كيف تستخدم العلم؟
الحقل المحروث ليس أكثر انتماءً إلى الطبيعة ولا أقل انتماءً إليها من الشارع الأسفلتي.
***
يمكن أن نعثر على جذور هذا التوجُّه الشعبي والإنفاق الفيدرالي الهائل على البحث العلمي في الحرب العالمية الثانية. قد لا يكون المواطن العادي مُدرِكًا للجهود العلمية الهائلة، التي نظَّمَها المكتب الأمريكي للبحث العلمي والتطوير، والتي شملت تطويرَ الرادار، والسونار، وأوجُهَ التقدُّمِ في الصمامات وأنظمة توجيه الصواريخ، والمعدات الحربية، والطيران، وغيرها. إلا أن الأمريكيين كانوا مدركين بالتأكيد دورَ العلمِ في تطوير القنبلة الذرية. وبالتأكيد كانوا مُدرِكين لتوافر البنسلين، فعلى الرغم من التعرُّف على فعالية البنسلين في علاج العدوى البكتيرية عام ١٩٢٨، فلم يكن متوافرًا تقريبًا أيُّ بنسلين لعلاج العدوى. إلا أنه بعد عامين وصل حوالي مليونَيْ وحدة بنسلين إلى جنود الحلفاء في فرنسا في يوم الإنزال في نورماندي، وكان هذا نتاجَ طريقةٍ جديدة لاستنبات سلالة بنسلين جديدة (اكتُشِفت في الأصل على ثمار شمام متعفِّن) في منتج ثانوي سائل من منتجات الذرة. إن كون القنبلة الذرية قد أنقذَتْ في نهاية المطاف حياةَ جنود الحلفاء، من خلال منع الحاجة إلى غزو اليابان؛ هو مسألةٌ محلُّ جدلٍ، أما إنقاذ البنسلين لحياة الجنود فهو ليس محل جدل.
كان الرئيس روزفلت يعلَم جيدًا مدى أهمية العلم للمجهود الحربي. في خريف عام ١٩٤٤، عندما بَدَا محتمَلًا أن الحلفاء سوف ينتصرون في الحرب في غضون العام أو العامين المُقبِلين، طلب الرئيس روزفلت من فانيفار بوش رئيس المكتب الأمريكي للبحث العلمي والتطوير أن يكتب تقريرًا يحدِّد فيه رؤيتَه للبحث العلمي في أعقاب الحرب. كان كثير من المشاريع العلمية الفيدرالية يلبِّي احتياجاتٍ معينةً في فترة الحرب لم تستطِعِ الجهاتُ الخاصة مواجهتَها ببساطةٍ، فلم يكن خيارًا مطروحًا مثلًا أنْ تُترَك للشركات الخاصة مهمةُ تطوير رادار مناسب للاستخدام في الحرب. لكن بعد الحرب، اختفَتْ تلك الاحتياجات؛ فهل يجب أن يستمر الإنفاقُ الفيدرالي على العلم، أم يجب أن ينخفض إلى مستوًى يقترب من الصفر؛ أيْ مستوى ما قبل الحرب؟
وصف بوش الأبحاثَ الأساسية بأنها «تُجرَى دون تفكيرٍ في أهداف عملية، وتُسفِر عن معرفة عامة وفهم عام بالطبيعة وقوانينها». وأوضح بوش أن الأبحاث الأساسية هي حقًّا القوة الدافعة للأبحاث التطبيقية الناجحة. يمكن أن يكون لفهم قوانين الطبيعة فوائدُ هائلةُ النطاق وغير متوقَّعة. واستطرد بوش إلى وصف التقدم العلمي بأنه «العامل الضروري الوحيد لأَمْننا كأمةٍ، ولصحةٍ أفضل، ولمزيدٍ من الوظائف، ولمستوى معيشةٍ أعلى، ولتقدُّمنا الثقافي»، وهي صياغة ليست مختلفة عن تلك التي استخدَمَها الرئيس أوباما بعد خمسٍ وستين سنة.
تمثَّلَتْ رؤية بوش في أن الأبحاث الأساسية تخبرنا عن أسرار الطبيعة، وأن الأبحاث التطبيقية تستغلُّ هذه المعرفةَ في خلق تكنولوجيات جديدة. إذن، هل الأبحاث التعليمية أساسيةٌ أم تطبيقيةٌ؟ الأبحاثُ التعليمية تطبيقيةٌ على نحو واضح، فهي ليست موجَّهةً نحو أسئلة أساسية حول الطبيعة، بل موجَّهةٌ نحو حلِّ مشكلةٍ؛ أَلَا وهي: كيف نعلِّم الأطفالَ بأفضل طريقةٍ؟ من الممكن أن نتخيَّل أن نتيجة الأبحاث الأساسية، لا سيما معرفة طريقة تفكير وتعلُّم الأطفال، ستضيف معلوماتٍ هائلةً للأبحاث التعليمية، فقد قطعنا خطواتٍ هائلةً في معرفتنا بالعلوم العصبية، وبالتأكيد يمكن أن تساعد المعرفةُ المكتشَفة حديثًا حول العقل والدماغ في تحسين التعليم والمدارس، أليس كذلك؟
(١) توضيح العلاقة بين الأبحاث التطبيقية والأبحاث الأساسية
أُدرِك أنَّ تشبيه «أقزام الملابس الداخلية» ربما يكون مبالغًا بعض الشيء، لكنه يبرز أمرًا مهمًّا؛ أن الحاجة إلى إضافةِ تفاصيل إلى المرحلة الثانية في استراتيجية عمل «أقزام الملابس الداخلية» واضحةٌ، ومع ذلك فهي مهمة للغاية عند التفكير في استخدام الأبحاث الأساسية لتحسين التعليم، على الرغم من أن الحاجة لهذا أقلُّ وضوحًا لأنه يبدو «بديهيًّا» جدًّا أن تعلُّم المزيد عن طريقة عمل الدماغ والعقل من المفترض أن يحسِّن التعليم. في بقية هذا الفصل، سوف أوضِّح أن أمثال هذه المعرفة يمكن أن تفيد، لكن تلك العملية ليسَتْ واضحةً.
