الخطوة الأولى: تجريد الزعم وقلبه
***
حتى الآن، استعرض هذا الكتاب الأدلةَ التي تحملنا على تصديق الأمور بناءً على أسباب ضعيفة (الفصل الأول)، وأوضح أننا معرَّضون بصفة خاصة لتصديق الأسباب التي تبدو متسقة مع أحاسيس من عصر التنوير أو العصر الرومانسي (الفصل الثاني). وصفتُ مقومات العلم الجيد (الفصل الثالث)، وكيف نستخدمه (الفصل الرابع)، والآن حان وقت التحدث بالتفصيل عن طريقة التمييز بين العلم الجيد والعلم السيئ.
يوضِّح هذا الفصل والفصول الثلاثة التالية عمليةً من أربع خطوات تساعدك في تقييم السلامة العلمية المحتملة لكلِّ ما هو مقترحٌ من مناهج تعليمية، أو استراتيجية تعليمية، أو كتاب دراسي؛ كل ما يزعم أنه يساعد الأطفالَ على التعلُّم. لاحِظْ أنني قلت السلامةَ العلمية «المحتملة». أعترف طوعًا — كلا، بل أؤكِّد — أن ما أقترحه ليس بديلًا عن التقييم المدروس من قِبَل أحد العلماء الخبراء، بل إنه أسلوبٌ لتجاوُز المشكلة مؤقتًا. ونظرًا لكونه كذلك فهو مَعِيب. الميزة الكبرى له هو أنه لا يتطلَّب عالمًا خبيرًا.
عندما يعرض عليك أحدُ الأشخاص منتجًا تعليميًّا — سواء أكنتَ والدًا، أم معلمًا، أم مديرًا، أم صانع سياسات — فإنه يطالبك بتغيير أحد الأمور؛ إنه يريد منك أن تغيِّر شيئًا تفعله في البيت، أو في الفصل، أو في المدرسة بطريقةٍ ستؤثِّر على الأطفال الموجودين في عهدتك. كنوعٍ من الاختصار، سوف أستخدم مصطلحَ «تغيير» للإشارة إلى كلِّ ما هو جديد من منهجٍ، أو استراتيجيةِ تعليمٍ، أو حزمة برمجية جديدة، أو خطة إعادة هيكلة للمدرسة؛ في العموم، أيُّ شيء يحثُّك شخصٌ ما على تجربته كوسيلةٍ لتعليم الأطفال على نحوٍ أفضل. سأستخدم المصطلح «مُقنِع» للإشارة إلى أي شخص يحثُّك على تجربة التغيير، سواء أكان معلمًا، أم مديرًا، أم بائعًا، أم رئيس الولايات المتحدة.
كي تبدأ في التقييم، يجب أن تكون متأكدًا جدًّا من فهمك لثلاث نقاط على نحوٍ واضحٍ، وهذه هي النقاط: (١) ماهية التغيير المقترح على وجه الدقة. (٢) ماهية النتيجة الموعودة كعاقبةٍ لذلك التغيير. (٣) احتمالية تحقُّق النتيجة الموعودة واقعيًّا إذا قمتَ بهذا التغيير. كلُّ الاعتبارات الأخرى ثانويةٌ في هذه المرحلة، ويجب اعتبارها مشتتاتٍ. «تجريد الزعم» هو طريقةٌ للوصول إلى التفاصيل الدقيقة التي أشار إليها بليك في افتتاحيةِ هذا الفصل. (سوف نلجأ لطريقة «قلب الفكرة» في الوقت المناسب.)
(١) تجريد الزعم
لتجريد أحد المزاعم وصولًا لمكوناته الأساسية، أقترح أن تكون ثمة جملة بهذه الصيغة: «إذا فعلتَ «س»، فإنه توجد احتماليةٌ نسبتُها «ص» لحدوث «ع».» على سبيل المثال: «إذا استخدَمَ طفلي برمجيةَ القراءة تلك ساعةً يوميًّا لمدة خمسة أسابيع، فإنه توجد احتماليةٌ نسبتُها ٥٠ في المائة في أنها سوف تضاعِف معدلَ سرعةِ القراءة لديه.» بالطبع، من الممكن أن يتغيَّر الفاعلون؛ فالشخص الذي يقوم بالعمل «س» من الممكن أن يكون طالبًا، أو والدًا، أو معلمًا، أو مديرًا، والشخص المتأثِّر بالنتيجة «ع» يمكن أن يكون أيًّا منهم. لاحِظْ أيضًا أن قيمة «ص» — احتمالية الحدوث الفعلي للنتيجة المرغوب فيها — غير محددة في الغالب. هذا حسن. في الوقت الراهن أنت تحاول أن تعرف على نحوٍ واضحٍ الزعمَ الذي يزعمه المُقْنِع، وإذا لم يذكر النسبة «ص»، فقد ترَكَها متعمِّدًا.
هذا الموقع — على النقيض من الكثير من المواقع — يقدِّم زعمه على نحوٍ واضحٍ تمامًا. «س» هو استخدام أغطية الورق الملوَّنة عند القراءة. النتيجةُ المزعومة «ع» هي تحسُّن القراءة، والمصطلحُ «تحسين مشكلة المعالجة» مُستخدَم؛ لذلك يبدو أن الزعم لا يتمثَّل فحسب في تحسُّن الأمور، بل في تصحيح هذه المشكلة. فرصُ نجاحِ أغطية الورق الملوَّنة «ص» أقل وضوحًا في هذه الصفحة، لكن في صفحةٍ أخرى على هذا الموقع نرى زعمًا يقضي بأن ٤٦ في المائة من الأشخاص الذين يعانون من «مشكلات القراءة، وعسر القراءة، وصعوبات التعلم» يمكن أن تساعدهم الطريقة. إذن فالزعم المجرد المقدَّم على هذا الموقع هو: «إذا استخدَمَ طفلك المصاب بعسر القراءة أغطيةَ الورق الملونة أثناء القراءة، فإنه توجد احتمالية لتصحيحِ مشكلةِ القراءة لدى طفلك نسبتها ٤٦ في المائة.» عند هذه المرحلة يجب أن تمتنع عن إصدار الحكم عمَّا إذا كان الزعم حقيقيًّا أم زائفًا؛ فكلُّ ما تحاول فعله الآن هو اكتسابُ فكرةٍ واضحةٍ حول الأمر المزعوم بالضبط.
يُعَدُّ المقتطف ٥-١ مثالًا آخَر. إنه مأخوذ من مدونة، لكن يمكنني بسهولة تخيُّل أنه جزءٌ من جلسةِ تنميةٍ مهنية حول تحفيز الطلبة. عنوان المقتطف هو: «خمس طرق لإثارة حماس الطلبة نحو التعلُّم».
المقتطف ٥-١: ملخص نصائح للمعلمين حول تعليم الكتابة، مستخرج من مقدمة إحدى المدونات
خمس طرق لإثارة حماس الطلبة نحو التعلم
(١) «تعلَّمْ في كل مكان!» عندما تدخل أحدَ الفصول يُقفَل الباب خلفك عادةً. لماذا؟ أنت على الأرجح تحمل العالَم في جيبك من خلال هاتفك الخلوي. لماذا يجب أن يكون التعلُّم منعزلًا. إن جدران الفصول لا تحجب المشتتات فحسب، بل تحجب الفرص.
(٢) «اكتبْ للجميع!» بوصفك معلمًا فأنت لا شك تقرأ مقالات طلابك بعناية. لكنك مجرد شخص واحد. يستطيع طلابك الوصولَ لجمهورٍ قوامُه الملايين من الأشخاص بشكل فوري، وكلُّ واحد من هؤلاء القراء المحتملين يمكنه تقديمُ رأيٍ في كتابة طلابك.
(٣) «اكتبْ مع الجميع!» لماذا يجب أن يكون التعلُّم مسعًى فرديًّا؟ أصبح عملنا تعاونيًّا على نحو متزايد، فلم يَعُدِ المنتجُ وليدَ عملِ فردٍ واحد، بل نتاج أفضل الجهود والحلول الوسطى لمجموعةٍ من الأشخاص. لم يَعُدِ العملُ على انفرادٍ خيارًا مطروحًا. القرن الواحد والعشرون أساسُه الترابُط.
(٤) «ارتكِبِ الأخطاءَ!» الأخطاء ليست إخفاقات. الأشخاص الوحيدون الذين لا يخطئون هم أولئك الذين لا يفعلون شيئًا أبدًا، وإذا لم ترتكب الأخطاءَ مطلقًا، فلن تتعلَّم أي شيءٍ أبدًا. المشكلة هي أن الناس لا يتقبَّلون الأخطاءَ كفرصٍ للتعلُّم.
(٥) «امرحْ!» مَن قضى بضرورةِ أن يكون التعلُّمُ عملًا مُمِلًّا مرهقًا؟ إننا نتعلم بأقصى قدرٍ عندما تكون عقولنا منفتحةً، وعندما نكون مفعمين بالمرح.
