العلم الجيد من منظور العلماء
إذا كان الأمر متعارِضًا مع التجربة، فهو خاطئ. في هذه الجملة البسيطة يكمن أساسُ العلم. لا يشكِّل فارقًا مدى جمال تخمينك، لا يشكِّل فارقًا مدى ذكائك، أو مَن خمَّنَ هذا التخمين، أو ماذا يكون اسمه. إذا تعارَضَ الأمرُ مع التجربة، فهو خاطئ.
***
تخيَّلْ أن زلزالًا ضرب بلدتك، واهتزَّ منزلك كما لو أن عملاقًا خرافيًّا أخذ يهزُّه تسليةً لنفسه. ترجرجَتِ النوافذُ، وسقطَتِ الكتب من الأرفف. قفزتَ أسفل طاولة تتساءل متى سينتهي الزلزال، وتتساءل هل سينهار المنزل فوقك. توقَّفَ الزلزال أخيرًا، وتفحَّصْتَ بيتك، واتصلتَ بأصدقائك وأسرتك فوجدتَ الجميع بخير، وسمعت في الراديو أن مركز الزلزال كان بالفعل على بعد عدة مئات من الأميال، وأن بلدات تهدَّمَتْ وتساوَتْ بالأرض هناك، ومات عشرات الآلاف من الأشخاص، وفقد مئات الآلاف منازلَهم.
كيف سيكون ردُّ فعلك؟ أعتقد أنني، بطبيعة الحال، سأشعر بالسوء على كل أولئك الأشخاص الذين يعانون، لكنني سوف أشعر أيضًا بالامتنان؛ سأكون شاكرًا لحُسْن حظي لأن الأمور لم تكن أكثر سوءًا في المكان الذي أعيش فيه. أما ما «لن أفعله»، بحسب ظني، فهو ترويجُ شائعاتٍ عن قدومِ زلزالٍ آخَر، ربما يكون أسوأ هذه المرة، مركزه بلدتي.
نعتقد عادةً أن دفع الأجر للناس للقيام بأحد الأمور يحقِّق نتائجَ أفضل؛ لذلك قد تتوقَّع أن الخاضعين للتجربة الذين حصلوا على عشرين دولارًا سيُقَيِّمون المهمةَ في النهاية على أنها أكثر تسليةً مقارَنةً بالأشخاص الذين حصلوا على دولارٍ واحد. لكن حدث العكس! لماذا؟ عند إجبار الحاصلين على دولارٍ واحدٍ على الكذب بشأن المهمة ضَمِنَ المختبرون أن الخاضعين للتجربة سيتبنَّوْن فكرتين متناقضتين: (١) كانت المهمة مملةً حقًّا، و(٢) لقد أخبرتُ للتوِّ أحد الأشخاص بأن المهمة كانت مسليةً. لا يستطيع الخاضِعون للتجربة إقناع أنفسهم بأنهم لم يقولوا للتوِّ إن المهمة كانت مسليةً؛ لذلك يغيِّرون الفكرةَ الأخرى، فيخبرون أنفسهم أن مهمة تعليق المشاجب لم تكن بهذا السوء. أما الحاصلون على العشرين دولارًا فهُمْ على النقيض، لم يشعروا حقًّا بهذا الصراع الذهني لأنهم يستطيعون تبريرَ الفكرة الثانية قائلين: «لقد أخبرتُ أحدَ الأشخاص للتوِّ أن المهمة كانت مسليةً «لأنني تلقَّيْتُ عشرين دولارًا لقول ذلك».» ومن ثَمَّ عندما سُئِلوا في نهاية التجربة، قالوا إن المهمة كانت مُمِلَّة، مُمِلَّة، مُمِلَّة.
(١) كيف يعمل العِلْم
ماذا يحدث بعد ذلك إذن؟ نقوم بجولة أخرى حول دائرة العلم، وندفع النظرية نحو مزيدٍ من التوقعات المعدلة، ونختبرها في ظروفٍ أكثر تنوُّعًا. في نهاية المطاف، سوف نواجه فشلًا؛ أيْ ظرفًا في ظله تتوقَّع النظريةُ شيئًا مختلفًا عمَّا لاحظناه. إيجاد مثل هذا الفشل هو أمر جيد في واقع الأمر. لماذا؟ لأن هذه هي الطريقة التي يتقدَّم بها العلم. إن الإخفاقات هي محفِّزات للوصول إلى نظريات محسنة، وإذا طوَّرْنا نظريةً من الصعب للغاية دحضها، حتى بعد الكثير من الاختبارات، فإننا نبدأ في الوثوق بعض الشيء في أن هذه النظرية تمثِّل وصفًا جيدًا للعالَم، وسوف تكون مفيدةً لنا إلى حدٍّ ما. (طريقة استخدام النظريات العلمية سنتناولها في الفصل الرابع.)
كيف تجد عيبًا في النظرية بحيث يمكنك حينها أن تشرع في محاولة صياغة نظرية أفضل؟ من الممكن توجيه الانتقادات في أية مرحلة من مراحل العملية العلمية الثلاث الموضَّحة في دائرة العلم: الملاحظة أو النظرية أو الاختبار.
