سياسات الأشياء الصغيرة
(١١) الإعدام والديمقراطية
للفلسفة علاقة قديمة جدًّا بالإعدام، بل ربما كانت تستمد من واقعة الإعدام بذرة روحها الأولى: إن يوم إعدام سقراط (٣٩٩ق.م.) هو اللحظة الاستثنائية التي حولت حكماء الإغريق إلى فلاسفة، نعني إلى «محبين» لذلك النوع من «الحكمة» التي يمكن أن تقتل. كان الإعدام اليوناني يتم في شكل انتحار إجباري. أما من اتهم سقراط فهم ثلاثة: سياسي (أنيتوس) وشاعر (ميليتوس) وخطيب (ليكون). لكن من اقترح عقوبة الإعدام هو الشاعر. لن يتغلب على الحقيقة سوى وهم مناسب. تهمة سقراط هي: عدم توقير آلهة المدينة وإدخال آلهة جديدة، وخاصة إفساد الشباب بالأسئلة. لكن سبب الحكم بالإعدام هو الأسئلة العمومية المزعجة. سقراط كان شيخًا مزعجًا للسلطات بأسئلته الشابة. ذاك الشخص، الذي يقضي ساعات طويلة إما يسأل الناس عن حدود عقولهم، أو يبقى في الساحات العمومية واقفًا لا يتحرك غارقًا في ضرب من التأمل المتجمد يجادل نفسه، دونما حاجة إلى أيٍّ كان، هو الذي تم الحكم عليه بالإعدام. الموت هو الوسيلة الأخيرة لإسكات الأسئلة المزعجة للحكام، ولكن أيضًا لكسر الأصنام العمومية الواقفة أمام سير الدولة نحو بسط سلطتها.
لذلك فالموت له طبيعة واحدة وكل استعمال عمومي له هو قتل محض. لا يمكن للموت أن يتحول إلى أفق أخلاقي لأي مؤسسة مهما كانت نبيلة. من أجل ذلك فإن عقوبة الإعدام، التي ما زالت بعض الدول تعوِّل على خدماتها الاستثنائية، هي أفظع علاقة قانونية يمكن أن تقيمها مؤسسة الحكم في أي عصر مع محكوميها. فإنه لا يجوز لأحد أن يستعمل الموت كتقنية حياة أو كأفق للحياة. طبعًا، ليس الإعدام الحديث بدعة أمنية. بل هو جزء من تاريخ القتل الذي طوره النوع البشري وعول عليه في تأمين بقائه الطويل على الأرض. ومهما تعددت الأسباب فإن القتل كان دومًا أداة بقاء نموذجية لتدبير البشر. ونحن نقع فقط في مرحلة من مراحل تاريخ القتل.
ثمة قتل حيواني (الأمر الغريزي بالقتل)؛ افتراس صِرف للحم البشري، وثمة قتل قَبَلي (أمر العائلة بالقتل) يمنع الأجساد من تغيير الانتماء. وثمة قتل ديني (الأمر الإلهي بالقتل)؛ قتل مؤمن، قتل مقدس، يرتب علاقة الجماعات المتألهة على غيرها بالآخرة، كجهاز خلاص رسمي لمن لا خلاص له على الأرض. وثمة قتل طبي (أمر الطبيب بالقتل) يستمد مشروعيته من اليأس العلمي من قدرة جسمٍ ما على الاستمرار في الحياة، فيقايض نهاية الألم بالموت كإجراء احترازي. وثمة قتل حربي (أمر الجيش بالقتل)؛ قتل عرضي، غير شخصي، قتل بريء لا يقصد موت أحد، لكن ذلك لا يمنعه من قتله. قُتل الناس بالحيوان والقبيلة والدين والطب والحرب والقانون.
لكن القتل القانوني هو القتل الوحيد الذي يدَّعي أنه عادل إزاء المقتول. ومن ثم أنه يصدر عن حق ما في القتل. وهذا الحق الصريح والرسمي في القتل هو عقوبة الإعدام باعتباره الحل الأخير لردع القاتل الذي لم يعد يردعه أي شيء، لا الدم ولا الولاء ولا الدين ولا الأخلاق ولا القانون، عن أن يلحق الموت بشخص آخر أو بمجموعة من الأشخاص. قتل الآخر كعمل وحشي وفارغ من أي تبرير ولامشروط ومحض، هو الذي جعل عقوبة الإعدام تبدو مستساغة ومسوغة وقابلة للتبرير.
ومع ذلك علينا أن نسأل: هل ثمة فرق حقيقي بين الإعدام (القانوني) وبين القتل (غير القانوني)؟ ما الفاصل بين قتل بالدولة وقتل بلا دولة؟ وعندئذٍ ما هو الإعدام؟
الإعدام هو استعمال أداتي واصطناعي للموت ضد جسد بشري أعزل بواسطة مؤسسة القتل المتاحة في عصرٍ ما. الموت كنوع من الهشاشة الأنطولوجية التي لا يمكن إصلاحها في النوع البشري. والقتل هو ابتزاز هشاشتنا، واستثمار قابليتنا للموت كتهمة لانهائية ضدنا.
ولكن ما هو الشيء الذي لا يُغتفَر والذي يبرر اللجوء إلى عقوبة الإعدام؟ إنه ليس شيئًا آخر سوى اقتراف الموت نفسه. ولكن هل الموت ضرب من الدَّين؟ أليس ثمة وسيلة أخرى لإعادة الموت سالمًا إلى مكانه؟ أليس هناك طريقة أخرى لتسديد دَين الموت؟ ولكن، لماذا نعترض على عقوبة الإعدام؟ أليس القتل هو المطهِّر الوحيد للقتل؟ هل نعترض على الإعدام لأنه فعل فظيع، لا يمكن لحواسنا الحديثة المترفة بكل أنواع التحضر أن تتحمل رؤيته أو حتى سماع خبره اللعين؟ لأنه إجراء متوحش، ينطوي على قسوة لا متناهية، تدمر قدرة البشر على الألم وتحولهم إلى مواد أو أشياء ترابية، أم نعترض عليه لأنه جزء خبيث من تصور نسقي للعنف الذي اخترعه النوع البشري وأقام عليه بقاءه الطويل على الكوكب؟ هل فعل الإعدام هو المُشكِل أم أن الجهة التي تصدر عقوبة الإعدام هي المعترض عليها فعلًا؟ هل الموت أم القتل؟
ثمة فرق كبير بين التفكير في الموت وبين ذهنية القتل. لا تصدر عقوبة الإعدام عن تفكير فلسفي في معنى الموت في أفق النوع الإنساني، بل عن تدبير صناعي وخبيث لتقنيات القتل التي طورتها أجهزة السلطة منذ ظهور أول أنواع العيش معًا بين الحيوانات البشرية. وإن التقدم الوحيد الذي حققته الدول المعاصرة إزاء موتنا هو في وسيلة القتل، أما عقوبة الإعدام فلم تتغير.
أجل، لم تعد وسيلة الإعدام هي الرجم أو سلخ الجلد أو تقطيع الأوصال أو نزع الأحشاء أو السلق أو الصلب أو الحرق أو قطع الرأس أو المبارزة … كما أن سبب الإعدام لم يعد هو الثأر أو السبي أو الغزو أو السرقة أو الجنس أو الشرك أو قطع الطريق أو قطع الأشجار أو الغياب أو الهروب أو السلب …
بل صار الإعدام أنيقًا ونظيفًا وخاطفًا. تم التعويل أول الأمر على الموت شنقًا أو رميًا بالرصاص، لكن الغاز أو الكهرباء أو الحقنة أقصر إيلامًا وأسرع موتًا. بعبارة واحدة: صار الإعدام أكثر إنسانية (!)
ولكن هل يمكن فعلًا أنسنة القتل؟
لقد ظل الإعدام دائمًا متعلقًا بجريمة تجاه المجموعة التي ننتمي إليها. وهي جريمة تتم دومًا في الجمع. كل إعدام هو إعدام انتماء، وليس شيئًا آخر. فليس هناك إعدام بسبب جريمة تجاه أنفسنا. ولكن في المقابل، لا يكون الإعدام إلا في المفرد، حتى ولو كان المعدمون شعبًا كاملًا. لذلك ليس ثمة ما يضع قيمة الانتماء إلى أمة أو شعب ما موضع سؤال مثل عقوبة الإعدام؛ لأن من يدعي الحق في إعدامك ينبغي قبلُ أن يكون قد امتلك الحق في حياتك. ثمة توازن رعب بين الحق على الحياة والحق على الموت هو الذي تتأسس عليه ظاهرة الدولة. وهي لم تخترع هذه المفارقة بل ورثتها عن التاريخ السحيق لفكرة الألوهية على الأرض. وحده إله خالق يمكنه امتلاك الحق في الحياة والموت البشريين.
ولذلك مهما كانت طبيعة الجهة التي تصدر عنها عقوبة الإعدام فهي غير مخولة أصلًا لافتكاك النفس الإنسانية من صاحبها. فهل يمكن فعلًا لإله ما أن يأمر بالقتل؟ هل ثمة ألوهية قاتلة؟ هل من معنى لعدالة تقتل؟ وهل يجوز فعلًا إقامة العدل بواسطة القتل؟ أو الدفاع عن الحياة بواسطة الموت؟ هل ثمة قيمة تستحق أن نُقتل من أجلها؟ أي علاقة بين القتل والعقاب؟
يبدو أن القتل جزء لا يتجزأ من ثقافة العدل التي أقامت عليها الشرائع الإنسانية صلاحيتها المعيارية إلى حد الآن. لقد ظل معنى العدل رهين فكرة القانون التي يصدر عنها. لكن القانون إلى حد الآن لا معنى له من دون قدرة على الإساءة، نعني على العقاب. وهكذا نحن أمام مفارقة عميقة في وجود النوع البشري منذ أن وضع مصيره بين أيدي الدولة كشكل مميز ورسمي لحفظ بقاء النوع: لا يمكن إرساء العدل إلا بواسطة القدرة على العقاب، نعني على القتل. الدولة في أي عصر هي جهاز العنف الشرعي الذي تحول إلى قانون يُحترم باعتباره طريقة العدل الوحيدة والرسمية.
