العلم والاعتقاد
رومانسية قَلِقة
لكن أفضل إثبات على الإطلاق هو التجربة.
***
في الفصل الأول رأينا أن تصديقنا (أو عدم تصديقنا) الأشياء يرجع جزئيًّا إلى وجود إشارات ثانوية، والصفة «ثانوية» هنا تعني أنها سمات للموقف غير ذات صلة بكون الرسالة حقيقية حقًّا (مثل جاذبية المتحدِّث أو طول الرسالة). وعلى الرغم من أننا نادرًا ما ندرك أن تلك الإشارات تؤثر علينا، فإن لها تأثيرًا علينا حتى عندما نحاول محاولةً واعية تقييمَ المنطق والأساس الحقائقي للرسالة الهادفة إلى الإقناع. كما رأينا أيضًا فإن لدينا تحيُّزًا كبيرًا إلى تصديق المعلومات الجديدة إذا كانت متفقةً مع ما نصدِّقه بالفعل، وإننا ننتقد المعلومات الجديدة غير المتَّسقة مع معتقداتنا. ولحماية أنفسنا من تصديق أمور زائفة نحتاج إلى ما يلي: (١) معرفة الإشارات الثانوية التي تقنعنا كي نتمكَّن من إسقاطها من حساباتنا. و(٢) معرفة المعتقدات التي نتبنَّاها حاليًّا لأنها سوف تجعل طريقةَ تقييمنا للمعلومات الجديدة متحيِّزةً.
بطبيعة الحال، توجد اختلافات كثيرة فيما يعتقده الأفراد، لكن في هذا الفصل، سوف نوضِّح أنه توجد أيضًا في العقل الغربي قواسم فكرية مشتركة مهمة موضَّحة في موروثين كبيرين. يشكِّل هذان الموروثان معتقدات ماورائية كما أطلقت عليها في الفصل الأول، وهي معتقدات عامة للغاية، حتى إنها تؤثِّر على كثيرٍ من المعتقدات الأخرى. إنها في حقيقتها افتراضاتٌ وطرقٌ لرؤية العالم، وهي متغلغلة للغاية حتى إننا نادرًا ما نفكِّر في التشكيك فيها.
المعتقد الماورائي الأول هو أن «أفضل طريقة لفهم العالم هي من خلال العقل». يتضمَّن هذا المعتقد الثقةَ في أن عالمنا — بدايةً من طريقة عمل المجرة وحتى طريقة عمل أجسادنا — خاضِعٌ للقوانين، وأن العقل البشري يستطيع اكتشافَ تلك القوانين ووصفها. وفقًا لهذا المعتقد الماورائي، فإن أفضل مثال للفكر العقلاني هو المنهج العلمي.
المعتقد الماورائي الثاني هو أن «أفضل طريقة لفهم العالم هي من خلال التجربة الشخصية». وفقًا لوجهة النظر تلك، فإن الموروث العلمي يبالغ في تقدير ما يمكن فهمه من خلال العقل، والأشخاص الذين يبالغون في الاعتماد عليه يفوتهم كثير من الأمور المهمة، لا سيما الاستجابات العاطفية للأفراد. وفقًا لوجهة النظر تلك، فإن الفهم الحقيقي للأمور المهمة — خاصةً في تقييم عالمنا الطبيعي — يعني فهم أن بعض الأشياء غامضة لا يمكن وصفها، وأنها ليست «متاحة» للتحليل بالعقل. إن التفكير العقلاني في هذه الأمور لا يعجز عن فهمها فحسب بل يدمِّر التجربةَ بالكامل، كما قال وردزوورث في مقدمة هذا الفصل، فعندما نحاول تحليل (أيْ تشريح) تلك الخبرات الجليلة، فإننا ندمِّرها.
