضعه دلتاي،
هو يلخص كل الإشكال الفلسفي الذي نريد بيانه، هذا
العنوان هو «المعيش والشعر» (Das
Erlebnis und die Dichtung)، إلا
أن غادمير يلاحظ أن نشر الكتاب جاء متأخرًا
نسبيًّا، حيث لم يظهر إلا سنة ١٩٠٥م. بل أكثر من
ذلك: إن دلتاي قد استعمل لفظة
Erlebnis في
المقالة المخصصة عن غوته، والمنشورة سابقًا سنة
١٨٧٧م، لكنه «لا يقدم شيئًا عن التحديد الاصطلاحي
اللاحق للتصور» (نفسه). ويبدو أن دلتاي قد أتى إلى
استعمال لفظة das
Erleben/تجربة العيش، في سياق
مقارنة عقدها بين غوته وروسو، ولكن ليس روسو صاحب
المؤلفات النسقية، بل روسو الذي يسرد تجارب
«الاعترافات» (Les
Confessions). يقترن معنى تجارب
العيش إذن بأدب السيرة، ولا سيما حين يكون على لسان
المؤلف نفسه. هو بعبارة غادمير «المادة الأساسية
للخلق التخيلي بأسره» (نفسه، ص١٢٣). ولكن لنحترس من
أخذ معنى «السيرة» في المعنى المحصور للفرد المعزول
وكأنه صنم بلا ذاكرة ولا بيئة ضاغطة. نحن لا «نعيش»
إلا بقدر ما نمسك خيطًا سرديًّا بين تجربة شخصية
وتاريخ مجتمعي في عصر معين. وإن السرد هو طقس
العبور من مجرد الحياة (وهو مُشكِل لا نسيطر عليه
إلا بقدر ما نسعى إلى «معرفته») إلى معنى العيش
الذي يخصنا (وهو مسألة لا ننتمي إليها إلا بقدر ما
نرغب في «فهم أنفسنا»).
ولكن «من» بإمكانه أن يمسك هذا الخيط الإشكالي
بين مجرد الحياة وبين نماذج العيش في أفق أنفسنا
العميقة من أجل إحداث «توقيع» محايد وشخصي في كرَّة
واحدة؟ لا ريب أن المتنافسين على المعنى أو على
معنى المعنى كُثْر. إلا أن «الفيلسوف» بعامة هو
الأجدر به؛ وذلك أنه يوجد بلا رجعة بين «الحياة»
(وهو اختصاص الآلهة أيضًا) وبين «العيش» (وهو
اختصاص الفانين). ولأن الإله «حكيم»
(sophos) ومن ثم لا
يحتاج إلى «طلب الحكمة» أو التفلسف
(philosophia) ولا
يجدر به ذلك (كما قال سقراط في محاورة المأدبة ٢٠٤أ، أو فيلابوس ٢٧٨د)، فإن الإله
«يحيا» لكنه لا «يعيش»، إنه ليس كائنًا «متناهيًا».
قال هَيدغر في درس شتاء ١٩٢٨-١٩٢٩م: «أن نكون هنا
في العالم بوصفنا بشرًا هذا يعني أن نتفلسف. إن
الحيوان لا يمكنه أن يتفلسف، والله لا يحتاج إلى
التفلسف. إن إلهًا من شأنه التفلسف لن يكون إلهًا؛
وذلك لأن ماهية الفلسفة هي أن تكون إمكانية متناهية
لكائن متناه.»
وحده من يتفلسف، أي من يحتمل كينونته في العالم
في جملتها بوصفها أمرًا يدعو إلى التساؤل، بإمكانه
أن يمسك بثقل انفعال المسافة بين مجرد الحياة (مثل
النبات والحيوان) وبين معنى العيش (مثل الفانين،
ولكن القادرين أو المحكوم عليهم بأن يسائلوا عن
معنى حياتهم). ومن ثمةَ نفهم أن التفلسف لم يكن في
أول أمره ادعاءً للحكمة (مثل الآلهة) أو علمًا
نظريًّا معزولًا عن عالم البشر، بل كان دومًا
«فنًّا في العيش» البشري باعتباره امتيازًا لا
يتمتع به إلا «الفانون» أي الكائنات المتناهية التي
أرادت أن تجعل من «تناهيها» فضيلة ميتافيزيقية وليس
«خطأ» لاهوتيًّا. وكان الرومان، كما بيَّن ذلك فوكو
الأخير في دروس تأويلية الذات، يعتبرون الفيلسوف
«مستشارًا في الوجود». وذلك يعني مستشارًا في
التدرب على الإمساك المناسب بذلك الخيط الرفيع بين
مجرد الحياة وبين معنى العيش. وهو ما يتطلب قدرة
كبيرة على «التعايش» مع هذا النوع من «التجربة».
وتعني الألفاظ الدالة على التجربة في اللغات
الهندو-أوروبية، كما بين ذلك جان غرايش باقتدار،
على معنى «العبور»، إلا أنه عبور مَشوب بنوع من
«الخطر» و«المجازفة». الفلسفة هي تمرين مرح على
العبور من مجرد الحياة إلى معنى العيش الذي يجدر
بنا أن نتقاسمه مع بني جنسنا من الفانين. وهذا يعني
من دون أي «تأله» قد يدعيه أحدنا على الآخر. وذلك
على خلاف أي دين مسلح، يزعم أنه يعلم الناس العبور
من «الحياة الدنيا» إلى «الحياة الآخرة» بواسطة
القتل.
(٧) ماذا تعني حين تجوع؟
إلى أي حد يمكن للفلسفة أن تؤرخ لمفهوم الجوع؟
وما معنى أن نكتب تاريخ غريزة أو ألم أو رغبة قديمة
في طبيعة البشر؟ يبدو أن البشر لا يجوعون في كل
ثقافة بنفس الدلالة. وإن كانوا بوجه ما يجوعون بنفس
الأعضاء. ومع ذلك فإن ما يهم الفلسفة ليس رصد
التمثلات الثقافية لغريزة مثل الجوع أو النوم أو
الجنس. ثمة فرق سابق إلى العقل بين «التمثل»
الثقافي و«المفهوم» النظري. إن الثقافة لا تفكر
بالضرورة، وإن كانت تمدنا دومًا بالسياق الذي يجعل
تفكيرنا ممكنًا. لكن الفلسفة ليست سياقية إلا
عرضًا؛ وذلك أن التفلسف لا يصبح ممكنًا في أي ثقافة
إلا عندما يطرح العقل على نفسه أسئلة كونية حول
المسائل التي يتصدى لها. إن الجوع الذي نسائله هنا
هو واقعة كونية بشكل مضاعف، من حيث إحالته على
«طبيعة البشر»، ولكن أيضًا من حيث سياسة الرغبة
التي يتنزل فيها سلفًا في ثقافة أو عصر ما. وإنما
بهذا المعنى الثاني هو يدعو إلى التفكير ويستوقف
الفلاسفة بوصفه مفهومًا وليس مجرد غريزة لدى جميع
الحيوانات. حيث تقف رغبة الحيوان في معنى الجوع
تبدأ أسئلة الفيلسوف حول مفهومه الكوني في ضوء فكرة
الإنسانية المتاحة في أفق ثقافة ما.
إن التفكير في مفهوم كوني عن معنى الجوع لا يمنع
أبدًا أن ثمة تاريخًا للجوع يجب أن يُكتب في كل
ثقافة؛ وذلك أنه لئن كان الجوع واقعة «طبيعية» تهم
استعمال الأجساد أولًا، فإن تاريخ الجسد بعامة ليس
مُشكِلًا جسديًّا. إنه دومًا جزء من ثقافةٍ ومن
تاريخ معين للأجساد ليس من الهين عزله فلسفيًّا
والتفكير فيه. ويبدو أن مكمن الصعوبة يعود إلى
طبيعة علاقة الإنسان بجسده في كل عصر. ويمكن أن
نستكشف هذه الصعوبة من خلال تساؤل كهذا: «هل نحن
أجسادنا أم نحن لنا أجساد مثل سائر الحيوانات؟»
والفرق بين الصيغتين حاسم هنا؛ لأنه يفصل بين «أن
نكون» أجسادنا ونتماهى معها، وبين «أن نمتلك»
أجسادًا ونستعملها. هذا التمييز يلقي ضوءًا غريبًا
على مفهوم الجوع: هل الجوع مُشكِل «وجودي»، يهم
طريقتنا في العناية بأنفسنا من الداخل؟ أم هو حاجة
أو اقتصاد في الرغبة يتعلق بكمية الحياة أو الطاقة
التي نتملَّكها أو نحتاج إلى تملُّكها بواسطة
أجسادنا التي تعاني في كل مرة من «نقصٍ» ما في شروط
البقاء؟ هل نحن «نكون» جوعنا؟ وبالتالي فإن الجوع
أخطر من مجرد حاجة غير مشبعة؛ لأنه يخترق ماهيتنا.
أم علينا أن نسأل: هل «لنا» إحساس بالجوع هو مجرد
«نزوع» إلى إشباع «استعداد» يحركنا بحكم طبيعتنا
التي تقع علينا؟ وبالتالي فإن اقتصاد الجوع هو
الطريقة المناسبة لتحديد مفهومه.
لا يمكن معالجة هذه التساؤلات إلا بقدر استدعاء
النصوص الفلسفية التي اخترقها الجوع بوصفه ظاهرة
مدعاة للبحث؛ ذلك أن تاريخ الفلسفة من أفلاطون إلى
اليوم قد ترك وراءه دومًا آثارًا ورواسب عن تواريخ
صامتة أو ممنوعة أو مسكوت عنها تخص مفهوم الجوع،
ومن ثم لا يمكن للفكر أن يستأنف أسئلة الجوع إلا
بقدر ما ينشِّط العلاقة معها. ولا ريب أن تاريخ
الجوع في النصوص الفلسفية هو واحد من تلك التواريخ
الصامتة التي تدعو إلى استئنافها. ومنذ اليونان إلى
ما بعد المحدثين هناك تاريخ للجوع يظل يصطدم بهذا
المفهوم أو يحبسه داخل دوائر تفكير لا تعرِّف به
إلا عرضًا، وذلك قبل أن يتحول الجوع منذ وقت قريب
إلى بؤرة نقاش معاصرة، ومن ثم فتح المجال أمام
استشكال فلسفي عن الجوع يكون قادرًا على رفعه إلى
رتبة المفهوم المستقر القادر على تأمين سياسة الجسد
التي يفترضها. ومن الواضح أن تاريخ الجوع وتاريخ
الجسد مترابطان على نحو بنيوي من خلال سياسات
الرغبة في كل ثقافة.
أفلاطون والرغبة
الجوع نوع من «الرغبة» أو هكذا فهمه أفلاطون.
والرغبة عنده نوع مخصوص من الحركة: نحن نرغب،
أي نتحرك نحو شيء ما، وكل الرغبات تصدر عن شعور
مؤلم بالفراغ. وفي سياق هذا التعريف للرغبة
يستعمل أفلاطون مثال الجوع بوصفه نوعًا من
الفراغ المؤلم في معدة البشر. قال في محاورة
فيلابوس
(٣٥أ): «يبدو أن من يكون منا فارغًا هو يرغب في
ضد ما يشعر به، بما أنه فارغ وهو يريد أن
يمتلئ.» ولكن لأن الرغبة تصبو نحو ملء فراغ أو
نقص ما، فهي تسعى إلى ضد نفسها: لا يريد الجوع
سوى الكف عن أن يكون جوعًا، بما أنه ملء للفراغ
أو فراغ يريد أن يزيل الفراغ. لكن ما يثير
الانتباه أكثر هنا هو أن الجوع لدى أفلاطون ليس
مُشكِل الجسم الجائع. فالرغبة ليست رغبة الجسم
بالضرورة. قال: «ما يقودنا إليه استدلالنا هو
أنه ليس ثمة رغبة خاصة بالجسم» (نفسه، ٣٥ج).