التغيير المقترح في المقتطف ٥-١ صعبٌ تجريده إلى حدٍّ بعيد باستخدام معادلة «إذا فعلْتَ «س»، فإنه توجد احتماليةٌ نسبتُها «ص» لحدوث «ع»»، وهذا يخبرنا الكثير؛ فمن الصعب تحديد «س»، كما أن «ص» غير محددة. لأكون مُنصِفًا، هذه النصيحة مأخوذة من مقدمة مدوَّنة؛ ولذلك على الأرجح كان ينبغي ألَّا أتعامل معها بكل هذه الجدية. في الوقت نفسه، فإننا نرى الكثيرَ من هذه النصائح الموجَّهة إلى المعلمين، التي تكون غير ذات جدوى، مثل تلك. مثل هذه النصائح من الصعب الاختلاف معها، لكنها لا تساعد لأنها غير محدَّدة إلى حد بعيد.
(١-١) التجريد من المشاعر
في الفصل الثاني، ناقَشْنا العبارات المعهودة والصور الهادفة إلى جعل الذهن يستحضر موضوعات من فِكْر التنوير (المصطلحات التقنية، مصطلحات مثل «قائم على الأبحاث» و«معتمد على طريقة عمل الدماغ»)، بالإضافة إلى عبارات فكر الرومانسية («إطلاق»، و«طبيعي»، و«مصمَّم وفقًا لأسلوب طفلك»، وغيرها). يجب أن تخلِّصَك صيغة «إذا فعلتَ «س»، فإنه توجد احتمالية نسبتها «ص» لحدوث «ع»» من إشاراتِ الاعتقاد الثانوية تلك. ماذا ستفعل الصيغة أيضًا؟
سوف تقلِّل أيضًا من المناشدات العاطفية، وهذا يمكن أن يكون فعالًا للغاية. افترضْ أنك تكتب خطابات الرئيس، وأن الرئيس أكَّدَ على أهمية خدمات الصحة العقلية للجنود العائدين من الحرب في أحدث ميزانية مقترَحة، وطلب منك ومِن كاتبِ خطاباتٍ آخَر كتابةَ شيءٍ ما عن هذا الموضوع في خطابه التالي، وقضى كلٌّ منكما بعضَ دقائق في كتابة الأفكار، ثم قارنتما الملاحظات. أيُّ هذين الخيارين يبدو أكثر فعاليةً لخطاب الرئيس؟
-
(١)
يشير الرئيس في الخطاب الأول إلى أن نسبةً تتراوح ما بين ١٥ و٢٠ في المائة من الجنود العائدين من العراق، تظهر عليها أعراضُ الاكتئابِ واضطرابِ توتُّرِ ما بعد الصدمة. (ملحوظة: سيحتاج إلى الإشارة إلى أن هذا الاضطراب خطيرٌ.) وترتفع النسبة إلى حوالي ٣٠ في المائة لدى الجنود في جولتهم الثالثة أو الرابعة. لم تكن معدلات الانتحار بين الجنود بهذا الارتفاع على مدار ربع قرن.2 لقد زاد التمويل، لكنه ما زال غير كافٍ، وكثير من الجنود يبقون دون علاج.
-
(٢)
يشير الرئيس في الخطاب الثاني إلى أن أحد أعمامه خدَمَ في الحرب العالمية الثانية، وكان ضمن الجنود الذين حرَّروا أحدَ معسكرات التركيز النازية. عندما عاد إلى المنزل، صعد إلى العُلِّيَّة وكان عاجزًا عن مغادرة المنزل لمدة ستة أشهر. في ذلك الوقت، لم يكن ثمة وجودٌ لدعمِ الصحة العقلية للجنود الذين شهدوا أهوال الحرب. بعد أن يقول الرئيس هذه القصةَ، فإنه ينتقل مباشَرةً إلى هذه الفكرة: اليومَ لدينا هذا الدعمُ، لكن يجب أن نحرص على توافُره لكلِّ جندي من الجنود يعرِّض حياتَه للخطر بنكران ذاتٍ لحماية حريتنا.⋆
السياسيون لا يُقنِعون بالإحصائيات، بل يقنعون بالعواطف؛ في الانتخابات الرئاسية الحديثة العهد، خسر السياسي المحنك الملم بالحقائق بسهولة بالغة — آل جور، مايكل دوكاكيس، بوب دول — أمام المرشح الذي يستطيع التواصل مع الناخبين على المستوى العاطفي. جرى تجسيد هذه الفكرة على نحو دقيق في كاريكاتير سياسي أتذكره من حملة عام ١٩٨٤. كان يوجد كساد شديد في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وصَوَّرَ الكاريكاتير المواطنَ الأمريكي العادي في صورة مريضٍ على سرير مستشفًى، موصلٍ بشاشةٍ مكتوبٍ عليها «الاقتصاد»، أظهرَتْ مؤشرًا منخفضًا على نحوٍ هائل. ويقف المرشحان الرئاسيان والتر مانديل ورونالد ريجان، في زي الأطباء، بجوار السرير. يقول المريض لمانديل المصدوم: «أعلم أنك طبيب جيد، لكنه — مشيرًا إلى ريجان المبتسم مثل الجد — يجعلني أشعر بشعورٍ أفضل.»
قد تضيف القصص الرومانسية طابعًا شخصيًّا على المشكلة التي نفهمها على نحو مجرد فحسب، أو تجعل المشكلةَ تبدو أكثر إلحاحًا، لكنها لا تقدِّم أسبابًا مُقْنِعةً لفعل شيء معين. لماذا؟ لأن المناشدات العاطفية لا تقدِّم دليلًا على فعاليةِ حلٍّ معين، وهذا الأمر حقيقي على النحو نفسه في التعليم.
فقط كاستعراض سريع: في خمسينيات القرن العشرين وستينياته تفوَّقَتِ الولايات المتحدة على العالم في التعليم من مرحلة رياض الأطفال حتى المرحلة الثانوية، وسيطرت أيضًا اقتصاديًّا. في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته كنَّا ما زلنا متصدِّرين، لكنْ على نحوٍ أقل، في تعليم أبنائنا حتى المرحلة الثانوية، واستمرت أمريكا في قيادة العالم اقتصاديًّا، لكن مع اقتراب اقتصاديات كبيرة أخرى مثل الصين.
يوجد ملايين من الأطفال في مدارس الضواحي المعاصرة «الذين لا يدركون كَمْ هم متأخرون»، وفقًا لقول مات ميلر أحد مؤلِّفِي إحدى الدراسات الحديثة. «هؤلاء جارٍ إعدادهم لتقلُّد وظائفَ سعرُ ساعةِ العمل بها يبلغ ١٢ دولارًا أمريكيًّا، وليس ما بين ٤٠ إلى ٥٠ دولارًا أمريكيًّا في الساعة.»
ماذا عسانا أن نفعل؟
يدرك الرئيس أوباما أننا في حاجةٍ عاجلة إلى استثمار المال والجهد بحيث نجعل المدارس والممارسات الناجحة المتميزة بمنزلة المعيار القومي الجديد.
يشير المُقْنِع هنا إلى اتجاهات اقتصادية عامة، ويتنبأ بصورة قاتمة للمستقبل القريب، فالأطفالُ الأجانب الحاصلون على تعليمٍ أفضل يلاحقون نظراءهم الأمريكان، ويتقدَّمون بسرعةٍ، والدمارُ الاقتصادي سوف يقع عندما يتجاوزونهم. الخوف يجعلنا أكثر تقبُّلًا للمقترح: «هذا يبدو رهيبًا! أخبرني بسرعةٍ كيف أُصْلِح الأمر!» لكن في حقيقة الأمر، تذكر الرسالةُ الحلَّ باقتضابٍ فقط — استثمار المال في أخذ أفضل الممارسات من إحدى المدارس وتطبيقها في المدارس الأخرى — ولا يقدِّم أيَّ دليلٍ يدعم أن هذا الإجراء سوف ينجح. في الحقيقة، هذا الحل الواضح — خُذِ الأمرَ الفعال في أحد الأماكن وطبِّقْه في مكانٍ آخَر — هو حلٌّ فاشل مشهور بين أولئك الذين يعرفون تاريخ السياسات التعليمية، فالنجاحاتُ تعتمد على عوامل كثيرة من الصعب تحديدها، فضلًا عن تكرارها.