-
(١)
قد يوضِّح أحدهم أنه توجد مشكلةٌ في «الملاحظات» في تجربةِ تعليقِ المشاجب لفستينجر. إذا قرأتَ المقالة التي تصف التجربة، فسترى أن البيانات المأخوذة من ١٥ في المائة من الخاضعين للتجربة يجب استبعادها، فقد كان هؤلاء الأشخاص إما متشكِّكين من الهدف الحقيقي للتجربة وإما رافضين لفكرة القيام ببعض المهام. وهذه نسبة عالية جدًّا؛ لذلك قد أزعم أن هذه التجربة غير صحيحة، وأقترح أننا نحتاج إلى بيانات أفضل.
-
(٢)
قد يعتقد أحدهم أن بيانات التجربة جيدة، لكن ينتقد «النظرية». في الواقع، انتُقِدَت نظرية التنافُر المعرفي في البداية لكونها غامضةً بعض الغموض؛5 على سبيل المثال: ما مدى التعارُض المطلوب توافُره قبل أن أتحمَّسَ لتغيير أحد أفكاري؟ هل أي نوع من التعارض يفي بالغرض؟ افترض أنني أعتقد أن أحد الأطباء كُفْءٌ إلى حدٍّ بعيد، لكنني أراه بعد ذلك في مطعم يوبخ نادلًا على نحوٍ وَقِح؟ هل سأشعر بالتنافر؟ من ناحيةٍ، من الممكن أن تكون طبيبًا جيدًا وتكون على الرغم من ذلك فظًّا وَقِحًا. ومن ناحيةٍ أخرى، أَلَا يجب أن يكون الطبيب عطوفًا وحساسًا؟ قد أنتقِدُ نظريةَ التنافر المعرفي وأقول إنها غير ناضجة على نحوٍ كافٍ إذا لم تستطع التوصُّل لتوقُّع واضح في مثل هذه الحالات.
-
(٣)
قد يقدِّم أحد الأشخاص «اختبارًا» جديدًا للنظرية، ويستنتج من النظرية توقُّعًا جديدًا لم تفكِّر فيه النظرية بعدُ. لم تقل النظرية إلا القليل عن مدى أهمية تعارُض الأفكار بالنسبة إلي؛ فلو كان هناك تعارُض، لَوُجِد تنافُر. على هذا النحو بَدَا أن النظرية تتوقَّع نشوء التنافر حتى لو كانت الأفكار متعلِّقة بأمور بسيطة. اختبر ميريل كارلسميث وزملاؤه هذا التوقُّع من خلال إعادة تجربة المهمة المملة، وإظهار أن الأكاذيب التي تحدث «وجهًا لوجه» فقط هي التي تسبِّب التنافُر.6 وعندما كتب الخاضعون للتجربة مقالًا يصفون فيه المهمةَ بأنها مسلية، لم يحدث تنافُر، والسبب المفترض لذلك هو أنهم لم يتعامَلُوا حقًّا مع الكذبة بجديةٍ. لم يكن لدى كارلسميث مشكلة مع البيانات الحالية أو مع النظرية، لكنه قدَّمَ اختبارًا جديدًا أظهَرَ بعد ذلك أن النظريةَ ناقصةٌ.
الأمر الثاني اللازم ملاحظته حول الطبيعة الدورية للمنهج العلمي هو التصحيح الذاتي. إننا لا نفترض فحسب أن النظرية الحالية مؤقتة وسوف يَثْبُت خطؤها في نهاية المطاف، بل نفترض أيضًا إمكانيةَ وجودِ وتطويرِ نظريةٍ أفضل. إلا أن إتاحة النظرية للنقد من الأمور الجوهرية لهذه العملية، فهذه هي الطريقة التي سنجد بها أخطاءَ النظرية.
هذا ملمح يختلف فيه العلم اختلافًا جذريًّا عن الطرق الأخرى لفهم العالَم. عندما تكون مُخطِئًا، يستطيع كل شخص آخَر رؤية ذلك. أستطيع تعديل نظريتي غير الدقيقة، أو يمكنني التخلِّي عنها وتجربة شيء جديد كليًّا، لكنْ لا يمكنني أن أنكبَّ على عملي فحسب وأتظاهر بأنني لم ألاحظ المشكلة، أو أتوعَّد الآخَرين وعيدًا أجوف وأسبُّهم وآمل أن يُلهِي ذلك الناس عن خطَئِي.
العلم يتحرك للأمام — أيْ إن فهمنا للظواهر الطبيعية يزداد عمقًا — مع مزيدٍ من الدوران حول دائرة العلم. في أغلب الأحيان عندما يتحدث الناس عن «العلم الجيد»، فإنهم يتطرَّقون إلى النقاط الأساسية المتعلِّقة بطريقةِ تصميمِ التجارب، إذا كان الناس يستخدمون الإحصائيات الصحيحة في بياناتهم، وهكذا. هذا مهم، لكن كما رأينا الآن، توجد مرحلتان أُخْرَيَان، على القدر نفسه من الأهمية من الممكن أن تسلك فيهما الأمورُ مسارًا صحيحًا أو مسارًا خاطئًا، وهاتان المرحلتان هما: تكوين النظرية، وملاحظة العالَم. دَعُونا نُلْقِ نظرةً على كلِّ مرحلةٍ من هذه المراحل الثلاث بمزيدٍ من الكثب، ونفحص الأمورَ اللازم توافُرها في كل مرحلة كي تُؤدَّى على نحوٍ صحيحٍ.