لكن عقوبة الإعدام هي الحالة الاستثنائية التي تضع صلاحية الدولة القانونية موضع سؤال؛ لأن هذه العقوبة لا تُطبق إلا على من يضع أمن الدولة نفسها موضع خطر شامل (من يقترف جريمة الخيانة العظمى أو جريمة ضد الإنسانية مثلًا) فهي عقوبة في ظاهرها لا تهم المواطن العادي. إلا أن هذا هو أصل الوهم السياسي الذي منه تستمد الدولة هيبتها.
ليست الدولة مخيفة أو مهيبة إلا لأنها تمتلك سلطة غير مفهومة على المحكومين، سلطة مختلفة عن سلطة القانون: إنها سلطة الموت.
ولذلك فإن عقوبة الإعدام متى صدرت ضد معارضين لسلطة الدولة باسم جريمة «سياسية» هي أكثر الجرائم لؤمًا ميتافيزيقيًّا: نعني استعمال العدالة بوصفها مؤسسة قتل؛ إذ ما معنى «المعارضة»؟ نحن لا نملك إلى حد الآن أي مفهوم مناسب ومتفق عليه حول معنى معارضة الدولة؟ وهذا النقص يؤجل الدرس الديمقراطي إلى أمد غير معلوم.
في الحقيقة ليس هناك «جريمة» سياسية يمكن لمعارض ما إن يقترفها إلا تجوزًا أو توسعًا في المعنى. فكل موقف معارض هو نوع مختلف (وليس مخالفًا) من الحرية. ولذلك لم يفهم حكامنا، أبدًا، منذ الجاهلية، معنى المعارضة إلا عرضًا. لقد ظل الخارج عن الحاكم عندنا مجرمًا نسقيًّا، لا يمكن أن نقيم معه أي ضرب من التفاوض الإيجابي حول الحرية؛ ولذلك تأخر درس الديمقراطية لدينا بشكل لم يعد يمكن احتماله.
إنه لا يمكن الاطمئنان الأخلاقي لأي دولة تطبق عقوبة الإعدام؛ فهي تفهم السيادة بوصفها بالأساس مؤسسة قساوة محضة، مسلطة على رقاب السكان داخل إقليمها منظورًا إليه كغرفة تعذيب أبيض، يمكن أن يتلون إلى الأسود في أي لحظة استثنائية، أي لحظة الاتهام «السياسي».
من أجل ذلك لا يجوز أبدًا تبرير الموت بواسطة الديمقراطية. ليس هناك موت ديمقراطي أو قتل ديمقراطي أو إعدام ديمقراطي. بل ما نحتاج هو التدرب على إعادة بناء المعارضة السياسية ديمقراطيًّا: كل معارضة، أكانت قائمة على وهم ديني أو على مطلب اجتماعي أو على رأي فكري أو على حرية شخصية أو على ضمير أخلاقي أو حتى على اعتراض بيئي … هي ضرب من التحدي السياسي لا يحق لأي جهة مصادرته؛ أي معاملته باعتباره جريمة تستحق الإعدام.
فإن الدولة هي المسئولة أولًا وأخيرًا ليس فقط عن مناخ العنف، بل بخاصة عن سياسة الموت في بلد ما؛ فكل من يموت أو يُقتل هو ميت أو مقتول تحت مسئولية الدولة، سواء بشكل مباشر (من خلال التشريعات القائمة) أو بشكل غير مباشر (من خلال وتيرة العنف المسموح بها).
سياسة الموت في بلاد معينة تعني أن نشاط القتل يتم وفق وتيرة تتحكم فيها مؤسسة العنف الشرعية على وبين السكان في مرحلة ما. وتيرة أو حالة العنف هي هيئة أخلاقية أو مزاجية للمحكومين وفيما بينهم تعدِّلها الدولة بحسب طريقة استعمال السلطة أو التشريع لها. وكمية العنف ووسائله ومداه وطرق استعماله هي البنى التي تعدِّل وتيرة القتل في ضوء سياسة الموت التي تنتهجها دولة ما كجزء لا يتجزأ من سيادتها.
ولذلك لا يمكن تصور ديمقراطية ما بمعزل عن مؤسسة العنف السارية، وبالتالي بمعزل عن سياسة الموت التي تقرها سيادة دولة ما؛ ذلك يعني أيضًا أن الديمقراطية ليس لها معنى واحد أو شكل واحد من التعبير عن الحرية، إنها في كل مرة نتيجة سياسة الموت السارية المفعول كجزء من سيادة دولة ما.
وإن فكرة «الانتقال الديمقراطي» نابعة من الشعور بالمسافة المزعجة بين الحق في الحياة والحق في الموت داخل الفضاء السياسي لدولة ما. نحن ننتقل من حالة حرية إلى حالة حرية أخرى، في شكل انتقال من وتيرة عنف إلى وتيرة عنف أخرى، وفي واقع الأمر من سياسة موت إلى سياسة موت أخرى. لا تطالب الشعوب التي ثارت بإبطال الدولة والعودة إلى الكهوف. وحدهم العدميون يريدون تدمير بنية الدولة باسم الحرية. أما الإرهابيون فهم يريدون تدمير الحرية نفسها باسم دولة فوق الدولة.
لا يمكن تصور عمل الدولة من دون احتكار جهاز العنف وشرعنته. والشعوب لا تريد أكثر من ذلك. لكن المُشكِل هو أن الدول لا تتحمل معارضة الشعوب لكمية العنف المصرَّفة داخل فضاء سلطة ما. ما تريده الشعوب هو الحد الأدنى من العنف والحد الأقصى من العدل. لكن الدول لا توفر إلا الحد الأدنى من الحياة والحد الأقصى من القانون.
وإن الهالة القانونية والأخلاقية التي تنجح الدولة في إضفائها على سيادتها؛ أي على سياسة الموت التي تتأسس عليها، هي التي تمنع المحكومين من التفكير في حياتهم الجسدية تحت وطأة سياسة الموت الرسمية؛ ولذلك تظن الشعوب أنه يمكن المطالبة بالديمقراطية من دون اشتراط إجراء تعديل جوهري يمس سياسة الموت التي تنتهجها مؤسسة الدولة. لكن كل تأسيس للديمقراطية على سياسة الحياة فقط، هو ضجيج أخلاقي بلا نجاعة. اعتناق الديمقراطية دون مراجعة سياسة الموت التي تأسست عليها فكرة الدولة القانونية الحديثة هو مراهقة ميتافيزيقية للشعوب.
إن الديمقراطية هي بمعنًى ما عزمٌ جذري وغير مشروط على تغيير سياسة الموت التي تفترضها السيادة الحديثة، وذلك بواسطة تحرير الحرية نفسها من رواسبها اللاهوتية؛ أي تقديس الحاكم باسم العدل. لا يعني ذلك تدمير فكرة السيادة، بل فقط مراجعة مؤسسة العنف داخلها، وخاصة فيما يتعلق بسياسة الموت.
كما أنه لا يمكن عزل الدولة عن سيادتها، كذلك لا يمكن عزل السلطة عن سياسة الموت التي تفترضها. لا معنى لدولة عزلاء، كما لا معنى لعدالة لا تسيء إلى أحد. بيد أنه في المقابل: لا معنى لأي حرية تؤدي إلى تدمير المجتمع المدني؛ أي تجريده من قدرته على الدولة. وكل من يخرب الدولة الحديثة باسم حرية دينية أو جنسية أو عرقية … إلخ، هو يخرب إمكانية الديمقراطية المتاحة لدى شعب ما.
إمكانية الديمقراطية هي مساحة تمرين مرير على فن استعمال الحرية وذلك بتحريرها من رواسبها اللاهوتية؛ أي من قيم الاستبداد. وكل الاعتقاد الديني في إله مستبد بأمره، مستقل بنفسه، محتكر لعالم الأمر دون مخلوقاته، هو موقف سياسي في الصميم، وليس مزاجًا أخرويًّا شخصيًّا. ولذلك فإن كل مشروع للديمقراطية في أي مكان أو زمان هو يكمن في فرضية تحرير الحرية من ماضيها اللاهوتي؛ أي من الطمع في التأله على الآخرين باسم الإيمان بجهاز تقديس معين. ولذلك ليس الإيمان شعورًا ضعيفًا أبدًا. بل هو طمع غير محدود في المشاركة في الأمر الإلهي في حكم العالم الإنساني وتسخيره. وربما كان كل إيمان ضربًا من «الشرك» الأبيض أو العفوي أو البريء: هو الطمع في المشاركة في الاستبداد المتعالي على الوجود الإنساني، أكان أخلاقيًّا أو دينيًّا أو سياسيًّا.
لكن الإيمان الديني ليس هو النوع الوحيد من الاستبداد أو النوع الوحيد من التأله أو التعالي، فإن الإيمان العلماني بهيبة الدولة أو بحرمة سيادتها أو بنزاهة قانونها أو بقداسة عدالتها أو بجلالة أعضائها … إلخ، هو لا يقل رغبة في التأله أو في المشاركة في الاستبداد باسم مقدس ما، من الإيمان الديني.
إن القتل باسم أي مقدس، أكان دينيًّا أو علمانيًّا، هو تبذير مجاني للحياة. والموت لا يفيد أحدًا. ومع ذلك فإن الإلحاد بكل المقدسات ليس حلًّا. فمن يلحد لا يلحد إلا داخل وفي نطاق تاريخ لاهوتي مخصص جدًّا. ومن ثم، لن يبقى أمامنا عندئذٍ سوى اختراع أنواع من الإيمان تكون أكثر ديمقراطية. ولا فرق إن كانت إيمانًا بالله أو بالإنسان أو بالحقيقة أو بأي قيمة أخرى.