عندما يستهدف المُقْنِعون المعلمين، فإنهم في المعتاد يستخدمون المناشدات العاطفية التي تركِّز على الأمل، لا الخوف. يتصف معظم المعلمين الذين تقابلهم بالتفاؤل؛ فهم يعتقدون أن كل الأطفال يستطيعون التعلم، وأن كل الأطفال لديهم شيء ليقدِّموه إلى الفصل. المعلمون متفائلون أيضًا باحتمالية استطاعتهم مساعدة الأطفال على تحقيق إمكاناتهم. أظهرَتْ دراسةٌ غير منشورة أجريتُها على عدة مئات من المعلمين أن الإجابة الأكثر شيوعًا على هذا السؤال: «لماذا أصبحتَ معلمًا؟» كانت: «أردتُ أن أُحْدِث فارقًا في العالم.» لكن المعلمين ليسوا متفائلين لدرجة الانفصال عن الواقع، ففي حالة وجود طفلٍ لا يتواصل المعلم معه، فإن المعلم يكون مدركًا لذلك. والمعلم يعلم أن بعض أوجه أسلوب تدريسه قد أصبحَ رتيبًا، ومألوفًا، ومبتذلًا بعضَ الشيء. عندما يتحدَّث المُقْنِعون إلى المعلمين فإنهم يقدِّمون التغييرَ كحلٍّ طالَ انتظارُه للوصول إلى ذلك الطفل الذي لا يمكن الوصول إليه، أو لإعادة الشغف إلى أسلوب التدريس.
في أغلب الأحيان يحاول المديرون إقناعَ المعلمين بأحد الأفكار من خلال التلويح بالأمل أمامهم. يعلم المديرون أن «الاستحسان» أمر ضروري، فإذا لم يصدِّق المعلمون أن التغييرَ فكرةٌ جيدة، فإنهم لن ينفِّذوه في فصولهم؛ ولذلك لا يرى المديرون الحاجةَ إلى إقناع المعلمين فقط، بل إلى غرس الحماس للتغيير. الخوف لا يحضُّ على الحماس، بل هو يشجِّع الإذعانَ على مضضٍ. أما الأمل فيولِّد الحماس، لهذا السببِ تشبه جلساتُ التنمية المهنية اجتماعاتِ الصحوة الإنجيلية، إلا أن الأمل — مثل الخوف — ليس سببًا لتصديق أن التغيير سوف يكون ناجحًا.
(١-٢) التجريد من مزاعم أن المُقْنِع «يشبهك»
عندما تغيِّر زعْمَ المُقْنِع إلى صيغة «إذا فعلتَ «س»، فإنه توجد احتماليةٌ نسبتُها «ص» لحدوث «ع»»، فعلى الأرجح سوف تختفي اللغة العاطفية، وسوف تختفي أيضًا مجموعةٌ أخرى من إشارات الإقناع الثانوية؛ أيْ تلك الإشارات المُعَدَّة لتجعلك تعتقد أن المُقْنِع «يشبهك». كثيرٌ من المواقع الإلكترونية ومسوِّقي التنمية المهنية سيقدِّمون زعمًا مباشرًا تمامًا فيقولون: «أعلم كيف يبدو …» سوف يتناول مطوِّر المنتج بعضَ الأوجاع ليوضِّح أنه معلم أو والد. تأمَّلْ هذا المثالَ المأخوذ من موقعٍ يروِّج علاجًا لاضطرابِ قصورِ الانتباه وفرطِ الحركة: «يعتقد أصدقاؤكِ أنه يحتاج فحسب إلى النمطية. يريد طبيبكِ أن يعطيه الأدوية. لا يدرك زوجُكِ سببَ عدم قدرتكِ على السيطرة عليه. تعتقد والدتُكِ أنه يحتاج فحسب إلى عقاب جيد.» من خلال توقُّعِ ردودِ أفعال الأصدقاء والأسرة — ردود أفعال من الممكن أن تجعل الأم تشعر بالذنب أو بالتقصير — يشير المؤلف إلى عبارة: «أعلم شعورَ مَن هم في وضعكِ.»
كونك «تشبهني» لا يزيد في واقع الأمر فرصَ امتلاكك لحلٍّ للمشكلة التي أواجِهُها. كثيرٌ من الأشخاص «يعرفون كيف تبدو هذه المشكلة» ولم يجدوا طريقًا مختصرًا لقراءة قطعة الفهم، أو طريقة لتحفيز الأطفال المحبطين، أو طريقة لمساعدة الأطفال المصابين بالتوحُّد على التواصُل مع الأطفال الآخَرين. ودعونا نواجِه الأمرَ: كونك مشابهًا للجمهور هو استحقاقٌ من السهل تضخيم أهميته. ذاتَ مرةٍ حضرتُ ندوةَ تنميةٍ مهنية روى فيها المتحدِّث قصةً تلو الأخرى عن خبراته في الفصل، وكلٌّ منها كانت بدورها مضحكة أو محزنة، وكلها أظهرَتْ أنه «يفهم» المعلمين. عرفتُ لاحقًا أنه عمل مدرس فصل لمدة عام منذ عشرين سنة. إنه يمارس التنميةَ المهنيةَ منذ ذلك الحين، وأظن أنه يروي مجموعةَ قصصِ الفصول نفسها.
(١-٣) التجريد من التشبيهات
تجريد المزاعم يزيل أيضًا الدورَ القوي، والمضلِّل في أغلب الأحيان، للتشبيهات. عندما نستنبط باستخدام التشبيهات، فإننا نستخدم ما نعرفه حول موقفٍ مألوفٍ لنكوِّن توقعاتٍ عن موقفٍ غير مألوف؛ على سبيل المثال: افترِضْ أنني قلتُ لك: «هل تعلم أن طيور أبي الحناء تحبُّ البصل؟ هذا صحيح. إن البصل غير متاح لهذه الطيور، لكنْ عندما يتاح لها، فإنها تُولَع به! والآن بما أنك تعرف ذلك، دَعْني أطرح عليك هذا السؤال: هل تعتقد أن طيور القيق الزرقاء تحب الكراث الأندلسي؟» يجب أن أعترف أن هذا الحوار سيكون غريبًا، لكنك تفهم الفكرة.
على الرغم من ذلك، عندما تعرض علينا التشبيهات، فإننا نميل إلى استخدامها؛ ولهذا السبب يقدِّم السياسيون على نحوٍ متكررٍ تشبيهاتٍ للدفاع عن سياساتهم؛ على سبيل المثال: كانت التشبيهات كثيرة في الولايات المتحدة أثناء الترويج لحرب الخليج الثانية. عقد المؤيدون للتدخُّل في الحرب تشبيهًا بين صدام حسين وأدولف هتلر؛ فكلٌّ منهما ديكتاتور من بلد عسكري له طموحات إقليمية شنَّ غزوًا على دول الجوار الأضعف. يعتقد معظم الأمريكيين أن التدخل المبكر ضد هتلر كان من شأنه أن ينقذ الكثير من الأرواح؛ لذلك إذا كان صدام مثل هتلر، فإن التدخل العسكري يبدو منطقيًّا. إلا أن السياسيين الآخَرين عارَضُوهم بتشبيهٍ مختلف. العراق يشبه فيتنام؛ فكلٌّ منهما أرضٌ بعيدة ولا تهدِّد الولايات المتحدة تهديدًا مباشِرًا. معظم الأمريكيين يشعرون بالندم تجاه حرب فيتنام؛ ومن ثَمَّ فإن هذا التشبيه يقترح «عدم» اتخاذ إجراء عسكري.
وُجِدت نتيجتان مدهشتان في هذه الدراسة؛ أولًا: «تأثر» الأشخاص بالتلميحات، فالأشخاص الذين قرءوا القصةَ مع وجود تلميحاتٍ عن الحرب العالمية الثانية فضَّلوا التدخُّلَ العسكري أكثر من الأشخاص الذين قرءوا القصة نفسها مع وجود تلميحات عن حرب فيتنام. ثانيًا: «اعتقد» الأشخاص أنهم لم ينخدعوا بالتشبيه؛ فقالت كلتا المجموعتين إن القصة التي قرءوها لم تكن كثيرةَ الشبه بالحرب العالمية الثانية، ولم تكن كثيرةَ الشبه بحرب فيتنام. باختصارٍ، كان اعتقادُ الأشخاص على هذا النحو: «أرى كيف تحاوِل التأثيرَ عليَّ، لكنني أذكى من أن تخدعني. التشبيه الذي تقترحه لا ينطبق حقًّا.» لكن حكمهم على الاستجابة المطلوبة أظهَرَ أنهم تأثَّروا على الرغم من ذلك.
لنتأمَّلْ ماذا عنَتْ هذه التكنولوجيات الحديثة لصناعات مختلفة. نشْرُ المجلات شبهُ متوقِّف، والصحفُ تحاول المواكبةَ محاولةً مضنية، وتحاول إيجادَ طريقةٍ للتكيُّف. هل تذكر تلك الأكشاك الموجودة على قارعة الطريق التي كنا نقصدها أثناء قيادة السيارة ونترك لديها فيلمَ الكاميرا لتحميض الصور؟ هل تذكر محلات تأجير شرائط الفيديو؟ كل هذه الأمور اختفَتْ. لم يَعُدِ الناس يستخدمون شركات السياحة. لم يَعُدِ الناس يستخدمون الخرائط.
كل هذه الصناعات قديمة وغير ضرورية، وكلها تشترك في أمر واحد، أَلَا وهو أن كلًّا منها كانت قائمة على تقديم المعلومات. لم تَعُدْ هذه الصناعات موجودة لأن الإنترنت يتيح الاطِّلاع الشخصي الفوري لمعلوماتٍ غير محدودة تقريبًا.