(٢) ملاحظة العالَم
إذا لم تكن كل المشكلات خاضعة للتحليل العلمي، فمن الأفضل أن نسأل هل المشكلات التي نواجهها في التعليم يمكن التعامُل معها بالمنهج العلمي. بعض هذه المشكلات على الأقل قد يبدو جزءًا من العالَم الطبيعي؛ ومن ثَمَّ فإن الإجابة ستكون «نعم» على نحوٍ غير قاطع. لا توجد قوى خارقة للطبيعة تؤثِّر على الأطفال عند تعلُّم القراءة أو حل المسائل الرياضية، وهذه القدراتُ المعرفية ليس لها مكونات أخلاقية أو جمالية مهمة. يمكن دراسة هذه العمليات علميًّا، وقد تحقَّقَ تقدُّمٌ كبيرٌ في فهم هذه العمليات خلال الخمسين سنة الماضية.
توجد أسئلة مهمة أخرى متعلِّقة بالتعليم لا يناسبها المنهج العلمي بشكل تام؛ مثلًا: هل يجب تقديم التاريخ الأمريكي من أجل الحث على الوطنية، أم من أجل غرس توجُّهٍ متشكِّك تجاه الحكومة وتجاه السلطة المؤسسية في العموم؟ ما هو دور الفنون في التعليم من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الثانوية؟ مَن المسئول مسئوليةً مطلقةً عن تعليم الأطفال: هل الوالدان أم المعلمون أم الأطفال أنفسهم؟ وهل يتغيَّر الجواب عن هذا السؤال مع تقدُّم عُمْر الأطفال؟ يثير تعليمُ الأطفال الكثيرَ من الأسئلة، وعلى الرغم من أن المنهج العلمي يمكن أن يكون قويًّا، فمن الممكن تطبيقه فقط على جزء قليل من هذه الأسئلة؛ ولذلك يجب أن نعرف على نحوٍ واضح أيَّ الأسئلة يمكن أن يعالجها العلم وكيف. سيكون لديَّ المزيد لقوله عن هذا الأمر في الفصل الرابع.
إذن أول مبادئ الملاحظة الجيدة في العلم هو اختيار مشكلة يمكن للمرء ملاحظتها. المبدأ الثاني هو أننا عندما نقول «ملاحظة» فإننا نعني «القياس». وكما يقول الفيزيائي الألماني العظيم ماكس بلانك فإن: «التجربة سؤال يطرحه العلم على الطبيعة، والقياس هو تسجيلُ إجابةِ الطبيعة.»
لماذا القياس مهم لهذه الدرجة؟ افترِضْ أنَّ لديَّ نظريةً عن اتِّباع الحِمْيَة، فأقترح وجود علاقة دائمة بين استهلاك السعرات الحرارية وبين خسارة الوزن، فأقول إنك إذا قلَّلْتَ سعراتك الحرارية بمعدل ٢٥ في المائة، فسوف تخسر ١ في المائة من وزنك كلَّ أسبوع. وفقًا لنظريتي، فإن الشخص الذي يبلغُ وزنه مائتَيْ رطلٍ ويقلِّل استهلاك سعراته الحرارية بمعدل ٢٥ في المائة؛ سوف يخسر رطلَيْن في كل أسبوع يتَّبِع فيه الحِمْية.
افترَضِ الآنَ أن لديك نظرية مختلفة؛ أنك توافِقُ على أن تقليل السعرات الحرارية بنسبة ٢٥ في المائة سوف يؤدِّي إلى خسارة ١ في المائة من الوزن كلَّ يوم، لكنك تعتقد أن هذه النسبة تعني واحدًا في المائة من وزن الشخص «عند بداية الأسبوع»، وليس عند بدء الحِمْية؛ ومن ثَمَّ سوف يخسر متَّبِع الحِمْية ٢٫٠٠ رطل في الأسبوع الأول، و١٫٩٢ رطل في الأسبوع الثاني (أيْ واحدًا في المائة من ١٩٨ رطلًا التي تمثِّل وزنَ الشخص في بداية الأسبوع الثاني)، و١٫٩٦ رطل في الأسبوع الثالث، وهكذا.
تخيَّلِ الآن أنْ ليس لدينا موازينُ على الإطلاق. تخيَّلْ أنَّ كلَّ ما بوسعنا عمله كي نحكم على الوزن هو النظر إلى الأشخاص وقول: «اممم، أعتقد أنه يبدو أنحف.» لو كانت الحال هكذا، فسيبدو مستحيلًا تقريبًا تحديدُ هل نظريتك عن خسارة الوزن أفضل أم نظريتي. في الحقيقة، إذا لم توجد أجهزةٌ لقياس الوزن، فسيكون من الصعب إلى حدٍّ بعيدٍ تجاوُز الملاحظة العامة جدًّا، والواضحة جدًّا، المتمثِّلة في: «عندما يقلِّل الناس من الطعام، فإنهم يخسرون الوزن.»
عندما يتعلَّق الأمر بكثيرٍ من الصفات التي نهتم بأمرها في أبحاث التعليم، نجد أننا في موقف مشابه؛ فليس لدينا مقاييسُ. إننا نرغب في أن يصبح الأطفال مبدعين، ومتعاوِنين جيدين، ومفكِّرين نقديين ماهرين، إلا أن قدرتنا على قياس هذه الصفات محدودةٌ إلى حدٍّ بعيد؛ وهذا يعني أنني من الممكن أن أبتكِرَ نظريةً مثيرةً حول الأمور التي تجعل الشخصَ مُبدِعًا، لكنني لا أستطيع اختبارَ نظريتي. وإذا كان لديك نظرية مختلفة، فإننا لا نستطيع تصميمَ تجربةٍ لمعرفةِ أي النظريتين أفضل.