(١٢) أمريكا وحرب الآلهة … أو الجدران اللامرئية
قال سلافوي جيجيك (الموصوف بأنه «أخطر فيلسوف في الغرب» ولكن أيضًا بأنه «إلفيس الفلسفة»): «يبدو لي أن الوجه الآخر للعولمة هو بناء جدران لامرئية جديدة». وعلينا «نحن» أن نسأل: بين من ومن؟ أو بين ماذا وماذا؟ بين الشعوب، ولكن أيضًا: بين الأشخاص والهويات والحضارات والأديان والأعراق والألوان البشرية … وبالفعل فإن ما نجح فيه ترامب (أولًا ملياردير العقارات، ثم مرشح «المثيرين للشفقة» وأخيرًا الرئيس ٤٥ لأمريكا) هو بناء جدار لامرئي جديد، يوشك أن يمد بظلاله الثقيلة على العالم بأسره. وعلينا أن نسأل: هل هو عصر «ما بعد الديمقراطية» إذن؟ ذهب عصر الجدران العازلة، المرئية، بين الشعوب. وجاء عصر الجدران غير المرئية، أي المبثوثة في الفضاء الجسدي، الشخصي، الهووي، الجندري … للذوات ما بعد الحديثة. لكن جيجيك، وذلك على خلاف مثقفين كثيرين في الغرب (مثل ميشيل أونفري الذي وصف ترامب بأنه «دمية رأس المال القابلة للنفخ»)، لا يتردد في التصريح المزعج بأنه لو كان أمريكيًّا لاختار ترامب ضد كلينتون. يبدو له ترامب أقل خطرًا من مواصلة العالم كما هو. إن فوز ترامب حدث خطير لأنه «سوف يدفع بالطرفين، الجمهوريين والديمقراطيين، إلى العودة إلى الأساسيات، أن يعيدوا التفكير في أنفسهم.»
ما فتئت «شعوب» الغرب تراجع نماذج العيش الحديثة، لكن مؤسسة «الغرب» (النخبة السياسية خاصة) كانت دومًا تصم آذانها عن أي مراجعة فعلية لشكل الحياة. في هذا الصدد يمكننا أن نضع كل الثورات في الغرب منذ الثورة الأمريكية إلى سقوط جدار برلين. سنة ١٩٣٣م اختار الشعب الألماني هتلر، وربما لأسباب قريبة من اختيار ترامب. كان ذلك فوزًا للشعبوية (؟) على الديمقراطيات الاستعمارية. وفي سنة ١٩٨٩م ثارت الشعوب السوفييتية على الحبس الانفرادي للشيوعية. وهو ما سُمي عندئذٍ بنزاعات الاعتراف التي انخرطت فيها الشعوب غير الغربية من أجل إثبات ذاتها … في حقيقة الأمر ما حدث هو تخلي الإنسان اليومي، الفقير وغير المتعلم جدًّا، عن مُثُل الدولة الراعية للهوية السياسية الحديثة. ولم يقع في أمريكا شيء آخر، إن الإنسان اليومي، في الغرب، قد تخلى عن مُثُل الحداثة الليبرالية (المساواتية، الفردانية، الحريات الشخصية …)، ليس لأنها لم تعد تصمد أمام الفحص الحجاجي لعلماء الاجتماع أو الاقتصاد أو الدساتير، بل فقط لأن ذلك الشكل من الحياة الذي تعِدنا به لم يعد قابلًا للحياة. إن مبدأ الرأسمالية لم يعد ساريًا: قوة العمل لم تعد قادرة على تحقيق الحلم الليبرالي.
قال هابرماس ذات مرة بصدد حديثه عن داعش: «يجب على المجتمع المدني أن يحترس من أن يضحي على مذبح الأمن بكل الفضائل الديمقراطية لمجتمع مفتوح من قبيل حرية الفرد والتسامح إزاء تنوع أشكال الحياة والاستعداد الجيد للأخذ بمنظور الغير.» ماذا يمكنه أن يقول هذه المرة عندما صار الأمر يتعلق برأس العالم الحر وهو يختار طريقًا «آخر» للنجاح، يستعمل الديمقراطية ضد قيمها الكونية؟ تلك الطريق الأخرى هي أمريكا العميقة، وليس التقاليد الليبرالية. تقنية الحياة وليس قيم الغرب الاستعماري. لقد حدث «عصيان ديمقراطي»: استعمال مجرد الحياة (حياة الأمريكي الأبيض، اليومي، الكادح …) ضد قانون اللعبة. قانون اللعبة نعني به اللعبة اللغوية لِليبرالية في شتى أطوارها، وليس الليبرالية الداخلية، تلك التي تصمد أمام حجاج «المثقفين» أو «النخبة السياسية»؛ لأنه قد تم تخفيفها أو تعقيمها بواسطة التحليل المنطقي للغة القانونية، بل الليبرالية الخارجية، المتوحشة، كما تأتي إلى «الجموع» في أي مكان. لكن العنصر الجديد حقًّا هو أن الجموع هذه، المنسية والعميقة، لم تعد توجد «خارج» الغرب بل صارت في قلب الغرب، وهي أول اعتراض ميتافيزيقي داخلي أو محايث على منطق رأس المال المعوْلَم في أقصى أطواره.
ومتى أردنا أن نؤرخ من الداخل فإن فوز ترامب هو موجة أخيرة فقط من التاريخ البيوسياسي للسلطة في الغرب: هي لحظة التخيير بين الإنسانية وبين الأمن. ويبدو أن الأمريكي العادي — فكل دائرة الخوف التي نصَّبها ترامب هي دائرة «الحياة العادية»، أحد اكتشافات الهوية الحديثة حسب تعبير تشارلز تايلور — هو أمريكي يومي اختار الأمن على مشاركة الإنسانية. ربما هو بذلك لا يعلم بأنه قد رفع الحصانة الأخلاقية عن المثل الكونية في الغرب، ومن ثم أنه قد أسقط ورقة التوت عن قيمة «الحداثة» بأكملها. ولكن لماذا يجب علينا أن نشارك الغرب في هلعه من رفع تلك الحصانة عن مُثُله السياسية؟ لماذا نواصل وضع أنفسنا في خانة «الآخر» النسقي كلما تعلق الأمر بتهديد الديمقراطية؟ وما الداعي لكي نقاسمه الخوف من سقوط ورقة التوت عن خطاب الحداثة وجملة الإعلانات الكونية التي برر بها كل جرائم الإنسان الأبيض على بقية الألوان البشرية منذ قرون عدة؟ أليس في ذلك ما يشبه الفرصة الميتافيزيقية لبقية الإنسانية كي تسترجع مكانتها الأخلاقية أمام نفسها؟ كونها إنسانية لها ما تضيفه إلى النقاش الكوكبي حول مصير النوع، وخاصة أن القيم «القابلة للكونية» ليست اختراعًا منهجيًّا للغربيين بل هي ثروة معيارية ساهمت كل الأمم في بلورة ملامحها منذ أزمان سحيقة، ومن ثمة إنه آن الأوان لإعلانات عصيان رمزي من نوع آخر (روحي، معرفي، مدني، ديمقراطي، جمالي …) لم يفعل الأمريكي «العميق» غير تنبيه الإنسانية إلى طريقها الذي لطالما طمسته جوقة الإنسان الليبرالي الذي نصَّب نفسه في كل مكان.
وعلينا أن نسأل: من يحتج اليوم ضد فوز ترامب؟ هذه اﻟ «لا» التي توجه اليوم ضد ما أفرزته لعبة الديمقراطية، من تكون؟ نحن أمام أكبر تناقض أخلاقي وقعت فيه الإنسانية الغربية منذ قرون، نعني منذ الشروع في استعمال العالم غير الغربي. ترامب، رئيس «أمريكا» (رأس «العالم الحر»، نموذج الريزوم السياسي لدى دولوز)، صار رمزًا لكل هذه المعاني الرديئة: «العنصرية» (ضد السود، الإسبانيين …)، «الميز بين الجنسين»، «كراهية البشر»، «كراهية الأجانب» أو «الغرباء» (ضد المسلمين)، القول بنظرية «المؤامرة»، تضخم الأنا، تشكيكي (مثلًا في مكان مولد أوباما …)، الانعزالية القومية، العقل «الجداري» (بناء جدار عازل مع المكسيك …)، إلخ.
ربما تكون كل هذه الاعتراضات وجيهة. ويجب أن يشعر كل معنِيٍّ بها بأنه في خطر حقيقي، وأن عليه أن ينخرط في مقاومة مناسبة لها. لكن ما يزعج أفق الهوية الذي نقف تحته، أي «العرب» أو الأفارقة أو المسلمون … هو أن ترامب قد أعطانا درسًا ثقيلًا في التعامل مع مُثُل الليبرالية المعولمة ومع خطابات الكونية التي تشرعن بها الحداثةُ مشروعيتها في كل أصقاع الأرض، وما زلنا نخاطب بها بعضنا البعض أو نعلمها لأطفالنا. هذا الدرس الثقيل هو: أن هذه المُثُل والقيم الكونية هي قيم محلية تم تحويلها إلى معايير كونية للإنسانية بواسطة واقعة الاستعمار، والذي هو مستمر بوسائل أخرى، ولكن بخاصة أن على جميع الشعوب أن تعيد اختراع ذاتها باستعمال كل مصادر نفسها، وألا تحتكم إلى القيم «الحديثة» بوصفها المقياس «الليبرالي» الكوني الوحيد لصلاحيتها. قد نسمي هذا الموقف «العصيان الديمقراطي». هو عصيان لأنه لا يواصل حلمًا انتبه منه أصحابه، ولكنه ديمقراطي؛ لأن المكاسب الأخلاقية للنوع الإنساني هي ثروة مشتركة وحقوق نهائية لا يمكن استلابها من أحد. فإذا ما استطاع الفقراء (أي كل الذين لم يستفيدوا من لعبة الحداثة في أي مكان) الاستيقاظ من الحلم الهووي للدولة (أي انتخاب الحكام حسب هوية سياسية جاهزة: دينية، قومية، حزبية، طبقية، طائفية، لغوية …)، واشترطوا كشكل لبقائهم أن تكون حريتهم العارية، أي شكل الحياة الكريمة بما هو كذلك، هي بوصلة الاختيار الوحيدة، فإنهم يكونون قد استفادوا أخلاقيًّا أو تاريخيًّا من فوز ترامب، غول الغيرية الجديد، الذي أقنع العالم بسرعة مذهلة أن العقل الأبيض قد مل من قصص التنوير وعزم هذه المرة على نزع السحر عن عالمه «الحديث» نفسه.