فمن يجوع إذن؟
هذه الحيرة تلقي ضوءًا مثيرًا على السؤال
الفلسفي حول الجوع بوصفه محددًا بالفراغ أو
الخشية من الفراغ. إذْ لا بد أن تتخيل النفس
هذا الفراغ حتى يحدث الجوع. من يقود الجوع —
حسب أفلاطون — ليس الجسد بل النفس. لا بد أن
نتخيل الجوع حتى نجوع. وهو تخيل يقدم الجوع
بوصفه رغبة نابعة من إحساس مؤلم بالفراغ لا
يمكن القضاء عليه إلا بتوفير نوع من اللذة. وهي
لذة الملء أو الامتلاء. وهو مطلب لا يمكن للجسم
أن يوفره. ويجب إذن أن نبحث عنه في مستوى آخر
من كينونتنا.
وهكذا منذ بداية تاريخ الفلسفة تم تجريد
الجوع من أهليته للتفكير بنفسه. وتم حصره في
سياسة الرغبة المناسبة للحكيم. وهي تقوم على
الخطة الفلسفية العامة ضد الرغبة بوصفها تجد
ماهيتها في الشعور المؤلم بالفراغ. والتبرير
الأفلاطوني هو أن الجوع لا يمكن فهمه إلا ضمن
تأويل للرغبة مفتاحه هو قصة ميثولوجية عن لعنة
الآلهة لبنات دانووس اللاتي حُكم عليهن في
الجحيم بأن تملأن بلا نهاية برميلًا بلا قاع.
كل معدة هي برميل بلا قاعٍ على النفس أن تعيد
ملأه في كل مرة.
في هذا السياق يجدر بالقارئ المعاصر أن يضع
تعريف أفلاطون لمهمة الفلاسفة الحقيقيين في
محاورة الفيدون بأنها «تدريب على الموت».
يبدو الجوع دومًا بمثابة أول تدريب بدائي على
الموت. ولكن ماذا لو قرأنا تعريف أفلاطون
للفلسفة بأنه لا يعني أكثر من «تعلم الجوع»؟
الفلسفة بوصفها تدرُّبًا بدائيًّا على الجوع،
بوصفها تصعيدًا لفن الجوع أو هي فن الجوع الذي
تحول فجأة إلى بحث ميتافيزيقي في معنى الموت أو
معنى خلود النفس. ولو أخذنا القرابة النائمة
بين الجوع والموت مأخذ الجد إذن لأصبح السؤال
عن جوع الفلاسفة مقامًا مفاجئًا للبحث في معنى
الكينونة؛ نعني: للبحث في طريقة البشر الذين
يتجرءون على التفلسف بوصفه لا يعدو أن يكون
فنًّا ميتافيزيقيًّا في الجوع. هذا الطرح
الأفلاطوني سوف يظل مهيمنًا على تعريفات
الفلاسفة للجوع إلى حد ابن سينا الذي احتفظ ضمن
كتابه القانون في
الطب بتعريف الجوع في معنى «الألم»،
رغم أنه حول هذا الألم من التصور الميتافيزيقي
للحركة إلى بحث تجريبي في طب المعدة، العضو
المسئول عن سياسة الجوع.
ديكارت والجوع
لو أخذنا مثالًا فلسفيًّا حديثًا مثل ديكارت،
فإننا نجده ينظر إلى الجوع بوصفه شيئًا ينبغي
علينا أن نتعلمه: علينا أن نتعلم الجوع من
طبيعتنا مثلما نتعلم الألم أو العطش. لكننا لا
نستطيع ذلك لمجرد كوننا كائنات «تفكر» وهي
«تسكن» فقط جسمًا تحركه مثلما الرُّبَّان
«سفينته». بل نحن نجوع، ليس لأننا نسكن الجسم،
كما ظن اليونان، بل لأننا مقترنون به على نحو
عميق ومختلطون معه وممتزجون فيه إلى حد أننا
نكوِّن «كلًّا واحدًا معه». إن الجوع والألم
غير ممكنين — حسب ديكارت — من دون تصور معين
لأنفسنا يجعلنا نتماهى مع أجسادنا.
قال: «وذلك أن كل هذه المشاعر بالجوع والعطش
والألم … إلخ. هي ليست شيئًا آخر سوى بعض
الأشكال المختلطة من التفكير، وهي تتأتى من
وتتوقف على وحدة الروح مع الجسم، ومثل المزج
بينهما» (التأمل ٦).
صحيح أن الجوع يحدث في أجسامنا كما تعلمنا
طبيعتنا، لكن الجوع هو من المشاعر التي لا تكون
ممكنة إلا بفضل نوع من «الوحدة» أو «الامتزاج»
مع أجسامنا. إن الذي يمتزج أو يتحد مع «الجسم»
هو «الروح» أو النفس. وهذا يعني أن الذي يجوع
ليس هو الجسم الميكانيكي المعزول عنا والذي
نحركه من خارج مثل سفينة نسكنها ولا «نكونها».
إن الجوع مثل الألم ليس ممكنًا من دون علاقة
سابقة تجعل النفس تتحد مع الجسد وتمتزج فيه.
وهنا يبلغ الجوع مرتبة فلسفية رشيقة حين يعامله
ديكارت بوصفه «شكلًا مختلطًا من التفكير». وهو
«مختلط» في معنى أنه ليس «فكرة واضحة ومتميزة»
عن أي موضوع حسي أو خارجي. إن الجوع فكرة
مختلطة عن أنفسنا، ولذلك ثمة هنا نوع من
«كوجيطو الجوع» علينا أن نستخرجه حتى نوضح
خطورة علاقتنا بأجسادنا. نحن نجوع بمعنى ما لأن
أجسادنا «تفكر» وإنْ كان ذلك بطريقة مختلطة؛ أي
لا ترتقي إلى رتبة المفهوم المتميز. كوجيطو
الجوع نوع مختلط من التفكير بأنفسنا، تكمن
طرافته في كونه يلقي ضوءًا مثيرًا على تلك
الجهة المعتمة من علاقتنا بالأنا الذي نكونه في
كل مرة؛ نعني جهة الوحدة أو الامتزاج مع «جسم»
لا نسكنه فقط بل هو المجال الحقيقي لذاتنا
العميقة دون أن يكون «الأنا» الذي ندعي أنه
«هويتنا».
الفلاسفة المعاصرون والجوع
يبدو أن الجوع قد ظل تحت الوصاية
الميتافيزيقية للرغبة حتى القرن التاسع عشر
عندما ظهر سياق فلسفي غير مسبوق وضع كل تاريخ
الجوع وكل تاريخ الرغبة وكل تاريخ الجسد موضع
سؤال. ومنذ ماركس فهم المعاصرون لأول مرة أن
الجوع مُشكِل تاريخي معقد. قال: «الجوع هو
الجوع، ولكن الجوع الذي يمكن إشباعه باللحم
المطبوخ والمأكول بالفرشاة والسكين هو جوع آخر
مغاير لذاك الذي يبتلع اللحم النِّيء باستخدام
الأيدي والأظافر والأسنان. ليس موضوع الاستهلاك
فقط بل أيضًا نمط الاستهلاك هو المنتَج بواسطة
الإنتاج، وهذا ليس بشكل موضوعي فقط بل بشكل
ذاتي أيضًا. إن الإنتاج إذن يخلق المستهلك.»
نحن المعاصرون نستهلك جوعًا تم إنتاجه لنا بحكم
نمط إنتاج لا نراه أو لا نسيطر على علاقة
السلطة التي يفرضها علينا سلفًا. وهكذا لا يمكن
تفسير الجوع بمجرد الرغبة المعزولة عن تاريخها.
والجوع لم يعد محصورًا في أي نوع من العلاقة مع
الجسد. ولكن ماذا تقترح الفلسفة إذن؟
قال زرادشت نيتشه: «هؤلاء الذين يجلسون إلى
المائدة ولا يأتون بشيء معهم، ولا حتى بجوع
جيد، والآن يجدِّفون: «كل شيء بلا جدوى».» إن
الدرس المناسب إذن هو ما سماه نيتشه في الفقرة
١٨٩ من ما وراء الخير
والشر: أن نتعلم كيف نجوع. إن
القدماء قد اخترعوا «الصوم» من أجل تعطيل نوع
من الغرائز. ولكن أيضًا من أجل الإقرار بأن
للجوع (كما يقول استهلال كتاب زرادشت، ٨) خطته
الخاصة تجاهنا.
بعامة، يمكن استشراف آفاق النقاش المعاصر حول
الجوع بأنه يدور تقريبًا حول المحورين
الأساسيين لكل تفلسف: إما «أن نكون» جوعنا،
وإما أن ندعه «يقع» علينا بوصفه جزءًا من
«امتلاك» شروط البقاء للحيوان من نوعنا.
على السؤال الأول اشتغل نيتشه وفتح لتلاميذه
ورشة أخلاقية ثرية جدًّا أخذت اليوم، مع
التجريبات ما بعد الحديثة عن تقنيات العناية
بالجسد، منعطفًا مثيرًا؛ ونعني بلورة المعاصرين
لنوع جديد من الكوجيطو صيغته هي: «أنا أكون ما
آكله.» صارت كينونة الناس تتحدد بنوع الوجبة
التي يتناولونها. وفجأة صارت دراسة العلاقة بين
الفلسفة والمطبخ أو بين الفلسفة والأكل أو
الفلاسفة والحِمية الصحية، إشكالية تدعو إلى
التفكير. يقول ميشيل أونفري: «أنْ نأكل هو أن
نغذِّي آلة ميكانيكية نفكر بواسطتها.» وفي
كتابه الطريف بطن
الفلاسفة، نقد العقل الصحي كتب
أونفري تاريخًا للفلسفة بطريقة غير مسبوقة
نفَّذ فيها حدسًا نيتشويًّا حول علاقة الفيلسوف
بمعدته أو بالحِمية التي يتبعها، مفاده: أن
فهمنا لتصورات الفلاسفة ربما يكون أفضل في ضوء
ميولهم الغذائية، أن نفهم علاقة كلبيَّة ديوجان
بشهيته عن الأخطبوط النِّيء، أو تقشف روسو
باعتماده اليومي على الألبان، أو إرادة القوة
بمحبة نيتشه للشوكولاتة … لكن دريدا قد منح هذا
الخط من التأويل للجوع هالته الفلسفية العليا
عندما صاغ الأمر القطعي التالي: «يجب أن نأكل
جيدًا.» (كتاب نقاط
الوقف، محادثات، ١٩٩٢م). ويعني ذلك عنده
تحديدًا أن نتخلص من ثلاث آفات حددت تاريخ
الجوع في الغرب: أن نتخلص من
«مركزية-اللوغوس-القضيبية-اللحمية». ظل مفهوم
الجوع رهين تعريف الإنسان بوصفه حيوانًا
عاقلًا/لاحمًا/قضيبيًّا/لحميًّا، وذلك يعني
رهين الفحولة اللحمية للذكر. وأن نأكل جيدًا
يعني لدى دريدا أن نجيب على هذا السؤال: «ما هي
أفضل طريقة، وأكثرها احترامًا وكرمًا، في
العلاقة مع الآخر؟»
أما السؤال الثاني فقد عمل عليه ماركس،
ودشَّن أمام المعاصرين ضروبًا متضافرة من نقد
الجوع على نحو لم يبق سجين نقد الرأسمالية بل
تعداه إلى نقد سياسة الحقيقة التي قامت عليها
بنية المجتمع الغربي بعامة. يمكن اعتبار الحرب
العالمية الثانية بمثابة المصهر الفلسفي؛ حيث
أطل الجوع بوصفه مُشكِلًا سياسيًّا حاسمًا.