(٣) الحديث من الناحية النظرية
أنا متأكد من أنك تساءلت عن تأثير إخوتك عليك، لا سيما تأثير ترتيب الميلاد (أو كونك طفلًا وحيدًا). إذا كنتَ الأصغر في أسرتك، مثلي أنا، فربما شعرتَ أن إخوتك الأكبر يتقدَّمون عليك في الأهمية؛ فهؤلاء هم الإخوة الذين كانت لهم ميزة التقدُّم عنك بسنوات قلائل، وسيظلون كذلك للأبد. أما من جانب شقيقاتي الأكبر مني سنًّا، فطالما شعرْنَ أن والديَّ يتساهلان معي فيما يتعلَّق بالتأديب، وطالما قالت شقيقاتي لوالديَّ: «لقد أدَّبْناه لكما.»
افترِضْ أنني أخبرتُك أن لديَّ نظريةً عن ترتيب الميلاد، فأزعم أن الطفل الأكبر في الأسرة يكون عادةً جادًّا من الناحية الأكاديمية، ويكون الأكثر تفوُّقًا في المدرسة. أفسِّر ذلك بأن أول الأطفال ميلادًا في الأسرة يتحدَّثون مع الكبار أكثر من إخوتهم الأصغر، ويكونون تحت ضغط أكبر من الوالدين كي يتصرَّفوا مثل الكبار منذ سن صغيرة؛ فتُجِيب بذِكْر مثالٍ عن الأخ الأكبر لزوجتك الذي رُفِد من المدرسة، وهو الآن في سن الثانية والثلاثين، يعيش في قبو منزل والديه، ويحتسي الجعة ويلعب على جهاز إكس بوكس؛ فأشرح لك بصبرٍ أنه في بعض الأحيان سوف يشعر الطفل بتوقُّعات والديه ويتمرَّد عليها، فيُلقِي وراء ظهره علاماتِ النجاح التقليدية ويتبنَّى أفكارًا خاصةً به، وأحيانًا من الممكن أيضًا أن يتمرَّد الطفل في بعض جوانب حياته ويحاول أن يعيش وفقًا لتوقُّعات والدَيْه في جوانب أخرى.
تبدو الآن نظريتي رائعة جدًّا من إحدى النواحي، فهي تقدِّم توقُّعات، لكن عندما تصبح التوقعات خاطئة، تغيِّر نظريتي اتجاهَها سريعًا وتستطيع «في الوقت نفسه» تفسير البيانات. في الواقع، إن النظرية التي تستطيع تفسيرَ كل البيانات ليسَتْ رائعة؛ في الحقيقة، القدرةُ على تفسير كل البيانات ليست سمةً غيرَ مرغوب فيها فحسب، بل هي عيب قاتل. يبدو هذا غريبًا؛ ألن تكون النظريةُ التي تستطيع تفسيرَ كلِّ شيءٍ مرغوبًا فيها؟
مشكلة نظرية ترتيب الميلاد هي أنني لا أستطيع اختبارها. من المتوقَّع أن يكون أول المواليد في الأسرة من المتفوقين … إلا عندما يكونون غير متفوقين. إذا أَرَيْتَني أول مولود في الأسرة، فلن أستطيع حقًّا معرفة هل سيكون متفوقًا أم لا. هذا يعني أنني لا أستطيع عمل اختبار للنظرية ولذلك لا يمكنني الدوران حول دائرة العلم؛ أنا عالق. وإذا لم أستطع اختبارَ النظرية، فلن يمكنني دحضها، «وإثباتُ خطأ النظريات هو الطريقة الأساسية للوصول إلى نظريات أحدث وأفضل.»
في الواقع ليس الأمر بهذه البساطة؛ على سبيل المثال: عندما سُئِل عالم الأحياء جيه بي إس هالدين عن نوع الأدلة الذي من الممكن أن يهزَّ ثقتَه في نظرية التطوُّر، رُوِي عنه أنه قال: «حفرية أرنبٍ موجودة في صخرة تعود لعصرِ ما قبل الكمبري.» انتهَتْ فترة عصر ما قبل الكمبري منذ حوالي ٥٧٠ مليون سنة، وهو وقتٌ كانت الحيوانات الوحيدة فيه تبدو أكثرَ شبهًا بالإسفنجيات أو قناديل البحر أو الديدان، التي منها تطوَّرَتِ الثدييات بعد ذلك بكثيرٍ.
لكنِ افترِضْ أننا «وجدنا» حفرية الأرنب المنتمي لعصر ما قبل الكمبري؛ هل حقًّا سيستنتج علماءُ الأحياء أن نظرية التطور أصبحَتْ باطلة؟ الإجابة هي «لا» على نحوٍ شبه مؤكَّد. إن نظرية التطور مناسبةٌ بشكل طيب لكثيرٍ من الملاحظات في علم الأحياء لدرجةٍ تجعل من المجازَفة التخلِّي عن هذه النظرية. وبدلًا من ذلك سيحاول علماء الأحياء التوصُّل لطريقةٍ للاحتفاظ بأهم سمات التطوُّر التي تجعلها نظريةً ناجحةً، وفي الوقت نفسه يفسِّرون وجودَ الأرنب المنتمي لعصر ما قبل الكمبري.