(١٣) من يؤرخ يثأر لذاكرته
حين يموت مؤرخ كبير، ولا سيما عندما يكون موضوع اختصاصه هو تاريخنا الذي يشكل هويتنا العميقة، مثل برنارد لويس (١٩١٦–٢٠١٨م)، يشعر المعاصرون بأن حقبة من تاريخ العالم الحالي قد أُقفلت، بما تحتويه من أسئلة، ولكن أيضًا بما ادعته من أجوبة حول «نفسها»، وبالتالي حول «الآخر» الذي تفترضه. وتزداد خطورة المؤرخ بقدر ما يقترب من قلب العالم الذي يعاصره. وهذا شأن برنارد لويس: هو بريطاني المولد، أمريكي المواطنة، فهو إذن مؤرخ إمبراطوري بشكل مضاعف؛ نعني: يتكلم في نبرة القوى العظمى التي هيكلت صورة العالم كما نعرفه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كيف نبني العالم على أنقاض الدول القومية التي دمرت بعضها واضطرت إلى الدخول في عصر ما بعد قومي، عصر القانون الدولي الذي تسطِّره القوى العظمى المنتصرة؟ لكن شخصية برنارد لويس أكبر من علمه وأوسع من طيف هويته الرسمية. إنه أولًا من عائلة يهودية لندنية، ولم يصبح مواطنًا أمريكيًّا إلا سنة ١٩٨٢م. إلا أنه يمتلك أيضًا الجنسية الإسرائيلية. ويبدو أن هذا الانتماء المركب والمتعدد (اليهودي/الإسرائيلي/البريطاني/الأمريكي/الغربي/الشرقي …) قد أدى دورًا حاسمًا في إجابة المؤرخ عن السؤال حول سياسة العالم ما بعد القومي الذي نشأ بعد ١٩٤٥م. ومنذ صغره كان برنارد لويس، عندما بلغ سن الرشد الديني («بار متسفا» عند اليهود الذكور في السن ١٣ سنة)، ميالًا إلى تعلم اللغات ودراسة التاريخ — واللغة والتاريخ هما بؤرتا المعنى في كل ثقافة. وعندما شرع في تعلم العبرية أخذ يكتشف القرابات والاختلافات بين اللغات السامية وغير السامية، فأتى لاحقًا إلى دراسة الآرامية ثم العربية ثم بعد ذلك اللاتينية واليونانية، ثم سنة ١٩٣٦/ ١٩٣٧م بدأ في تعلم الفارسية والتركية في باريس. وهو ما وجهه إلى إعداد الإجازة والدكتوراه في التاريخ في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية التابعة لجامعة لندن. وقد تقاعد سنة ١٩٨٦م في رتبة أستاذ متميز في الدراسات حول الشرق الأوسط في جامعة برينستون، مختصًّا في تركيا خاصة، وفي العالم الإسلامي وعلاقته بالغرب عامة.
ولذلك فإن طرافة برنارد لويس لا تنحصر في اختصاص المؤرخ أو الدارس لتاريخ تركيا أكانت عثمانية أو ما بعد عثمانية، بل في كون هذا المؤرخ لا يقف عند مهنة التأريخ، بل يخلط حرفته الأكاديمية بحريات المثقف المنتمي صراحة، والذي يخوض سجالات منحازة مع مثقفين متمرسين مثل إدوارد سعيد. هكذا يتبدى لنا أن إجابة المؤرخ هي متورطة دومًا، وذلك أن التاريخ هو ورشة هووية (حيث يعمل المثقف المنتمي) ولكن بوسائل الحقيقة (حيث يعمل المؤرخ الأكاديمي). وفجأة يصبح من الصعب على القارئ الغربي وغير الغربي (إذ إن كتب برنارد لويس قد تُرجمت إلى لغات عدة) أن يفرق بين معلومة المؤرخ وبين الرهان التأويلي الذي يخترقها.
طبعًا هذه الصعوبة النقدية في تأمين قيمة موضوعية في صناعة التاريخ لا تخص تاريخ العرب، بل هي معضلة إبستمولوجية تعرض لها فلاسفة كبار في التقليد الغربي مثل ميشيل فوكو وبول ريكور واقترحوا لها حلولًا، أهم مبدأ فيها هو تخفيف الادِّعاء «العلمي» في كتابة التاريخ والتركيز على البعد «التأويلي» و«السردي» لعمل المؤرخ بحيث يخرجه من بوتقة «ادعاء الحقيقة» إلى الأفق الرحب الذي ترسمه «تجارب المعنى». وهو وضع تأويلي شبه إيتيقي لا مخرج منه إلا بتطوير نوع صحي من «تأويلية الذات» (فوكو) أو إرساء سياسة للصفح (ريكور) عما لا يمكن الصفح عنه (دريدا). أما في حالة برنارد لويس فإن وضع الخطاب مغاير بشكل مزعج: إن أعماله نمط ناعم من سوء استعمال فضيلة التأويل أو مهنة السرد من أجل تزويد سياسة الحقيقة السائدة في الغرب حول العرب والإسلام بأدوات إخضاع معرفي تحول الاستشراق إلى آلة حرب رمزية جد خطيرة، وتنقله — حسب تعبير ريتشارد رورتي — من «الرغبة في الموضوعية» إلى «الرغبة في التضامن» مع الجماعة الأخلاقية أو المجتمعية التي ينتمي إليها المؤلف.
(١٤) التسامح تقنية الغرباء أو الذمي السعيد
- (أ)
كيف كانت الدول قبل الحديثة (الفرس، اليونان، الروم، المسلمون …) تطرح مسألة التسامح مع «الآخر» الديني بخاصة؟
- (ب)
كيف صاغ فلاسفة الحداثة مفهوم التسامح بوصفه أحد مبادئ عصر التنوير؟
- (جـ)
بأي وجه عاد الفلاسفة المعاصرون إلى إعادة تأهيل مفهوم التسامح في خضمِّ ما يُسمى «عودة الديني»؟
ما يؤمن به الآخر ليس عدوًّا بالضرورة
تسامح المحدثين
لكن ما عابه التنويريون على هذا النوع من التسامح المدني أو الديني هو كونه لئن كان ينحو نحو إقرار قيمة التسامح بين الطوائف المتنازعة على المقدس، فهو لا يعترف للأفراد بالحق في حرية التدين. ومن ثمة يمكن دومًا ملاحظة الفرق الخطير بين فكرة التسامح وبين الحق في الحرية الدينية.
استئناف المعاصرين لفكرة التسامح
كان «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» سنة ١٩٤٨م بمثابة تغيير في براديغم النقاش حول التسامح، وهذه المرة على مستوى الإنسانية. وفي الفقرة ١٨ منه نحن نقرأ: «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها؛ سواء أكان ذلك سرًّا أم مع الجماعة.» ربما لم يفعل الفلاسفة منذئذٍ سوى شرح هذا البند وترجمته في مسائل حقوقية وأخلاقية مفصلة حسب التنوع الهووي والثقافي لكل شعب أو جماعة. وعلى ما ينطوي عليه هذا الإعلان من تركيز على قيمة «الشخص» و«الحريات الشخصية» فإن موضوع التسامح لم يعد «الفرد» بل «حقوق الإنسان» التي يمكنه التمتع بها داخل الجماعة التي ينتمي إليها. وهذا يعني أن رهان التسامح ليس الفردانية بل نموذج العيش أو شكل الحياة المشتركة التي تكفل الحق في الحرية.
ويمكن أن نؤرخ للاستئناف الفلسفي للنقاش حول التسامح بما وقع قبل وبعد انهيار جدار برلين (١٩٨٩م) وانطلاق نزاعات الاعتراف لدى شعوب أوروبا الشرقية من عقالها الدكتاتوري (فوكوياما، أكسيل هونيث …).
(١٥) السعادة مُشكِل سياسي
إن محاكمة سقراط تكشف لنا إلى أي حد كان سؤال الفلسفة عن السعادة قادرًا على إقحام الآلهة في شئون المدينة. وبعبارة جامعة: إن السعادة لدى الفلاسفة الإغريق إنما كانت في جوهرها مُشكِلًا «سياسيًّا»، أي متعلقًا بفن العيش داخل المدينة، ولا سيما بوصفها شأنًا هو من الخطورة بحيث يهم العلاقة بين البشر والآلهة. إن السعادة هي لدى أفلاطون وأرسطو الغاية القصوى من التفلسف في كل مرة. ولا وجاهة لفلسفة لا تعِدنا بمفهوم مناسب عن الحاجة الإنسانية إلى السعادة. وفي الواقع يتفاوت الفلاسفة بقدر نجاحهم أو إخفاقهم في طرح مفيد للسؤال الفلسفي عن ماهية السعادة. لكن المتصفح لتاريخ مفهوم السعادة عند المتفلسفة إنما يقف على أن البحث في معنى السعادة هو اختراع فلسفي سنَّه القدماء وبشكل مبكر يدعو إلى التساؤل. إلا أنه سرعان ما يقف أيضًا على معطًى آخر لا يقل مدعاة إلى التساؤل: أن المحدثين — أي كل أولئك الذين تفلسفوا تحت سقف علمنة القيم المسيحية من ديكارت إلى نيتشه وهَيدغر مرورا بكانط — هم فاشلون أساسيون في طرح مسألة السعادة أو الاضطلاع بها.
(١٦) الفلسفة والشيخوخة. تمارين في سياسة العمر
لكن الثقافات لا تؤرخ لآثار الوقت على الأجساد بنفس الطريقة. كان الناس في بعض العصور شيوخًا في الأربعين أو أقل من ذلك. وصرنا اليوم نستعمل «المعمرين» بعد المائة؛ لاختبار الحدود القصوى للنوع البشري في قدرته على تأجيل إمكانية الموت، حتى ينقلب الأمر في عديد من الأحيان إلى مشهد كوميدي. العمر كمشهد كوميدي: عندما يبدأ الوجه البشري في التخلي عن ملامحه والتحول شيئًا فشيئًا إلى كائن فضائي، يرانا ولا ينظر إلينا.