وكان اعتراض ليفناس المثير ضد هَيدغر قد صاغه
في كتابه الكلية
والتناهي على هذا النحو: «إن
الدازين لدى هَيدغر لا يجوع أبدًا.» لأول مرة
يدخل مفهوم الجوع في تعريف الآخر. وفي سنة
١٩٥٠م قال سارتر في مقابلة مسجلة معه: إن
الإنسان لا يجوع وحده، إنه يجوع مع كل الرفاق
الذين من طبقته أو الذين يعملون معه مقابل أجر
ما. ومن ثم فإن المطالبة بإشباع الجوع تمرين
طريف على الشعور بالتضامن، والمطالبة برفع
الأجور هي مطالبة بتحرير الحاجة حتى لا يبقى
الإنسان مجرد «بطن» ويتحول إلى كائن حر. لكن
أدورنو في كتابه الأخلاق
الدنيا قد عرف المجتمع المتحرر بأنه
مكان يحكمه هذا المبدأ: «يجب ألا يجوع أحد بعد
الآن» (الفقرة ١٠٠). ذلك أن الأحرار يمكن أن
يواصلوا «الموت من الجوع» في ظل مجتمع الحريات
المتساوية التي يعدنا بها جون رولز.
لكن الفلسفة لا تحب تغيير وجهتها نحو نقد
الجوع كما يعاني منه الفرد الحديث في المجتمعات
ما بعد الصناعية، مخافة أن تتحول إلى قول
سوسيولوجي أو ليبرالي في المجاعة. وهو ما ينبغي
أن نبحث عنه في كتابات أمارتيا سان. وسرعان ما
تشرئب الفلسفة نحو مقام آخر. قال هَيدغر سنة
١٩٣٢م: «ليس من أجلنا نحن أبناء اليوم، بين يوم
وليلة، ينبغي إشباع الجوع، بل بالأحرى من أجل
أولئك الذين هم آتون من المستقبل، إنما يكبر
فينا جوع الوجود.» ولكن ألم ينقلب جوع الوجود
هذا، كما عبر عن نفسه في التجارب القصوى للموت
المعاصر من «الهولوكوست» إلى «داعش»، إلى ما
سماه ابن سينا «الجوع الكلبي»؛ حيث يلتهم
المريض ما لا يقدر بدنُه على هضمه، نعني: جسد
الآخر في كل مكان؟ وإن مجرد التذكير بكل نقاشات
المحدثين عن «الكانيبالية» أو «أكل لحوم البشر»
الممتدة من مونتاني
(Montaigne)
الإنسانوي إلى فرويد الباحث في جنسانية الجوع،
أو ليفي شتراوس الذي قال يومًا ما: «نحن كلنا
آكلو لحوم البشر»، يثير فينا خوفًا فلسفيًّا من
مستقبل السؤال عن الجوع في أفق البشر … أمْ أن
كرونوس لا بد في النهاية أن يأكل
أولاده؟
(٨) من هو أبو الفقر؟
مقاطع من سيرة إلهٍ سكران
حيث وُلدت الفلسفة، كان الفقر «إلهًا»، وبالتحديد
كان «ربَّة» تُسمى في الأساطير اليونانية
Penía، وصفها أفلاطون
في محاورة
المأدبة١ (
sumpósion — بالمعنى
الدقيق حفلة شراب أو سكر جماعية يتم فيها إهراق
الخمر على بركة الآلهة؛ حيث يشرب المدعوون ويتكلمون
ويغنون، تأتي عادة بعد حفل أكل وطعام —
deîpnon)،
٢ وهي محاورة مؤلفة قبل ٣٧٥ق.م. بقليل،
لكن أريستوفانيس كان قد سبقه إلى ترقية ربة الفقر
«بينيا» منذ سنة ٣٨٨ق.م. إلى دور شخصية رئيسية في
مسرحيته الكوميدية الأخيرة
بلوتوس (
Ploũtos)،
٣ «بلوتوس» إله الثروة الأعمى عند
الإغريق أعماه زوس غيرةً منه.
علينا أن نلاحظ أن أفلاطون في
المأدبة (٢٠٣ ب–ﻫ) لا يأتي
على ذكر الفقر لذاته بل باعتباره مرتبطًا بولادة
الإله «إيروس» إله الحب. كان بعض الندماء مدعوِّين
(ستة منهم فقط) إلى إلقاء خطبة طقوسية يتم فيها
«تقريض» (
épainos)
الإله إيروس. وإنه بعد سلسلة من النقاشات حول شخصية
إيروس وميزاته الخاصة إنما أتى سقراط أثناء فاصل أو
استراحة إلى ذكر ربة الفقر «بينيا» في إطار حكاية
قديمة ينسبها إلى امرأة بدت له خبيرة في هذا
المجال، التقى بها سابقًا اسمها «ديوتيما»
(
Diotime). وتكمن
طرافة هذه الحكاية في أنه سوف يستعملها لدحض جملة
الخطب حول إيروس التي استمع إليها من الندماء. وهي
خطب جاءت مختلفة ومتنازعة: فالبعض يؤكد على أنه لا
يوجد إلا إيروس واحد، أو أنه الإله الأقدم عهدًا،
أو أنه الأصغر سنًّا، والبعض الآخر يزعم أن إيروس
إلهان اثنان وليس إلهًا واحدًا، أحدهما سماوي
(
Ouranía) في حين
أن الآخر هو «شعبي» أو «عامي»
(
Pándēmos). أما
سقراط فهو سيطرح المُشكِل على صعيد آخر. فهو يسرد
آراء امرأة غريبة، من مدينة مانتينيا
(
Mantíneia)، وليس من
أثينا، تذكر فيها أن إيروس ليس إلهًا بل هو «ديمون»
أو «جان» (
daímōn)، أي كائن بين
البشر والآلهة، له قدرات شبه إلهية، ولا يفعل سوى
أن يساعد البشر على تحويل رغبتهم في الخير أو في
الجمال إلى حقيقة.
٤
من المفيد أن نعرف أن السياق الذي أتى فيه سقراط
إلى ذكر «ربة الفقر» هو النقاش حول ما ادَّعاه
محاوره (Agathon)
في شأن طبيعة إيروس وفي شأن النعم التي ينعم بها
على البشر (١٩٥أ وما بعدها). وكانت الأطروحة
المقدمة تقول بأن طبيعة الإله إيروس هي الجمال الذي
يجعله الأصغر والأفضل من بين الآلهة، والإله الذي
يكره الشيخوخة. ولأنه الأصغر سنًّا فإن مشاكل
«القدر» القديمة بين الآلهة لا تعنيه. وهو يحتاج
إلى شاعر من أجل تقريض «نعومته». إنه لا يقرب
النفوس الصلبة، وهو إله «متموج» المزاج، لا يعيش
إلا بين الأزهار، وما لا يزهر هو ينفر منه. وحيثما
أينعت زهرة هو يقيم. وبهذا الجمال هو لا يقترف ولا
يقع عليه أي ظلم، فليس ثمة عنف يمكن أن يدرك إيروس.
كل ما يفعله إيروس هو خالٍ من العنف؛ حيث إن كل
البشر على أتم الاستعداد للحب. إيروس عادل ومعتدل
دومًا. وليس أقوى من إيروس قدرة على السيطرة على
الرغبات واللذات، ولأنه قوي وشجاع فهو عفيف. ولا
تنقص إيروس أي معرفة بالحياة. كل ما يحيا يحتاج إلى
معرفة إيروس. وهو رب السلم بين البشر والسكينة في
البحر؛ ولذلك هو الذي يزيل غرابتنا ويجعلنا ننتمي
إلى بعضنا البعض.
ضد هذه الخطبة التي تُقرِّض إيروس، طرح سقراط
أسئلة محرجة لدحضها (١٩٩ج وما بعدها). وقد ركز خطته
في هذا التساؤل الإنكاري: «كل ما أريد أن أعرفه، هو
ما إذا كان إيروس يشعر أو لا يشعر بالرغبة فيما
يحب؟ … هل أن كونه يملك ما يرغب فيه وما يحبه هو ما
يجعله يرغب فيه ويحبه، أم كونه لا يملكه»
(٢٠٠أ).
إن الإجابة التي يريد إثباتها هي: أن إيروس لا
يحب إلا ما لا يملك، إنه لا يحب إلا ما يفتقده. «لا
توجد رغبة إلا فيما ينقصنا، وليس ثمة رغبة فيما لا
ينقصنا» (نفسه). لا أحد يحب ما لديه. الكل يحب ما
ليس لديه. ما لا يتوفر عليه وما ليس حاضرًا بعد.
هذا يعني أن إيروس متعلق بشيء ليس هو، وثانيًا هو
متعلق بما لا يملك (٢٠٠ﻫ). والنتيجة المزعجة عندئذٍ
هي: أن إيروس، الذي وصفه الندماء بالجمال، هو يفتقد
إلى الجمال ولا يملك جماله (٢٠١ب)؛ ولأن الجميل هو
خيِّر دومًا، فهذا يعني أن إيروس ليس خيِّرًا
(نفسه).
في هذا المستوى أقحم سقراط قصة ديوتيما عن إيروس.
ربما كان ذلك هنا إشارة من سقراط إلى أن الحب مسألة
لا تعرفها حقًّا إلا امرأة، وأن الرجل مهما كانت
خطبته «رائعة» عنه (٢٠١ب) فهو يتحدث عما لا يعرف.
أو أن الأمر يحتاج إلى تدخل فيلسوف. وإن كان
فيلسوفًا لم يفهم سر إيروس إلا مما حكته له امرأة،
ديوتيما «الخبيرة في هذه الأمور وفي أمور كثيرة
غيرها» (٢٠١د). هي امرأة عرافة، وبهذه الصفة قال
سقراط: «إنها هي التي علمتني أشياء فيما يهم الحب»
(نفسه). ورغم أن سقراط يواصل نعتها «بالغريبة» فهو
يؤكد أنه سوف يلتزم بطريقتها في الحديث عن
الحب.
وخلاصة الحوار الذي أجراه معها هو أنه، مثل بقية
الندماء، كان يعتقد أن «إيروس كان إلهًا عظيمًا،
وأن له نصيبًا من الجمال» (٢٠١ﻫ). إلا أن ديوتيما
فنَّدت اعتقاده، موضحة كما فعل سقراط نفسه مع
ندمائه، «أن إيروس لا هو جميل ولا هو خيِّر»
(نفسه). لا يعني ذلك أن إيروس قبيح، فهذا سوف يكون
«تجديفًا» عليه. وهي ترفض ذلك. إن ديوتيما تسخر من
الثنائيات (جميل/قبيح، حسن/سيئ، خبير/بليد،
معرفة/جهل …) في الحديث عن الحب. وتؤكد أن «ما لا
يكون جميلًا لا يعني بالضرورة أنه قبيح» (٢٠٢أ).
ووصيتها الطريفة هي: «لا تجبر ما ليس جميلًا على أن
يكون قبيحًا، ولا ما ليس حسنًا على أن يكون سيئًا.
وهذه هي حالة إيروس» (٢٠٢ب)، وهي حالة وسطى بين
الآلهة والبشر: «هو يؤوِّل ويبلِّغ للآلهة ما يأتي
من البشر، وللبشر ما يأتي من الآلهة» (٢٠٢ﻫ).