يبدأ وصف سايمون للفَرْق بين الأبحاث الأساسية والأبحاث التطبيقية على غرار ما فعله بوش إلى حدٍّ ما: في الأبحاث الأساسية، يكون الهدف هو اكتشاف القوانين التي تصف الظواهر الطبيعية، فتَقْبَل العالَم على حالته، وتحاوِل تلخيصه بمبادئ عامة. على النقيض من ذلك، فإن الأبحاث التطبيقية يدفعها الهدف؛ فهي لا ترغب في وصف العالَم كما هو، بل تهدف إلى تغيير العالَم لتجعله أفضل. وهذا هو المعنى المقصود من القول المأثور في مقدمة هذا الفصل؛ فالحقل المحروث ليس أكثر انتماءً إلى الطبيعة ولا أقل انتماءً إليها من الشارع الأسفلتي؛ لأنه في كلتا الحالتين غيَّرَ البشرُ العالَمَ تلبيةً لأحد الأغراض. قد تشمل أمثلةُ العلوم التطبيقية كلَّ فروع الهندسة، والعمارة، والتخطيط العمراني، والأبحاث التعليمية.
تهدف العلوم التطبيقية عادةً إلى صناعة منتجٍ؛ شيء يسعى إلى تغيير العالَم بحيث يكون أكثر شبهًا بما نرغب في أن يكون عليه؛ فالمهندس المدني يبني جسرًا، والمخطِّط العمراني يصمِّم حديقةً، والمعلِّم يكتب خطةَ درس.
يمكن أن تسهم الأبحاثُ الأساسية في العلوم التطبيقية من خلال مساعدة المرء في فهم الطريقة المحتمَلة لعمل أحد المنتجات؛ على سبيل المثال: معرفة الفيزياء وعلم المواد مفيدة للمهندس المدني الذي يصمِّم أحدَ الجسور؛ فهو سوف يستخدم المعرفةَ المكتسبة تدريجيًّا وبعناية من هذين المجالين لتوقُّع ما إذا كانت خطةُ التشييد وموادُّه اللتين عقَدَ عليهما النية في باله، سوف تُسفِران عن جسرٍ يصمد أم عن جسرٍ ينهار. بالمثل، قد يفيد العلمُ المعرفي المعلمَ في توقُّع كيف سيستجيب عقلُ طالبٍ في الصف الثالث لإحدى خطط الدرس؛ هل سيجدها سهلةَ الفهم؟ هل سيتذكَّرها لاحقًا؟ وهكذا. حتى الآن الكلام جيد جدًّا وواضح إلى حدٍّ ما.
إلا أنه توجد نقطة أقل وضوحًا لا بد من التفكير فيها. يمكنني استخدام مبادئ الفيزياء لتساعدني في تصميم ساعة بندولية تُظهِر الوقتَ على نحوٍ مضبوط تمامًا في غرفة المعيشة، لكن هذه الساعة لن تعمل على متن السفينة؛ إذ إن الحركات الموجية للسفينة ستجعل حركة البندول بلا فائدة. بالمثل، لن تعمل المِزْوَلة في غرفة المعيشة. عند تحديد هل المنتج يلبِّي الهدفَ المقصود أم لا، لا يمكننا الاهتمام فقط بالمنتج، بل يجب أيضًا التفكير في طريقة تفاعُل المنتج مع «البيئة» التي يوجد فيها. من الممكن أن تكون العلوم الأساسية مفيدةً في هذا الصدد أيضًا. يمكننا استخدام المعرفة بالفيزياء لتحديد إلى أيِّ مدًى تؤثِّر حركةُ السفينة على ميكانيكية الساعة؛ هل ستعمل الساعة البندولية بالرغم من الاهتزاز الخفيف لمنزل العوامة المربوط برصيفٍ بحري؟
(٢) الطريقة الأولى: الاعتماد على المعرفة العلمية الأساسية
أصبحنا الآن في موقف أفضل لتحديد ما يحدث أثناء المرحلة الثانية من خطة «أقزام الملابس الداخلية» الخاصة بالتعليم. يمكن أن تساعد العلومُ الأساسية العلومَ التطبيقية من خلال تقديم أوصافٍ مفيدةٍ لمكونات المنتج والبيئة التي يوجد فيها. يطلق سايمون على ذلك البيئة الداخلية والبيئة الخارجية؛ في حالة التعليم، نتوقَّع أن تكون البيئة الداخلية هي عقل الطفل، وستكون المعلومات المأخوذة من علم النفس المعرفي وثيقةَ الصلة؛ أيْ إنه أثناء تصميم المعلِّمين خططَ الدرس سيكون بإمكانهم الاستلهام من معرفتنا المتعلِّقة بطريقةِ عملِ العقل. إذا كانت البيئة الداخلية هي عقل الطفل، فإن البيئة الخارجية هي الفصل؛ فلِزامًا علينا أن ننتبه إلى أنه تمامًا مثلما تعمل الساعة على نحوٍ جيد أو على نحوٍ سيئ اعتمادًا على البيئة الموجودة فيها، فإن خطة الدرس (أو المناهج الدراسية، أو غير ذلك) التي قد تُجدِي نفعًا مع الطفل في إحدى البيئات، قد لا تجدي نفعًا على الإطلاق في بيئة أخرى؛ ومن ثَمَّ يجب استخدام العلوم الأساسية لوصف البيئة؛ أيْ وصف الفصل.
يبدو كلُّ هذا مباشِرًا إلى حد بعيد، لكننا سنقضي معظمَ هذا الفصل في تفصيل الصعوبات التي تظهر عندما نحاوِل تطبيقَ هذه الطريقة على التعليم. في معظم الوقت يتجاهل الناسُ هذه الصعوباتِ، ويحاولون الاستفادةَ من عباءة العلم بأقل تكلفة. قُرْبَ نهاية هذا الفصل سوف أَصِفُ طريقةً أخرى مختلفة تمامًا يمكن للعلم الأساسي أن يساعد التعليمَ من خلالها. هذه الطريقة معرَّضة لمشكلات أقل، لكنها باهظةُ التكلفة؛ ولهذا السبب على الأرجح هي نادرة الاستخدام.