نشأ المعتقد الماورائي الأول أثناء القرن السابع عشر بالتزامُن مع تطوير المنهج العلمي الحديث، ويُطلَق عادةً على هذه الفترة عصر التنوير. أما المعتقد الماورائي الثاني فقد نشأ في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، ويُطلَق على هذه الفترة عادةً فترة الرومانسية. على الرغم من أن هذين المعتقدين الماورائيين قد يكونان قديمين، فإنهما ما زالا معنا اليومَ إلى حدٍّ بعيد، فعندما يرتدي المعلِن معطفَ المختبر الأبيض الخاص بالطبيب في دعايةِ شرابٍ لعلاج السعال، أو عندما يصف موقعٌ إلكتروني يبيع برمجيةً تعليميةً أثرَها قائلًا إنها تصحِّح «الأخطاء الدماغية»، فإنهما يحاولان الاستفادةَ من الأثر المتبقِّي من تفكيرِ عصرِ التنوير.
أما عندما يَعِدُ أحدُ الكتب ﺑ «إطلاق» القدرة التعليمية الكامنة في طفلك، أو عندما يؤكِّد إعلانٌ لدواءٍ لاضطراب قصورِ الانتباه وفرط الحركة على أنه: «خالٍ من العقاقير الكيميائية وطبيعي تمامًا»، فإن هذه محاولة للاستفادة من رواسب التفكير الرومانسي.
في هذا الفصل سأوضِّح أنَّ كل معتقَد ماورائي تمثِّله عبارات شهيرة معينة، وهذه العبارات الشهيرة هي إشارات ثانوية للإقناع؛ إنها تدعونا لاستنتاجِ أن المعلومات الجديدة المقدَّمة لنا — عن شراب السعال أو عن البرمجية التعليمية — متَّسِقة مع أحد هذين المعتقدين الماورائيين أو حتى مع كليهما. العبارات الشهيرة تؤكد لنا أن الحجة قيد التقديم — «شراب السعال هذا فعَّال» — متفقةٌ مع شيء نصدِّقه بالفعل؛ ومن ثَمَّ لا تحتاج الحجة إلى التقييم بدقة شديدة.
يمكنني ببساطة أن أسرد العبارات الشهيرة مع تحذيرٍ يقول: «انتبه عندما ترى هذه العبارات!» لكن لكي نفهم على نحوٍ كامل لماذا من المحتمل أن تعمل تلك العبارات كإشارات ثانوية (وللتعرف على غيرها من العبارات التي لم أذكرها)، فإنك تحتاج إلى فهم المعتقدات الماورائية الداعمة لها، ولِفَهْم تلك المعتقدات الماورائية فهمًا كاملًا، نحتاج إلى فَهْمٍ أفضل لأصولها وتبريرها؛ وهذا يأخذنا إلى أوروبا القرن السادس عشر.
(١) انقلب العالم رأسًا على عقب
من الصعب التعرف على معتقداتنا الماورائية وتأثيرها تحديدًا لأننا غارقون فيها. تُماثِل المعتقداتُ الماورائية رؤيتَنا للعالَم، فهي عدسة تمرُّ من خلالها كلُّ تجاربنا؛ ومن ثَمَّ فإن مطالَبتَنا بتحليلها تشبه مطالَبةَ السمكة بوصف الماء. إن أفضل طريقة لتقييم رؤية العالَم هي مقارنتها بأخرى.
كانت توجُّهات الناس تجاه الأدلة — أيِ الأمور التي يجدونها مُقْنِعة — من السمات الأكثر إدهاشًا في ثقافة أوروبا القرن السادس عشر. تأمَّلْ هذا المثالَ: افترِضْ أنني أردتُ أن أقنعك بأن الزوج والزوجة اللذين لا يحب أحدهما الآخَر يمكن على الرغم من ذلك أن يكون زواجُهما سعيدًا. ما الدليل الذي يمكنك أن تخمِّن أنني سأجده مُقْنِعًا؟ ربما تروي لي قصةً عن زوجين تعرفهما؛ كانت الزوجة أجنبية تريد الحصول على الجنسية، وكان الزوج رجل أعمال يريد الزواجَ من أجل حياته المهنية؛ إنهما يعيشان معًا مثل رفقاء السكن وكلاهما سعيد لدرجةٍ كافيةٍ بهذا الترتيب. باختصارٍ، ستحاوِل إقناعي بأنكَ رأيتَ الدليلَ بأم عينيك.