كيف تعرف إنْ كان عليك أن تتمسَّك بالنظرية وتأمل تفسير الانحرافات لاحقًا، أم تتخلَّى عن النظرية؟ لا توجد قواعد واضحة لاتخاذ هذا القرار. في العموم، كلما زادت البيانات التي تفسِّرها النظرية، زاد استعداد العلماء لتحمُّل الأمور القليلة التي تخطئ فيها. إذا كانت النظرية غير ناجحة للغاية من البداية، ثم رأيتَ ملاحظةً تتعارض معها، يقل احتمال استمرار تصديقك لها. في النهاية، إنه قرار متوقِّف على حكمك، فمن الممكن أن يختلف الأشخاص العقلاء حول وجوب التخلِّي عن النظرية أو الاحتفاظ بها.
عندما تختلط البيانات تصبح مثل بقعة حبر اختبار رورشاخ، فتكشف عن المعتقدات السابقة للمشاهد. ولا يوجد جانب من جوانب أبحاث التعليم في وقتنا الحاضر يتضح فيه هذا الأمر أكثر من جانب تقييم المدارس المستقلة. المدارسُ المستقلة هي مدارس حكومية لديها اتفاق خاص مع الولاية، فهي تخضع لِلَوائح تنظيمية أقل مقارَنةً بالمدارس الحكومية الأخرى؛ ومن ثَمَّ يتمتَّع المعلِّمون والمديرون بقدرٍ أكبر من الحرية في إدارة المدرسة على النحو الذي يرونه مناسبًا. وفي المقابل، تخضع المدرسة لمزيدٍ من المساءَلة أمام الولاية. يجب أن تظهر المدرسة أن الطلبة يتعلَّمون. (كما تتلقَّى هذه المدارس أيضًا قدرًا أقل من المال مقارَنةً بالمدارس الحكومية الأخرى، في المتوسط.)
سابقًا في هذا الفصل ذكرتُ حركةَ مهارات القرن الواحد والعشرين. إنها تقدِّم مثالًا أكثر حداثةً على إعادة قولبة النظريات. تبدو الحجة معقولة على نحو مثالي؛ إذ تقول إن الطلبة يقضون الكثيرَ من الوقت في حفظ معلومات غامضة. إنهم لا يتعلَّمون كيف يحلون المشكلات، وكيف يكونون مُبدِعين، وكيف «يفكِّرون». علاوةً على ذلك، أَلَمْ يلاحظ أي أحد أن التعليم المدرسي لم يتغيَّر على مدار مائة سنة؟ فالأطفالُ يجلسون على مقاعد في صفوفٍ تواجِه المعلمَ الواقف أمامهم. اليومَ يحتاج الأطفالُ إلى تعليمٍ وثيقِ الصلة بعالَم جوجل والهواتف الذكية.
كلٌّ مِن معرفة الحقائق ومهارات التفكير ضروريةٌ كي يتمكَّن الطلبة من حل المشكلات المهمة. وإعطاءُ الأمرين للطلبة أمرٌ صعب بلا شك. وللأسف، نستمر في الحديث عن هذه المشكلة بالطريقة غير الفعَّالة نفسها. إننا نواجِه نصفَها، ونيأس لاحقًا من النصف الآخَر، ثم نتجاهل ما أَصَبْنا فيه أثناء اندفاعنا لتصحيح الأمور التي تدمَّرَتْ. وإذا تحدَّثْنا بصراحةٍ، فإن هذا الأمر يبدو من غير الممكن تصديقه؛ لكن كان هناك نمط متكرِّر على الدوام.
(٤) الاختبار، الاختبار
الجانب الثالث والأخير من العملية العلمية هو اختبار النظرية. إننا نبدأ بملاحظات عن العالَم، ثم نستخلص بيانات ملخصة من تلك الملاحظات، ثم نتوصَّل إلى توقُّعات جديدة؛ أيْ أمورٌ نعتقد أننا سوف نشاهدها في العالَم في ظل ظروف معينة. في القول المأثور المذكور في بداية هذا الفصل، يقول الفيزيائي ريتشارد فاينمان إن هذه الخطوة هي التي تميِّز العلم عن الطرق الأخرى لفهم العالَم. إذن ما الصفات التي نبحث عنها في الاختبار العلمي؟
المشكلة | المثال |
---|---|
تناقُص تمايُزي (انخفاض) في المعدلات بين المجموعات | من الممكن أن أقارن بين طريقتين لتعليم الرياضيات، وبعد ستة أسابيع أجد أن الأطفال الذين يتعلَّمون بالطريقة «أ» أفضل أداءً في الرياضيات من الأطفال الذين يتعلَّمون بالطريقة «ب»؛ ومن ثَمَّ يبدو كما لو أن الطريقة «أ» هي الفائزة. إلا أن نظرةً أكثر قُرْبًا على البيانات سوف تُظهِر أن كثيرًا من الأطفال الذين يتعلَّمون بالطريقة «أ» تركوا التجربةَ خلال الأسابيع الستة، وقليلًا جدًّا من الأطفال انسحبوا من الطريقة «ب»؛ ومن ثَمَّ ربما يكون هؤلاء الأطفال القليلون الذين أكملوا الطريقة «أ» مجموعةً منتقاةً على نحوٍ خاص، ولم يكونوا محلَّ مقارَنةٍ حقًّا بالأطفال الذين يتعلَّمون بالطريقة «ب». |