(٢-١) المشكلة ١: الأهداف
واستفزت الناس فعلًا. صدَّقت تشوا أن الاعتقاد الدارج حول النجاح الأكاديمي للطلبة الصينيين كان حقيقيًّا، وأكَّدت أن ذلك النجاح يعود إلى ممارسات الأمهات الصينيات في التربية القائمة على القسوة بدافع الحب، اللاتي — بحسب زعمها — يَقْسُونَ على أبنائهن وينتقِدْنَهم ويحرِّضْنَهم على الإنجاز الأكاديمي الرائع.
غضب كثيرون من تشوا، ولم يتساءل أيٌّ من الأشخاص تقريبًا هل كانت أساليبها «فعَّالة». قليل، إنْ وُجِدوا، انتقدوها قائلين: «هراء، هذه ليسَتْ طريقةً لإلحاق طفلك بجامعة هارفرد!» بل انتقدوا هدفَها من تربية الطفل على هذا النحو، ذلك الهدف الذي تمثَّلَ في النجاح الأكاديمي، بأيِّ ثمنٍ كما يبدو الأمر. زعمَتْ تشوا أنها تريد أن يكون أطفالها سعداء أيضًا، وقالت إن الأطفال يصبحون سعداء عندما يكونون ماهرين في أي شيء، لكن المهارة في أي أمر تتطلَّب الممارسةَ، والأطفالُ لا يرغبون في الممارسة في المقام الأول. بَيْدَ أن القراء الأمريكيين شعروا — مُحِقِّين في رأيي — بأنه في نهاية المطاف ستختار تشوا أن يكون طفلها ماهرًا في أي شيء، بدلًا من أن يكون سعيدًا. لم يكن القراء مصدومين من أساليبها لأنهم يعتقدون أنها غير فعَّالة، بل كانوا مصدومين من أساليبها لأنهم لم يستحسنوا أهدافها.
قال البيولوجي الفرنسي جان روستان: «النظريات تذهب، ويظل الضفدع.» وهذا يعني أن الضفدع — أو العالَم الطبيعي، على نحوٍ أكثر عموميةً — موجودٌ ومتاحٌ دائمًا ليجعلنا نعلم إنْ كانت النظرية (المتعلِّقة بفسيولوجية الضفدع، أو أيًّا كانت) جيدةً أم لا. في العلوم الأساسية مثل الأحياء، يكون واضحًا للجميع هل كانت النظرية جيدة أم لا؛ لأننا جميعنا نتفق على المعيار الذي نقيسها من خلاله؛ أَلَا وهو الاتفاق مع الطبيعة.
هذا ليس الوضع بَعْدُ في العلوم التطبيقية؛ فهدفُ أيٍّ من العلوم التطبيقية يختلف من شخصٍ إلى آخَر. إن الأمر منوط تمامًا بالفرد ليحدِّد ما سيجعل العالَم «أفضل»؛ ومن ثَمَّ يكون هذا هدفًا مناسبًا لأبحاث العلوم التطبيقية. هل طريقة إيمي تشوا في التربية «فعَّالة»؟ إذا كنتَ تتبنَّى أهدافها، فهذا سؤال مفتوح، ويمكنك استخدام الطرق العلمية للإجابة عنه. أما إذا كنتَ لا تتبنَّى أهدافَها من تربية الأبناء على هذا النحو، فالسؤال يبدو غير منطقي.
على صعيد الأبحاث التعليمية ما زالت المشكلة أسوأ. سيكون الأمر سيئًا على نحو كافٍ لو كانت لدينا مجموعةٌ قليلة من الأهداف المختلفة ليختار المعلِّمون من بينها، وكان سيوجد جدلٌ حامي الوطيس حول الهدف الصحيح من بين هذه الأهداف. لكن بدلًا من ذلك، الهدفُ محدَّد على نحوٍ غير كافٍ أو غير مُعلَن عنه تمامًا؛ وعلى هذا النحو، فإننا نضمن التشوُّشَ والركودَ في مجال الأبحاث.
ما يعنيه هذا بالنسبة إلى التعليم المدرسي يعتمد على أهدافك من التعليم المدرسي. افترضْ أنك تعتقد أن الأطفال يلتحقون بالمدرسة من أجل «تحقيق الذات» — وهذا مصطلح من النظرية النفسية يعني أن يصبح المرءُ كلَّ ما يستطيع أن يصبح عليه، أن يحقِّق كل إمكاناته — في هذه الرؤية التعليمية، يجب أن تساعد المدارسُ الأطفالَ على تحديد نقاط قوتهم وتطويرها. مع وضع هذا الهدف في الاعتبار، تُعتبَر هذه النظرية النابعة من علم النفس التي تحدِّد الأنواعَ الخمسة للذكاء منحةً غيرَ متوقَّعة. هدفي هو مساعدة كل طفل على اكتشاف قدراته. حسنًا، يوجد هنا تصنيف للقدرات! عندما أرى طفلًا لديه صعوبات لفظية لكنه متفوِّق في الموسيقى، فسيكون لديَّ أسلوب في التفكير في سبب ذلك، وسأعلم أنه من الضروري الحرص على تقديم كلِّ فرصة موسيقية لهذا الطفل، وفي الوقت نفسه عدم الضغط بشدة لتعليمه القراءة والكتابة.
لكنْ لِنفترِضْ أن هدفي من التعليم المدرسي ليس تحقيقَ الذات، بل الإعداد لعالَم العمل. عندما يسعى أطفالُ اليومِ في يومٍ من الأيام إلى الحصول على وظيفة وحياة مهنية، فإنهم لن يتنافسوا فحسب مع أطفالٍ من شارعهم أو من بلدتهم، بل سوف يتنافسون مع أطفال من برلين، وساو باولو، ونانجينج. إننا مُلزَمون تجاه أطفالنا بإعدادهم لهذا الأمر، من أجل ازدهار مستقبلهم. مع وضع هذا الهدف في الاعتبار، لا تبدو نظرية الذكاءات المتعددة غير مفيدة فحسب، بل من الممكن أن تكون مدمِّرة؛ فمعظم الأطفال لن يكسبوا قُوتَهم من عزف الموسيقى؛ ومن ثَمَّ سأرى أن الموسيقى أمر إضافي، إضافة ممتعة يجب أن يمارسها الأطفال في وقت فراغهم. لا أريد عالِمَ نفسٍ يخبرهم أن الموسيقى، بطريقةٍ ما، تعادِل قدرةً عمليةً مثل الرياضيات. بعبارة أخرى: إن نتائجَ تعليمِ إحدى الحقائق العلمية تعتمد على أهداف التعليم المدرسي.