إذن ماذا يعني ذلك للمدارس؟ «التعليم هو صناعة تقديم المعلومات». أصبح النمط المتَّبَع في الصناعات الأخرى هو تقديم المعلومات بأسلوبٍ يتَّسِم بقدرٍ أكبر من سهولةِ الانتقال، وفي الزمن الحقيقي، وعلى نحوٍ تعاوُني، وكذلك على نحوٍ شخصيٍّ إلى حدٍّ أكبر. السؤال المطروح على المعلمين والمديرين هو: «كيف ستتأقلمون؟»
•••
سوف تختفي أيضًا الإشاراتُ الثانوية الأخرى التي ناقشناها في الفصل الثاني عند تجريد الزعم. يريد المُقْنِعون بطبيعة الحال أن يَظهروا بمظهر الخبراء، فسوف يتباهَوْن بالمؤهلات الأكاديمية (إذا كان لديهم تلك المؤهلات)، وسوف يزعمون الارتباطَ بالجامعات، لا سيما المرموقة منها، مهما كان هذا الارتباط ضعيفًا، أو سوف يزعمون أنهم قدَّموا استشاراتٍ لشركات على قائمةِ مجلةِ فورتشن لأعلى ٥٠٠ شركة. وكذلك سوف يتفاخرون بتأليف الكتب والمقالات، وسوف يتفاخرون بالفعاليات التي أَلْقَوْا فيها الخطابات. كلُّ هذه الأمور أساليبُ غيرُ مباشِرة للقول: «الناس الآخرون يعتقدون أنني ذكي.» إنها ليست مزاعم عن كفاءة التغيير، بل مزاعم عن المُقْنع. سيكون لديَّ المزيدُ لأنْ أقوله عن طريقة تقييم المُقْنِع في الفصل السادس، لكن إليكم التمهيدَ الآتي: صفاتُ المُقْنِع مؤشرٌ ضعيف جدًّا على المصداقية العلمية، وتجريدُ الزعم سوف يساعدك في تجاهُل تلك الصفات.
(٢) قلب الزعم
طالما كان علماء النفس مهتمين بطريقة اتخاذ الناس للقرارات. ربما تظن أن اتخاذ القرار عمليةٌ معرفية معقَّدة، لكنْ من المؤكَّد أيضًا أن أمورًا معينة متعلِّقة بتلك العملية يمكن أن تُؤخَذ كمسلَّماتٍ، مثل ضرورة عدم تأثيرِ طريقةِ وصْفِكَ للقرار اللازم اتخاذه على ما أقرِّر فِعْله، بشرطِ أن يكون كلا الوصفين واضحين. إلا أن هذا الافتراض المعقول على نحوٍ تامٍّ اتَّضَح أنه غير صحيح؛ فالأشخاص «يتأثرون» بوصف الخيار اللازم اتخاذه. ولهذا السبب عند الاختيارِ بين الإقدام على التغيير وعدم الإقدام عليه أقترحُ أن تقلب الزعم.
(٢-١) نتائج قلب الزعم
هذا مثال واحد على مجموعة كبيرة من الظواهر يُطلِق عليها علماء علم النفس «تأثيرات التأطير». في تأثيرات التأطير، الطريقةُ الموصوفة بها المشكلة أو السؤال تؤثِّر على الحل أو الجواب الذي نقدِّمه؛ ولهذا السبب أقترح عليك قلْبَ الزعم، فعندما تسمع عن إحدى النتائج (أيْ عن «ع» في معادلة تجريد الزعم)، فالأمر يستحق التفكير في قلب الزعم.
(٢-٢) اقلبْ ما أنتَ بصدد فعله
يوجد تأثير آخَر من تأثيرات التأطير واضح نوعًا ما، لكنه لا يخص النتيجة (أيْ «ع» في معادلة تجريد الزعم)، بل يخصُّ المطلوبَ منك فعله (أيْ «ص» في معادلة تجريد الزعم)؛ في بعض الأحيان تُقدَّم المشكلةُ كما لو كانت حتميةً بحيث يتوجَّب أن نقوم بأمرٍ ما، فعلى أية حال، توجد مشكلة! يلزم فِعْل أمرٍ ما! إلا أن عدم التصرف ليس دائمًا هو أسوأ الخيارات الممكنة. منذ سنوات، أخبَرَ أحدُ أطباء الأسنان والدي أن أسنانه في حالة مروعة، واستغرَقَ خمس دقائق في تخويف أبي بكل تفاصيل الموضوع، ثم استغرَقَ خمس دقائق أخرى في وصف مجموعة إجراءات معقَّدة يمكنه اتخاذها لتأجيل النتيجة الحتمية، مختتمًا كلامه بقول: «إذا فعلتَ كل هذا، أعتقد أن بإمكانك الاحتفاظ بأسنانك لعشر سنوات أخرى.» لذلك سأله أبي: «حسنًا، ماذا لو لم أفعل أيًّا من هذه الأمور، إلى متى ستظل أسناني موجودة؟» تفاجَأَ طبيب الأسنان وارتبَكَ من أنَّ ثمة شخصًا يمكن أن يفكِّر في أمرٍ كهذا، لكنَّ والدي أصَرَّ وفي النهاية انتزَعَ منه هذه الإجابة: «لا أعلم. ربما عشر سنوات!»
(٢-٣) اقلبْ كلَيْهما
تخيَّلْ أن أمةً قوامُها ستمائة فردٍ تعيش على جزيرةٍ تستعِدُّ لتفشِّي أحد الأمراض المُمِيتة. يوجد خياران من الأدوية يمكن استخدامهما لمواجهة هذا المرض، لكنَّ قيود الوقت والمال تعني أن سكان جزيرة يستطيعون اختيار أحد النوعين فقط. التقديرات العلمية لنوعَي الأدوية على النحو الآتي:
الدواء «أ»: سينقذ مائتَيْ شخصٍ.
الدواء «ب»: يوجد احتمالٌ يعادل الثلث يتمثَّل في إنقاذِ ستمائة شخص، ويوجد احتمال يعادل الثلثين يتمثَّل في عدم إنقاذ أي شخص.
أي البرنامجين ستفضِّل؟
قبل أن تجيب، يجب أن تعلم أن الأشخاص الآخرين الخاضعين للتجربة رأوا المشكلةَ نفسها، لكنْ مع وصفٍ مختلفٍ لنوعَي الأدوية:
الدواء «أ»: سيموت أربعمائة شخص.
الدواء «ب»: يوجد احتمال يعادل الثلث يتمثَّل في عدم موت أي شخصٍ، ويوجد احتمال يعادل الثلثين يتمثَّل في أن ستمائة شخص سوف يموتون.
لاحِظْ أن الدواء «أ» والدواء «ب» لهما العواقب نفسها في كلتا النسختين من المشكلة؛ «سيُنقَذ مائتا شخص» هي النتيجة نفسها في عبارة «سيموت أربعمائة شخص». إذن في هذه التجربة، كما في موقف الهمبرجر (اللحم الصافي مقابل الدهون)، نغيِّر وصفَ النتيجة (إنقاذ الأشخاص مقابل موتهم)، لكن على النقيض من موقف الهمبرجر، يتطلَّب هذا الموقف الاختيار (بدلًا من مجرد تقييم استحسان البرجر).
كانت النتائج مذهلةً. عند عرض الوصف الأول — الذي يؤكِّد على إنقاذ الأشخاص — ٧٢ في المائة اختاروا الدواء «أ». لكن عند عرض الوصف الثاني، الذي يشدِّد على الموت، فقط ٢٨ في المائة اختاروا الدواء «أ»، على الرغم من أن الخيارات في كل زوج متشابهة. لماذا؟ يفسِّر معظم علماء النفس هذا الأمر على أنه جزء من تحيُّزٍ عامٍّ جدًّا لطريقة تفكيرنا في الخطر والنتائج. إننا «نتجنَّب الخطر» عندما يتعلَّق الأمرُ بالمكاسب، و«نسعى للخطر» عندما يتعلَّق الأمرُ بالخسائر؛ وهذا يعني أنه عندما نُضطَرُّ إلى الاختيار بين نتيجتين جيدتين (عندما نكون بصددِ كسبِ أحد الأمور)، فإننا نريد شيئًا مؤكدًا؛ ولذلك، عند وصف الأدوية من زاويةِ إنقاذ الأرواح، فإننا نذهب للشيء المؤكَّد المتمثِّل في احتماليةٍ نسبتُها مائةٌ في المائة لإنقاذ مائتَيْ شخص. لكن عندما تكون الخسائرُ بارزةً، فإننا نصبح فجأةً مستعِدِّين للمخاطرة لتقليل الخسارة؛ لذلك، في الوصف الثاني للمشكلة، يميل الناس إلى اختيار الدواء ب، آمِلين في النتيجة المتمثِّلة في عدم موت أي شخص.
