الخطوة الثانية: تتبُّع الزعم
لقد كنتُ جريئًا في السعي وراء المعرفة، ولم أخشَ مطلقًا اتباع الحقيقة والمنطق إلى أي نتائج قد يقودان إليها، وواجهتُ كلَّ مرجعية خبيرة تعترض طريقهما.
لا تثق بكلام أحد.
***
هذه النقطة تبدو واضحة: أين كان عقل المسئولين في جامعة ألاباما في هنتسفيل؟ إن ماضي دورمان المخزي من شأنه أن يثير الكثيرَ من الإشارات التحذيرية، ولم يكن مطلوبًا تحرياتٌ معقَّدةٌ لاكتشاف ذلك الماضي المشين.
لكن على الرغم من ذلك ربما يوجد جانب من الصواب في هذه الحجة. ليس من غير المنطقي أن تقول: «أنا أحكمُ على كل حالة وفقًا لمواصفاتها. من الحماقة أن تبني قرارًا على «تخمينٍ» متعلِّق بشخصيةِ أحدِ الأشخاص، أنا أهتمُّ «بالأدلة» المتعلِّقة بالبرنامج. بَدَا برنامج التعليم الفائق «سوبر تيتشينج» واعدًا، وتمتَّعَتِ الجامعة بحمايةٍ جيدة بموجب العقد الموقَّع.»
في الحقيقة، من الممكن أن تقول إن هذا التوجُّهَ متفقٌ مع كثيرٍ من الأمور التي اقترحتُها في هذا الكتاب. دعونا لا ننسى نقاشَنا في الفصل الثاني الذي أشرتُ فيه إلى أن مفكري العصور الوسطى بجَّلُوا المرجعيةَ كثيرًا، حتى إن جامعة أكسفورد قصرَتْ قراءاتِ الطلبة على أرسطو ومناصِرِيه فقط. كما ذكرتُ باستحسانٍ التغييرَ في طريقةِ وزنِ الناس للأدلة؛ حيث رفضوا في النهاية المعتقَدَ المبني فقط على المرجعية وتبنَّوا المنهجَ العلمي. هل هذا مقبول؟ لماذا من الغباء «تصديق» أرسطو فقط لأنه كان مُحِقًّا في الماضي، لكن من الذكاء «عدم تصديق» دورمان فقط لأنه كان مخطئًا في الماضي؟ في كل حالة، هل أفترض ببساطةٍ أن الأشخاص الذين كانوا مُحِقِّين في الماضي سوف يستمرون في ملازَمةِ الصواب، وأن الأشخاص الذين كانوا مخطئين سوف يستمرون في ملازمة الخطأ؟ هل يجب أن تؤثِّر خبرةُ المُقنِع — سواء أكانت إيجابية أم سلبية — على تصديقك حدوث التغيير من عدمه؟
(١) عندما تفشل المرجعية
المقتطف ٦-١: قائمة واضحة بما يحدث عندما نصدِّق أحدَ الأشخاص اعتمادًا على مرجعيته
الفرضية «أ»: سايمون، العالِم، لديه أسباب علمية وجيهة لتصديق «س».
الفرضية «ب»: بيلي، المصدِّق، لديه أسبابٌ وجيهة لتصديق أن الفرضية «أ» صحيحة.
«لذلك»، يصدِّق بيلي أن «س» مدعومٌ بالأدلة العلمية.
(المصدر: إم لونت. الاعتماد على حجج المرجعية عند الاستقصاء العلمي. مخطوط غير منشور.)
يبدو هذا الأمر أكثر تعقيدًا ممَّا هو عليه. إن اهتمامنا منصبٌّ حقًّا على بيلي في هذا الصدد. لا يفهم بيلي العلمَ الذي يدعم الأمر «س»، إلا أن بيلي يصدِّق أن سايمون يفهم ذلك العلم. يعلم بيلي أن سايمون يقول إن: «الأدلة العلمية تدعم الأمر «س».» لذلك، فإن بيلي دون أن يفهم العلم، يثق في أن الأدلة العلمية تؤيِّد «س». هذا تصديق قائم على المرجعية. إن سايمون مرجعيةٌ في العلم؛ لذلك عندما يقول أمرًا عن العلم، فإن بيلي من المحتمَل إلى حدٍّ بعيدٍ أن يصدِّقه.