مفارقة سيمبسون | افترِضْ أن مدينة كبيرة كانت تستخدم برنامجًا للقراءة على مدار عشر سنوات، وبفرض أنني فحصتُ معدلات إنجاز القراءة ووجدتُ أنها انخفضَتْ انخفاضًا كبيرًا خلال هذا الوقت، من المحتمل أن أستنتج أن هذا البرنامج كان فاشلًا. لكنني بعد ذلك نظرتُ إلى معدلات الأطفال الأغنياء، وأطفال الطبقة الوسطى، والأطفال الفقراء؛ كلٌّ على حدة، ووجدتُ أن معدلات القراءة ارتفعَتْ في كل مجموعة من هذه المجموعات الثلاث! كيف يمكن للمعدلات الإجمالية أن تنخفض إذا كانت كل مجموعة تتحسَّن؟ لا يحقِّق الأطفالُ الفقراء معدلاتٍ جيدةً مثل الأطفال الأغنياء؛ ولذلك إذا زادَتْ نسبةُ الأطفال الفقراء في المدينة خلال ذلك العقد، فقد ينخفض المعدلُ المتوسط حتى لو كانت كلُّ مجموعة على حدة تحقِّق تحسُّنًا. |
تأثيرات توقُّع صاحب التجربة | عندما يكون لصاحب التجربة توقُّعٌ عن الأمر المحتمل أن يفعله الخاضع للتجربة، فمن الممكن أن يعبِّر عنه صاحبُ التجربة من خلال لغةِ الجسد أو من خلال نبرات صوته على نحوٍ غيرِ مباشِر أثناء إعطاء التعليمات دون أن يقصد. وسوف يدرك كثير من الخاضعين للتجربة هذا التوقُّع، وسيحاولون تحقيقَه إما في محاولةٍ ليكونوا متعاوِنين، وإما في محاولة ليبدوا «طبيعيين». |
متطوِّعون غير ممثِّلين للفئة محل الدراسة | إذا كنتَ تُجرِي تجربةً على أطفالٍ في أحد المختبرات، فيجب أن تسأل نفسك: «مَن لديه الوقت والرغبة في إحضار طفله إلى مختبري خلال ساعات العمل في يومِ عملٍ؟ هل هذه الأسرة مختلفة عن الأُسَر الأخرى بطريقةٍ ما؟» |
الارتباط مقابل السببية | حقيقة أنك تلاحظ ارتباطَ عامِلَيْن لا يعني أن بإمكانك استنتاج وجود علاقة سببية بينهما؛ على سبيل المثال: يرتبط استهلاكُ الآيس كريم بالجريمة، لكن الآيس كريم لا يجعل الناس يرتكبون أعمالًا إجرامية. الطقس الحار يجعل الأشخاصَ يرغبون في تناوُل الآيس كريم، ويجعلهم أيضًا يُصابَون بسرعةِ الغضب، التي تزيد بدورها من الجرائم العنيفة. وعلى نحوٍ مثيرٍ للدهشة غالبًا، فإن الناس يستنتجون وجودَ علاقةِ سببٍ ونتيجةٍ من الارتباط، مثل العلاقة بين العِرْق والأداء الأكاديمي. |
نهاية التجربة | إذا أدرك الخاضعون للتجربة أنها على وشك النهاية، فإنهم يحاولون عادةً بذلَ جهدٍ أكبر بعض الشيء كي «يتركوا أثرًا طيبًا». لن تكون هذه البياناتُ ممثِّلةً لبقية أداء الشخص الخاضع للتجربة. |
أنواع العينات (كيف تختار الأشخاصَ لتجري عليهم إحدى التجارب) |
«العينات العشوائية»: من مجموعة كبيرة تختار مجموعة أصغر، على نحوٍ عشوائي، من أجل إجراء التجربة. «العينة الطبقية»: أقسِّم في البداية مجموعتي الشاملة إلى مجموعاتٍ فرعية (مثلًا: الرجال والنساء)، ثم آخذ عينة على نحو عشوائي من كلِّ مجموعة فرعية. يتم ذلك لضمان التمثيل النسبي للمجموعات الفرعية عندما تكون لهذا أهميةٌ. «عينات الصدفة (أو الملائمة)»: تختار أشخاصًا لإجراء التجربة اعتمادًا على مَن تستطيع تجنيدهم. من المحتمل إلى حدٍّ بعيد أن تجعل هذه الطريقةُ نتائجَك متحيِّزة. «أنواعٌ أخرى من العينات»: العينات العنقودية والعَمْدية والحصصية. |
التأثيرات الممتدة المفعول في التجارب المتكررة | إذا جرَّبَ صاحبُ التجربة أكثرَ من تدخُّل واحد، فإن تأثير التدخُّل الأول يمكن بسهولةٍ أنْ «يمتد مفعوله» إلى التدخُّل التالي؛ على سبيل المثال: قد يجرِّب أحدُ المعلمين طريقةً لإدارة الفصل، ثم بعد أربعة أسابيع يجرِّب طريقةً أخرى. يجب أن يدرك أن طلبة الفصل قد يستجيبون للطريقة الثانية استجابةً مختلفة عمَّا كان سيحدث إذا لم يكونوا قد خضعوا للطريقة الأولى لإدارة الفصل. |