الآن، دعونا نعبِّر عن ذلك في صيغة تجريد الزعم؛ في القلب الأول، طلبتُ منك التفكيرَ فيما إذا كان يوجد طريقة أخرى لوصف النتيجة «ع»؛ أيِ اللحم الصافي مقابل الدهون في مسألة الهمبرجر. في القلب الثاني، طلبتُ منك مقارَنةَ نتيجةِ تبنِّي التغيير «س» بنتيجة عدم فعل شيء (عدم فعل «س»)، كما في تجربة والدي لدى طبيب الأسنان. في مسألة مرض الجزيرة، جمعنا بين طريقتَي القلب؛ حيث طُلِب من الجميع التفكير في الاختيار من حيث فعل «س»، لكن وُصِفت النتيجة «ع» إما إيجابيًّا وإما سلبيًّا.
دعونا نعبِّر عن ذلك في سياق التعليم: افترِضْ أنك مدير مدرسة، وأن المكتب الرئيسي في المنطقة التعليمية يراقب عن كثب نسبةَ الأطفال الذين يقرءون في مستوى الصف الدراسي، وفقًا لتحديدِ اختبارٍ فرضَتْه الولاية، في ظل برنامج القراءة الحالي، ٣٤ في المائة من الأطفال في المدرسة يقرءون في مستوى الصف الدراسي، و٦٦ في المائة منهم لا يقرءون في مستوى الصف الدراسي. إذا طبَّقْتَ برنامج القراءة الجديد فإنه توجد احتمالية لنجاحه جيدًا، وسوف تتحسَّن الأمور. لكنْ ثمة احتمال أن يتدهور الأمر بالمثل؛ فالمعلمون غير معتادين على البرنامج الجديد؛ ولذلك لن يطبِّقوه بكفاءة، أو من المحتمل فحسب ألَّا يكون البرنامج على قدرِ جودةِ ما تفعله حاليًّا. يمكننا تأطير هذا الخيار من منظور الخسائر:
الخيار «أ» (الاستمرار في مزاولة ما تفعله): ٦٦ في المائة من الأطفال يقرءون تحت مستوى الفصل الدراسي.
الخيار «ب» (تبنِّي البرنامج الجديد): توجد احتماليةٌ بنسبة الثلثين أن يقرأ ٩٠ في المائة من الأطفال تحت مستوى الفصل الدراسي، واحتماليةٌ نسبتها الثلث أن يقرأ ١٠ في المائة من الأطفال تحت مستوى الفصل الدراسي.
أو يمكننا تأطير الخيار من منظور المكاسب:
الخيار «أ» (الاستمرار في مزاوَلة ما تفعله): ٣٤ في المائة من الأطفال يقرءون في مستوى الفصل الدراسي أو أعلى منه.
الخيار «ب» (تبنِّي البرنامج الجديد): توجد احتماليةٌ بنسبة الثلثَيْن أن يقرأ ١٠ في المائة من الأطفال في مستوى الفصل الدراسي أو أعلى، وتوجد احتماليةٌ بنسبة الثلث أن يقرأ ٩٠ في المائة من الأطفال في مستوى الفصل الدراسي أو أعلى.
بطبيعة الحال، لقد لفَّقتُ الأرقامَ في هذين الاختيارين، لكنني متأكد من أنك فهمتَ الفكرة. عندما نفكِّر في تطبيق أحد التغييرات، فإننا ندرك أنه ينطوي على احتماليةٍ لمساعدتنا، وفي الوقت نفسه توجد احتمالية أخرى لعدم فعاليته أو ربما تسبُّبه في تدهور الأمور. يمكننا تأطير هذه النتائج الممكنة إما في إطار المكاسب وإما في إطار الخسائر. عندما تُوصَف الأمور كخسائر، فإننا نصبح أكثر ميلًا للمخاطرة؛ لذلك عندما يؤكد المُقْنِع مرارًا وتكرارًا على أن الأمور سيئةٌ حقًّا، فما الذي يحاول فعله؟ إنه يحاول القول إن الوضع الحالي يعني خسارة مؤكدة! المُقْنِع يحثُّك على المخاطرة. عندما وصفت مشكلة الجزيرة من ناحية الخسائر (الوفيات)، أصبح الأشخاص أكثر استعدادًا لقبول الحل الخطير في محاولةٍ لتقليل الخسائر. أما إذا أكَّدَ المُقْنِع على «المكاسب»، فسيزيد احتمال تمسُّكِك بما تفعله في الوقت الراهن — حيث المكاسب المؤكدة — بدلًا من المخاطرة في محاوَلةٍ لزيادة المكاسب.
تحديد هل المخاطرة تستحق أم لا هو مسألة متوقِّفة على احتمالات المكاسب والخسائر، وإلى أيِّ مدًى تبدو المكاسبُ جيدةً، وإلى أيِّ مدًى تبدو الخسائرُ سيئةً. ما أؤكِّد عليه هنا هو ضرورة النظر إلى هذه النتائج من كل الزوايا الممكنة؛ لأن استعدادك لتجربةِ أحدِ الأمور الخطيرة يتأثَّر بما إذا كنتَ تعتقد أنك تحاول الحصول على شيء جيد، أم تحاول تجنُّبَ شيءٍ سيئ.
- (١)
التفكير فيما إذا كان يمكن وصف النتيجة الموعودة بطريقة أخرى. إذا كانت موصوفةً على نحوٍ إيجابي، فهل يوجد جانب سلبي لها؟ (على سبيل المثال: «معدل النجاح» يمكن أيضًا أن يُوصَف على أنه «معدل الفشل».) قد يبدو الوصف الجديد جيدًا بالنسبة إليك، لكنه قد لا يكون كذلك. جرِّبْ ذلك.
- (٢)
التفكير ليس فقط في نتائج القيام بالتغيير، بل أيضًا في نتائج عدم القيام به.
- (٣)
الجمع بين طريقتَي القلب. عند دراسة نتيجة القيام بالتغيير (مقابل عدم فعل أي شيء)، احرصْ أيضًا على عقد المقارنة مع قلب النتيجة؛ أيْ قارِنِ التغييرَ بعدم فعل أي شيءٍ عندما تعتقد أن النتيجة جيدة، وقارِنِ التغييرَ بعدم فعل أي شيء عندما تعتقد أن النتيجة سيئة.
(٣) مزاعم لا تستحق وقتك
أكَّدت على أن هذه الخطوة الأولى — تجريد الزعم وقلب الزعم — تهدف إلى البُعْد عن التقييم. إن كل ما ستفعله ببساطةٍ هو فهم الزعم بوضوح، فنحن لن نتطرَّق على نحوٍ عميق في عملية تقييم الأدلة حتى نصل إلى الفصل السابع، لكن بعض المزاعم، من الناحية الظاهرية، لا تستحق أن تلتفت لها؛ فبعضها مُمِلٌّ، وبعضها غامضٌ على نحوٍ غير مقبول، وبعضها من غير المحتمل أن يؤثِّر على الطلبة. لِنُلْقِ نظرةً على كلٍّ منها.
(٣-١) الأمور القديمة
(٣-٢) الأمور الغامضة
بعض المزاعم بمجرد تجريدها تبدو — حسنًا — رتيبة جدًّا. أما البعض الآخر، فعلى الرغم من أنها ليست رتيبة، فإنها من الصعب جدًّا فحصها لأنها لا تستسلم لقصارى جهودك الساعية إلى وضع المزاعم في صيغة «إذا فعلت «س»، فإنه توجد احتمالية نسبتها «ص» لحدوث «ع»»؛ وهذا يعني أنك لا تستطيع تحديد الأمر «س» المفترض أن تفعله، ولا الأمر «ع» المفترض حدوثُه بعد أن تفعل الأمر «س». على الأرجح ستجد تلك المشكلة خطيرةً إلى حد بعيد. إنك تشرع في تطبيق هذا التغيير التعليمي لأنك تعتقد أنه سيحقِّق شيئًا مجديًا. إذا لم تكن واضحةً في ذهنك النتيجةُ «ع» المفترض حدوثها، فإنك لا تستطيع معرفة هل التغيير فعَّال أم لا. وإذا لم يكن واضحًا في ذهنك الأمر «س» المفترض فعله، فهذا يعني أنك غير متأكد من أنك تفعل الأمر الصائب اللازم لحدوث النتيجة «ع».