وعندئذٍ يسأل سقراط: «من هو أبوه إذن؟»
إن السؤال عن «الأب» هو دومًا سؤال عن «الأصل».
كأن الوجود بلا معنى من غير أب. يؤدي الأب هنا دور
الواهب: من «يمنح» الوجود. هناك «وجود» ما لا بد
وأن يسبق كل «موجود». ولذلك كان لا بد من قصة
مؤسسة، قصة تضع الأب في مكانه.
قالت ديوتيما: «إنها قصة طويلة، ومع ذلك سوف
أقصها عليك. ينبغي أن تعرف أنه لما وُلدت أفروديت،
أقام الآلهة حفلًا، ومن بينهم كان يوجد ابن
«ميتيس»، «بوروس». ولكن، عندما انتهت المأدبة، وصلت
«بينيا» (Pénia)،
التي كانت قد جاءت للتسول كما هو معتاد في يوم
وليمة، وكانت تقف عند عتبة الباب. في تلك الأثناء
كان بوروس نشوانًا بشراب الكوثر
(nectar)، إذْ إن
الخمر لم تكن موجودة في ذلك العصر، يتسكع في حديقة
«زوس»، وإذْ غلبته النشوة أخذه النعاس. عندئذٍ
تحركت في «بينيا»، في عوزها وفاقتها، نيةُ أن تنجب
لنفسها ولدًا من «بوروس»، فتقربت إليه فحملت إيروس.
وإذا ما كان إيروس قد أصبح تابعًا لأفروديت وخادمًا
لها، فذلك لأنه أُنجب أثناء الأعراس التي تمت على
شرف ميلاد هذه الربة، وإذا ما كان في نفس الوقت من
طبعه أن يكون محبًّا للجميل، فهذا لأن أفروديت
جميلة.
ثم بما أنه ابن بوروس وبينيا، فإن إيروس يجد نفسه
دومًا على هذه الحال. بداية، هو فقير على الدوام،
وما أبعده عن أن يكون ناعمًا وجميلًا، كما يعتقد
أغلب الناس. بل، بعين الضد من ذلك، هو غليظ، بائس،
بلا مأوى، دائمًا ما يضطجع أرضًا وفي مرقد خشن،
ينام لا يفترش إلا السماء عند عتبة الأبواب وعلى
حافة الطريق؛ إذْ لكونه يشبه أمه، فهو لا يقاسمها
إلا الإملاق والفاقة. غير أنه مثل أبيه، هو يصبو
إلى ما هو جميل وما هو حسن، هو فحل، ذو عزم، متوهج،
هو صياد رهيب، وهو لا يفتأ يحيك الخدع، وهو شغوف
بالمعرفة ومثمر في التدابير، يقضي كل وقته في
التفلسف، إنه حاوٍ مخيف، وساحر وخبير. ويجب أن نضيف
أنه بطبعه لا هو فانٍ ولا هو خالد»
(٢٠٣ب–٢٠٣ﻫ).
إن أول طرح يثير انتباهنا هنا هو اعتبار أن الحب
هو ابن «الفقر»، الفقر متأوَّلًا بوصفه «أمًّا»
(بينيا) متسولة في حديقة الآلهة، تحمل بإله (إيروس)
مثير للشبهات بين الخالدين والفانين؛ لأنه وسط
بينهم، من إله سكران (بوروس، إله الوفرة). ولكن ما
المغزى من تأويل الحب بوصفه «رغبة» في شيء
«ينقصنا»؟ كيف نفهم هذه الرغبة في «المفقود»؟
ولماذا أعادها أفلاطون إلى «الفقر»؟ هل ثمة علاقة
ضرورية بين الحب والفقر؟ ألا يمكن أن يحب «الغني»
مثلما يحب الفقير؟
حسب ما جاء في محاولة المأدبة، لا يمكن أن يحب المرء ما
يملكه، «لا يوجد رغبة فيما لا ينقصنا» (٢٠٠أ) كما
لا يمكن لنا أن نفتقد ما نملكه في الحاضر (٢٠٠ب).
أمثلة سقراط هي: لا يمكن للقوي أن يتمنى أن يكون
قويًّا، ولا يمكن للسريع أن يتمنى أن يكون مسرعًا …
الأطروحة المقدمة هي إذن: إن الافتقار إلى شيء ما
هو وحده ما يجعل الحب ممكنًا. وبهذا المعنى فإن
«الفقر» هو «أم» كل أشكال الحب. لا يمكن تصور إيروس
إلا فقيرًا. ما فعلته المسيحية لاحقًا هو تغيير
ماهية الحب، حين غيرت ماهية الإله.
إن العلاقة بين الفقر وإيروس هي الإطار الفلسفي
العميق الذي انْبنت عليه محاورة
المأدبة.
٥ لذلك لا يهمنا التركيز المعتاد على
مسألة «النقص»
(
éndeia) الذي وجد
احتفاءً مزعجًا من هيغل إلى فرويد ولاكان، بل ما
يهمنا هو مفهوم «الفقر» باعتباره مُشكِلًا
ميتافيزيقيًّا لا بد من طرحه متى أردنا أن نفهم
ماهية الحب بين البشر. ليس «النقص» أو «الإفقاد»
غير تأويل أفلاطوني للفقر. لكن ذلك لا يعني أنه لا
يفكر في الفقر إلا عرضًا.
فمنذ بداية المحاورة يلمح أفلاطون إلى الفقر: إن
سقراط ومحاوره أريسطوديموس
(
Aristodemus) هما
من حيث الهيئة واللباس فقيران (١٧٣ب ٢-٣ و١٧٤أ
١–٤). أول ملامح الفيلسوف أنه فقير. ومن المفيد أن
نعرف أن «فقر سقراط» قد مثل موضوعة فلسفية متواترة
من أفلاطون وكسينوفون إلى ديوجان لايارس.
٦ بل إن سقراط نفسه، مثل بقية
اليونانيين، استعمل فقره كشاهد على أنه يقول
الحقيقة في محاورة
محاكمة
سقراط (٣١ج).
٧ وهنا يبرز الفقر بوصفه صفة مشتركة بين
الإله إيروس والفيلسوف سقراط، تمامًا مثلما أن
التفلسف كان صفة مشتركة بين الإله والبشر.
ذلك يدفعنا إلى الافتراض بأنه لا يمكن أن نفهم الفقر إلا في نطاق
سؤال مناسب عن الحب؛ مناسب أي يكشف وجه
الهشاشة في الحب: أنه في طبيعته حب «لشيء ما»
(٢٠٠أ) لا يمتلكه. لا معنى لحبٍّ أخرس، لا يشير إلى
أي «شيء» خارج عنه، حب لا يكلمنا، هو فراغ صامت.
لذلك يؤكد سقراط أن الحب هو دومًا حب لشيء ما، أي
هو دومًا يصبو إلى مفقود لا يعرفه لأنه ليس هو.
الحب إذن ليس موجودًا، بل هو علاقة. وهذه العلاقة
هي التي تعرِّف «الرغبة»
(epithūmíā). لا
نرغب إلا فيما لا نملكه وما «نفتقر» إليه.
لنقل: إن الفلسفة قد سرقت الفقر من الفقراء إلى
حد تعويضه باسم آخر أقل خجلًا: «الرغبة» بعامة.
وهكذا صار بإمكان الأغنياء أيضًا أن يشاركوا في
التساؤل الأرستقراطي عن ماهية الفقر ولكن بشكل غير
مباشر، عبر السؤال الأخلاقي عن ماهية الرغبة. إلا
أن ذلك قد كان جزءًا من سرقة مضاعفة، طالت «صناعة»
الفلسفة نفسها. ما فعله أفلاطون هو سرقة «الفلسفة»
من الفقراء (سقراط) وتحويلها إلى تأمل أرستقراطي في
ماهية «الرغبة» بوصفها افتقارًا مجردًا لا علاقة له
بما يرغب فيه «الجسم»؛ لأنه افتقار إلى ما «لا»
تملكه «النفس». وذلك يعني أن ما تم هو نقل الإشكال
من مستوى «المِلك» (مجال «الفقر» حيث تعاني
الأجسام) إلى مستوى «الكينونة» (مجال السؤال «ما
هو» الشيء؛ حيث تعثر «النفوس» أخيرًا على مهنة بلا
جسم هي «التأمل»).
وما نتج عن تلك السرقة الفلسفية الموقرة هو تحويل
الفقر إلى مُشكِل زماني يتعلق بماهية المستقبل،
وذلك بناءً على الطبيعة المستقبلية للرغبة.
٨ إذْ لا معنى لحب الحاضر؛ لأن البشر لا
يفتقد ما يملك بل ما لا يملك. وليس هناك جهة يمكن
التوجه نحوها كي نبحث عن المفقود إلا المستقبل، أي
ما ليس بعد. الحب هو ما ليس بعد. إن الناس يحبون
نقصهم؛ أي يرغبون فيما لا يملكون. لا يعني ذلك أن
الفقر هو حالة حب، بل فقط إنه ليس ثمة من طريقة
لتأويل ما نفتقده إلا بوصفه شيئًا مناسبًا كي يكون
موضوعًا للحب. وما نفتقده له بُعد زماني واحد هو
المستقبل. الرغبة شكل مؤلم من المستقبل. وهذا يجعل
الفقر شكلًا من الزمان ليس لنا من طريقة لترجمته
غير مفهوم «الرغبة»، ولا سيما الرغبة
المستحيلة.
وبذلك يبدو أن التمييز بين فقرٍ مادِّي يهم
المقتنيات اليومية وفقر يصيب «النفس» هو تمييز يقع
خارج المُشكِل الميتافيزيقي للفقر. من يحب يفتقر
دون أن ينقصه شيء من ممتلكاته. نحن إذن أمام افتقار
لا يصيب «المِلك» بل يصيب «الكينونة». من يحب يشعر
فجأة بأنه فقير، نعني أنه لا يملك ما يرغب فيه
وبالتحديد في الحاضر. هو فقر يصيب المكان والزمان.
وقد رمز له أفلاطون بالوقوف على عتبة باب الحديقة.
الحب لا داخل له. هو مُشكِل حدودي دومًا. وحده إله
يمكن أن يتوفر على داخل، نعني على وفرة أنطولوجية
لا تطلب إلا ذاتها. أما الحب فهو نوع من «الخارج»،
نابع من تعليق هذا الشعور بالوفرة. هو يعلق الشعور
بالوفرة التي يتمتع بها كل من يملك ما يريد. لكن
الامتلاك ليس حبًّا. المالك لا يفتقد شيئًا؛ ولذلك
هو لا يحب.
من هنا جاء أفلاطون إلى بناء الشبه بين المتسولة
«بينيا» وبين الإله إيروس: فمن يحب يتحول فجأة إلى
متسول كينونة. التسول ليس عملًا. ولذلك لا يمكن
تصور الحب بوصفه عملًا. إن ذلك هو معنى أنه علاقة
محضة، أي علاقة مع مفقود. وهذا يعني أنه لا يملك
جماله ولا قبحه. لو كان المحب لا يرغب إلا فيما هو
جميل لكان يرغب فيما هو حاضر أمامه. وحينئذٍ سيكون
مجرد امتلاك، وليس حبًّا.
إن الطريف في أسطورة إيروس كما تحكيها امرأة خبيرة، مثل شخصية
ديوتيما العرافة، هو أن الحب يولد متسولًا وغريبًا.