مثل هذه البيانات قد تخدم أغراضًا أخرى، لكنْ لا يمكنها مساعدتنا عند محاولة فهم تأثيرات العلوم الأساسية على التعليم. يمكن أن يؤثِّر العلم على التعليم فقط في حالةِ وجودِ بيان واضح بأهداف التعليم.
الآن، يجب ألَّا تأخذ هذه المشكلةُ أكبرَ من حجمها، فحتى لو كانت أهداف التعليم المدرسي غير مُعلَنة، أليسَتْ واضحةً نوعًا ما؟ إننا نريد أن يعرف الأطفال بعض العلوم، وبعض التاريخ، وبعض الرياضيات، وهكذا. هذا حقيقي على نحوٍ كافٍ، خاصةً في صفوف الأطفال الأصغر سنًّا. لكن مع تقدُّم عمر الأطفال، تبدو أهداف المدى الطويل أكثرَ أهمية. هل نريد أن نعلِّم الأطفالَ التاريخَ الأمريكي كي يكونوا فخورين بتراثهم، أم كي يتعلَّموا مساءَلةَ المسئولين الموجودين في السلطة على نحوٍ دقيق؟ إذا كان الطفل لا يحب الرياضيات، فهل يمكن أن يتوقَّف عن دراستها بمجرد أن يعلم على نحوٍ كافٍ طريقةَ موازَنةِ دفترِ الشيكات وحسابِ ضرائبه، أم يجب على الأقل أنْ يحاول كلُّ طفلٍ دراسةَ مبادئ التفاضل والتكامل كي لا نحرمه من المِهَن التقنية في المستقبل؟ إلى أيِّ مدًى يجب أن تركِّز صفوفُ اللغة الإنجليزية على التقدير الجمالي للأدب في مقابل المساعي الأكثر عمليةً مثل الكتابة التفسيرية؟ مثل هذه الأسئلة هي التي تجعل مجالسَ المدارس تشعر بالحرج؛ لأن أية إجابة سوف تغضب «أحد الأشخاص». لذلك يتظاهر الناس أن المدارس يمكن أن تقدِّم كلَّ شيء لكل الطلبة، وتظل الأسئلة دون إجابة. إلا أن التكلفة الخفية لعدم الإجابة عن السؤال: «ما هي أهداف التعليم المدرسي؟» هي عجزُ الباحثين في شئون التعليم عن القيام بوظيفتهم.
(٢-٢) المشكلة ٢: التغذية الراجعة
يمكن أن يتوقَّع العمدة أن يشعر الناخبون بأن لديهم مبرِّرًا للَفْتِ انتباه العمدة إلى مشكلات مدينتهم، حتى بينما يحاول العمدة الاستمتاعَ بوجبةٍ في أحد المطاعم أو أثناء تسوُّقه للخضراوات. لا يُعرَف عن سكان مدينة نيويورك أنهم من النوع الخجول؛ لذلك قد نتوقَّع أنهم لن يخجلوا من الاقتراب من عمدتهم بشكاوى أو تعليقاتٍ غير مطلوبة. ربما يكون هذا هو السبب الذي جعل إيد كوتش، عمدة نيويورك في ثمانينيات القرن العشرين، يباغتهم في أغلب الأحيان بسؤالهم عن رأيهم، وأصبح السؤال المَرِح: «كيف هو أدائي؟» أشبه بقولٍ مأثورٍ لكوتش.
جزء من ذلك كان استعراضًا سياسيًّا، لكنَّ الجزءَ الآخَر ربما كان رغبةً حقيقيةً في تلقِّي التغذية الراجعة. بالتأكيد العمدة لديه اطِّلاعٌ على استطلاعات الرأي، لكن تلك الاستطلاعات قد تكون مكتوبةً على نحوٍ متحيِّزٍ، أو ربما تكون البيانات قد تعرَّضَتْ «للتجميل» قبل أن يتسنَّى لكوتش رؤيتها. وكما قال الجنرال جورج باتون: «لم يُتخَذ قرارٌ جيد مطلقًا أثناء الجلوس على كرسي المكتب الدوار.» إن القائد الجيد متعطِّشٌ دائمًا للتغذية الراجعة الموثوق بها القادمة من الجماهير.
في أغلب الأحيان لا نقدِّر التغذيةَ الراجعة حقَّ قدرها، لكنها أمر ضروري لكل أنواع الأنظمة؛ السياسية والمؤسسية والبيولوجية وغيرها. في التعليم يمكننا أن نَصِفَ وظيفتين للتغذية الراجعة؛ أُولَاهما هي تقديم المعلومات من أجل التصحيح المستمر. حتى الأنظمة الأعلى موثوقيةً لديها بعضُ الأخطاء، وأنت في حاجةٍ إلى التعرُّف على الخطأ من أجل تصحيحه؛ على سبيل المثال: تأمَّلْ قدرتَك على التحكم في جسدك؛ على الأرجح لديك شعورٌ عامٌّ بأنك بالغُ الدقة في القيام بحركات بسيطة، مثل الإمساك بفنجان القهوة، أو الصعود على الرصيف، وهكذا.
تحدث في الفصل الدراسي عملياتٌ مشابهة؛ فمثلما يخطِّط عقلُك لسلسلةٍ من الحركات العضلية لتصل يدك إلى الهدف، يخطِّط المعلِّم لسلسلةٍ من الأنشطة ليحرك ذهْنَ الطالب نحو هدف معين. قد يتمثَّل الهدف في «معرفة القواعد النحوية»، أو «توجُّه إيجابي نحو القراءة»، أو «فهم عواقب التنمُّر». عندما تحرِّك إصبعك صوب الهدف، فإن الإجراءات التصحيحية التي تقوم بها في منتصف الحركة تكون ضروريةً للوصول إلى الهدف. والأمر نفسه ينطبق على التعليم والتعلُّم.