وبدلًا من حواسنا غير الجديرة بالثقة، توجد لدينا الحكمة التي صمدت لسنوات طويلة، ولعل أبرزها النصوص المقدَّسة المسيحية. أتريد أن تعرف هل من الممكن للزواج أن يكون سعيدًا لو لم يحب أحد الزوجين الآخر؟ الكتاب المقدَّس لديه الجواب: «أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِهَا» (رسالة أفسس ٥: ٢٥)، فالنموذج المثالي للزواج يتضمَّن الحب.
لنبدأ بمفهوم الشك. لماذا قرَّرَ الناس في القرن السابع عشر أنه من المقبول التشكيك في الأشياء، وطرح الأسئلة؟ ما الذي خلَّصَهم من إيمانهم بالجبرية وافتراضهم الضمني بأن لا شيء سيتغيَّر أبدًا؟ كان المسئول الأساسي عن ذلك هو رينيه ديكارت. لقد سمعتَ بالتأكيد قولَه المأثور البالغ الشهرة: «أنا أفكِّر، إذن أنا موجود.» ماذا يعني ذلك؟ كان ديكارت يردُّ على الشكوكية الفلسفية، وهو نوع من الفكر يعود إلى الإغريق، وراجَ مرةً أخرى في منتصف القرن السابع عشر، وهو يطرح السؤال الآتي: «كيف يمكننا أن نتأكد من أن أي شيء حقيقي؟» حسنًا، كي تكون متأكدًا من أن شيئًا ما حقيقي تحتاج إلى وضع معيار للحقيقة، وهذا يعني أن تقول: «إذا كان أحد التصريحات يلبِّي هذه الشروط، فإنني أقبل أنه حقيقي.» على سبيل المثال: من الممكن أن أقول: «إذا اتفق أحد التصريحات مع أمرٍ ألاحظه بعيني، فإنني أقبل كوْنَ هذا التصريح حقيقيًّا.» لكن عندها من الممكن أن أسألك: «كيف تعلم أن معيارك للحقيقة موثوقٌ به؟ كيف تعلم أن الأمور التي تراها بعينيك حقيقية؟» لذلك، ردًّا على هذا، فأنت تقدِّم سببًا لكون معيار الحقيقة ذلك موثوقًا به؛ على سبيل المثال: من الممكن أن تقول: «الأشياء التي رأيتها بعيني ثبتت صحتها في الماضي دائمًا تقريبًا.» لكن عندها من الممكن أن أسألك بدوري: «إذن هذا «سبب» معيار الحقيقة الذي تستخدمه، وأنت تقول إنه يوجد تاريخ للأمور التي رأيتها بعينيك واتضح أنها حقيقية. لكن كيف تعلم أن هذا «السبب» موثوق به؟ كيف تعلم أن تاريخ الموثوقية هذا سوف يستمر؟» وهذا يعني أنه في كل مرة تقدِّم لي معيارًا من خلاله يمكنني معرفة أن بعض المعلومات حقيقية، فإنني سوف أطلب منك معيارًا لذلك المعيار.
كثير من المفكرين حتى ذلك الوقت كانوا ببساطة يوبِّخون الشكوكيين ناعتين إياهم بالمعارضين للدين. أوضح ديكارت ضرورة أن تؤخذ حجة الشكوكيين على محمل الجد، وكان تصريحه «أنا أفكر إذن أنا موجود» هو رده عليهم. تمثَّلَ مشروع ديكارت في إيجاد معيار موثوق فيه للحقيقية؛ أي مجموعة قواعد من خلالها يستطيع المرء «معرفة» أن أحد الأمور حقيقي، على نحو يقيني. اعتقد ديكارت أنه إذا استطاع إيجاد تصريح لا يمكنه التشكيك فيه، فإنه سيستطيع اكتشاف «سبب» عدم إمكانية التشكيك فيه؛ ومن ثَمَّ سيكون لديه معيارٌ للحقيقة، وسيعلم السمات التي لا بد أن تتوافر في التصريح كي يكون المرء متأكدًا من حقيقته.