الزعم المكتشَف من قِبَل العلوم العصبية | تجريد الزعم |
---|---|
يُفرَز الدوبامين — وهو ناقل عصبي مرتبط بكلٍّ من التعلُّم والمتعة — أيضًا أثناء ممارسة ألعاب الفيديو. قد تكون ألعاب الفيديو وسيلةً مثالية لتقديم المحتوى التعليمي من خلالها. | يحب الأطفالُ الألعابَ؛ لذلك إذا استطعنا جعْلَ التعلُّم أكثر شبهًا بالألعاب، فسوف يحب الأطفال التعلُّمَ. |
على الرغم من أن الدماغ يَزِنُ فقط ثلاثةَ أرطال، فإنه يستحوذ على حوالي ٢٠ في المائة من جلوكوز الجسم؛ أيِ السكر الموجود في مجرى الدم الذي يمدُّ بالطاقة. عندما يُستنزَف الجلوكوز الموجود في الدماغ، يقلُّ إطلاق الخلايا العصبية، لا سيما في الحصين الذي يمثِّل بنيةً ضروريةً لتكوين الذكريات الجديدة. | الطفل الجائع لن يتعلَّم جيدًا. |
ترتبط القشرة الأمامية الجبهية في الدماغ بأعلى مستويات اتخاذ القرار والتفكير العقلاني. إنها أيضًا آخِرُ جزءٍ في الدماغ مُغطًّى بالمايلين؛ أيْ تُغطَّى بالمادة العازلة الضرورية للقيام بالوظائف العصبية على نحو فعال. قد لا تُغطَّى القشرة الأمامية الجبهية بالكامل بمادة الميالين حتى بلوغ سن العشرين. | في بعض الأحيان يرتكب المراهقون أفعالًا متهورة. |
توجد لدونة دماغية هائلة خلال السنوات الأولى من عُمْر الشخص. لدونة الدماغ هي عمليةٌ بموجبها تتغيَّر البنيةُ المادية للدماغ اعتمادًا على الخبرات، فيحدث تكوينٌ للشبكات الجديدة و«إزالة» للشبكات غير المستخدمة؛ أيْ تصبح تلك الشبكاتُ مفقودةً. | الأطفال الصغار يتعلَّمون الكثير. |
ليسَتِ التغييراتُ التكنولوجية هي وحدها غير المحددة على نحو كافٍ، فكثير من التغييرات التي تحثُّ على التعلم من خلال المشاريع أو التعلم الجماعي تتَّسم بهذه الخاصية. كما أن وضع سبورة بيضاء تفاعلية في الفصل ليس كافيًا لضمان تعلم الطلبة، وتكليف الطلبة بالعمل الجماعي ليس كافيًا لضمان تعلم الطلبة طريقةَ العمل في مجموعاتٍ على نحوٍ جيد. تتطلَّب هذه الأساليب التربوية المزيدَ من الاستقلالية من جانب الطلبة؛ ولذلك يعتمدون على امتلاك المعلم لعلاقات قوية مع الطلبة، وفهم جيد للعلاقات الحالية بين الطلبة. يستخدم المعلم هذه المعرفة في مئات القرارات اللحظية التي ترشد المجموعات في العمل دون إدارتهم إدارةً تفصيليةً؛ لذلك فإن التغييرات التي تقترح الكثيرَ من العمل الجماعي في الفصل تكون غالبًا غير محددة على نحو كافٍ. هذه الطرق رائعة عندما تُطبَّق على نحوٍ جيد — في الحقيقة، أعتقد أنها الطريقة المثالية على الأرجح لبعض أنواع التعلُّم — لكنْ من الصعب جدًّا تنفيذها على نحوٍ جيد، ونادرًا ما أرى المُقْنِع يعترف بهذه الصعوبة.
يوجد شدٌّ وجذبٌ حتمي في هذا الصدد. من ناحيةٍ، يرتاب المعلمون ومديرو المدارس على نحوٍ مفهوم من التغييرات التي تمسُّ إدارةَ الفصل بصورةٍ تفصيلية. الفصولُ أماكنُ مفعمةٌ بالنشاط، ويحتاج المعلمون إلى المرونة لتغيير ما يفعلونه اعتمادًا على تقييماتهم الفورية لفهم الطلبة وحماسهم. ومن ناحيةٍ أخرى، كلما زادَتِ المرونة قلَّتْ قدرةُ المرء على التصريح بثقةٍ عمَّا يشكِّل التغييرَ بالضبط. يوجد حلٌّ وسط لهذه المشكلة؛ إذ يمكن أن يتضمَّن التغييرُ تفاصيلَ كثيرة متعلِّقة بطريقةِ تنفيذه دون وصْفِ ما يجب فعله لحظةً بلحظة.
- (١)
يجب أن تجعل الطالب يُملِي عليك شيئًا (قصةً، أو وصفًا، أو أيَّ شيء يرغب الطفل في روايته).
- (٢)
اكتبْ ما يقوله الطالب، وتوقَّفْ بصفةٍ دورية واقرأْ على الطفل بصوتٍ عالٍ ما كتبتَه حتى الآن.
- (٣)
عندما ينتهي الطفل، اقرأْ له القطعةَ كاملةً بصوتٍ عالٍ.
- (٤)
احفظِ القطعةَ كي يستطيع الطفلُ إعادةَ قراءتها بنفسه.
الطريقةُ واضحةٌ على نحوٍ كافٍ، إلا أن النتيجة أقلُّ وضوحًا. هذا الأسلوب من المفترض أن يجعل القراءَ المتردِّدين أكثر اهتمامًا بالقراءة. أمرٌ طيب، لكن كيف ستعلم أن هذا يحدث؟
في مرحلةٍ ما ستحتاج إلى تقييم التغيير؛ هل هو فعَّال أم لا، بحيث تتمكَّن من الاستمرار فيه أو التخلِّي عنه وتجربة أمرٍ آخَر. لتعرف ما إذا كان فعَّالًا، ستحتاج إلى ثلاث معلومات: (١) كيف تتعرَّف على التغيير الإيجابي عند حدوثه. (٢) إلى أيِّ مدًى يُفترَض أن يكون حجمُ التغيير. (٣) متى نتوقَّع التغيير.
معرفة النتيجة المفترض أن يحقِّقها التغييرُ ليسَتْ تمامًا مثل القدرة على تقييم هل التغيير يتحقَّق فعليًّا أم لا. عندما تناولنا العلمَ الجيد (في الفصل الثالث)، أكَّدْنا على الحاجة إلى أن تكون الأمورُ قابلةً للقياس. المبدأُ نفسه يَسْرِي على هذه الحالة؛ فإذا وعد المُقْنِع أن التغيير سيجعل الأطفال أكثر حبًّا للقراءة، فكيف ستعلم أنهم سيصبحون كذلك؟ يمكنني أن أسأل الطفل فحسب: «هل تحب القراءة الآن أكثرَ ممَّا كنتَ تحبها منذ ستة أسابيع؟» لكنْ من ناحيةٍ أخرى قد تكون ذاكرةُ الأطفال المتعلِّقة بهذا النوع من الأمور غير دقيقة. أما إذا قال الطفل: «نعم، أحب القراءة على نحوٍ أكبر.» لكنْ بَدَا بعد ذلك أنه على القدر نفسه من السوء أثناء وقت القراءة في المدرسة، فهل يجب أن أقتنع بما قاله الطفل، أم بالطريقة التي يتصرَّف بها؟ إذا كنتُ سأقيِّم ما إذا كان التغيير فعَّالًا، فإنني أحتاج إلى شيءٍ ملموس، وإلى شيءٍ يتوافق مع ما كنتُ آمل أن يحقِّقه التغيير؛ على سبيل المثال: ربما كنتُ مدفوعًا للبحث عن برنامج للقراءة لأن طفلي يشكو من القراءة في المدرسة، ولأنه نادرًا ما يقرأ الكتب في المنزل. إذن أستطيع رؤيةَ إنْ كان التغييرُ أسفَرَ عن تقليل الشكوى وزيادة القراءة أم لا.
أحتاج أيضًا أن يكون لديَّ تصوُّر عن مقومات «النجاح». افترِضْ أنَّ ابني في الأسبوع السابق لبدء برنامج القراءة الجديد كان لا يُطالِع أيَّ كتاب على الإطلاق. بعد ثلاثة أسابيع من البرنامج، إنْ أصبح يُطالِع الكتبَ مرةً كلَّ أسبوع، فهل سأكون قانعًا؟ أم هل يبدو هذا التغيير صغيرًا جدًّا؟ علاوة على ذلك، أحتاج إلى معرفة متى أتوقَّع حدوثَ تلك النتيجة الجيدة؛ على سبيل المثال: إذا أخبرتُكَ أنني كنتُ أستخدم برنامجَ قراءةٍ لمدة عامين دون وجود أية علامة على فائدته، لكنني ما زلتُ آمل أن يحقِّق بعضَ الفائدة في نهاية المطاف، فستعتقد أن هذا الأمر غريب جدًّا. حسنًا، إذن عامان دون نتائج مدةٌ طويلة جدًّا، فما المدة المعقولة بدرجة أكبر؟ أسبوعان؟ أم شهران؟
من المهم تحديد علامات النجاح «قبل» أن تبدأ في التغيير. بمجرد تطبيق التغيير، من المحتمل إلى حدٍّ بعيد أن يتأثَّر حكمُك على فعاليته بفعل التنافر المعرفي. كما تذكر على الأرجح فإن التنافر المعرفي يشير إلى الانزعاج الذي ينتج عن تبني معتقدين متناقضين في الوقت نفسه. يحفِّزنا التنافر إلى تغيير أحد هذين المعتقدين. (هل تذكر مهمةَ تعليقِ المشاجب المملة التي قيَّمَها الخاضعون للتجربة بأنها مسلية في نهاية المطاف؟)
قد يجعل التنافُر المعرفي من الصعب تقييم مدى فعالية أحد التغييرات التعليمية. بمجرد تطبيق التغيير لفترة من الوقت، ستكون قد استثمرتَ فيه وقتَك، أو وقتَ طلابك، أو وقتَ طفلك، وربما تكون استثمرتَ فيه ماديًّا؛ لذلك، إذا كان التغيير غير فعَّال على نحوٍ جيد، فستجول في خاطرك فكرتان متعارضتان: (١) لقد استثمرتُ الكثير في هذا البرنامج. و(٢) هذا البرنامج لا يحقِّق فوائد. من الصعب إعادة كتابة التاريخ والتظاهر بأنك «لم» تستثمر في هذا البرنامج؛ لذلك من المحتمل أن تحاول البحث عن أسبابٍ لتقنع نفسك أن هذا البرنامج فعَّال «حقًّا»، حتى لو كنتَ تتعلَّق بأسبابٍ واهية.