وهذا يعني أنه يدين بوجوده إلى حياة أخرى لا
يملكها، حياة عليا لا يعيشها المحبون بل الآلهة. إن
احتفال الآلهة بمولد أفروديت الجميلة هو الذي وضع
إلهًا، مثل بوروس، في منطلقة الكينونة التي تجعل
الحب ممكنًا، وهي منطقة كينونة رمز لها أفلاطون
بالإفراط في شرب «الكوثر»، أي شراب الآلهة أو
الشراب الذي بإمكانه أن يُسكر إلهًا. كأن الحب يظل
مستحيلًا حتى يسكر إلهٌ ويتعرض المستحيل إلى حادث.
الحب هو اصطدام إله الثروة بإلهة الفقر. يبقى أن
نتساءل: «كيف يبدو إله فقير بالنسبة إلى
البشر؟»
علينا أن نسجل هنا مشهد «الجندر» الذي يخترق
أسطورة أفلاطون: إن المرأة هي التي قصدت أن تنجب
لنفسها طفلًا من إله سكران. إن الحب إذن بطبعه
مسروق من إله لا يحتاج إليه. لكن الذي يسرق هنا
امرأة يقدمها أفلاطون بوصفها «متسولة». لا يولد
الحب إلا من حالة تسول إلهية. لكن تسول المرأة
«بينيا»، إلهة الفقر، يبدو هنا مثل مهمة
ميتافيزيقية؛ لأن الذي تتسوله في يوم وليلة إلهية
ليس الطعام فقط، بل تريد أكثر من ذلك: إنها تتسول
الوجود، تتسول طفلًا. ولا يمكنها أن تطلب ذلك إلا
من إله سكران. إله يهب الحياة لأنه يعاني من وفرة
أنطولوجية كان أفضل رمز لها هو الاحتفال بمولد
أفروديت، ربة الجمال.
ما يطلبه الحب إذن هو نصيبه من الاحتفال
بأفروديت. ولا يمكن تصور حب بلا جمال. إن الجمال هو
ما ينقصه؛ لأن أفروديت قد أخذت كل إمكانية الجمال،
ولم يبق عندئذٍ إلا الحب. وهو لا يخجل أبدًا أن
يكون «تابعًا» أو «خادمًا» لها. ليس ذلك لأن أمه
متسولة بل لأن خدمة الجمال هي المعنى المناسب
للاحتفال. الحب خادم لأنه وُلد في عرس، وهو محب
للجميل؛ لأن أفروديت جميلة. إن أفروديت إذن هي
المفقود. وليس الحب غير الرغبة في ذلك
المفقود.
يصرِّف أفلاطون هنا شبكة مفاهيم مثيرة: إيروس
(إله الحب) هو
ابن بوروس (إله الوفرة، الذي هو نفسه ابن ميتيس ربة
الحكمة) وبينيا
(ربة الفقر)،
لكنه وُلد في عرس أفروديت (إلهة الجمال). ما يهمنا هو
الاعتراف الفلسفي بأن الفقر إلهٌ إلى جانب الحكمة
والوفرة والجمال. وهذا المزيج بين الآلهة هو الذي
ينتج الحب، لكن ذلك يعني بنفس القدر أن الفقر ليس
أصلًا لأي شيء، ولا يمكن أن نبني عليه الحكمة أو
الوفرة أو الجمال. لا يصبح الفقر حكيمًا أو غنيًّا
أو جميلًا إلا متى تحول إلى سبب للحب. أن يترجم
فهمه للوجود بوصفه «تسولًا» إلى حب، أي إلى تسول
ميتافيزيقي للكينونة. لا يكون الفقر إلهيًّا إلا
عندما ينجب الحياة.
(٩) لا تحتقر ذاتك الأخرى
كثيرًا ما قدم الفلاسفة مفاهيمهم الموجبة إلى
صدارة الخطاب تاركين أفكارهم السالبة أو المؤلمة
إلى الظل. وعلينا أن نتساءل دومًا: ماذا أخفى عنا
هؤلاء حتى يمكن أن نصدقهم؟ ماذا أخفى عنا أفلاطون
حتى يصبح اختراع الإغريق للفلسفة ممكنًا؟ نعني
اختراع هذا الجنس من الأقوال الذي يمرِّن الناس على
استعمال عقولهم بغية الفوز بنوع من الفضائل يكون
شرط إمكان حفظ النوع من خلالهم. وكان نيتشه قد تشكك
بطريقة مرعبة في سلامة نية سقراط، حتى في قبوله حكم
الإعدام وإقدامه على شرب السم وعدم الهروب من
السجن، وقد كان بابه مفتوحًا. وعلى ما في هذا
التشكك الشجاع من طرافة فلسفية إلا أن جميع
المتفلسفة، بما فيهم نيتشه نفسه، قد ظلوا سقراطيين
أو أفلاطونيين إلى النهاية، نعني سجيني الوعد
الأخلاقي الذي تخفيه الفلسفة تحت ألفاظها في كل
مرة، وذلك بوصفها وعدًا بإفادة موجبة من نوع
ما.
أجل، نحن نملك فلسفات في الشر أو الإلحاد أو
الشفقة أو العدم … لكننا لا نجد من يخصص مشروعه
الفلسفي لبلورة نظرية في اللؤم أو الخيانة أو فلسفة
في الاحتقار. لماذا دأب الفلاسفة على إخفاء هذا
الجانب من الطبيعة الإنسانية، وكأن الغرض من
استعمال العقل هو دائمًا وأبدًا الوعد بخيرٍ ما أو
سعادةٍ أو أمنٍ ما. وحتى من تجرأ منهم على طرح
مفهوم عن اللاوجود أو عن الموت أو عن العدمية أو عن
العبث، بل حتى من تجرأ على إعلان نهاية التاريخ أو
موت الإله أو موت الإنسان أو موت المؤلف … هو ينتهي
غالبًا إلى استئناف رغبة جامحة في تأسيس إرادةٍ ما
أو إثبات معنًى ما أو الدفاع عن قيمةٍ ما أو
التأكيد على ذاتٍ ما ينبغي الرجوع إليها. وذلك
دومًا من زاوية رؤية محددة للعالم أو من زاوية
تقليد روحي أو حضاري بعينه.
لا يبدو هذا الموقف مخيبًا للآمال فقط، ولا سيما
عند من تتم دعوته غالبًا إلى التجرؤ على استعمال
عقله أو على أن يفكر بنفسه، إلخ.، بل هو ينم عن نوع
خفي من الوصاية الأخلاقية على النوع البشري. طبعًا،
لا يختلف الفلاسفة في هذا الأمر عن غيرهم من
المصلحين مهما كان نوعهم؛ من الأنبياء إلى الشعراء،
ومن الساسة إلى قادة الدول، ومن الآباء إلى
العلماء، ومن الملوك إلى الآلهة. لكن ما يجعل موقف
الفلاسفة أكثر إزعاجًا هو كونهم على بينة مريعة من
أن حصر استعمال العقل في الرسائل الإيجابية تجاه
النوع البشري في لغة حضارة دون غيرها، هو ما يجعله
محكومًا عليه سلفًا بألا يغطي بشعاعه إلا جزءًا فقط
من طبيعتنا البشرية، وخاصة في زمن صارت فيه مهددة
بشكل مرعب وراثيًّا وإيكولوجيًّا؛ وذلك يعني أن
سياسة الحياة على الأرض لم تعد تحتمل أي نوايا
أخلاقية حسنة إضافية.
ولكن هل يعني ذلك أن كل وعد جديد بمستقبل أفضل هو
مجرد مواصلة للوصاية الأخلاقية بطرق أخرى؟ أم أن
الحق في الوعود هو جزء لا يتجزأ من سردية الحياة في
أي ثقافة؟ ومن ثم أنه لا يجوز لأحد، مهما كانت هيئة
المعنى أو السلطة أو الحقيقة التي يمثلها أو يستند
إليها، أن يجرد الناس من حقهم في الوعود، ولا سيما
تلك التي توفرها نماذج العيش الخاصة بشعب ما؟ إلى
أي حد يمكن للفيلسوف أن يجرد شعبًا معينًا من حقه
في مواصلة الاعتقاد في صلاحية نموذج العيش الذي
ينتمي إليه؟ بعض الناس لا يتعرف على نفسه إلا داخل
سردية ما.
قد يبدو أنه لا يمكن الجمع بين حرية التفكير
وحرية الإيمان إلا تهكمًا. لا يجوز لأحد أن يدافع
عن حقه في الانتحار أو في الجهل أو في الاحتقار.
ولكن لماذا؟ أليست هذه هي العلامة المزعجة على
الوصاية الأخلاقية على النوع البشري كما نعرفها منذ
بضعة آلاف سنة؟ كان استعمال العقل مرتبطًا دومًا
بنوع من الرسالة الأخلاقية، نعني بنوع من الحكم
المعياري على منزلة الإنسان في الكون أو في حدود
العالم الذي نعرفه سواء في السرديات الدينية أو تحت
الإضاءة العلمية. تقتضي مدونة الأخلاق في الثقافات
التقليدية أن يحصر المصلح مهمته في تدبير مفهوم
الخير وتحويله إلى لوحة تأسيسية للمعنى. وكل
الجدالات بين الشعوب والثقافات والأديان لم تغير
شيئًا من طبيعة هذا الرِّهان الأخلاقي: أن النوع
البشري، كما يعبر عن نفسه في لغة كل شعب على حدة،
هو محتاج دومًا وبلا رجعة إلى وصاية أخلاقية على
رأيه في ماهيته، التي لم تستقر بعد حسب تقدير
نيتشه، وذلك مهما كان الشكل الذي تأخذه تلك
الوصاية. كل نموذج عيش هو مجرد صياغة خاصة، محلية،
داخل قرية روحية معينة، مثل الغرب أو الإسلام أو
المسيحية أو اليهودية، أو البوذية … إلخ، لذلك
القرار المعياري الموحد، المتواري تحت تعابير عدة،
لكنه لا يتغير إلا عرضًا.
يقول هوبز في كتاب التنِّين
(I، ٦): «هذه
الأشياء التي لا نشعر إزاءها لا بالرغبة ولا
بالكره، نحن نقول إننا نحتقرها». ما نحتقره لا
يمكنه حتى أن يكون كريهًا أو غير مرغوب فيه. لكن
الاحتقار لا يصبح مثيرًا للاهتمام الفلسفي إلا حين
يتعلق بالإنسان بما هو كذلك، نعني بقطع النظر عن أن
يكون ذاتنا الخاصة أو الآخر الذي يغايرنا بشكل لا
يمكن التفاوض حوله. إن المُشكِل في الحالتين هو ما
سماه الفلاسفة منذ هيغل «نزاع الاعتراف». من لا
يعترف بنا يحتقرنا. لا يتعلق الأمر بمجرد إقرار
بوجود خارجي أو بنوع من الحضور الفارغ من أي صلاحية
أنطولوجية. إن المُشكِل هو الاعتراف بذاتٍ ما
بوصفها ذاتًا «مثلنا»، وليس وسيلة بشرية تحت تصرفِ
«أنا» لا يراها.
ولكن لماذا تعود الناس على انتظار الاعتراف بهم؟
أليس ذلك بسبب الوصاية الأخلاقية الخفية طويلة
الأمد عليهم؟ نحن لا ننتظر سلفًا إلا ما نملكه في
طبيعتنا أو ما وعدتنا به السردية التي ننتمي إليها.
كل الثقافات والأديان قامت في كل مرة على وعود
سردية أو أخلاقية كبرى أو تأسيسية، حولت أعضاء
الجماعة الروحية التي تأسست عليها إلى رعايا سرديين
أو مواطنين أخلاقيين يتمتعون سلفًا بحق في الوعد
بمستقبل ما. لكن أول تعبير عن ذلك الوعد هو
الاعتراف بهم بما هم كذلك. لا يوجد الإله إلا بقدر
ما يعترف بنا. وكذا الدولة أو حتى اللغة التي
نتكلمها.