الانحدار نحو المتوسط | افترِضْ أنَّ أحد الأشخاص حصل على معدل منخفض للغاية في الاختبار الموحد للقبول بالكليات، وبعد ذلك التحَقَ هذا الشخص بدورة مؤهلة لخوض الاختبار، وتحسَّنَ معدله. من المحتمل أن نعتقد أن المعدل ارتفَعَ بسبب هذه الدورة. ربما لا. إذا خضعتُ للاختبار الموحد للقبول بالكليات فإن معدلي سوف يختلف اعتمادًا على مجموعة الأسئلة المعينة التي ستظهر في الاختبار الذي آخذه، وعلى ما إذا كنتُ أشعر بالانتباه الشديد في ذلك اليوم، وهكذا. إذا حصلتُ حقًّا على معدل منخفض، فهذا يعني على الأرجح أنني في العموم لن أحصل على معدلٍ جيد في الاختبار الموحد للقبول بالكليات، لكنه يعني «أنني لم يحالفني الحظ في ذلك اليوم أيضًا». لذلك إذا خضعتُ للاختبار مرةً أخرى، فمن المحتمل أن يحالفني الحظُّ في ذلك اليوم، وسيكون معدلي أعلى نسبيًّا على الأقل. (المنطق نفسه ينطبق على الأشخاص الذين يحصلون على معدلٍ مرتفعٍ للغاية، فمن المحتمل أن ينخفض معدلُهم إذا أخذوا الاختبارَ مرةً أخرى.) |
تحديد نقاط القوة ونقاط الضعف في الأبحاث مهارةٌ محدودة؛ فالشخصُ الذي يُجِيد نسبيًّا تقييمَ أحد أنواع التجارب لن يكون على القدر نفسه تقريبًا من المهارة في تقييم التجارب الأخرى؛ على سبيل المثال: أكتب تقييمات عن مقالات في علم النفس المعرفي منذ حوالي عشرين عامًا، ومعظم هذه المقالات كانت دراسات عن جوانب معينة من التعلُّم والسيطرة الحركية. عندما أصبحت محرِّرًا مساعِدًا لإحدى دوريات علم النفس المعرفي، تناولتُ نطاقًا أوسع من الموضوعات، لكنني على الرغم من ذلك كنتُ واحدًا من ستة محرِّرين مساعدين، كلٌّ منهم له تخصُّص مستقل، فضلًا عن أن الدورية لم تكن تتناول كل جوانب علم النفس المعرفي!
هذه المشكلة — الطرق الكثيرة التي يمكن أن تخطئ فيها الدراسات العلمية — تذكِّرني بلحظةٍ من فيلم «بودي هيت» (حرارة الجسد). ثمة مُشعِل حرائق (يلعب دوره ميكي روك)، يزوره المحامي (يلعب دوره ويليام هيرت) الذي ساعَدَه في الخروج من مشكلاتٍ صعبةٍ من قبلُ. والآن انقلبت الأدوار، وأصبح المحامي يخطِّط لجريمةٍ، فيطلب نصيحةَ مُشعِل الحرائق، فيقول له: «في أي مرة تحاول فيها ارتكابَ جريمة جيدة المستوى، يكون لديك خمسون طريقة ممكنة (للخطأ). إذا فكَّرْتَ في خمسٍ وعشرين طريقة منها، فأنت عبقري. وأنت لستَ عبقريًّا.» العلم، مثل الجريمة، معقَّد، وتوجد طرق كثيرة ممكنة لخطأ العلم.
الميزة التي يتميَّز بها العلماء عن المجرمين هي أنهم لا يحتاجون إلى التكتُّم على عملهم؛ في الحقيقة، إنهم ممنوعون من فعل ذلك. من المفهوم جيدًا أن العلماء يمكنهم الخطأ في الأمور، حتى إنهم «مُطالَبون» بجعل عملهم متاحًا للفحص، كي يستطيع الآخَرون نقدَه وتحسينَه. وتقديرًا لطبيعةِ وأهميةِ هذه السمة، دعونا نفحص واحدًا من إخفاقاتها الأكثر احتفاءً؛ أَلَا وهي: قصة الاندماج البارد.
سيكون عظيمًا لو تمكَّنَتْ محطاتُ الطاقة النووية من استخدام الاندماج بدلًا من الانشطار الذي تستخدمه حاليًّا، فالطاقةُ التي يُصدِرها الاندماج هائلةٌ، والوقودُ المطلوب — نظائر الهيدروجين — يمكن أن نجده في الماء، والإشعاعُ الناتج عن التفاعل قصيرُ المدة وغيرُ مُضِر. للأسف، يحدث الاندماج تحت ظروفٍ من الحرارة والضغط الهائلين؛ وهذا يعني أن إحداث التفاعل يتطلَّب قدرًا أكبر من الطاقة التي تنتج عنه؛ ومن ثَمَّ لم يكن مصدرَ طاقة عمليًّا.
تخيَّلِ الإثارة، في ذلك الحين، عندما أعلَنَ عالمان — كلٌّ منهما أستاذ في جامعة محترمة — أنهما صنعا تفاعُلًا اندماجيًّا في درجة حرارة الغرفة، فقد أعلن ستانلي بونز ومارتن فلايشمان ذلك بالضبط في مؤتمر صحفي في ٢٣ مارس عام ١٩٨٩. على الرغم من ذلك، فالأمر الغريب في هذا الإعلان هو أنهما عقدا المؤتمر الصحفي قبل نَشْر التجارب في دوريةٍ علميةٍ. النشرُ في دورية علمية هو أول معاني ضرورة إجراء العلم «علنًا». قبل أن تنشر عملك، فإنه يُرسَل إلى علماء يتراوح عددهم بين اثنين وخمسة من العلماء، ممَّنْ لديهم معرفة بموضوع بحثك. ستكون قد وصفت بالضبط كيف أجريتَ العمل، وسوف يتأكَّدون من أن منطق التجربة والاستنتاجات سليمة، وسوف يقيِّمون أهميةَ مكتشفاتك. هذه هي العملية التي يُطلَق عليها عادةً «مراجعة الأقران».