-
طفل في حداثة سنه: le bas âge؛
-
سن المراهقة: âge ingrat؛
-
الفُتوَّة: bel âge؛ أو في ريعان الشباب: à la fleur de l’âge
-
الكهولة: l’âge mûr؛
-
سن اليأس: âge critique؛
-
سن النضج: la force de l’âge؛
-
سن التقاعد: limite d’âge؛
-
مُسن: d’un certain âge؛
-
الشيخوخة: les effets de l’âge.
كل هذه التسميات تحولت إلى مصطلحات وتمأسست. تحوَّل «العمر» إلى مؤسسة معنًى. وأخذ يفرض مقتضيات مسبقة على تصورنا لأنفسنا. ربما يتساءل أحدهم قائلًا: لماذا التعويل على الفرنسية هنا لاستكشاف دور مصطلح العمر في تشكيل تصورنا لأنفسنا، نحن «العرب»؟ سؤال وجيه: لكن الإجابة لا يمكن أن تكون إلا مخيبة للآمال. صحيح أننا لم ننقطع أبدًا عن تكلم العربية، لكننا لم نعد نقوِّل أنفسنا بلسانها منذ وقت طويل. ومن المفارقة أن نقر بأن العودة إلى أنفسنا العميقة لا تمر بالعرب القدامى بل بالغرب. لقد فرضت علينا الحداثة أفقًا جديدًا للعمر: عصر التقنية. نحن تقنيات جديدة لأنفسنا، وعلينا التعايش مع ذلك. نحن صيغ ذاتية من ذات كبرى لا وجود لها إلا في أرشيف أخذ يستغلق علينا أكثر فأكثر. وصار السؤال عن «عمر» هويتنا لا يقل خطورة عن أي سؤال شخصي حول من نكون، في هذا المفرد المزعج الذي ضبطته الدولة الحديثة وحولته إلى وثيقة يومية توضع في الجيب، دونما خجل يُذكر. «كم عمرك؟» هو أحد أسئلة المؤسسة. وأمن الدولة يمكن أن يتأثر بنوع ما من الأعمار؛ شباب يفجر نفسه ضد الدولة أو شيوخ تتزاحم على كرسي رئاستها.
كان لغز سيفنكس على أوديب: المخلوق الذي يمشي في الصباح على أربع، وفي الظهيرة على اثنتين، وفي المساء على ثلاث؟ إنه «الإنسان». ما يقع اليوم بفضل عصر التقنية هو رسم ألغاز جديدة حول الإنسان، وسَّعت حدود العمر البشري. لغز سيفنكس وقف عند الأبعاد الثلاثة: المهد والشباب والشيخوخة. لكن الجديد هو أن العمر التقني لا عمر له، لقد تحول فجأة إلى مادة تشكيلية لتقنيات الذات.
الفلسفة والشيخوخة
عرضًا، حيث يشترط على القول في الشيخوخة أن يبدأ بذكر علل «التنفس» في الحيوانات، ثم عرضًا، أيضًا، عندما فسر الشيخوخة بطبيعة «النار» بوصفها الاستعارة الداخلية عن «الحياة». وعرضًا، أيضًا عندما نسي موضوع الرسالة وعوضه بقول مسهب في التنفس لدى الحيوانات. وتاهت الفرصة الميتافيزيقية لعقد خطاب فلسفي أساسي في ماهية الشيخوخة بشكل مبكر. وعلينا أن نسأل: لماذا؟
قال: «الحياة نوع من النار، إذا انطفأت من نفسها، مات الحيوان من الشيخوخة، وإذا ما أُطفئت من خارج، مات الحيوان ميتة عنيفة.»
كيف تفهم الفلسفة هذين المعطيين الغريبين من أرسطو: أن تفسير «التنفس» شرط للقول في الشيخوخة، وأن فهم طبيعة انطفاء «النار» هو معنى الشيخوخة.
إن نكتة الإشكال هنا هي الربط الفلسفي بين الحياة والشيخوخة التي تأتي من دون عنف. الموت العنيف ليس شيخوخة.
قال سيسرون مبررًا إقدامه على تأليف مفرد لمعنى الشيخوخة: «إن تأليف هذا الكتاب قد كان في نفسي شيئًا ممتعًا … ولن نستطيع أبدًا أن نقوم بتقريض للفلسفة على هذا القدر من الروعة بحيث إنه يخلِّص الذي ينصت إليه من كل مرارة في أي حقبة من العمر.»
والشخصية التي اختارها كي تعبر عن آرائه الفلسفية في الشيخوخة، والتي تحمل اسم كاتو أو «كاتون»، إنما تتميز بأمر أساسي واحد: أنه أثار دهشة معاصرين من قدرته على «تحمل الشيخوخة بكل يسر».
يصوغ سيسرون مفارقة حول الشيخوخة على هذا النحو: «الشيخوخة هي العمر الذي يتمنى كل الناس بلوغه، لكنه ما إن يبلغه حتى يأخذ في ذمه.»
وفي تقديره أن كل الأعمار هي لا تُحتمل بالنسبة إلى كل من يفتقر إلى مصادر مناسبة لوجوده. يبدو أن الطبع هو المُشكِل وليس العمر. قال: «شيخوخة أفلاطون كانت فاتنة: فاجأه الموت وهو في ورشته يعمل في سن الثمانين.» وسوفوكل في أقصى شيخوخته كان يؤلف التراجيديات ويهمل تجارته حتى اشتكاه أولاده وجروه أمام العدالة وحوكم باعتباره «مجنونًا» يهمل أرزاقه ويتفرغ للشعر.
ظل القدماء ينظرون إلى الشيخوخة من جهة الخدمة الأخلاقية التي يمكنها أن تؤديها تجاه غير المسنين، بناء على القرينة المريبة بين الشيخوخة والحكمة. وهذا مبثوث في محاورات أفلاطون (بروتاغوراس، السياسي … إلخ).
قال سقراط: «لنفحص عن المسألة مع أناس أكبر منا سنًّا؛ إذ إننا لا نزال شبابًا وذلك يمنعنا من أن نحسم أمرًا على هذا القدر من الأهمية.»
المسألة كانت تتعلق بإمكانية «بيع العلوم كما تُباع الأغذية» وهل يمكن نقلها من «نفس» إلى أخرى كما تُنقل الأطعمة من إناء إلى آخر.
وتبدو الشيخوخة هنا باعتبارها قدرة استثنائية على الحسم في مسائل تتجاوز سن الشباب.
كما كان سيسرون بالنسبة إلى القدماء، كان كانط بالنسبة إلى المحدثين: رد الاعتبار للشيخوخة بوصفها حالة وجود لها استحقاق خاص بها، وليس حالة علينا التعامل معها بوصفها تنطوي على نقص أنطولوجي أو على ذنب أخلاقي ما.
لكن شيخوخة كانط كانت بحد ذاتها، ولأسباب غير فلسفية بل إنسانية استثنائية، درسًا رائعًا عن تجربة الشيخوخة بوصفها من تجارب المعنى الفذة في حياة النوع.
وقد كُتب ونُشر في مجلة سنة ١٨٢٧م، ثم في صيغة منقحة في سنة ١٨٥٤م. حيث جمع المؤلف بين الطرافة الأدبية والكتابة البيوغرافية والنقد الفلسفي.
وهذا مشهد من شيخوخة كانط: «كانت قدماه تمتنعان أكثر فأكثر عن وظيفة المشي، كان يتساقط باستمرار، وفي بعض الأحيان ما إن يأخذ في اجتياز للغرفة، وحتى عندما ينتصب واقفًا بلا حراك. ومع ذلك، فهو في كل سقطاته، لا يجرح نفسه أبدًا، وكان لا يكف عن الضحك من هذا الأمر، قائلًا إنه من المستحيل أن يؤذي نفسه بفضل الخفة القصوى لشخصه، الشخص الذي تقلص عندئذٍ إلى أن صار مجرد ظل إنساني.»
لكن أكثر ما كان يزعجه هو أن يشيخ مثل بقية البشر، ولا يمل من ترداد هذا الاستياء: «لم يعد يمكنني أن أخدم العالم، ثم إنني صرت عبئًا على نفسي.»
الشيخوخة هي هذا الشعور المضاعف بشكل مفارق ومزعج؛ العجز عن العالم، والفائض عن النفس. ومن لا عالم له، لا يمكنه أن يواصل الانتماء إلى نفسه. ليست «النفس» غير طريقة معينة في تأثيث العالم، وتحويله إلى مساحة قابلة للسكن. لكن الشيخوخة تأتي لتضع حدًّا يفصل جسدًا ما عن عالمه، وبالتالي يجرده من «شكل النفس» الذي تشكل من خلاله إلى حد الآن.
لكن شكل النفس هو منذ أغسطينوس ولدى كانط وهيغل وهَيدغر، ليس شيئًا آخر سوى «الزمان». إن الشيخوخة هي في جوهرها نوع من سياسة الزمان. وبخاصة سياسة الآتي أو المستقبل.
قالت حنا أرندت: «من زاوية الإرادة، تتمثل الشيخوخة في أن نرى تقلص بُعد المستقبل فينا … قبل فقدانه النهائي.»
ما يتقلص إذن ليس جسد الأعضاء بل بُعد المستقبل الذي يعوِّل عليه الحيوان البشري لترتيب علاقته بنفسه العميقة. وربما نجازف بهذا الادعاء الفلسفي: لم يكن قصد الفلاسفة من فصل النفس عن الجسد أن يحموها من الشيخوخة بل لأنهم يفترضون بشكل جذري أن النفس في جوهرها بلا عمر؛ بلا عمر شخصي، ولهذا السبب فقط هي يمكنها أو من حقها أن تصبو إلى «الخلود»؛ أي — حسب ترجمة كانط — إلى «الحياة المستقبلية». المستقبل هو المعنى المتاح الوحيد للخلود، والنفس التي تصبو إلى الخلود لا تقصد سوى أن تحتفظ ببُعد المستقبل قدر الإمكان. الخلود هو الاحتفاظ ببُعد المستقبل قدر الإمكان.