أفضلُ طريقةٍ لحماية نفسك من خداع النفس الذي لا جدوى من ورائه؛ هي كتابة توقعاتك قبل بدء البرنامج: ما مدى كبر التغيير المتوقَّع؟ ومتى تتوقَّع أن تراه؟ وكيف ستعرف أن التغيير يحدث؟ كتابة هذه التوقُّعات تجعل من الصعب عليك إقناع نفسك بفعاليةِ أحدِ الأمور في حين أنه ليس كذلك؛ لأنك حدَّدْتَ لنفسك بالفعل معنى أن يكون التغيير «فعَّالًا».
(٣-٣) كل الأشياء لكل الناس
في مسرحية موسيقية عُرِضت على مسرح برودواي (وتحوَّلَتْ إلى فيلم هوليوودي) بعنوان «رجل الموسيقى»، يأتي نصَّابٌ يُدعَى هارولد هيل إلى بلدةٍ صغيرة في آيوا، ويقنع أهل البلدة أنه ينظم فرقة موسيقية استعراضية للأولاد، وعندما يُلِحُّون عليه ليصف خطتَه لتعليم الأولاد العزْفَ، يصف هيل «نظامه الفكري»، فيقول: إذا فكَّرَ الولدُ في نغمةٍ وهَمْهَمَ بالنغمة، فعندما نقدِّم له الآلةَ الموسيقية (حتى لو للمرة الأولى)، سيكون قادرًا على عزف النغمة!
بعض مزاعم التغيير على القدر نفسه من المبالغة، لكنها ليست زائفةً بهذا القدر من الشفافية. من الناحية المعرفية، إذا قدَّمَ المُقْنِع أيًّا من هذين الوعدين، فمن غير المحتمل إلى حدٍّ بعيدٍ تحقيقهما: (١) أن التغيير سيفيد في كل المواد الدراسية. أو (٢) أن التغيير سيساعد كلَّ الأطفال الذين يعانون من صعوباتٍ. دعونا نتأمَّل كلَّ وعدٍ منهما واحدًا تلو الآخر:
افترِضْ أن الطلبة بدلًا من تعلُّم المواد الأكاديمية أجرَوْا مجموعةَ تمارين تستخدم العمليات الذهنية الأساسية المسئولة عن «كل» المعرفة. أنت لا تعلِّمُ الطالبَ التاريخَ فحسب، بل تجعل الذاكرةَ تعمل على نحوٍ أفضل، أو تحسِّن تفكيره النقدي. كثير من حزم برمجيات «ألعاب العقل» ومراكز التدريب المعرفي يقدِّم مثل هذه المزاعم.
على نحوٍ لا يثير الدهشة، فإن مثل هذه الفكرة التي تبدو منطقيةً كانت رائجةً لبعض الوقت، في القرن التاسع عشر (وقبله)؛ كانت هذه الفكرة هي السبب لدراسة الطلبة اللغة اللاتينية. اللغة اللاتينية لغة منطقية تتطلَّب تفكيرًا منطقيًّا، وهذه العادة المنطقية للعقل سوف تنتقل إلى العمليات الذهنية الأخرى. علاوةً على ذلك، تعلُّم اللغة اللاتينية أمرٌ صعب. سوف يتعلَّم الأطفالُ الانضباطَ الذهني، وهذا سوف ينتقل إلى المساعي الفكرية الأخرى. وكما قال كُثُر من المضحكين فإنه: «لا يهمُّ حقًّا ما يدرسه الأطفال ما داموا لا يحبونه.»
ليست المشكلة في عدم استطاعتك تدريبَ العمليات المعرفية مثل الذاكرة العاملة، بل المشكلة أنك عندما تمارس مهارةً معرفيةً — مثل التفكير النقدي أو حل المشكلات — فإن المهارةَ المكتسَبة حديثًا تميل إلى التعلُّق بالمجال الذي مارَسْتَها فيه؛ وهذا يعني أن تعلُّمَ طريقةِ التفكير النقدي في العلوم لا يمنحك الكثيرَ من التميُّز في التفكير النقدي في الرياضيات.
أخوضُ رحلةً على الطريق ٦٦ من شيكاجو إلى لوس أنجلوس، والمسافةُ الكلية لهذه الرحلة هي ٢٤٥١ ميلًا، وأريد توثيقَ هذه الرحلة. لديَّ ذاكرةٌ كافية في الكاميرا الرقمية لالتقاط ١٥٠ صورة. إذا أردتُ أن تكون المسافةُ متساويةً بين الصور، فكَمْ ميلًا يلزم بين التقاط صورةٍ ما والتي تليها؟
على الرغم من أن هذه المشكلة تبدو مباشرة، فإن كثيرًا من الأشخاص يفهمونها على نحو خاطئ، ويرتكبون عادةً الخطأَ نفسه. إنهم يقسمون ٢٤٥١ على ١٥٠، ويأتون بعدد الأميال وهو ١٦٫٣٤ ميلًا. لكن إذا التقطتُ أولَ صورة في شيكاجو (الميل صفر)، فسوف ألتقط الصورة رقم ١٥٠ قبل نهاية الطريق ٦٦ بمسافة ١٦٫٣٤ ميلًا عند الرصيف البحري لسانتا مونيكا. فكِّرْ في المسألة بهذه الطريقة، افترض أنني قلتُ إنني أريد التقاط صورتين فحسب. الآن ما عدد الأميال اللازم أن يفصل بين الصور الملتقطة؟ إذا قسمت ٢٤٥١ على ٢ فسوف أحصل على ١٢٢٥٫٥، فألتقط الصورة الأولى في شيكاجو، والصورة الثانية فقط في منتصف الرحلة؛ لذلك، فالمعادلة التي تحلُّ هذه المسألةَ ليست «عدد الأميال» ÷ «عدد الصور»، بل هي «عدد الأميال» ÷ «عدد الصور − ١».
يمكن أن ترى سبب فهم الكثير من الناس لهذه المسألة على نحوٍ خاطئ. الشخصُ المحتمل إلى حدٍّ بعيد أن يفهم المسألة «على نحوٍ صحيحٍ» هو الشخص الذي يبني الأسوارَ، أو الذي يعرف الحلقات التكرارية في برمجة الكمبيوتر. شراء العدد الصحيح لدعامات السور يشبه مسألة التقاط الصور، ويعرف مبرمِجُو الكمبيوتر هذا ﺑ «الخطأ بمقدار واحد»؛ لأن كثيرًا من هياكل البيانات لديها فهارس تبدأ من الصفر بدلًا من الواحد. حقيقةُ احتمال فهم هؤلاء الأشخاص للمشكلة على نحوٍ صحيحٍ توضِّح أن حل المشكلة أحيانًا لا يكون مسألةَ تفكيرٍ نقدي، بل مسألة إدراك: «آه، إنها «ذلك» النوع من المشكلات.» عملية الإدراك تلك (وأهميتها) مألوفة لدى مدرِّسي الرياضيات. قد يدرس الطلبةُ صيغةً لحلِّ نوعٍ معين من المسائل ويستطيعون تطبيقَ الصيغة بسهولة، لكنْ عندما يواجِهون لاحقًا مسألةً كلاميةً، فسيجدون صعوبةً في تحديدِ أيِّ صيغةٍ من الصِّيَغ الكثيرة التي تعلَّمُوها هي المناسبة. هذه ليست مسألةَ تفكيرٍ نقدي؛ إن المسألة تتمثَّل في حلِّ عددٍ كافٍ من هذه المسائل (وغيرها) كي تصبح البنيةُ العميقة للمسألة واضحةً بالنسبة إليك، تمامًا مثلما يدرك بنَّاءُ الأسوار أن معرفته تنطبق على مسألة الطريق ٦٦.