انتصرت الحقيقة في النهاية، لكنْ بعد إهدار الكثير من الوقت والجهد في هذه الأثناء. انظرْ إلى عناوين الصحف في الأيام التالية للمؤتمر الصحفي:
اندماج نووي في أنبوب اختبار من تطوير أستاذين من جامعة يوتا.
اثنان من العلماء يزعمان وجود أسلوب للسيطرة على الاندماج النووي.
اثنان من العلماء يسعيان وراء الحصول على مصدرِ طاقةٍ لا نهائي.
ترويض القنابل الهيدروجينية؟ اثنان من العلماء يزعمان التوصُّل لطفرة.
اندماج نووي في أنبوب اختبار يستخدم طاقةَ القنبلة الهيدروجينية.
الإعلان عن طفرة في الاندماج النووي.
إذن الجانب الأهم لكون العلم «علنيًّا» هو عملية مراجَعة الأقران؛ فلا بد أن يقيِّم عملَك أشخاصٌ آخرون قبل نشره. يوجد معنًى آخَر لكون العلم علنيًّا يتعلَّق بأسلوب الإعلان؛ فلا يمكنك تقديم استعراض مختصر عن كيف بَدَتِ التجربة، بل يجب أن تصف كلَّ شيء: سمات الخاضعين للتجربة، وأرقام نماذج معدات المختبر، وما حدث «بالضبط» في التجربة، وطريقة تحليل البيانات، وهكذا. والهدف هو كتابة وصفٍ للإجراء يكون كاملًا للغاية حتى يتمكَّن باحثٌ آخَر من القيام بالتجربة بنفسه.
(٥) حماية العلم
المرحلة المتأثِّرة من المنهج العلمي | المبدأ | الأثر على التعليم |
---|---|---|
الدورة بأكملها | العلم متغير ويصحح نفسه ذاتيًّا. | إذا استخدمنا المنهج العلمي فمن الممكن أن نتوقَّع على نحوٍ معقول اكتسابَ فهمٍ أعمق للتعلُّم في المدرسة. |
الملاحظة | ينطبق المنهج العلمي على العالَم الطبيعي فقط. | بعض الأسئلة المهمة في التعليم لا تتعلَّق بالعالَم الطبيعي، بل تتعلَّق بالقِيَم. |
الملاحظة | ينفع المنهج العلمي فقط إذا كانت الظاهرة قيد الدراسة يمكن قياسها. | بعض السمات المهمة في التعليم تتعلَّق بالفعل بالعالَم الطبيعي، لكن هذه الظواهر صعبة القياس. |
النظرية | لا يمكن إثبات صحة النظريات. يمكن فقط دحض النظريات، أما عن تحديد وقت نبذ النظرية لأنها زائفة فهو قرارٌ متروكٌ لحكمة المرء. | حقيقة أن القرار متروك لحكمة المرء يجب ألَّا تمنعنا من رفض النظريات التعليمية غير المدعومة على نحوٍ جيدٍ كي نتمكَّن من البحث عن نظريات أفضل. |
النظرية | النظريات الجيدة تراكُمية. | يتمتَّع التعليمُ بتاريخٍ من إعادة تقديم النظريات تحت أسماء مختلفة، حتى لو كانت النظريات قد خضعَتْ للتجربة وثبت نقصها. |
الاختبار | الاختبارات العلمية تجريبية. | تفسيرُ الاختبارات التجريبية صعبٌ دائمًا، وفعل ذلك أكثر صعوبةً في التعليم؛ حيث يوجد الكثير من العوامل التي قد تكون سببيةً. تقييمُ هذه الاختبارات يتطلَّب خبرةً كبيرةً. |
الاختبار | الاختبارات العلمية علنية. | نظرًا لأن العلم صعبُ التقييم للغاية، فمن الضروري أن يُجرَى العلم بطريقةٍ تسمح للجميع بتقييمه. بعضُ الأبحاث التعليمية تخضع لمراجعة الأقران، لكن ليس كلها. |
على صعيد التعليم، لا توجد أية قوانين فيدرالية أو ولاياتية تحمي المستهلكين من الممارسات التعليمية السيئة. بالإضافة إلى ذلك، فإن باحثي التعليم لم يجتمعوا مطلقًا على صورة مجال موحَّد للاتفاق على الطرق أو المناهج أو الممارسات التي تستند إلى أساس علمي سليم؛ وهذا يجعل مجرد البحث عن هيئة من الخبراء في أحدث الأبحاث التعليمية صعبًا للغاية على الشخص غير الخبير، فلا يوجد خبراء معترَف بهم عالميًّا، وهذا الموضوع سوف أناقشه ببعض التفصيل في الفصل السادس.
كل والد، وكل مدير، وكل معلم يتخذ قرارَه على نحوٍ مستقل؛ ولهذا السبب كتبتُ هذا الكتاب. لكن قبل أن نستطيع التحدُّث عن الفصل بين العلم الجيد وهذه العلوم المحتالة، يجب أن نتناول موضوعًا آخر. لقد تحدَّثنا عن الصفات التي يبحث عنها العلماء عند تحديد هل العلم أُنجِز على نحوٍ جيد، لكننا لم نتحدث بعدُ عمَّا نفعله بالمكتشفات العلمية الجيدة؛ فالمختبر، بالرغم من كل شيء، ليس فصلًا، وطريقة الانتقال من المختبر إلى الفصل ليست واضحة. وهذا هو موضوع الفصل الرابع.