لكن ما انتبهت إليه الفلسفة المعاصرة، وخاصة في
كتابات أكسيل هونيث، مثل
نزاع الاعتراف (١٩٩٢م)
٩ أو كتاب
آخر
العدالة؛ مقالات في الفلسفة العملية (٢٠٠٠م)
١٠ والذي تُرجم إلى الفرنسية تحت عنوان
طريف هو
مجتمع
الاحتقار (٢٠٠٦م)
١١ وإلى الإنجليزية تحت عنوان مجانس هو
الاحتقار: الأسس المعيارية
للنظرية النقدية،
١٢ هو أن «الاحتقار» أو «عدم الاحترام»
(
Missachtung) هو
ليس مجرد «انفعال» حزين أو مجرد «رأي» حول دناءة أو
ضآلة شيءٍ ما، كما ظن الفلاسفة إلى حد ديكارت (كتاب
انفعالات النفس،
الفقرة ١٤٩)، بل هو «ديناميكية اجتماعية» معقدة،
وذلك يعني أن الاحتقار الذي يطال الذات هو ظاهرة
عقلانية، ناتجة عن مرض اجتماعي هيكلي. يقول هونيث:
«أنا أعني بالأمراض الاجتماعية، تلك العلاقات أو
التطورات الاجتماعية التي تُلحِق ضررًا لدينا
جميعًا بشروط تحقيق الذات.»
إن الناس ذوات تبني هوياتها الشخصية في ظل عدم
احترام نسقي لها، يقوم على إخضاعها لسلطة تجردها من
حقها في نفسها، ومن نوع الكرامة الذي تتمتع به بما
هي كذلك؛ ولذلك فإن كل برنامج أخلاقي نقدي حول
طابعها الاجتماعي لا يمكن أن يقف عند البحث عن
نظرية معيارية؛ أي مجردة في العدالة، لا تُطبَّق
إلا في مجتمع جيد التنظيم، كما ظن جون رولز، بل يجب
أن يكون قائمًا على أنواع صريحة ومهيكلة من نزاع
الاعتراف (تكون أشكالها الأساسية انطلاقًا من هيغل،
حسب هونيث، هي اعتراف الحب أو الصداقة بين الذوات،
واعتراف القانون بعلاقات حقوقية بين الأشخاص،
والاعتراف التضامني بقيم جماعوية مشتركة). وإن
طرافة هونيث تكمن أساسًا في تركيزه على الجانب
«المشوه» من فكرة الاعتراف الحديثة، وليس في مجرد
بناء نظرية مثالية عنها. لا يمكن أن نفهم معنى نزاع
الاعتراف من دون تشخيص الباثولوجيا الاجتماعية التي
تشوهه. وإن أكبر تشويه لأي نزاع للاعتراف بين البشر
هو الاحتقار.
يكمن الاحتقار في أن نمنع أحدًا من أن يكون ذاته.
والحال أن المجتمع ليس له أي مبرر آخر غير توفير
حياة أخلاقية أو سنن اجتماعية
(Sittlichkeit)،
تمكن البشر من أن يصبحوا أفرادًا، أي كائنات تمتلك
هوية خاصة وتقيم علاقة موجبة بأنفسها. ومن يحتقرنا
يبطل هذا الشرط الأخلاقي، وينصِّب نوعًا من القفر
أو التوحش الصوري داخل العنصر الاجتماعي نفسه. لا
يتعلق الأمر بأي نوع من الترف الأخلاقي أو النجاح
السياسي. إن العنصر «الاجتماعي» ليس «سياسيًّا»
بالضرورة. إنه مساحة الفرد وليس مساحة الدولة. ومع
ذلك فإن الاحتقار هو مُشكِل سياسي. إن المجتمع
المعاصر قد جرَّد الفرد من شخصه الإنساني بأن
اختزله في ثمن العمل الذي يمكنه القيام به. نحن
نساوي نوع العمل الذي يمكننا أن نبيعه بمقابل. وكل
تحويل للعمل المأجور إلى سلعة هو عملية تشيؤٍ
تُجرِّد الشخص الإنساني من كرامته؛ أي من منزلته
الأخلاقية كإنسان. وهكذا لا توجد الدولة الحديثة
إلا بقدر ما تجرد الأفراد من هويتهم الشخصية
وتحولهم إلى موظفين. يقوم الاحتقار الوظيفي أو
الاحتقار العقلاني على طمس التمييز الخطير الذي كان
يدافع عنه كانط بين الأشياء التي لها ثمن والأشياء
التي لها كرامة أو مكانة. يقول: «في مملكة الغايات،
كل شيء له ثمن أو له كرامة. فما له ثمن يمكن تعويضه
بشيء آخر بوصفه مكافئًا له، أما ما يتفوق على كل
ثمن، وبالتالي لا يقبل أي مكافئ له، فهو الشيء الذي
له كرامة. إن ما يتعلق بميول الإنسان وحاجاته
العامة، هو له ثمن تجاري … أما ما يشكل الشرط الذي
هو وحده ما يجعل شيئًا ما غاية في ذاته، فهذا الأمر
هو ليس له فقط قيمة نسبية، نعني ثمنًا، بل له قيمة
جوهرية، أي له كرامة.»
الاحتقار هو الخلط العقلاني بين الثمن والكرامة.
وإن جوهر الرأسمالية هي كونها قد نقلت الاحتقار من
الضجيج الأخلاقي حول الانفعالات الحزينة إلى
ديناميكية اجتماعية تقوم على الاستيلاء الوظيفي على
الأجساد المدربة واستثمارها بشكل نسقي، نعني في شكل
إدارة تضبط سياسة الحياة الخاصة للفرد المعاصر
بوصفها ثروة اقتصادية يمكن الاستثمار فيها. إن
الاحتقار له دومًا أساس معياري أو هو سياسة
اجتماعية تقوم على دفع المعايير للخروج من سياقها
الوظيفي وتحويل المعرفة إلى سلطة.
وإن النتيجة المباشرة لهذا التغير في براديغم
الاحتقار هو أن يكف بعض الأفراد عن الظهور ويتحولوا
إلى كائنات غير منظورة اجتماعيًّا، مثل العاطلين
والمرضى والمعوقين والسجناء واللاجئين والمحتلين
والرهائن والأسرى والمثليين و«العبيد الجدد»، وربما
الأجنة والمستنسخين والمتحولين … إلخ.
إن الاعتراف المتبادل القائم على الاحترام بين
ذاتين عقلانيتين ومريدتين وحرَّتين هو حلم كانطي
أصبح ممتنعًا بشكل مخجل بعد تطور المجتمع المعاصر
نحو أمراض اجتماعية هيكلية، أي ناجمة عن المنظومة
وليست مجرد حوادث مرورية على حدودها. قال هونيث:
«أن نصبح غير مرئيين
(invisibility) …
هو نتيجة لتشوه قدرة الإدراك لدى الكائنات
الإنسانية التي هي مرتبطة بالاعتراف.» ولا بد من
التمييز هنا بين «أن نعرف» شخصًا وبين أن «نعترف
به». إن المجتمع الرأسمالي يحصر العلاقة مع الفرد
في مجرد معرفته حتى يمكن استعماله، لكنه لا يقيم
وزنًا لمسألة الاعتراف به بما هو ذات خاصة، بل يعمل
على تحييدها. والأطروحة التي دافع عنها هونيث هي:
«الاعتراف يسبق المعرفة.» إن الاحتقار هو سياسة عدم
إدراك تحول الشخص الذي أمامنا إلى شيء غير منظور،
تحوله من «أنا» له لحم ودم إلى «هو» بلا
ملامح.
وهكذا ليس كل ما يسيء إلى الغير هو يدخل في مفهوم
الاحتقار كما طوره أكسيل هونيث. لا يصبح الاحتقار
مُشكِلًا تدور حوله نظرية نقدية في الفلسفة
الاجتماعية إلا عندما يُلحِق ضررًا معياريًّا
فادحًا بالهوية الشخصية للفرد المعاصر. وذلك يمتد —
حسب هونيث — إلى ثلاثة مجالات: الاعتداء على الجسد
وإنكار الحقوق وازدراء نماذج العيش. وبذلك فإن
تجربة الاحتقار هي ظاهرة مركبة وذات طرافة خاصة،
وليس مجرد انفعال حزين لفرد معزول. إن الاحتقار
الذي يطال الذات (بما هي مساحة جسدية أو مجموعة
حقوق أساسية أو نموذج عيش) هو وحده الذي يتطلب خوض
شكل من أشكال نزاع الاعتراف الثلاثة التي أحصاها
هونيث؛ أي الحب أو القانون أو التضامن. كل معنى
للمقاومة يجب أن يتجذر أولًا في حقل الاعتراف
بالذات. ما عدا ذلك هو تخرص أخلاقي من خارج.
بيد أنه لا يمكننا احتقار ما يوجد خارج ذواتنا أو
خارج المساحة البيذاتية التي يؤسسها مجتمع ما.
ولذلك فإن الاحتقار هو عمل بيذاتي ناتج دومًا عن
تشوه في تجربة الاعتراف بالذات داخل مجتمع ما. ومن
المزعج حقًّا أن الفلاسفة الغربيين لا يُولُون
الاحتقار بين الشعوب أو بين المجتمعات أو بين
الأديان أو حتى بين الجغرافيات، الأهمية الفلسفية
التي نشعر بها. كما أن هونيث لا يكاد يخفي قناعته
الفلسفية بأن الاحتقار هو عنصر جدلي موجب؛ لأنه
ربما كان في أصله هو الدافع الخفي للنزاعات
الاجتماعية ومن ثم لأشكال المقاومة أو نزاعات
الاعتراف. وإذا كانت كل إشكالية هونيث عن نزاع
الاعتراف مصدرها هو هيغل، فإن هيغل نفسه قد مارس
نوعًا صريحًا؛ أي كولونياليًّا، من الاحتقار
التأملي لكتلٍ روحية ضخمة من الإنسانية الحالية،
ونعني هنا على سبيل المثال أفريقيا السوداء.
قال: «في هذا الجزء الأساسي من أفريقيا، لا يمكن
أن يوجد تاريخ بأتم معنى الكلمة. ما يحدث هو
متوالية من الحوادث، والوقائع المثيرة. لا توجد
غاية، أو دولة يمكن أن تشكل هدفًا. ليس ثمة ذاتية،
بل فقط كتلة من الذوات التي تدمر بعضها بعضًا …
وبصفة عامة يجب أن نقول إنه في أفريقيا الداخلية لم
يصل الوعي بعدُ إلى حدس شيء له صلابة موضوعية.
وبالموضوعية أنا أعني الله والأبدي والعادل
والطبيعة … إن الأفارقة لم يبلغوا بعد إلى الاعتراف
بالكلِّي. إن طبيعتهم هي الانكفاء على الذات …
والطريقة الوحيدة التي يمكنها إلى حد ما أن تقرِّب
الزنجي من الحضارة يبدو أنها هي الإسلام، إن
المحمديين هم على كل حال يعرفون أفضل من الأوروبيين
كيف ينفذون إلى داخل هذه البلاد.»