هدفنا هو وضع بعض القواعد التي توضِّح متى يكون المنطق المحدد في المقتطف ٦-١ صحيحًا، ومتى لا يكون كذلك؛ ولهذا السبب قسَّمْتُ هذا الموقف البسيط نسبيًّا إلى تلك الجُمَل الثلاث. بهذه الطريقة يمكننا أن نرى الحالات التي يفشل فيها المنطقُ في كل جملةٍ من هذه الجُمَل. وسوف نفحص أربعًا من تلك الحالات.
(١-١) سايمون ليس عالِمًا جيدًا
بدايةً قد يكون استنتاجُ بيلي غير صحيح إذا كان سايمون في واقع الأمر ليس بالعالِم الجيد. الفكرةُ كلها التي يعتمد عليها تصديقُ المرجعية هي كوْنُ الشخص، في واقع الأمر، مرجعيةً! من ثَمَّ، قد تتعجَّب بعضَ الشيء من أنه في مجال أبحاث التعليم يكون المُقْنِعون في أغلب الأحيان متحمِّسين لتقديم مؤهلاتهم. يسرد المقتطف ٦-٢ بعضًا من العلامات الأكثر شيوعًا للمرجعية بين المُقْنِعين في مجال التعليم.
المقتطف ٦-٢: أمثلة على الطُّرُق التي يسعى المُقْنِعون من خلالها إلى إثباتِ أنهم مرجعيات في التعليم
• الدرجات الأكاديمية: دكتوراه في الفلسفة، ماجستير في الآداب، ماجستير في الخدمة الاجتماعية، دكتوراه في التعليم، وغيرها.
• الارتباط بمؤسسات أكاديمية، سواء كخريجين أو كمعلمين (عمل دان ويلينجهام مدرِّسًا مساعدًا في جامعة سباستيان فايسدورف).
• المطبوعات وإلقاء الأحاديث العامة (ألَّفَ دان ويلينجهام العديدَ من المقالات وأربعة كتب، وألقى محاضراتٍ حول العالَم عن نظرية التعليم).
• الارتباط بشركات بارزة (عمل دان ويلينجهام مستشارًا للعديد من الشركات الواردة على قائمة مجلة فورتشن لأعلى ٥٠٠ شركة).
• الارتباط بالهيئات الحكومية (يستخدم دان ويلينجهام تكنولوجيا محميةً فيدراليًّا، ويتعاون مع وزارة التعليم العالي في ماليزيا لتطبيق هذه التكنولوجيا في الفصول هناك).
• اقتباس أقوالهم أو ظهورهم في وسائل الإعلام الرائجة (اقتُبِست أقوال دان ويلينجهام في صحيفة سان فرانسيسكو كرونيكل وغيرها من المطبوعات البارزة، ويسعى المراسلون في قضايا التعليم إلى الحصول على رأيه على نحوٍ منتظمٍ).
ملحوظة: كل الأمثلة الواردة عن مؤلِّف الكتاب خياليةٌ، على الرغم من كونه مرجعيةً حقًّا، يجب أن تصدِّقني.
(١-٢) إرشادات مفيدة نسبيًّا
أعتقد أنه يوجد عاملان تسبَّبَا في السمعة الشنيعة للباحثين في كليات التربية؛ أولًا: يعتقد كثيرٌ من الناس أنهم يستطيعون الحكمَ على البحث التعليمي، مثلما يعتقدون أن باستطاعتهم الحكمَ على مقومات المعلم الجيد؛ لذلك، عندما نسمع عن استنتاجاتٍ توصَّلَ إليها باحثٌ تعليمي، وهي متعارِضة مع انطباعاتنا، فإننا نظل نتذكَّرها بغضبٍ على نحوٍ لا يحدث مع مكتشفات العلماء الآخرين. من الممكن أن يأتي عالِمُ أحياء بأية نظرية تخصُّ التكاثُرَ في حشرة دبور الطين، ولن تتعارض تلك النظرية مع انطباعاتك. إلا أنني لديَّ انطباعاتٌ كثيرة عندما يتعلَّق الأمرُ بالتعليم، وكما شاهدنا في الفصل الثاني، فإن لديَّ تحيُّزًا عقليًّا لرفض النظريات والبيانات التي تتعارض مع معتقداتي.