كان تصريح «أنا أفكِّر إذن أنا موجود» تصريحًا لا يمكن التشكيك فيه. معظم التصريحات الأخرى يمكن التشكيك فيها. إنك ترى أحد الأمور بعينيك، لكن كيف تعلم أنه ليس هلوسةً أو حلمًا؟ إنك تزعم أن ٢ + ٢ = ٤ لكن لا يمكنك «حقًّا» أن تعلم أنك لم تخطئ في الحساب. لكن إذا كنتُ أفكِّر فلا بد أن توجد «نفسي» لتقوم بالتفكير، لا مهربَ من هذا.
جعل ديكارت الناس تتعامل بجدية مع سؤال «كيف أعلم أن أحد الأمور حقيقي؟» وفي فعل ذلك «شجَّعْ على الشك». تحدَّى ديكارت معاصريه في طرح هذا السؤال: «كيف نعرف أن أحد الأمور حقيقي؟» بدلًا من مجرد قبول أنه حقيقي لأن سلطةً مرجعيةً ما صرَّحَتْ به.
بالنسبة إلى الناس في أواخر القرن الثامن عشر، كانت فكرة عدم وجود معرفة يقينية فكرة جديدة بالفعل. ذهبت الكنيسة بالتأكيد إلى أنه يوجد كثير من الأمور المعلومة على نحوٍ يقيني، وقالت الكنيسة أيضًا إنها، كمؤسسةٍ، تعلم هذه الحقائق. على النقيض، أوضح لوك أن المعروفَ معروفٌ بالتجربة، بل إن تلك المعرفة نفسها ناقصة.
تلخيصًا لما سبق، شجَّعَ ديكارت على الشك، وحثَّ الناس على أن يسألوا أنفسهم كيف هم متأكِّدون من أنهم محقُّون فيما يعتقدون أنهم على معرفةٍ به. أقنع لوك الناسَ بأن المعرفة ليست مؤكَّدة مطلقًا، لكنها دائمًا مسألةٌ احتمالية، وأوضَحَ بيكون أن أفضلَ مصدرٍ للمعرفة هو التجربة الذاتية للفرد. آخِر شخصية سوف أذكرها قدَّمَتْ مثالًا مدهشًا للعامة على نجاح الأسلوب العلمي الذي ناصَرَه هؤلاء الفلاسفة في التفكير، فقد أظهَرَ إسحاق نيوتن أن طريقة بيكون كانت أكثر نجاحًا في كشف النظام الخفي الذي يقوم عليه كون الرب مقارَنةً بدراسة الكتاب المقدس.
كان أبرز مثال لهذا العمل هو كتاب «الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية» لنيوتن، المنشور عام ١٦٨٧، الذي ضمَّ قوانين نيوتن للحركة وقانون الجذب العام. كان يوهانز كبلر قد نشر عام ١٦٠٩ قوانينَه الثلاثة التي تصف حركةَ الكواكب، وفي عام ١٦٣٨ نشر القانونَ المتعلِّق بمسافةِ وزمنِ وتسارُعِ الأجسام الصغيرة التي تتحرك على الأرض. جمع نيوتن كلَّ هذه الملاحظات وغيرها الكثير في وصفٍ رياضيٍّ متجانِسٍ لعالمنا المادي، وبَدَتِ النتيجةُ واضحةً؛ إذ تبيَّنَ أن عالمنا تحكمه قوانين ميكانيكية، وأن البشر قادرون على فهم تلك القوانين ووصفها.