كيف يمكن للفلسفة عندئذٍ أن تخترع نوع نزاع
الاعتراف الذي بإمكانه أن يحرر هيغل من لوثة
الاحتقار التأملي للروح الذاتي في أفريقيا أو في أي
مكان آخر؟ وهل يمكننا نحن أن نساعده وقد اعترف لنا
بسبقٍ ما في الولوج إلى تلك الذات الغريبة يفضِّلنا
على الأوروبيين؟
(١٠) الجسور تقف وحيدة
تقديم: الفلسفة وفن الجسور
في سنة ٢٠٠٦م نشر الفيلسوف الفرنسي ميشيل سار
كتابًا عنوانه: «فن الجسور؛ الإنسان الجسري»
١٣ مصرحًا فيه على نحو مثير: «أنا لم
أحلم أبدًا إلا بالجسور، ولم أكتب أبدًا إلا
عنها، ولم أفكر أبدًا إلا فيها، وأنا لم أحب
إلاها. هذا الكتاب حول الجسور ينتهي كأنه كتاب
كل الكتب التي كتبتها». ما الذي حدا بفيلسوف
مرموق في أوج نضجه النظري وشهرته العالمية —
أستاذ في جامعة ستانفورد وعضو في الأكاديمية
الفرنسية — أن يُقْدم على تكريم الجسور المادي
منها وغير المادي؟ فقد وُصف الكتاب بأنه بمثابة
بوح بالحب تجاه الجسور لم يسبق له مثيل. نحن
مدعوون بذلك إلى إلقاء نظرة سريعة على تاريخ
علاقة الفلاسفة بالجسور أو كتابة تاريخ مفهوم
الجسر في الفلسفة، كيف دخل إلى معجمها، وما هي
الأدوار التي أداها داخل ورشاتها.
ولكن قبل ذلك علينا أن نتعرف على حجة ميشيل
سار حول حبه للجسور وخاصة حول العنوان الصغير
الذي ضمنه عنوان كتابه، نعني عبارة
Homo
pontifex: «الإنسان
الجسري» أو «الإنسان الجاسر». إن عبارة
pontifex نفسها
جديرة بالمساءلة: فهي مكونة من
pons؛ أي «جسر»
أو «طريق»، ومن
facio؛ أي
«يصنع» أو «يعمل». ومن ثم هي تعني «صانع
الجسور». لكن ميشيل سار يشير إلى معنًى أكثر
جلالة هنا: إن
pontifex أو
«صانع الجسور» هو اسم «الحبر الأعظم»
(pontifex maximus)
في روما القديمة الذي يقود هيئة الأحبار. ولو
أخذنا معنى «حبر» في العربية؛ أي زيَّن الخط أو
بينه بالحِبر، ومن ثم كتب أو كان «حبرًا» أي
عالمًا بالكتاب، فإن إشارة ميشيل سار سوف
تقودنا إلى أن «باني الجسر» هو «القائد الروحي»
بواسطة «الحبر»؛ أي ما نسميه «الكاتب»
بعامة.
بهذا المعنى علينا أن نقرأ كتاب سار «فن
الجسور»: إنه حب لاستعارة الجسر؛ لأنها لا تعدو
أن تكون استعارة الكتابة بإطلاق، تلك التي تصف
الرغبة في التقريب والربط والتوحيد بين أجزاء
الإنسان واختلافاته ونزاعاته مع نفسه. ولأن
الحب يحتاج دومًا إلى مفارقة فنحن نحب الجسر
حسب ميشيل سار؛ لأن الجسر يجمع الغيريات ويصنع
الطريق. فالجسر عنده يكتب؛ أي يربط ويترجم
ويقرب الموجودات ولكن دون أن يملكها. الجسر لا
يلغي الاختلافات بل يحررنا منها بجرأة وكرم.
الجسر يُبقي الآخر مغايرًا لكنه يمكننا من لمسه
وفهمه. وشعار الجسر حسب ميشيل سار: «أن نحب دون
أن نملك». ولذلك يصف كل كتبه بأنها تجارب حب
تجاه الجسور. وعلينا أن نسأل: كيف دخلت استعارة
الجسر إلى معجم الفلاسفة؟
أفلاطون واﻟ
metaxu: وسائط
وبرازخ
علينا أن نشير منذ الآن إلى أن الجسر غير
ممكن من دون مسافة فاصلة كافية لجعل العبور
مستحيلًا. هناك دومًا منطقة وسطى تجعل الحاجة
إلى مد الجسور ممكنة. هذه المنطقة الوسطى سماها
اليونان
metaxu؛ وهي
فاصل بين حدين، موقع وسط بين نقطتين قصويين،
وخطوة نحو قطب متميز يجذبنا إليه. هي — حسب
أفلاطون في محاورة المأدبة (202e-203a) — حالة
«إيروس» أو «الحب» بين ما هو فانٍ وما هو خالد.
الحب وسط صعب بين الفناء والخلود، ولذلك يسميه
اليونان بأنه
daimon،
«جنِّي» تائه في منطقة وسطى عليه أن يعبرها بين
البشر والآلهة. وسقراط كان له «جني» خاص به
يلهمه الحكم على الأشياء. قال سقراط: «كل ما له
طبع الجني هو يوجد في منطقة وسطى بين الفاني
والخالد». وهو مُشكِل توقف عنده أرسطو وظل
مشغولًا بالطريقة التي يجدر بالفيلسوف أن
يعرِّف بها ماهية الأشياء «الوسيطة» (المواضع،
VI، ١٢)،
ويعترف في أكثر من مكان بأن الوسائط تُقال على
أنحاء عدة.
ربما كانت طرافة اليونان في اكتشاف هذه
المنطقة الوسطى بين الفانين والخالدين بحيث
صارت مهمة الحضارة اليونانية برمتها، كما تقول
سيمون فايل،
١٤ هي «البحث عن الجسور التي نطلقها
بين البؤس البشري والكمال الإلهي.» ولكنها
تستدرك قائلة: «هذه الجسور لدى اليونان نحن
ورثناها عنهم لكننا لا نعرف كيف نستعملها … نحن
نعرف أنها جسور، أشياء جُعلت كي نمر عليها»،
لكننا لا نفعل. إن اليونان اخترعوا فكرة
«التوسط» لكنه من الصعب جدًّا أن نقيم في منطقة
وسطى بين الفناء والخلود. وذلك أن الوسط هو
منطقة الجن، وهي حسب فايل «منطقة الخير والشر»
التي لا تستقيم ماهية الفانين إلا بها. ولذلك
هي توصي قائلة: «لا تحرموا أي كائن بشري من اﻟ
metaxu الخاصة
به، أي من خيراته النسبية المختلطة (من بيته،
وطنه، تقاليده، ثقافته …) التي تُدخل الدفء على
النفس وتغذيها، والتي من دونها لا تكون أي حياة
إنسانية ممكنة.»
لكن تاريخ الفلسفة يبين أن اليونان، مثل
القدماء بعامة، قد ظلوا غير قادرين على حل
معضلة «المنطقة الوسطى» هذه، التي ظلت فكرة
عابرة للحضارات القديمة. نحن نجد عبارة مختلفة
عنها في تراثنا الصوفي من خلال مفهوم «البرزخ»
لدى ابن عربي: عالم المثال أو الخيال بين عالم
الأرواح وعالم الأجساد. كيف نفهم العلاقة هنا
بين metaxu أو
«البرزخ» وبين «الجسر» كما فكر به
المحدثون؟
لنقل بشكل مؤقت: كل ما هو عمودي يمنع الجسور.
وتلك هي معضلة القدماء من أفلاطون إلى ابن
عربي. كان الوجود في نظر القدماء دائرة، قياسًا
على أفضل الموجودات، أي عالم «السماء». لكن ذلك
جعلهم يعتقدون سلفًا أن الهوة بين المحسوس
والمعقول هي فاصل روحي عمودي بين البشر
والآلهة، ومن ثمة فإن مهمة الفلاسفة (مثل مهمة
الأنبياء الإبراهيميين) هي تذليل هذه الهوة أو
المنطقة الوسطى بين الفانين والخالدين بواسطة
استعمال معين للغة بوصفها إنشاءً للعوالم. لكن
رأس الصعوبة أن فهم القدماء للوسائط قد ظل فهما
عموديًّا يحرص على بناء عوالم مفارقة لبعضها
البعض لا تصمد إلا بقدر رعاية الفواصل بينها.
كل الشعوب التقليدية عاشت سردية مشابهة: ضرورة
الانتصار على الموت بواسطة قصة عمودية ودائرية
مع السماء. لكن ما هو عمودي هو «هووي» دائمًا:
إنه لا يحاور الجيران لأن كل جار هو متورط
سلفًا داخل سردية أصلية. وكل ما هو أصلي هو
عمودي؛ نعني: يفترض وحدانية لا تقبل التفاوض.
وهكذا كان لا بد من تغيير العلاقة مع المكان
بعامة، أي مع الوجود، حتى يصبح مد الجسور بين
البشر ممكنًا، وهو لن يصبح ممكنًا إلا عندما
يكف عن أن يكون طقسًا هوويًّا؛ أي علاقة عمودية
مع علاقات عمودية معادية. هذا التغيير في
العلاقة مع المكان هو «الحداثة»، وخاصة كما
طرحها كانط.
كانط والجسر فوق الهاوية
إن الحداثة حدث مكاني وجغرافي جذري تم فيه
منذ القرن السابع عشر توحيد المكان من خلال
تأسيس فيزياء رياضية لم يعد فيها الفصل ما قبل
الحديث بين ميكانيكا سماوية وميكانيكا أرضية
أمرًا ممكنًا. وكل طرافة الحداثة هنا تكمن في
الكف عن النظر إلى الموجود الكامل بوصفه
«دائرة»، ومن ثم الدخول في علاقة «أفقية» مع
سائر الموجودات بوصفها خطًّا أو عالمًا واحدًا.
هنا وقع التحرر من التصور العمودي للمسافة التي
تفصلنا عن حقيقة أي موجود. ومن ثم التخلص من
الانفراد الهووي بالإجابة الوحيدة عن سؤال
الحقيقة.
يمكن القول بأن كانط هو من أدخل استعارة
الجسر إلى معجم الفلسفة. ومن ثم رسم خطًّا
إشكاليًّا يمتد إلى حد كتاب ميشيل سار المشار
إليه، وذلك مرورًا باختبارات طريفة لهذه
الاستعارة تعبر نصوص مؤلفين كثر من حجم نيتشه
وزيمل وكافكا وهَيدغر وريكور وغيرهم.
ففي الفقرة ٢ من مقدمة نقد ملَكة الحكم عاد كانط إلى
مسألة «المنطقة الوسطى» التي شغلت القدماء،
لكنه ترجمها في براديغم الذات؛ حيث قدمها على
أنها عبارة عن «هوة سحيقة
(eineunübersehbare
Kluft) بين ميدان مفهوم
الطبيعة، بوصفه ما هو محسوس، وبين ميدان مفهوم
الحرية، بوصفه ما هو فوق المحسوس.» لكن هذه
الترجمة قد قادت كانط في الفقرة ٩ من نفس
المقدمة إلى إدخال مصطلح «الجسر» باعتباره هو
الحل «الحديث» الممكن لمسألة المنطقة الوسطى
التي لا يمكن البقاء فيها. قال: «بسبب الهوة
الكبرى التي تفصل ما فوق المحسوس عن الظواهر …
فإنه من غير الممكن أن نمد جسرًا
(eine Brücke)
من ميدان إلى آخر.» إن مهمة الفلسفة الأخيرة
حسب كانط هي أن تبحث عن طريق لرصد إمكانية
علاقة مناسبة بين معرفتنا للطبيعة وقدرتنا على
استعمال حريتنا. على الإنسان أن يعي أنه يعيش
في عالمين مختلفين، عالم الطبيعة حيث يعرف
الظواهر بشكل نظري، وعالم الحرية حيث يشرِّع
لإرادته بشكل عملي. لكن هذين العالمين لئن كانا
لا يتدخل أحدهما في الآخر فهما يوجدان في عالم
الحس. ومن ثم فإن ما يفزع الفلسفة ليس الطبيعة
أو الحرية بل وجود حقل آخر، «حقل لا حدود له
ولكن أيضًا لا يمكن أن تلِج إليه كل ملكاتنا
المعرفية» كما جاء في الفقرة ٢. هذا الحقل
يسميه «حقل ما فوق المحسوس» الذي لا يملك
«عالمًا خاصًّا» بل فقط مجالًا حيث «يمد الجسر
من ميدان إلى آخر» أي من الطبيعة إلى الحرية،
ومن العلم إلى الأخلاق فوق «هوة سحيقة» لا يمكن
عبورها بالعلم ولا بالأخلاق بل بنوع واحد من
استعمال ملكاتنا هو «ملكة الحكم»؛ أي بالفن.