هذه الأمور واضحة إلى حدٍّ بعيد بالنسبة إلى الممارسة التعليمية، لكن ما علاقتها بالبحث التعليمي؟ التغذية الراجعة ضروريةٌ في البحث التعليمي من أجل معرفة هل يقوم المنتج بالمهمة المنشودة. إذا كان هدفي من التعليم هو تحسين الإبداع لدى الأطفال، أو زيادة الحس الأخلاقي لديهم كمواطنين، فإنني أحتاج إلى طريقةٍ لقياس الأخلاق أو الإبداع من أجل معرفة هل تحقِّق جهودي تقدُّمًا أم لا. في وقتِ تأليفِ هذا الكتاب، لدينا اختبارات جيدة على نحوٍ معقول لقياس معرفة محتوى معظم جوانب الموضوعات الأساسية، إلا أننا لا نمتلك اختبارات جيدة لقياس القدرات التحليلية، أو الإبداع، أو الحماس، أو الحكمة، أو التوجُّهات نحو التعلُّم لدى الطلاب.
هذا التحذير لا يهدف إلى القول: «إذا لم نستطع قياسَ أمرٍ، فيجب عدم تعليمه.» إن أهداف التعليم المدرسي يجب أن تُوضَع اعتمادًا على قِيَمنا. ومشكلةُ التغذية الراجعة لا تتعلَّق بالأمور الواجب تعليمها، بل هي متعلِّقة بأحد جوانب قصور قدرة العلم على مساعدتنا في الوصول إلى أهدافنا. يمكن أن نلخِّص الفكرةَ بسهولة على هذا النحو: إذا عرض عليك أحدُ الأشخاص منهجًا يزعم أنه يعزِّز الإبداعَ لدى الأطفال، فاسألْ نفسَك كيف له أن يعرف هل المنهج ناجح أم لا.
(٢-٣) المشكلة ٣: البيئة الخارجية
أخبَرَني أحدُ المعلمين مؤخرًا عن قصةٍ متعلِّقة بتغيير المدارس. لوقتٍ طويلٍ عمل هذا الشخصُ معلِّمًا للتربية البدنية في مدرسة بنين تقليدية إلى حدٍّ بعيد، لكنْ عندما نقلَتِ الشركةُ زوجتَه، انتهى به الحال بالتدريس في مدرسةٍ مشتركةٍ كبيرة نوعًا ما ذات توجُّه تقدُّمي للغاية. كان لدى الطلبة قدرٌ أكبر من الحرية في اختيار عملهم، وكان يوجد اهتمامٌ كبير بالمشاركة والتعاون في كل جوانب اليوم المدرسي. في ظل الوصف الذي قدَّمْتُه يمكنك أن تتخيَّل كيف سارت الأمور في أول يومِ عملٍ لهذا المدرس، عندما حاوَلَ تنظيمَ مباراةِ كرة قدم لطلبة الصف الثالث، من خلال إعلان أسماءِ قادةِ الفِرَق وحثِّهم على التناوُب في اختيار أعضاء الفِرَق من الطلبة المتبقِّين. أخبره البعض أنهم لا يرغبون في لعب كرة القدم، وأنهم أرادوا فعْلَ شيءٍ آخَر، واعترَضَ البعض على طريقته في تنظيم الفِرَق، وأخبر ولدٌ صغير المعلمَ بهدوءٍ أنه لا يعلم ما يفعله، وقال: «أنت معلم جديد، يجب أن «تسألنا نحن» كيف تسير الأمور. هذا هو سبب وجودنا هنا.»
يوضِّح هذا المثالُ أهميةَ البيئة الخارجية. لقد فشلَتْ فشلًا ذريعًا طريقةُ تعليمٍ نجحَتْ جيدًا في العديد من الفصول على مدار ما يزيد عن عقدٍ، فما السبب؟ لأن توجُّهَ الفصل كان مختلفًا عن أي توجُّهٍ صادَفَه المعلمُ من قبلُ. لقد توقَّعَ الطلبة الاختيارَ والمشاركةَ في كل فصل، وهاتان السمتان لم تكونا متوقَّعَتَيْن في مدرسته القديمة. لقد كانت خطة درس المعلم تشبه ساعةً بندوليةً موضوعة على متن سفينة. (إنه معلم واسع الحيلة، ولم يستغرق وقتًا طويلًا في التأقلم مع نظام المدرسة.)
(٢-٤) المشكلة ٤: مستويات التحليل
لِنَعُدْ إلى السؤال الذي أثاره «أقزام الملابس الداخلية» والجواب الذي نناقشه. السؤال هو: «كيف يمكننا استخدام المعرفة العلمية الأساسية في تحسين التعليم؟» والجواب هو: «تقدِّم العلومُ الأساسية وصفًا للبيئة الداخلية والبيئة الخارجية.» انتهيتُ للتو من القول إننا يجب ألَّا نتوقَّع الكثيرَ من وصف البيئة الخارجية، فالعلم فحسب ليس متقدِّمًا لهذه الدرجة في تلك المشكلة. ماذا عن البيئة الداخلية؟ هل نعرف الكثيرَ عن عقول الأطفال؟ إننا نعرف ذلك، لكن تطبيق تلك المعرفة ليس على القدر نفسه من المباشَرة الذي قد تتخيَّله. إن فهم سبب ذلك يتطلَّب بعضَ العمل الجاد، وهذا على الأرجح أهم نقطة في هذا الفصل.