خلال فترة مائتَيْ سنة — من عام ١٦٠٠ إلى عام ١٨٠٠ — كان يوجد تحوُّل لافت حقًّا فيما أطلقنا عليه المعتقدات الماورائية؛ أي الافتراضات العامة التي يكونها المرء عن العالَم. عام ١٦٠٠ كان الأوروبيون الغربيون يرون أن العالَم ثابتٌ ويحكمه الرب بطريقةٍ غامضة. كان باستطاعة البشر فهم بعض هذه الأسرار، وبهذه الطريقة يقدِّرون خَلْق الرب على نحوٍ أفضل. كانت طريقة التوصُّل لهذا الفهم هي الدراسة الدقيقة للمرجعية المستلمة. لكن بحلول عام ١٨٠٠، كان الأوربيون الغربيون يرون العالَمَ متحركًا ومتغيِّرًا، وخاضعًا للقوانين الرياضية. كان باستطاعة البشر فهْمُ تلك القوانين، ولم يكن الهدفُ من هذا الفهم تقديرَ جلالِ الرب، بل تحسين رفاهة البشر. لم تكن طريقة التوصُّل لهذه المعرفة افتراضَ صحةِ المرجعية المستلمة بل ملاحظة العالم، لا سيما من خلال التجريب العلمي.
(٢) الدافع الرومانسي
بحلول العقود الأولى من القرن التاسع عشر، كان فِكْرُ التنوير متغلغلًا للغاية في الغرب، حتى إنه من الممكن اعتبار أنه كان العُرْفَ السائد. بدأت الرومانسية إلى حدٍّ بعيدٍ كَرَدِّ فعلٍ لبعض وجهات النظر التنويرية، لا سيما وجهات النظر المتعلقة بالطبيعة والبشرية.
وَصْف وردزوورث للشِّعْر بأنه عفوي مهمٌّ أيضًا. إن التفكير العقلاني، في العموم، يستغرق وقتًا ويتطلَّب جهدًا مضنيًا. على النقيض، فإن الحدس سريع وعفوي وغير متوقَّع. في مجال الموسيقى، اتخذَتْ هذه الفكرةُ شكلًا رسميًّا تمثَّلَ في الموسيقى الارتجالية في القرن التاسع عشر، وهو نوع موسيقي «تلقائي» أو «عفوي». كان الهدف من الموسيقى «الارتجالية» أن يبدو العازف كما لو كان يخلق الموسيقى أثناء العزف.
وتتناسب فكرة العفوية أيضًا مع فكرةٍ أخرى أساسية متغلغلة في الفكر الرومانسي؛ أَلَا وهي القدرة الكامنة أو القوة الكامنة. في الغالب تُظهِر الرسوم الرومانسية مشهدًا طبيعيًّا باعثًا على السكينة، لكنه مشهدٌ خضَعَ لتأثيرِ قوى هائلةٍ؛ فنرى جبلًا أو غورًا ونتركه لنتخيَّل أن قوى جيولوجية هائلة عكفت على صنعه، ونرى شجرة مسودَّة ونتركها لنتخيَّل العاصفةَ الهائلة التي دمَّرَ البرقُ الشجرةَ خلالها.
توجد أربعة أسطر في قصيدة «قلب الطاولات» للشاعر ويليام وردزوورث تجمع كثيرًا من موضوعات الرومانسية:
إن الحكماء الذين يفكِّرون عقلانيًّا مرفوضون. ومن الممكن فهم الأمور المهمة من خلال الانتباه الدقيق لاستجاباتنا الشخصية العفوية تجاه الطبيعة.