كان استنتاج كانط الأخير هو أن الفن وحده هو
القادر على مد الجسر فوق الهاوية التي بناها
العقل الحديث بين ما يعرفه في العلوم وما يجب
أن يفعله في الأخلاق. ومنذ كانط صار «إلقاء
الجسور فوق الهاوية التي لا يُسبَر غورها» مهمة
فلسفية ذات ملامح يمكن ارتسامها لاحقًا، وخاصة
منذ نيتشه.
نيتشه وجسر زرادشت
مع نيتشه أخذت استعارة الجسر منحًى مثيرًا،
تحولت بموجبه من مجاز طوبيقي لدى كانط من أجل
ردم الهوة التي تفصل الطبيعة عن الحرية، إلى
أمثولة شعرية وإيتيقية؛ حيث بات الجسر تعريفًا
لماهية الإنسان المبحوث عنها. ومنذ تأملات لا راهنة، ٣،
استعمل نيتشه استعارة الجسر بطريقة مثيرة
قائلًا: «لا أحد يمكنه أن يبني الجسر الذي يجب
عليك أن تعبره فوق نهر حياتك، لا أحد غيرك … لا
يوجد في العالم إلا طريق واحد لا أحد غيرك
يمكنه أن يمر. أين يؤدي؟ لا تسأل، بل اتَّبعه».
كل طرافة نيتشه هنا هي انتهاج مماهاة مقصودة
بين ماهية الإنسان والطريق الذي يمشي فيه، ومن
ثم بين الذات والجسر: نحن جسور أنفسنا، على نحو
لا تفاوض حوله. ويدفع نيتشه بهذا الافتراض إلى
أقصاه حين يجعل الجسر نحو أنفسنا شيئًا لا نعثر
عليه في العالم، بل علينا أن نبنيه بأيدينا.
ولأنه بناء لا وجود له إلا بواسطتنا فهو طريق
لا يمكن لأي شخص آخر غيرنا أن يمشي فيه. يبدو
الجسر بمثابة شكل الحياة نفسه حيث لا يمكن لأحد
أن يعوض أحدًا.
قال نيتشه في الفقرة ٤ من استهلال
هكذا تكلم زرادشت:
«إنما الإنسان حبلٌ موصول بين الحيوان
وما فوق الإنسان، حبل فوق الهاوية. خطير أن
تجتازه، خطير أن تكون على الطريق، خطير أن
تتلفت، خطير أن تقشعر وأن تتوقف.
وما هو عظيم في الإنسان هو أنه جسرٌ
(eine
Brücke) وليس غاية نفسه:
ما يمكن أن يُحَب في الإنسان، هو أنه
معبَر
ومهواة.
أحب الذين لا يعرفون إلى الحياة سبيلًا
إن لم يكن من حيث ما يتهاوون؛ لأنهم ذاهبون
إلى ما أبعد من أنفسهم.»
من هنا يتأتى معنى جديد: أنه لا يكفي أن تكون
جسرًا، بل عليك أن تحتمل كل الهاوية التي توجد
تحته. نعني أن الجسر لا غاية له، هو لا يؤدي
إلى أي مكان، بل هو طريقة الإنسان في اكتشاف
الهاوية التي يحملها في داخله: إنه كائن لم
تستقر طبيعته بعد، وبالتالي فهو لا يصل أبدًا.
إنه دومًا في الطريق نحو «ذاته» التي هي عند
نيتشه مجرد وعد بشيء يتخطى أفق الإنسان أطلق
عليه اسم der
Übermensch الذي لا يعني أبدًا
«الإنسان الأعلى» أو «الإنسان المتفوق»، بل تلك
الإيماءة الصعبة نحو شيء يتخطى أفق «الإنسان
الأخير» الذي توقفت عنده أحلام الإنسان إلى حد
الآن. معنى «ما فوق الإنسان» هو كل الاحتمالات
التي تتجاوز ما عرفه الإنسان عن نفسه إلى حد
الآن. قال: «إني أعلِّمكم ما فوق الإنسان.
فالإنسان شيء يجب أن يتم تجاوزه.» إن مصطلح «ما
فوق الإنسان» هو عبارة تحمل العبور في
بنيتها.
ومن ثم هو مفهوم يجد في استعارة «الجسر» كل
ثروته الدلالية وكل الإشكالات التي ترنو إليها:
إن أخطر معنى هنا هو أن يكف الإنسان عن معاملة
نفسه بوصفه «غاية» نفسه، وأن يشرئب إلى مرحلة
أخرى من مغامرته نحو ذات لم يلمس ملامحها بعد.
الإنسان الراهن هو مجرد «حبل» ممدود بين
«الحيوان» (بوصفه الماضي النائم في الجسد) وبين
طور يتخطى أفق الإنسان هو معنى «ما فوق
الإنسان» (وهو مستقبل أخلاقي لإرادتنا لا نعرفه
لأنه يفترض منا أن نؤمن ﺑ «عبورنا» و«سقوطنا»
نحوه كشيء نريده لأنه مستقبلنا الوحيد). لكن
أفضل ما يفعله الإنسان الذي هو نحن هو أن يحتمل
كل دلالات الجسر التي يشتق منها ذاته الحالية.
وبالتالي أن يقبل العبور نحو ما لا يعرفه، وأن
يهوي في متاهة الاقتدار الذي يحدوه دون أن
يسيطر عليه.
قال زرادشت: «لكل نفس ينتمي عالمٌ آخر، وكل
نفس هي بالنسبة إلى كل نفس عالم آخر.
وإنما بين أكثر الأشياء تشابهًا تولد أجمل
الأوهام؛ ذلك أنه كلما دقت الهاوية وتوارت كان
مد الجسر فوقها كأصعب ما يكون.»
ولكن حين يصبح الإنسان نفسه جسرًا نحو ذاته
القادمة، علينا أن نسأل عندئذ: كيف يجدر بإنسان
عصر التقنية أن يواصل بناء الجسور؟ كيف يجدر به
أن يتفكر في علاقة الجسور بمعنى الكينونة في
العالم؟
هَيدغر وجسر الكينونة
في سنة ١٩٥١م ألقى هَيدغر محاضرة تحت عنوان
Bauen,
Wohnen, Denken:
«أن نبني، أن نسكن، أن نفكر». كان الرهان
الفلسفي هو معالجة هذا السؤال: «بأي وجه ينتمي
البناء إلى ماهية السكن؟» وهو ما حاول هَيدغر
أن ينجزه في القسم الثاني من النص. وهو طرحٌ ما
كان ليهمنا هنا إلا لأنه اتخذ من استعارة
«الجسر» مثالًا حاسمًا. من دون جسر تواصل
الضفتان عدم اكتراثهما الواحدة بالأخرى. لذلك
يعتبر هَيدغر أن الجسر هو الذي يصنع الضفتين،
بل يجمع النهر والضفتين والبلاد نفسها في «جوار
متبادل». الجسر «يجمع الأرض» ويحولها إلى «جهة»
يمكن التوجه فيها. لكنه لا يفعل ذلك إلا لأنه
يخترع «الطريق» للبشر، «الفانين» الذين يقتبسون
من الجسر طريقهم، أولئك «العابرون دومًا نحو
الجسر الأخير». لكن من يجد طريقه يقترب مما هو
«إلهي» في أفق البشر. يقول هَيدغر: «إن الجسر
يجمِّع [الكينونة] من حيث هو الممر العابر أمام الآلهة.»
١٥ ولكن بأي معنى؟ قال: «إن الجسر على
طريقته يجمع الأرض والسماء، وعند نفسه يجمع
الآلهة والفانين.» ومن ثم يقرأ هَيدغر الجسر
بوصفه حِضن العلاقة بين الجهات الأربع للمعنى: الأرض والسماء، الآلهة والفانين. الجسر
بنية
«الرابوع» الذي يشد معنى الكينونة في العالم في
أفق البشر. ولذلك ينبه هَيدغر إلى أن الجسر ليس
مجرد «رمز» يشير إلى دلالة منفصلة عنه، بل يؤكد
أن الجسر هو «شيء»
(
thing كما
تقول الألمانية القديمة أو
Ding كما تقول
الألمانية الجديدة)، ولكن في معنى قديم أيضًا:
أن الجسر هو «شيء»، في معنى أنه «يجمِّع»
الجهات الأربع للكينونة
(
Versammlung des
Gevierts). الجسر لا يكون مجرد
جسر لولا أنه قادر على أن يكون «شيئًا» أي
مجمِّعًا للكينونة. يعني: يخلق «الموضع» حيث
يمكن أن نمنح «المكان». فالموضع لا وجود له قبل
الجسر. قال: «إن الجسر شيء، يجمِّع الجهات
الأربع، ولكن يجمِّعها على نحو بحيث هو يمنح
تلك الأربعة مقامًا. ومن هذا المقام تتعين
المواقع والطرق، التي من خلالها يتهيأ المكان.»
لا يوجد الجسر إلا من أجل تهيئة المكان، أي
تهيئة الامتداد الذي يجعل الإنسان ممكنًا. ليس
المكان الذي يكون منفصلًا عمن يسكنه، بل المكان
من حيث بنية كينونة الإنسان لدى نفسه. لا نسكن
إلا عند أنفسنا؛ أي حيث يمكن للمسافات أن تخضع
للطريق، حيث يمكن للعلاقة بين الموضع والمكان
أن تتبلور في شكل نوع مناسب من «السكن». ولذلك
فإن «بناء» الجسور هو بناء الجهات الأربعة التي
تجعل مواصلة الكينونة ممكنًا. يقف الجسر وهو
يؤمِّن الجهات الأربعة للكينونة: «أن يهيئ
الجهات الأربع يعني: أن ينقذ الأرض، ويستقبل
السماء، وينتظر الآلهة، ويقود الفانين، وهذه
التهيئة الرباعية هي الماهية البسيطة
للسكن.»
إن الجسر، كما وصفه جورج زيمل في نص كتبه سنة
١٩٠٩م تحت عنوان «الجسر والباب»
(Brücke und Tür)،
يشبه موعدًا غراميًّا: إن المحبين لا كينونة
لهم سوى «العلاقة»، كل ثروتهم هي في «البين»
الذي يفصل الواحد عن الآخر بقدر ما يصله به.
وبهذا المعنى هو يعرِّف الإنسان بأنه: «كائن
الحدود الذي لا حدود له.» هو محدود دومًا
بعلاقة التقابل في المكان لكنه ينجح دومًا في
تبادل العلاقة ومن ثم تبادل المكان. ولذلك
ينبهنا إلى أن الحيوان قد يقطع المسافات
الطويلة لكنه «لا يصنع معجزة الطريق» إلى
الغير. ولذلك يدعونا زيمل إلى تكريم أول إنسان
اخترع «الطريق». قال: «كل فرد يحمل حدوده
الجغرافية مع جلدته.» ذلك أن من يعبر الجسر له
دومًا شيء ما يزال في مكان آخر.