لنبدأْ بهذه الطريقة؛ لنضرِبْ مثلًا بشخصٍ يعرف الكثيرَ عن عقول الأطفال. يتمتع هذا الشخص بخبرة كبيرة في تعليم الأطفال منفردين، وهو ماهر في ذلك. هل نتوقَّع أن هذا الشخص سيكون أيضًا معلمًا رائعًا في فصل يتكوَّن مثلًا من ثمانية وعشرين طفلًا؟ يقول حدسنا: «ليس بالضرورة.» لكنْ لِمَ لا؟ فالفصل، على الرغم من كل شيء، يتكوَّن من أطفال منفردين، وإذا افترضنا أن هذا المعلم يعرف الكثيرَ عن الأطفال المنفردين، فلماذا لا يؤدِّي أداءً رائعًا في الفصل؟ يرجع السبب إلى أن الأطفال يتفاعلون، وهذه التفاعلات تخلق تحديات لم يصادفها المعلم من قبلُ أثناء تعليمه للأطفال منفردين. بالتأكيد ستكون خبرته السابقة ومهارته مفيدةً بعضَ الشيء، لكن يمكننا أن نجزم إلى حدٍّ بعيدٍ أنه توجد سمات أخرى لإدارة الفصل ستكون جديدة بالنسبة إلى هذا المعلم.
وما القدرات العقلية التي يحتاجها الطفل ليكون ماهرًا في الرياضيات؟ من الممكن أن أقترح ضرورةَ وجودِ ثلاث قدرات على النحو الآتي: لا بد أن يتذكَّر الطفل عددًا صغيرًا من الحقائق الحسابية (مثل ٢ + ٢ = ٤)، ويجب أن يعلم الطفل الإجراءات الحسابية الوثيقة الصلة (أي القواعد الرياضية، وطرق حل المسائل العادية)، ويجب أن يكون لدى الطفل فهم تصوُّري لسببِ وطريقةِ عمل تلك القواعد الرياضية. كلٌّ من هذه القدرات كيانٌ افتراضي أستخدِمُه لتكوين نظريةٍ عن المقدرة الرياضية العامة للطفل.
يبدو ذلك الاستقلال الجزئي الذي تتمتع به هذه المستويات رائعًا بالنسبة إلى الباحثين؛ لأنه يطمئنهم أنه من المنطقي دراسة مستوًى واحد فحسب؛ على سبيل المثال: افترِضْ أن أحد الباحثين قال: «أنا أدْرُس القراءةَ.» من الممكن أن أجيبه قائلًا: «هذا غباء. أنت تعلم أن القراءة يجب أن تتكوَّن من عمليات أخرى أساسية على نحوٍ أكبر؛ مثل: الانتباه، والرؤية، والذاكرة. لماذا لا تدرس الانتباه، والرؤية، والذاكرة؟ بمجرد أن تفهم هذه الأمور، سوف تفهم القراءة!» بعد ذلك يمكن أن يقول باحث آخَر: «كلا يا ويلينجهام، بل أنت هو الغبي. إننا نعلم أن العقل منتج للدماغ؛ ما يجب أن نفعله هو دراسة الدماغ!»
إن الاستقلال الجزئي لهذه المستويات يعني أن كل مستوًى يجب دراسته على حدة. إن معرفةَ الكثير من الأمور عن العلميات المعرفية لا يضمن أنني سأفهم القراءة، للسبب نفسه فقط المتمثِّل في أن معرفة طريقة التدريس لطفلٍ واحدٍ لا تضمن أنني سأستطيع إدارةَ فصلٍ؛ فإذا أردتَ فهْمَ القراءة يجب أن تَدْرُس القراءة.
هل مشكلة مستويات التحليل تعني أن علم النفس التعليمي بلا فائدة؟ كلا البتة. توجد ثلاث طرق تستطيع من خلالها المعلوماتُ العلمية الأساسية المستقاة من مستويات التحليل الدنيا أن تفيد التعليم؛ أولًا: إذا كانت لدينا نظريةٌ مفصلة عن علاقة المستويات بعضها ببعض، فسيمكنننا أن نتوقَّع بنجاحٍ ما يحدث عند الانتقال من مستوًى إلى آخَر؛ ومن ثَمَّ نتفادى المشكلةَ التي وصفتها. سأعرف كيف تتفاعل القِطَع المختلفة؛ ومن ثَمَّ أستطيع توقُّعَ ما يلي: «حسنًا، ممارسة الحقائق الحسابية سوف تساعد القسمة المطولة، وإليكم السبب …»
ثانيًا: يمكننا استخدام بيانات من علم النفس التعليمي (أو المعرفي) عندما نعتقد أن التأثير الذي نَدْرُسه كبيرٌ للغاية وقوي للغاية، لدرجةٍ تجعلنا واثقين تمامًا من أنه «سوف» ينتقل إلى المستويات الأعلى في كل المواقف تقريبًا، حتى لو لم تكن لدينا نظريةٌ مفصلة عن طريقةِ حدوثِ هذا الانتقال؛ على سبيل المثال: الممارسة مهمة جدًّا للتعلُّم، حتى إنني قد أتوقَّع أنها ستكون مهمة دائمًا؛ لا يهم هل كنتَ تتعلَّم الارتجال في موسيقى الجاز، أم تتعلَّم البستنة، أم تتعلَّم التكامُل في حساب التفاضل والتكامل، فالممارسة ضرورية للتحسن، ولن تحدث تفاعلات غريبة في مستويات أخرى تجعل هذه الحاجة تتلاشى. هذا بالطبع لا يعني أن هذا المبدأ يمكن تطبيقه دون تعقُّل، ومن الحقائق العامة الأخرى المتعلِّقة بالإدراك أن الممارسة المتكررة المفروضة تضر بالحماس.
•••
- (١)
الأهداف في الغالب غير مُعلَنة أو ضمنية. نظرًا لأن التعليم مسعًى يهدف إلى تحقيق الأهداف، فإن الغموض يجعل من الصعب معرفة أي مكتشفات العلوم الأساسية وثيقة الصلة، ويجعل من الصعب أيضًا استنتاج النتائج من المكتشفات الوثيقة الصلة.
- (٢)
التقييم ضروريٌّ لمعرفة هل تتقدَّم نحو الهدف التعليمي أم تبتعد عنه، ولا يوجد تقييم لكثير من النتائج التي قد نهتم بها (مثل الإبداع أو حل المشكلات بأسلوب تحليلي).
- (٣)
نعرف عن الأطفال (البيئة الداخلية) أكثر مما نعرف عن الفصول (البيئة الخارجية)، ونحتاج إلى معرفة كلا الأمرين إذا كنا نريد تطبيق معرفة العلوم الأساسية على التعليم بثقة.