(٣) المعتقدات الماورائية في التعليم اليومَ
دعونا نتوقَّف لنتذكر الصورة الكاملة. كلٌّ منا يتبنَّى بالضرورة معتقداتٍ عن طبيعة العالم والبشرية، وعن طريقة معرفة الناس بالأمور. لقد وصفتُ مجموعتين بارزتين ومؤثرتين للغاية من هذه المعتقدات؛ إحداهما من عصر التنوير، والأخرى من عصر الرومانسية. بطبيعة الحال، لا أزعم أن هذه المعتقدات وحدها تسيطر على أفكار الجميع في وقتنا الحاضر. توجد معتقدات ماورائية أخرى مهمة ترجع أصولُها إلى مصادر أخرى، أبرزها الإيمان الديني، لكن عندما ننظر إلى أنفسنا اليومَ، فإننا نادرًا ما نرى الناسَ يحاوِلون استخدامَ تراث القرن التاسع عشر المتمثِّل في الشعبوية الأمريكية أو الصحوة الكبرى كأسسٍ فكريةٍ للطرق التعليمية. ومع ذلك ففي كثيرٍ من الأحيان يَبْنُون حججَهم المتعلِّقة بالتعليم على معتقدات ماورائية تعود إلى عصر التنوير وعصر الرومانسية. إذن كيف تبدو هذه الحجج؟
قيَّمَ الأشخاصُ التفسيراتِ على أنها أكثرُ إقناعًا عند احتوائها على أدلةٍ من العلوم العصبية، حتى إن كانت غيرَ وثيقةِ الصلة بالموضوع. ومن دون وجود الحشو المتعلِّق بالعلوم العصبية رأى الخاضعون للتجربة على نحوٍ صحيح أن التفسيرَ السيئ غيرُ منطقي، وقيَّموه على أنه ضعيف. إلا أن الهراء المتعلِّق بالعلوم العصبية أخفى سوءَ التفسير، وقيَّمَ الخاضعون للتجربة التفسيرَ السيئ على أنه لا بأسَ به (على الرغم من أنه ليس بجودة التفسير الجيد).
ومن ثَمَّ ليس من المفاجئ أن الأشخاص الذين يحاولون بيع منتجات تعليمية يحاولون الاستفادة من حب العلوم العصبية «نيروفيليا»، من خلال وصف المنتجات بأنها «معتمِدة على طريقة عمل الدماغ» وباستخدام صور الدماغ. سيكون لديَّ مزيدٌ من الكلام لقوله عن علاقةِ العلوم العصبية بالتعليم في الفصل الرابع.
الاعتقاد الماورائي القائل إن «الطبيعي جيد» متغلغل في التعليم. بالنسبة إلى الأطفال الذين يعانون من اضطرابِ قصورِ الانتباه وفرط الحركة أو غيره من الاضطرابات المتاحة لها الأدوية، فإنه توجد مجموعة كبيرة من العلاجات «الطبيعية» من حميات بديلة، وتمارين، ومداواة مثلية، وغيرها، وكلها تتفاخر بإمكانياتها «الطبيعية». ومن المظاهر الأخرى الأكثر خفاءً لتبجيل الرومانسية للطبيعة وجهةُ النظر التي ترى أن التعلُّم أمرٌ طبيعي، وهذا يعني أن الحالة العادية للأطفال هي الفضول والتعلُّم. فكِّرْ في الفضول الطبيعي للطفل الرضيع وقارِنْه بفضول المراهق؛ أَلَا يبدو واضحًا أن المدرسة تُضعِف من الفضول الطبيعي للطفل؟ يستخدم هذا الاعتقاد الماورائي الرومانسي من خلال الاستعانة بالإشارات الثانوية مثل عبارة «تعلم بالطريقة الطبيعية»، وعبارة «يعتمد على الفضول الطبيعي للطفل».
هذا المعتقد الماورائي الرومانسي صحيحٌ جزئيًّا، لكنْ يُقصَد به باطل. ثمة أمورٌ البشرُ مؤهَّلون لتعلُّمها، لا سيما كيفية المشي، وكيفية التحدُّث، وكيفية التواصل الاجتماعي. يمثِّل كلٌّ منها مهارةً معقَّدةً للغاية يتعلَّمها معظم الأطفال دون توجيه، بل فقط من خلال مشاهدة الآخرين؛ ومن ثَمَّ فإن مثل هذا النوع من التعلُّم يمكن نعتُه إلى حدٍّ بعيدٍ بأنه طبيعي وبلا مجهود. إلا أن معظم ما نرغب في أن يتعلَّمه الأطفالُ في المدرسة مختلفٌ من الناحية الكيفية، فالأطفالُ لا يتعلَّمون القراءةَ طبيعيًّا من خلال فرصة ملاحظة الآخَرين وهم يقرءون فحسب، على الرغم من أن هذه الفكرة طُرِحت أكثر من مرة في تاريخ التعليم.