ربما يكون امتياز الشيوخ هو التحرر من الحياة اليومية. علينا أن نفكر بهذا الموقف الوجودي: شخص بلا حياة يومية؛ نعني: هو شخص بلا عالم معيش. وعلى الرغم من ذلك هو يواصل الإلحاح على أنه جزء من أفقنا التاريخي. قد يغمز عليه أحدهم هزوًا مستعيدًا هذا المثل الغريب: «عليك أن تترك العالم قبل أن يتركك.» وقد يكون غوته على حق حين قال في نبرة حكيم خجول: «أن تشيخ يعني أن تنسحب رويدًا رويدًا من عالم الظواهر.» يعني ذلك: أن تتمرن على كيف تصير أكثر فأكثر كائنًا لا مرئيًّا. كأن الشيخوخة نوع غريب من عدم اللياقة.
قال هيغل: «الشيخوخة هي جسم اللامبالاة المطلقة إزاء كل الأحوال. هي محرومة من الفردية التي هي الهيئة الخاصة بكل مفرد.»
كيف نطرح السؤال المناسب عن الشيخوخة؟
نحن لا نتصور الشيخوخة، نحن نشعر بها، نحن نجربها. تمامًا كما في الصيغة التي أشار إليها سبينوزا حين نبه الفلاسفة إلى قدرتهم على الأبدية: نحن نشعر، نحن نجرب أننا أبديون.
الشيخوخة نوع من الأبدية، وربما كانت الأبدية نوعًا من شيخوخة الآلهة. لكن الأمر لن يتعلق أبدًا بمفهوم عن الشيخوخة، بل بحالة شيخوخة نشعر بها، نجربها، لكنها لن تتحول أبدًا إلى مفهوم مريح أو كوني إلا عرضًا.
ولذلك تبدو فكرة سبينوزا عن الموت رشيقة جدًّا وعميقة: أن الموت مهما كان نوعه، هو لا يأتي إلا من خارج. وهنا في هذا السياق الاستثنائي يضيف دولوز في أحد دروسه الأخيرة: «الشيخوخة أيضًا تأتي من خارجنا. كل هذا يأتي من الخارج: إنه اهتراء الأجزاء الخارجية» فينا.
ولكن كيف نرسم الحد الذي يفصلنا عما هو خارج عنا؟ أين نبدأ «نحن»؟ وأين يبدأ «الخارج»؟
نحن نعرف منذ هيغل أن «وضع الحدود هو دومًا طريقة لاجتيازها.» ويبدو أنه من الصعب أن نرسم حدًّا فاصلًا عن شيخوختنا، ما دام الخارج أفقًا غامضًا بلا أي توقيع. ولكن ما يوصينا به هيغل هو: «أن ننصت إلى الغابة التي تنمو بدل الإنصات إلى الشجرة التي تسقط». ولكن من الغابة عندئذ؟ ومن الشجرة؟ وماذا لو كنا عشبًا بلا أي علاقة عمودية مع أنفسنا؟ وهو معنى «ريزوم» دولوز.
ما دام «الخارج» بلا ملامح، فإن حدودنا معه تظل ادعاءً أخلاقيًّا، سرعان ما نغفل عنه بشكل نسقي. الحياة هي على الأغلب طريقة انشغال مطولة عن موتنا. ونحن نحرص دومًا على تأجيل أي لقاء معه. ومع ذلك، فإن الفلاسفة يميلون إلى اعتبار الشيخوخة لحظة حرية إزاء الموت. وهذا ينم عن مفارقة مزعجة.
الفلاسفة، أو لنقل المبدعون تحت كل لون من ألوان الروح، هم ضرب نادر من الشيوخ الشبان، أو الشبان الشيوخ، فإن قلب الألفاظ في بعض الأحيان لا يغير من طبيعة الألم شيئًا. إن ألمًا عميقًا واستثنائيًّا هو التفكير. ولا سيما حين يتعلق بتمرين مرعب على الحياة ما إن نشعر أنها التمرين الأخير على أنفسنا، أو ما نقرر يومًا ما أن نكونه دون أي شيء آخر.
الحلم القديم: شيخوخة شابة
«الشيوخ الشبان» هو نوع جديد من الناس، بعد الإنسان التقليدي، ذلك الذي نرثه كجلدتنا، دون أي تعليق آخر. وإن نمط الحياة المعاصر قد دفع بهذا الإشكال القديم إلى أقصاه، حين أنتج رهطا بشريًّا من نوع غير مسبوق: أجسادًا بشرية لا عمر لها. أو لنقل: أعمارًا تتنافس على جسد واحد، دونما انقطاع. قد نظن أن الأمر يرجع فقط إلى دور الطب الحديث في زيادة الأمل في الحياة. وهذا بالفعل هدية لا تُنكر من أطبائنا اليوم وغدًا. لكن المُشكِل الذي تثيره عبارة من قبيل «الشيوخ الشبان» (والعبارة المقلوبة عنها «الشبان الشيوخ») هو من نوع آخر، ولا يمكن اختزاله في مجرد زيادة الأمل في الحياة بعض السنوات الإضافية. «الإنسان المزيد» الذي أخذ يطل برأسه أو بقامته على المشهد البشري ما بعد الحديث ليس مزيدًا في صحته أو في قدرته على مقاومة الأمراض. بل هو كائن توفرت لديه لأول مرة فسحة استثنائية للتفاوض حول عمره الشخصي، ولا نقول حول موته. يظل الموت الخاص مُشكِلًا مطروحًا حتى بعد تدخل الطب الحديث وتأجيل توقف الحياة عن الخفقان. يؤجَّل الموت، لكنه لا يفقد مفاجأته الجذرية.
إن ما هو استثنائي حقًّا في البشر ليس هشاشتنا أمام حدث الموت بل قدرتنا على الحياة. الحياة في معنى تلك القدرة العجيبة على إعادة رسم ملامح العمر بالوسائل المتوفرة. من يحيا يتميز بكونه يمتلك كمية كافية من تجاعيد الروح تمكِّنه إلى حد الآن من أن ينتمي إلى نفسه بتوقيع خاص لا يشاركه فيه أحد. وعلى الرغم من كثرة الأقاويل المريعة حول شيخوختنا، حيث تُقدَّم الشيخوخة عادة بوصفها ضربًا من الجحيم الخاص، ولكن المؤجَّل دائمًا. لكن العمر البشري والعمر الشخصي ليسا مترادفين؛ يمكن لجسدك أن يشيخ طبيًّا دون أن يفقد أي شيء من رونقه الحيوي. كما أنه من السهل بمكان أن يشيخ المرء شابًّا. أجل، لا يبدأ الناس شيخوختهم في نفس التوقيت. هناك من يبدأ شيخوخته مبكرًا، فيسقط في نوع من الشيخوخة المجازية. كما أن ثمة من يؤجلها بوتيرة مثيرة، ومزعجة أحيانًا، فينزلق في شباب بلا غد.
كان أفلاطون يعتقد أن الشيخوخة هي راحة الحواس. وبالتالي هي يمكن، أو يجدر بها، أن تكون وقتًا مناسبًا للحكمة. لكن طريقة البشر في رسم ملامح أعمارهم قد تغيرت منذ ذلك الوقت البعيد. لقد تحول معنى العمر شيئًا فشيئًا إلى مُشكِل شخصي لا علاقة له ضرورةً بوتيرة تآكل الزمن البشري في أي جسد آخر. لقد صار العمر يشبه نوعًا من السفر الأخلاقي نحو أنفسنا. لكنه سفر يُعاش كنوع من الشباب الإضافي، يمكن للمرء أن يقوم به في أي عمر يشاء.
قال فيكتور هوغو: «إن إحدى ميزات الشيخوخة هي كونها، علاوة على عمرها الخاص، تمتلك كل الأعمار الأخرى.» كان يظن أن الشيخوخة هي عمر الرجاء البحت؛ ولذلك فإن «شباب الشيخوخة» يظل أملًا قائمًا مهما وقع التقدم في العمر. الشباب كتقنية رجاء استثنائية تحت جلد كل شيخ، فقد كل علاقة بالوقت «الطبيعي». وعلينا أن نسأل هنا: هل يمكن لأي متقدم في العمر أن ينجح في شيخوخته؟ قال لاروشفوكو ذات مرة: «قليل من الناس يعرف كيف يكون متقدمًا في العمر.»
نحن ننتمي إلى ثقافة وزعت أوقات العمر بطريقة مرعبة، ولذلك هي لم تجد من طريقة لإنقاذ الموقف سوى قصة مناسبة عن موتنا. كل الأديان هي قصص لطمأنة الموتى بواسطة الحياة. لا نقصد الآخرة كنوع آخر من الحياة، بل الحياة نفسها كمجموعة من طبقات الحياة التي تعمل كل ثقافة على الزيادة في سماكتها حتى تصبح أكثر فأكثر قابلة للحياة أو محتملة.
طبعًا حيثما يقف الموت، فإنه يقف دومًا كاهنٌ ما يُطمْئِن القلوب الحائرة على إمكانية الموت دون خطر كبير. كل كهنوت هو جهاز تحويل الحياة إلى موت بلا موت. هو فن استئصال ألم الموت من حادثة الموت. كل تجارب الإيمان بأي لغة كانت، وفي أي عصر كان، هي معامل للموت المريح. ومن ينكر حق البشر في هذا العلاج الفريد من نوعه، دون أن يخجل من طمعه الجذري في الحياة؟
هناك دومًا باسكالٌ ما:
قال: «إن الشبيبة حالة في الذهن أكثر منها حقبة في العمر.» وقال: «إنما عند الشيخوخة وبالشيخوخة يتعلم المرء كيف يظل شابًّا.» … إلخ.