- (٤)
حتى إذا استطعتَ استغلالَ إحدى العمليات المعرفية، وكنتَ واثقًا من النتيجة المعرفية، فلا يمكنك أن تضمن النتيجة نفسها في التعليم؛ لأنك «أ» من المحتمل أن تغيِّر دونَ قصدٍ عمليات معرفية أخرى أيضًا، و«ب» قد تتفاعل العمليةُ المتغيِّرة مع عملياتٍ معرفيةٍ أخرى بطرق لم تتوقَّعها.
لا بد دائمًا من حلِّ هذه المشكلات الأربع عند السعي إلى تطبيق المعرفة العلمية الأساسية على الأبحاث التعليمية. بالنسبة لبعض الموضوعات — مثل تعلم القراءة — فإن هذه المشكلات محلولة إلى حد بعيد، وتوجد فرصة حقيقية لاستخدام العلوم الأساسية في التعليم. بالنسبة إلى موضوعات أخرى — مثل تعليم الطلبةِ التفكيرَ النقدي — فالإجاباتُ أقلُّ وضوحًا. التغذية الراجعة مشكلة خاصة في أبحاث التفكير النقدي؛ لأن التفكير النقدي قياسه صعب جدًّا. وكما سنرى في الفصول القادمة، فإن التأكد من حل هذه المشكلات لا يمكن أن يساعد في تقييم المزاعم القائلة بأن أحد البرامج التعليمية «قائم على الأبحاث».
هذه الطريقة الأولى — الاعتماد على مبادئ العلوم الأساسية — للأسف من السهل جدًّا تطبيقُها على نحوٍ غير متقن، فمن الممكن أن تأخذ نتيجةً تبدو مرتبطةً على نحوٍ ثانوي بأي برنامج تعليمي تروِّجه، وتلوح بها قائلًا: «انظر، إنه بحث علمي!» إنها طريقة رخيصة؛ لأن البحث موجود بالفعل. لكن كما رأيتَ في هذا الجزء، من الصعب جدًّا تطبيقها على نحوٍ جيد.
(٣) الطريقة الثانية: مشكلتان، وليس أربع مشكلات
حتى الآن ناقَشْنا طريقةً واحدة لتطبيق معرفة العلوم الأساسية على التعليم، وهذه الطريقة هي وصف البيئة الداخلية والبيئة الخارجية. إلا أنه توجد طريقة ثانية، وهذه الطريقة أسهل في التطبيق على نحوٍ جيدٍ؛ نظرًا لقلة المشكلات اللازم حلها. لكن هذه المشكلة باهظة الثمن للغاية لأنه لا توجد أبحاث قائمة في انتظار استخدامك لها؛ فالباحث سوف يبدأ من نقطة الصفر.
تشير المرحلة المميزة بكلمة «الاختبار» في الدائرة إلى اختبار التوقُّع، فعندما نصنع منتجًا في أحد العلوم التطبيقية، نريد اختبارَ هل المنتج يفعل ما نتوقَّعه؛ أيْ هل يلبِّي الهدفَ الذي وضعناه. حتى عندما تكون المعرفة التي نطبِّقها من العلوم الأساسية صحيحة، فإننا لا يمكننا بالضرورة أن نكون متأكدين من أن المنتجات التي نصنعها سوف تتصرَّف على النحو المتوقَّع.
في مجال التعليم، نضع مجموعة من خطط الدرس للجبر على سبيل المثال، ونتوقَّع أن يلبِّي الأطفال الذين يشهدون خططَ الدرس تلك بعضَ معايير المعرفة التي وضعناها. لكن كيف نعرف أن مجموعة خطط الدرس الجديدة أكثر فعاليةً ممَّا كنا نفعله لتعليم الجبر في السابق؟ أَلَا نحتاج إلى مقارَنةِ الطريقة الجديدة بالطريقة القديمة؟ إن عقْدَ مثلِ هذه المقارنات هو عماد العلوم الأساسية؛ إنها مرحلة الاختبار في دائرة العلم. إذن فالطريقة الثانية لإمكانية استخدام العلوم الأساسية في أحد المساعي التطبيقية كالتعليم هي الاستفادة من الطرق التي طورت في العلوم الأساسية لتقييم طرقنا التطبيقية لمعرفة هل هي فعَّالة أم لا.
من السمات المثيرة لهذه الطريقة الثانية أنه من الممكن أن تُستلهم الطريقة التي تختبرها من أي مكان. في الطريقة الأولى، كنا نتحدَّث عن استخدام العلوم الأساسية لتطويرِ طريقةٍ لتعليم الكيمياء على سبيل المثال؛ أما الآن فإننا نتحدث عن استخدام أساليب من العلوم «لمقارَنة» طريقتين لتدريس الكيمياء، وطريقتا التدريس هاتان يمكن أن تأتيا من أي مصدر: من خبرتي، من خبرة مدرسٍ آخَر، أو من أي مصدرٍ غير معلوم.
حتى عندما لا تكون لدينا معرفة بالعلوم الأساسية توجِّه بناءَ المنتج، فإننا يمكننا مع ذلك استخدام المنهج العلمي من أجل «تقييم» المنتج. بناة الجسور القدماء كانوا يفعلون ذلك على نحوٍ ضمني كالآتي: استمروا في استخدام التصاميم التي أدَّتْ إلى جسور قوية صامدة، ودعوا تصاميمَ الجسور التي انهارَتْ. تأتي المعرفة الحِرَفية من هذا النوع من الخبرات. إن المنهج العلمي يجعل فحسب مثل هذه المقارنات أكثرَ موثوقيةً من خلال جعلها أكثر منهجيةً، كما أوضحنا في الفصل الثالث.