إذن من الأفكار الرومانسية أن الطفل لديه ميلٌ طبيعي للتعلُّم، لكن هذا الحافز يحطِّمه الروتينُ المدرسي المضجر غير الطبيعي. إن هذه الفكرة — المتمثِّلة في التوافق السيئ بين الميول الطبيعية للطفل وبين الإجراءات في المدرسة — مرتبطةٌ أيضًا بفكرة رومانسية أخرى. تذكَّرْ أن المفكرين الرومانسيين كانوا مبهورين بالقوى أو القدرات الكامنة في الفرد أو في الطبيعة. في التعليم تتمثَّل هذه الفكرةُ في صورةِ إمكانيةِ «إطلاقِ» التعلُّم أو «فتح» آفاق التعلم. إن القدرةَ الفكرية للطفل، كما يُقال لنا، أكبرُ بكثيرٍ ممَّا نراه، ومن شأن الوسائل التعليمية الصحيحة أن تُطلِق هذه القدرة الكامنة، وحينها سوف نرى أمورًا رائعةً من الطفل.
من الناحية المعرفية هذه الفكرة خاطئة على نحوٍ مؤكد تقريبًا، فلا شيء في العقل مغلق أو مطلق. حقًّا نحن نتعلَّم أسرع كثيرًا، وبمزيدٍ من المرح والحماس، عندما تكون تجربةُ التعلُّم لطيفةً، أو عندما تُقدَّم لنا الأمورُ بوضوحٍ وضمن سياقٍ بدلًا من التلقين الممل. لكنْ ماذا عن فكرة القوى القوية التي تكمن ساكنةً داخلَنا، وإمكانية استغلال هذه القوى؟ هذا خيال، إنه حلم جميل. يمكن لأيِّ شخصٍ التحسُّن في أية مهارةٍ يمارسها، لكن هذا الأمر يتطلَّب العملَ، ولا يتطلَّب تدويرًا بسيطًا لمفتاحٍ في قفلٍ.
من السمات الأخرى للرومانسية الظاهرة في البرامج التعليمية التأكيد على الفرد. إذا كانت الفردية بالغةَ الأهمية في ذهنك، فمن الممكن بسهولة أن تستنتج أن المعلم مهما كان ماهرًا لا يمكنه أبدًا احترام اهتمامات وقدرات ثلاثين طالبًا مختلفًا. في الغالب تُستخدَم مصطلحاتٌ مثل «مقاس واحد يناسب الجميع» و«القولبة» على نحوٍ ازدرائيٍّ في هذا السياق. إن تسويق المنتج على أنه يحترم الفردَ يَلْقَى استحسانَ الوالد الذي يشعر أن ابنه لا يتوافق جيدًا مع التعليم المدرسي المعتاد. ومن المحتمل أن تتفاخر المنتجات بأنها «مصمَّمة وفقًا لاحتياجات الفرد»، أو أنها «تحترم أسلوبَ التعلُّم الخاص بطفلك».
توجد وجهة نظر منطقية في هذا الصدد، وتتناقض تناقُضًا حادًّا مع وجهةِ نظرِ التنوير ومع وجهةِ النظر العلمية في العموم. دَعُوني أوضِّح هذه النقطة من خلال ذِكْر موقفَيْن متطرِّفَيْن، لا يمكن أن يتبنَّى كثيرٌ من الناس أيًّا منهما.
موقف التنوير: لا توجد فروق مهمة بين الأطفال؛ لذلك يجب أن يكون الهدفُ إيجادَ أفضلِ طريقةٍ لتعليم القراءة (على سبيل المثال)؛ ومن ثَمَّ استخدامها مع كل الأطفال.
موقف الرومانسية: كلُّ طفلٍ فريدٌ؛ لذلك لا طائلَ من محاوَلةِ تحديدِ «أفضل الممارسات» التعليمية.