كان هذا النوع من الطمأنة ألقًا أدبيًّا لكاهن متنكر؛ إذ إن كل آثار الحداثة إنما تتجلى في برنامجها عن الحياة: في إعادة ماهية جميع الكائنات إلى عقل الإنسان، ومن ثم إلى جسده، كمساحة سيطرة؛ حيث يعمل الطب والتقنية والأخلاق جنبًا إلى جنب. كل الحداثة هي برنامج ميتافيزيقي لإعادة القدرة على الحياة إلى نصابها من التفكير. وليس التنوير غير محاولة إيصال هذا الخبر إلى الإنسانية، وإن كان ذلك دون طمع كبير في إقناعها حالًا. لقد تم اكتشاف الصحة كمُشكِل ميتافيزيقي من الطراز الأول.
يُقاس كسل الروح في ثقافةٍ ما بقدر ما تمنع جزءًا من الأحياء من علاقتهم بالحياة. وتحولهم إلى قطيع من الموتى المؤجلين. ويميل الوعي العامي إلى اعتبار الشيخوخة فترة مناسبة تمامًا للموت، نعني للكف عن الحق في الحياة، وبالتالي للكف عن تغيير العمر بما هو كذلك. وهنا نعثر على وسيلة تمييز مثيرة بين الشبان والشيوخ: من يكف عن تغيير ماهية العمر هو مؤهل أكثر من غيره كي يصير شيخًا. إن مقولة العمر هي معطًى تشكيلي، وليس جدارًا نكتب عليه أحداثًا ماضية، ونمر. من أجل ذلك يبدو العمر امتحانًا رائعًا يمكن أن نفشل فيه دون تمييز يُذكر بين الشاب والشيخ. على سبيل المثال: ما أكثر الفاشلين في شبابهم. يمكن لأيٍّ كان أن يُفشل شبابَه؛ نعني أن يخفق في مصاحبة قدرته على الحياة بالشكل المناسب. هنا يتبين أن الشباب ليس وقتا بديهيًّا للنجاح في الحياة. لكن ما نلاحظه هو أنه حين تشيخ حضارةٌ ما تنقلب إلى آلة يأس، أي إلى إرهاب.
في فنون الشيخوخة
ينبغي علينا أن نفكر في شيخوختنا: وعلينا أن نسأل للتوِّ: «هل يمكن أن نفشل في الشيخوخة؟» لا نعني بذلك سؤالًا من هذا النوع: «هل ثمة وقاية من الشيخوخة؟» أو «هل هناك سن رسمي للشيخوخة؟» أو «هل فعلًا أن الحياة لها ربيع واحد؟» بل فقط: إن الشيخوخة قدرة على الحياة، مثل أي قدرة أخرى. وعلينا أن نتمرن على النجاح فيها، مثل النجاح في أي تمرين آخر على الحياة. قال أندري مالرو: «ليست الشيخوخة سوى عادة كريهة لا يجد الرجل العامل وقتًا كافيًا لاعتيادها.» ولكن هل يتعلق الأمر بالوقت الكافي لتعلم الشيخوخة أم أننا نفتقد غالبًا إلى القدرة على الشيخوخة؟
لا نعني بالقدرة على الشيخوخة أن ننجح في التعمير وقتًا متطاولًا إلى «أرذل العمر» حتى «نبلغ من العمر عتيًّا». إن المعمرين أحياء ولكن بلا حياة، أي بلا شيخوخة. بل إن ما يعنينا هو القدرة على الاحتفاء بهذا النوع من النداء: «استمتع بالشيخوخة ولكن لا تكن شيخًا.»
هناك شيخوخات عدة: هناك شيخوخة مبكرة، وشيخوخة مراهقة أو متصابية، وشيخوخة مريضة، وشيخوخة هرمة، وشيخوخة منسية، وشيخوخة سردية؛ «كُنتيَّة» (كنت في شبابي)، و«كانيَّة» (كان أبي …)، وشيخوخة حكيمة، وشيخوخة رحيمة (كما نقول «يوثينيزيا» أو «الموت الرحيم»)، وشيخوخة الألزهايمر … لكن الشيخوخة الشابة هي التي ينبغي العمل على اقتنائها من الحياة.
تبدو الفلسفة مثل طفولة «جيرونطولوجية» متنكرة، نعني قدرة مبكرة أو غير راهنة أو في غير أوانها على إقامة الأسئلة المناسبة حول معنى شيخوخة النفس. هل ذلك لأن شيخوخة الجسد لا مرد لها؟ أم هي في عين الفيلسوف مجرد آثار جانبية عن شيخوخة أعمق؟ هي شيخوخة النفس؟
في سياسة العمر أو الشيخوخة بشكل مغاير
الشيخوخة الشابة إذن لا عمر لها. أو هي لا تتعلق بتواريخ العمر. إن العمر هو نفسه أفق داخلي لأنفسنا، لا يمكن حصره في أي نوع من الحساب. وحده الجسد يمكن التأريخ له بشكل طبي. أما طريقة استعمالنا لأجسادنا، وطريقتنا في رسم ملامح العمر داخله، فهذا شأن سياسي بالمعنى الجذري: سياسة النفس باعتبارها مساحة أخلاقية خاصة، لا نملك بعدُ أي ميزان ميتافيزيقي لها إلى حد الآن سوى الجسد؛ نعني جسدنا الخاص ولحمنا الخاص، ملكية خاصة تغار منها الآلهة والدول.
الشيخوخة الشابة هي نمط من السكن على سطح أجساد خاصة بلا رجعة. «على سطح أجسادنا» وليس فيها. نحن بمعنًى ما لا نوجد خارج أجسادنا كما أننا لا نوجد داخلها. بل على سطحها أو على حدودها. ربما يحق للشباب أن يزعم أنه داخل جسده، وهو يدَّعي ذلك لأنه يعتقد أن جسده غض بض فتيٌّ نضِر … وبالتالي هو مكان لائق ورائق ومثير للسكن. لكن الشيخوخة لا تملك مثل هذا الترف الوجودي. يشعر الشيخ دومًا أنه يقيم في المكان غير المناسب أو في السكن غير المريح. ومن ثم أن عليه أن يبقى خارجه، على أطرافه أو بجواره، دون أن يتجرأ على دخوله. الشيخوخة هي نمط من الجوار مع جسد لم يعد صالحًا للسكن.
ولكن هل يمكن أن نُشفَى من الشيخوخة؟ قال إبراهيم الموصلي:
ثمة جنونٌ ما تحت تجاعيد الروح في كل شيخ. وخاصة حين يكون شابًّا. ولكن ما أبعدنا عن تلك العصور الطرية حين كان الجنون أخطر على الحياة من العقل. ربما كان العقل، ولا سيما العقل الذي أصبح يطيل عمره كما يريد، هو أخطر أنواع المستقبل على الحياة. إن عقلًا لا يشيخ هو عقل غير قابل لأي نوع من الشفاء السردي من الحياة. ما نفكر فيه، في أي رَدَح من العمر، هو آثار أو أطراس نظل نقرؤها دون أن نخلط بينها، عمدًا. هناك دومًا مساحة نسيان متاحة في أي وقت من العمر، لكننا نفضل قصدًا أن نتذكر.
قال امرؤ القيس:
نحن بعدَ أنفسنا دائمًا، وهكذا نتقدم في العمر. ليست الشيخوخة نهاية لأي شيء. ولا هي بداية لأي شيء. هي قدرة على قراءة الأطراس. خطوط مكتوبة فوق بعضها البعض، تغرينا بقراءتها في وقت واحد، في تزامن مرعب. لكن الانتماء المتعدد لأنفسنا، لجميع «الأنفس» التي كُنَّاها، هو أيضًا له متعته الفظيعة. لا يبقى من أي حياة سوى العمر. نعني تلك القدرة على قراءة الأطراس المتزامنة. وإن كان ذلك من دون ذاكرة مناسبة دومًا. قال غارسيا ماركيز: «إن زمن الشيخوخة ليس تيارًا أفقيًّا، وإنما خزان مثقوب القعر تتسرب منه الذاكرة.» وكلما تسربت الذاكرة بدا الإنسان وكأنه «رضيع هرم».
يتميز الشيوخ الشبان بأنهم أفلحوا دون غيرهم فيما سماه غارسيا ماركيز «إبرام عقد مشرف مع الوحدة». بالطبع، الشيخوخة مؤسسة وحيدة أو تستمد من القدرة على الوحدة قوة خاصة. ثمة أطفال متوحدون، لكنهم لا يعانون من الوحدة. قال فولتير: «الحياة طفل ينبغي ملاطفته حتى ينام.» ذلك يعني أن الطفل ليس ماضي الشيخ بل الحِضن السري لقلبه. ولذلك نحن لا ننجب من أجل الخلود بل فقط من أجل البقاء، والبقاء لا يبدأ متأخرًا أبدًا.
الشيخوخة كفرصة لا تعوض للحياة، وخاصة أنها غير متاحة لأي جسد. ثمة «حدود جديدة للعمر».
لا تملك الشعوب هرميةَ أعمار واحدة، على الدوام.
الشيخوخة ليست استعارة، ولا هي مرض معدٍ، بل إمكانية أصيلة للاقتراب الأقصى من أنفسنا، نحن نحملها في قاع أنفسنا منذ البداية.
تَمثَّل هَيدغر ذات مرة بالقولة التالية: «ما إن يأتي الإنسان إلى الحياة، حتى يكون مُسنًّا بما فيه الكفاية كي يموت.»
ليس ثمة وقت مخصوص كي تجتاح الشيخوخة شعورًا ما بالكينونة. إن النفوس إذن تشيخ قبل الأجسام بوقت طويل. وبعبارة أكثر حدة: الشيخوخة هي كل نمط غير أصيل من الشعور بأنفسنا. وبهذا المعنى فإن حياتنا هي مجرد إمكانية كينونة سوف تظل شكلًا سابقًا أو مبكرًا من الشيخوخة ما دمنا نحن نؤجل أي تملك أصيل لحقيقتها. الحياة ما هي سوى مشروع تملك معنى أنفسنا بقدر ما نحرره من إمكانية الشيخوخة التي ينطوي عليها منذ البداية. وحسب هَيدغر، على الكيان الذي هو نحن كبشر، أن يستبق كل إمكانيات كينونته نحو الإمكانية القصوى التي تخصه، ونعني بذلك أن يقبل قبولًا عميقًا بإمكانية موته بوصفها هي الصيغة القصوى من قدرته على الحياة. أن يقبل موته بوصفه طريقة في الحياة. والخيط الهادي هو التمييز بين ما ينتهي يومًا وما يوجد نحو نهايته. الإنسان لا ينتهي أبدًا، بل هو دومًا ينحو نحو نهايته.