لذلك، حتى لو لم تقدِّم معرفةُ العلوم الأساسية سوى قدرٍ قليل جدًّا من المعلومات الموثوق فيها، المتعلِّقة بطريقة تصميم أحد المناهج الذي سوف يحسِّن المشاركةَ المدنية؛ فإننا يمكننا على الرغم من ذلك استخدام المنهج العلمي في مقارَنة منهجين قائمين لرؤية أيهما يبلي بلاءً أفضل في ترويج المشاركة المدنية. مقارَنةً بالطريقة الأولى، فإن هذه الطريقة تثير تحديات أقل. ما زلنا نحتاج إلى تحديد الهدف، وما زلنا نحتاج إلى معيار تقييم موثوق فيه؛ أيْ إننا نحتاج إلى تحديدِ ما نعنيه «بالمشاركة المدنية» وطريقة قياسها. إلا أننا لا نحتاج إلى القلق بشأن المشكلتين الأخريين المتمثلتين في وصف البيئة الداخلية والبيئة الخارجية، والتفاعُلات المعقدة التي تؤدِّي إلى نتائج مفاجئة.
على نحوٍ باعث على السعادة، فإن المشكلتين اللتين تبقيان معنا عند استخدام هذه الطريقة يمكن حلهما بصورة مؤقتة. هذا يعني أن بإمكاني أن أقول: «حسنًا، أعلم أن هذا التعريف ليس مثاليًّا، لكنْ دَعُونا نَقُلْ إن «المشاركة المدنية» تعني المشاركة في المؤسسات المدنية. وسوف أقيس ذلك بسؤال طلبة السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية هل كانوا يقومون بأعمالٍ تطوُّعية في مثل هذه المؤسسات، وهل يتابعون أخبار هذه المؤسسات في وسائل الإعلام المحلية، وهل يقولون إنهم مهتمون بمثل هذه الأمور.» يمكنني بعد ذلك استخدام الطرق العلمية لمقارنة منهجين من حيث نجاحهما في تعزيز المشاركة المدنية.
يتمثَّل الخطر في هذه الاستراتيجية — وهو خطر كبير — في أنه إذا كان تعريفي أو مقياسي للمشاركة المدنية يتَّسِم بالقصور، فمن الممكن بسهولة أن أخدع نفسي فأعتقد أنني قارنتُ المنهجين على نحوٍ ناجح، في حين أن المقارَنة في حقيقة الأمر كانت مَعِيبة منذ البداية؛ لأنني استخدمتُ تعريفًا أو مقياسًا قاصرًا. إلا أنه يجب أن تبدأ من مكانٍ ما، ويبدو من المنطقي أن تقيس الأمورَ بأفضل طريقة ممكنة، وأن تحاول تحسين المقاييس مع المضي قدمًا بدلًا من الكف عن المحاولة بسبب اليأس.
باختصارٍ، الطريقة الثانية أكثر مباشرةً من الطريقة الأولى. إذا قارنتُ علميًّا بين منهجين أو بين استراتيجيتين تعليميتين، أو بين المدارس الأبريشية والمدارس الحكومية، فإنني في حاجةٍ إلى القلق بشأن ما أقيسه وطريقة قياسه. لكن إذا بَدَا القياس مباشِرًا إلى حدٍّ بعيد — مثل اختبار قراءة لطلبة الصف الثالث يوجد منه العديد من الاختبارات الجيدة — فإننا نستطيع إجراء دراسة جيدة. بالتأكيد يوجد الكثير من الطرق التي تفسد أي مشروع بحثي، لكننا على أقل تقدير نستهدف نقاطَ قوةِ المنهج العلمي، بمعنى أننا بتنا نتفهَّم الطرقَ التي يمكن أن تفسد بها الدراسة، وتوجد استراتيجيات للتعامل مع هذه الطرق.
في أول طريقة وصفتها يمكن أن يكون العائد أكبر بكثير، لكن احتمالية أن ترى عائدًا بالفعل أقل بكثير. الطريقة الثانية تقارن ببساطة بين جسرين وتخبرك أيهما يؤدي المهمة على نحوٍ أفضل. في نهاية المطاف، من المحتمل أن تعرف أي هذين الجسرين أفضل، لكنك ستظل دون معلومات عن كيفية بناء جسر أحسن كفاءةً. يتمثَّل وعْدُ الطريقة الأولى في أنك ستكون قادرًا على استخدام المبادئ العلمية كمصدرِ إلهامٍ لصناعة جسرٍ أفضل ممَّا تخيَّله أيُّ شخصٍ حتى الآن؛ لأنك تفهم من الناحية النظرية الأمورَ التي تجعل الجسر طويلَ الأمد وقويًّا. لكنْ كما ذكرنا في هذا الفصل، فإن اشتقاق منتجات عملية من هذه المبادئ النظرية ليس أمرًا سهلًا مباشرًا.
لذلك على الرغم من الكلام الذي قيل عن أن علم الدماغ أدَّى إلى ثورة في التعليم، فإن ذلك الطريق يبدو أصعب بكثير من عملية مقارَنة المناهج والطرق التعليمية الحالية. القول المأثور «لص جيد واحد يساوي عشرة باحثين» ربما يكون صحيحًا؛ أيْ إن الأمر الذكي اللازم فعله هو العثور على أفضل منهج حالي وتقليده، بعد ذلك من الممكن تعديله من بعض الجوانب، واستخدام المنهج العلمي لمعرفة هل جعلته النسخة المعدلة أفضل. هذا أمر محتمل، لكنني أعتقد أن هذه النظرة متشائمة جدًّا فيما يخص الإسهام الذي يمكن أن تقدِّمه العلوم الأساسية للأبحاث التعليمية. أعتقد بالفعل أن التقدُّم في فهمنا للتعلم والقراءة والرياضيات — أكثر ثلاثة موضوعات خضوعًا للدراسة المكثفة — قد حقَّقَ نتائج بالفعل. لكن يظل تحديد مقدار المساعدة التي قدَّمَتْها العلوم الأساسية للتعليم مسألة رأي، ومن شأن تبرير رأيي الخاص أن يبعدنا كثيرًا عن الموضوع.
•••
تناولنا ببعض التفصيل ما يطلق عليه العلماء «العلم الجيد» (الفصل الثالث)، وتناولنا تحديات وفرص استخدام العلم الجيد لتحسين التعليم (الفصل الرابع). بالاستعانة بهذه المعرفة يمكننا البدء في فحص طرق تقييم المزاعم العلمية المتعلقة بالتعليم التي نقابلها.