لابد أن توجد الحقيقة في مكانٍ ما في المنتصف. إن معظم الأطفال متشابهون على نحوٍ كافٍ، حتى إن الحديث عن «طريقة تعلُّم الأطفال» هدفٌ علمي واقعي تمامًا مثل إمكانية الحديث عن «طريقة هضم الأطفال للطعام» و«طريقة تنفُّس الأطفال»؛ وهذا لا يعني أن استنتاجاتنا سوف تنطبق على كلِّ طفلٍ — بعض الأطفال لديهم اضطرابات هضمية على سبيل المثال — لكن يجب أن تنطبق على كثيرٍ من الأطفال. على الرغم من ذلك، من المؤكَّد أن التعليم المدرسي أكثرُ تعقيدًا من الهضم. قد تكون عملياتُ الذاكرة الأساسية متشابِهةً إلى حدٍّ كبيرٍ بين الأطفال، لكن توجد بالتأكيد اختلافاتٌ في دوافع الأطفال للمدرسة والتفاصيل المتعلِّقة بما يحفِّزهم، وهذا مجرد أحد الأمثلة. سيكون لديَّ المزيد حول دور العلم في التعليم — ما يمكن أن يسهم به وما لا يمكن أن يسهم به — في الفصل الرابع، أما الآن فدَعُوني فقط أوضِّح أن الموقفَيْن المتطرِّفَيْن — المتمثِّلَيْن في أن المدارس يمكنها أن تتجاهل على نحوٍ آمِن أي اختلافاتٍ وكل الاختلافات بين الأطفال، «أو» أن المدارس يجب أن تقدِّم تعليمًا مختلفًا من الناحية الكيفية لكلِّ طفلٍ — ليسا متفقَيْن مع ما نعرفه عن العقل.
وما ينطبق على منتجات الجمال ينطبق على البرامج التعليمية. برامج كثيرة لديها منظور رومانسي لكنها تزعم أنها تقدِّم دليلًا علميًّا على غرار أسلوب التنوير؛ على سبيل المثال: تزعم غالبًا مواقع الإنترنت التي تَعِدُ بإطلاقِ القدرة الكامنة لدى طفلك أن أساليبها معتمدةٌ على طريقةِ عملِ الدماغ ومثبتةٌ علميًّا. وتؤكِّد الجهاتُ المقدِّمة لعلاجاتٍ «طبيعيةٍ» لعسر القراءة على أنها مدعومةٌ بالدليل العلمي.
•••
حسنًا، إذن نحن نعلم الأمورَ اللازم تجاهُلها. لكن ما الأمور التي علينا البحث عنها؟ كيف يمكننا إدراك أن أحدَ البرامج التعليمية لديه بالفعل سندٌ علمي؟ في الفصل التالي، سوف نناقش كيف يبدو العلم الحقيقي.
فكرة تنويرية | الإشارات الثانوية | فكرة رومانسية | الإشارات الثانوية |
---|---|---|---|
العلم هو الطريقة الأفضل لفهم العالم. |
«معتمد على الأبحاث»، «تُظهِر الأبحاث أن»، «معتمد على طريقةِ عملِ الدماغ»، «العلوم العصبية» أية مصطلحات تبدو تقنية ترويج العلماء المعتمدين صور الدماغ |
الحدس طريقة مشروعة لفهم العالم. |
«ذلك الصوت الصغير الموجود داخلنا»، «الأمهات تعرف بالضبط»، «ما قاله الطبيب (المعلِّم) لم يَبْدُ منطقيًّا بالنسبة إليَّ فحسب» |
التعلُّم محكومٌ بقوانين تنطبق على الأطفال كافة. |
الإشارة إلى طريقة واحدة لتعليم كل الطلبة، «أفضل الممارسات» |
الخبرة الفردية هي الطريقة الأكثر صحةً لفهم العالم. |
«قولبة» (سياق سلبي)، «مقاس واحد يناسب الجميع» (سياق سلبي)، «مصمَّم وفقًا لأسلوب التعلُّم الخاص بطفلك» |
تحتوي الطبيعة على الكثير من القوى الخفية والقدرة الكامنة. |
«إطلاق التعلُّم»، «فتح آفاق القدرة»، «تعلم بالأسلوب الطبيعي»، «دون أدوية» |