في مراتٍ أخرى، قد تعلم بالضبط استراتيجيةَ التفكير النقدي المفترض استخدامها، لكنك تفتقر إلى المعرفة المطلوبة لتطبيقها؛ على سبيل المثال: يعرف الطلبة الذين تعرَّضوا للمنهج العلمي أن التجارب يوجد بها عادةً مجموعة تجريبية ومجموعة ضابطة. من المفترض أن تختلف هاتان المجموعتان في بعض الأمور المهمة (على سبيل المثال: تحصل المجموعة التجريبية على منهج جديد في الرياضيات، بينما تحصل المجموعة الضابطة على المنهج القديم)، وخلاف ذلك من المفترض أن تكون المجموعتان متشابهتين. لكن ضمان تشابه المجموعتين يتطلَّب في كثيرٍ من الأحيان معرفةَ شيءٍ ما عن الأمر محل التجربة؛ على سبيل المثال: إذا كنتُ أختبر كفاءةَ أحد مناهج الرياضيات، أَفَلَا يجب أن أتأكَّد من أن الطلبة في المجموعة التجريبية والمجموعة الضابطة لديهم تقريبًا المعرفة الحسابية نفسها قبل بدء التجربة؟ نعم، تبدو هذه فكرة جيدة. هل توجد أمور أخري ينبغي فحصها لأنها قد تؤثِّر على تعلُّم الأطفال للرياضيات؟ إليك قائمةً ببعض هذه العوامل. أيُّ هذه العوامل يجب قياسها قبل بدء التجربة لضمان تساوي كلتا المجموعتين؟
(٣-٤) العوامل التي قد يكون (أو قد لا يكون) من المهم أن تكون متساويةً عند مقارَنة مناهج الرياضيات
النوع | التوجُّه نحو الرياضيات |
معدل الذكاء | التوجه نحو المدرسة |
أسلوب التعلم | حب المدرس |
سعة الذاكرة العاملة | دفء العلاقة مع الأم ومع الأب |
اليد المسيطرة | دَخْل الأسرة |
القدرة المكانية | أعلى مؤهل دراسي للأم |
إليكم المقصود. إذا كنا نخطط لاختبار هل المنهج الجديد أفضل من المنهج القديم أم لا، فنحن نحتاج إلى الحرص على تشابُه الأطفال في كلتا المجموعتين. إلا أن الأطفال لديهم عددٌ لا نهائي من الصفات، ونستطيع بسهولة الإضافة إلى قائمة العوامل المذكورة. من غير العملي اختبارُ الأطفال في كل صفة من هذه الصفات، ما نحتاج حقًّا إلى فعله هو اختبار الأطفال في الصفات المهمة لتعلُّم الرياضيات. حسنًا، أي الصفات مهمة لتعلُّم الرياضيات؟ حسنًا، معرفةُ إجابةِ هذا السؤال مسألةٌ معرفة مرجعية. إذن لدينا إحدى مهارات التفكير النقدي (تقييم هل الدراسة أُجرِيت على نحوٍ جيدٍ) نعلم ماذا نفعله حيالها (الحرص على وجود مجموعة ضابطة)، لكننا لا نستطيع فعل ذلك في غياب المعرفة المرجعية؛ ومن ثَمَّ عندما أرى تغييرًا يَعِدُ بتحسين إحدى المهارات (مثل: «التفكير النقدي»)، ولا يذكر الحاجة إلى المعرفة المتعلِّقة بذلك، فإنني أتشكَّك.
يوجد نوعٌ آخَر من المزاعم الشاملة يجب أن يجعلك تتوخَّى الحذر. هذا النوع لا يشمل القدرات المعرفية لطفل واحد، بل يهتم بقدرة واحدة في أطفال كثيرين. إنني أشكُّ في أية تغييراتٍ تَعِدُ بعلاجِ مشكلةٍ ما في «أي» طفل. لماذا؟ لأن كل نتيجة من النتائج التي نهتم لأجلها في التعليم المدرسي معقدةٌ. كثير من العلميات المعرفية وغير المعرفية يتضافر بعضها مع بعض. لنعبِّر عن الأمر بطريقة أخرى، إذا كان الطفل يعاني من مشكلات في القراءة، فهناك أسباب كثيرة محتملة لذلك؛ ومن ثَمَّ فإن التغيير في صعوبات القراءة الناتجة عن مشكلةٍ قد يساعد في معالجة الأصوات، لكنه لن يكون مُجْدِيًا مع الطفل الذي يعاني من مشكلةٍ في المعالجة البصرية؛ لذلك، عندما يزعم المُقْنِع أن التغيير سوف يساعد في حل «أي» صعوبة من صعوبات القراءة، فإن مؤشر جهاز كشف الهراء لديَّ يهتزُّ مقتربًا من منطقة الخطر.
•••
الإجراء المقترح | سبب فِعْل ذلك |
---|---|
جرِّدِ الزعمَ باستخدام هذه الصيغة «إذا فعلت «س»، فإنه توجد احتمالية نسبتها «ص» لحدوث «ع»». | للتخلُّص من المناشدات العاطفية، والإشارات الثانوية، والتشبيهات المقترحة التي قد تؤثِّر على اعتقادك. من المفترض أن يكون المنهج العلمي قائمًا على الأدلة وغير متأثِّر بهذه العوامل. |
تأمَّلْ هل للنتيجة «ع» مقلوب. وفي تلك الحالة، أَعِدْ صياغةَ نسخةِ الزعم المجرد باستخدام هذا المقلوب. | لتكون متأكِّدًا من أنك قدَّرْتَ كلَّ عواقب الإجراء، على سبيل المثال: يتضمَّن «معدل نجاح بنسبة ٨٥ في المائة» وجودَ «معدلِ فشلٍ بنسبة ١٥ في المائة». إننا معرَّضون لتأثيرات التأطير؛ حيث نعتقد أن أحد الأمور أفضل إذا برزت السمات الإيجابية بدلًا من سماته السلبية. |
تأمَّلِ النتيجةَ إذا فشلتَ في القيام بالإجراء «س». | لضمان أن النتيجة الموعودة إذا فعلتَ «س» تبدو أفضلَ بكثيرٍ من حالة عدم فِعْلِكَ الأمرَ «س». عند وجود مشكلة، يكون الاندفاعُ نحو أي إجراءٍ مغريًا؛ لأن هذا يشعرنا أننا نقوم بأحد الأمور بدل الوقوف دون تحريكِ ساكنٍ. |
تأمَّلِ النتيجةَ في حالة فشلكَ في اتخاذ الإجراء، مستخدِمًا هذه المرة مقلوب «ع» كنتيجةٍ. | للتأكُّد من أن القيام بأحد الأمور مقابل عدم فعل أي شيء يبدو مستحسنًا عند التفكير في النتائج الإيجابية، بالقدر نفسه عند التفكير في النتائج السلبية. في العموم يقلُّ استعدادُ الناس للمخاطرة من أجل زيادة المكاسب؛ فهُمْ يفضِّلون بدلًا من ذلك وجودَ شيءٍ مضمون، لكنهم لا يرغبون في شيءٍ مؤكَّدٍ في حالة الخسائر، بل سيُقْدِمون على المخاطرة لتقليل الخسائر. |
قيِّمْ هل الوعد المجرد أمرٌ تعرفه بالفعل. | للتأكُّد من أن ما يباع لكَ شيءٌ لا يمكنك فعله بنفسك. إن الكلام التقني — لا سيما كلام العلوم العصبية — يمكن أن يجعل الأفكارَ القديمة تبدو حديثةً للغاية. |
قيِّمْ هل التغيير واضحٌ؛ «واضح» تعني الشعورَ بالثقة من معرفةِ كيف سيؤثِّر التغييرُ على عقول الطَّلَبَة. | لضمان تنفيذ التغيير على النحو المقصود. التغييرات التي تبدو جيدة من الممكن أن تنحرف عن مسارها السليم إذا لم تُطبَّق في الفصل على النحو المقصود، أو إذا لم يفعل الطلبةُ ما يأملون في فعله. |
قيِّمْ هل النتيجة «ع» واضحة؛ «واضحة» تعني وجودَ معيارٍ موضوعي على نحوٍ معقولٍ لقياس النتيجةِ التي تتوقَّعها، ومدى كِبَر التغيير في النتيجة، وموعد حدوثه. | لضمان أنك ستكون قادرًا على معرفة هل النتيجة الموعودة تتحقَّق أم لا. |
قارِنِ النتيجةَ بهذه القائمة التي تضمُّ وعودًا مزعومةً على نحوٍ متكرِّرٍ لكنها غير محتملة النجاح. | لضمان عدم تقديم مزاعم غير مجدية من الناحية المعرفية؛ على سبيل المثال: تحسُّن في كل العمليات المعرفية. تحسُّن في عملية معرفية محددة (مثل التفكير النقدي) بصرف النظر عن المادة. تحسُّن لكل الطلبة الذين يجدون صعوبةً في مهارةٍ معقَّدةٍ مثل القراءة. |