بهذا المعنى ليست الشيخوخة نهاية لأي شيء، بل هي نمط كينونة كنا عليه منذ البداية. ما إن نكون حتى ننخرط في شيخوخة مفتوحة، هي الإمكانية الأخص لوجودنا كبشر. والفلسفة هي تمرين عميق على استباق الشيخوخة في معنى التحمل الجذري لإمكانيتها العميقة في صلب أنفسنا، دون أي مراوغة. أن نستبق شيخوختنا يعني أن نصبح أحرارًا لها. لا يحرر الإنسان من خوف الشيخوخة إلا تملك ماهيتها؛ نعني أن يتفرغ لتحملها من الداخل. يقول هَيدغر: «بالاستباق يصبح المرء حرًّا لموته الخاص.» ولكن ما جدوى حرية كهذه؟
قال: «إن الدازين يحفظ نفسه بالاستباق من أن يتقهقر وراء ذاته ومستطاع الكينونة الذي وقع فهمه و«أن يتأخر به العمر عن انتصاراته».»
لكن هذا ليس بيانًا ضد الشيخوخة بل فقط طريقة أرستقراطية في اختيار موتنا. طبعًا كما قال زرادشت: «الكثير من الناس يموت في وقت متأخر، والبعض يموت قبل الأوان.»
ما العمل إذن؟ هل ثمة فلسفة يمكن أن تساعدنا على تغيير قدرنا؟
لكن أطروحة هَيدغر تظل بلا أجنحة حتى نعيدها إلى الأفق الذي منحه نيتشه للمعاصرين تحت هذا العنوان المثير، والذي اقتبس منه هَيدغر، عنوان «الموت الحر».
يقول مانتاني في نص يحمل عنوانًا قديمًا «أن نتفلسف هو أن نتعلم الموت»: «إن أعظم شيء في العالم هو أن نعرف كيف نكون لأنفسنا، لكن الشيخوخة وحدها هي لحظة الحصول عليه.»
ثمة خيار صعب هنا بين أمرين مزعجين: إما اختيار الموت في الوقت المناسب، وإما تحمل إمكانية الشيخوخة منذ البداية كإمكانية أصيلة في صلب أنفسنا.
ويبدو أن نيتشه قد انتصر إلى الحل الأول، أما هَيدغر قد تكفل بالتفكير في الحل الثاني.
يقول نيتشه: «إن الحكمة القائلة: «لتمتْ في الوقت المناسب!» ما زالت تبدو غريبة … لكن كيف يمكن لمن لم يعش في الوقت المناسب أن يموت في الوقت المناسب؟»
هنا يبدو أن نيتشه يلتحق بهَيدغر لا يتكلم لغته: أن نموت في الوقت المناسب يعني أن نقبل بالعيش في الوقت المناسب. وذلك يعني فقط: أن نرضى بشكل أنفسنا، وبعبارة محببة لنيتشه: «أن نحب قدرنا». بيد أنه لا يحب قدره إلا من بكر له وأعطاه كل إمكانية الاقتدار التي بحوزته. وربما أمكننا أن نقول في عبارة قلقة: أن نحيا حياتنا باعتبارها نوعًا مبتكرًا من الموت الحر.
يموت حرًّا من اختار حياته بلا رجعة، ومن هنا تنقلب شيخوخته إلى عيد سري. الشيخوخة هي تعلم الموت الحر، وذلك بعيدًا عن أي عدمية كسولة. لكن هذا النوع الاستثنائي من الشيخوخة ليس حكرًا على الشيوخ، بل ربما هو غريب عنهم تمامًا.
من يُستشهد من أجل قضية عادلة، من أجل الإنسانية أو الوطن مثلًا، هو يختار حياته بشكل دقيق؛ نعني: يختار نمطًا من الحياة، من المفارقة أنه لن يعيشه هو بشخصه، ولكنه هو من جعله ممكنًا. الموت ليس مُشكِلًا شخصيًّا دائمًا.
خاتمة: الشيخوخة موقف إنجازي
قال فوكو: «ما لا نستطيع معرفته هو يشكل جزءًا من بنية الذات العارفة، وهو الذي يجعلنا غير قادرين على معرفته» (درس تأويلية الذات).
ليس أكثر من الشيخوخة تعبيرًا عن هذا الإحراج. ممارسات الشيخوخة وتقنيات العمر: هل من رابطة بينهما؟ هل سياسة العمر هي بالضرورة سياسة شباب؟
كل طفل هو في علاقته اللعِبية بالعالم الصغير الذي يهمه هو يطور سياسة معينة عن العمر؛ عمره هو كملكية أخلاقية لا تقبل الاقتسام مع أحد. وما يدفع بشباب يافع إلى الإرهاب مثلًا هو على صلة مريبة بمسألة سياسة العمر هذه. ثمة صعوبة عميقة غير مفهومة لنا هي التي تجعل شابة يانعة تنقلب إلى قاتلة وقحة وشرسة. ليس هذا مُشكِلًا أخلاقيًّا أو دينيًّا أبدًا. هناك خلل في التصور الذي نقدمه لهذا الجيل عن تقنيات الذات المناسبة له.
يقع الفشل الميتافيزيقي في موضعٍ ما من تصورنا لأنفسنا، وعلينا أن نبحث عنه. سياسة معينة للنفس هي المسئولة عن قبول بعض الشباب الناجح جدًّا، بمقاييس النجاح الحديثة، التخليَ عن كل هذه الدائرة من القيم ومن سياسات العمر الحديثة، والالتحاقَ بقافلة سيئة ومرعبة من الحيوانات الأخلاقية المضادة لكل ما هو حديث في نمط حياتنا.
الإرهاب نوع من الشيخوخة الأخلاقية المرعبة التي تلغي المسافات المعيارية بين الأعمار والأجيال، وتحول أحدهم إلى شيخ بلا عمر شخصي.
كيف نعيد طرح العلاقة بين الشيخوخة والرشد؟ أو سن النضج؟
ربط كانط بين التنوير والرشد، نوع من رشد العقل، لكن رشد البدن لا يظهر في الصورة. التنوير هو الخروج من حالة القصور، ولكن إلى أي مدى يمكننا متابعة كانط في استعارة «القصور» مع فصلها عن مسألة الجسد فصلًا حادًّا؟
كل الثقافات وكل العصور لها تصورات خاصة عن «الرشد»، وفي بعض الأحيان يتم ربط الرشد بالشيخوخة. وبهذا المعنى: كل من يبلغ سن الرشد فقد دخل تحت طائلة الشيخوخة.
لا تُقال الشيخوخة على الإنسان بالضرورة، وشيخوخة فكرة الإنسان أو شيخوخة الإنسانية ليست أقل مدعاة للتساؤل من أي شيخوخة شخصية. كذلك: شيخوخة العالم أو الأرض أو شيخوخة الله … إلخ. ليس ثمة حد أخير لأي بحث في الشيخوخة في أفق البشر.
ما إن يموت أي شخص، في أي لحظة من عمره، حتى يصبح فجأة «شيخًا». رضيع ميت هو شيخ بما فيه الكفاية كي يفارق الحياة. علينا أن نفصل بين الشيخوخة والزمن. ليس ثمة وقت مناسب ووحيد للشيخوخة.
نحن لا نجد الشيخوخة، نحن نعثر عليها. ويجدر بي أن أتساءل: هل أنا حدود شيخوختي؟ ماذا لو أن اللاوعي لا يشيخ، هذا يعني أن الشيخوخة لا وجود لها. إنها فقط نوع من الحداد الخفي على النفس. وكانت سيمون دي بوفوار قد تساءلت: «هل العجائز من فصيلة البشر؟»
تقول: «نحن لا نعرف من نكون، إذا كنا نجهل من سوف نكون». لكن بوذا ينقذ الموقف قائلًا: «أنا هو بيت شيخوختي المقبلة». فمنذ أن لم تعد الشيخوخة أمارة على الخبرة في الحياة، تحولت إلى عبء أخلاقي.
علينا أن نتعلم من جيراننا الميتافيزيقيين: إن الحيوانات لا تشيخ بسرعة مثلنا، ونستفيد من نصيحة دي بوفوار: إذْ «بين أن تكون فرويد وألا تفعل شيئًا، هناك حلول وُسطى كثيرة». هذا علاوة على أن الفضيلة الكبرى لشيخوخةٍ ما ربما هو النسيان الصحي، ومن ثم إن الشيخوخة هي قوة العمر، هي الذهاب نحو حرية من نوع آخر: حرية عدم التأسيس لأي شيء طويل الأمد.
ويقول في موضع آخر: «لقد تعجبت في أحيان كثيرة أنه، أثناء انهيار خطير، نحن لم نعد نريد العيش، لكننا نخاف من الموت، وأننا حين نكون في صحة جيدة، نحن نريد العيش، لكننا لا نخشى الموت. كذلك هو الأمر بالنسبة إلى الشيخوخة أيضًا.»
ربما كانت الشيخوخة أسطورة شخصية يعيشها كل فرد على حدة. والسؤال الملح هو: كيف القيام ﺑ «شيخوخة ناجحة»؟ وقد تبين أن ثمة من يفشل في شيخوخته بشكل رائع. لا تبدأ الشيخوخة متى نريد، وهذا يعني أنها غير مشروطة بالزمان؛ مثلًا: الرياضيون يشيخون بشكل مبكر جدًّا، لكن بيكاسو أو ريكور هم شيوخ ذوو قدرة رهيبة على الإبداع المتأخر جدًّا. إلى أي حد يمكننا أن نطور آدابًا مناسبة للشيخوخة؟ قد تكون الشيخوخة أيديولوجية سلطة؟ ربما علينا أن نفكر بالشيخوخة كنوع من الاستغناء عن المستقبل.