يتضح أن السبب الثاني للتقليل من شأن أبحاث التعليم مفيد لأغراضنا هنا: يجب أن تتذكَّر أنه ليس كلُّ أستاذٍ في إحدى كليات التربية يُعَدُّ عالِمًا. كثيرٌ من المواد الأكاديمية يمكن أن يكون مرتبطًا بالتعليم؛ مثل: التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والنظرية النقدية، ودراسات النوع، واللغويات، وعلم الاقتصاد، والعلوم السياسية، وغيرها. ستجد ممثِّلين لكل هذه المواد في كليات التربية. لا يؤدي هذا الموقف إلى تضافُرٍ بين الاختصاصات المتعددة يُسفِر عن تلاقُحٍ خصبٍ بين الأفكار ووجهات النظر المتنوعة، بل في أغلب الأحيان يتجاهل الناس بعضهم بعضًا لأنه من الصعب فَهْمُ عملِ شخصٍ من مجال مختلف؛ فهذا الشخص يفترض افتراضاتٍ مختلفةً، ويستخدم أدوات مختلفة، ولديه أهدافٌ مختلفة؛ لذلك قد تبدو أبحاثُ التعليم فوضويةً. يبدو أن الباحثين في مجال التعليم يتفقون على قدرٍ قليلٍ للغاية من الأمور، ولا يعطون العامةَ إحساسًا أنهم يُحرِزون الكثيرَ من التقدُّم. من أجل الأغراض المحدودة لهذا الكتاب، يجب أن تضع في اعتبارك أن مكانةَ أحد الأشخاص كأستاذٍ في إحدى كليات التربية تُعَدُّ علامةً موثوقًا فيها إلى حدٍّ معقولٍ على أن عمل هذا الشخص يتَّسِم بالنزاهة الأكاديمية، لكنها لا تدل بالضرورة على أن الشخص طبَّقَ طرقًا علمية في تقييم التغيير. توجد طرق أكاديمية أخرى لفهم العالم، وكثير من الطرق ممثَّلٌ في كليات التربية.
(١-٣) إرشادات غير مفيدة
إذا كان أول عنصرين في القائمة المذكورة في المقتطف ٦-٢ — شهادة عليا ووظيفة بحثية — موثوقًا فيهما نسبيًّا، فإن بقية العناصر أقل من ذلك. وتتمثَّل تلك «المؤهلات» في الاستئجار لإلقاء خطابٍ، أو تقديم النُّصْح لأشخاصٍ في مجال الأعمال أو في الحكومة، أو الإجابة عن أسئلة أحد المراسلين. كلُّ هذه المؤهلات هي تصويتٌ على الثقة. نعم، لكنه تصويتٌ على الثقة ممنوحٌ لمرة واحدة، ولا توجد فرصةٌ للتراجُع عنه، فعلى الرغم من كل شيء ربما قدَّمَ المُقْنِع استشارةً لشركة من الشركات الواردة على قائمة مجلة فورتشن لأعلى ٥٠٠ شركة، واعتقَدَ المسئولون في نهاية الأمر أن المُقْنِع شخصٌ غبي. إنك لا تعلم على أيِّ أساسٍ اختير الشخصُ ليكون مستشارًا في المقام الأول. إلى حدٍّ ما، تكون علاماتُ الخبرة تلك ذاتيةَ الاستدامة. إذا كنتَ مسئولًا عن اختيار متحدِّثٍ للمنطقة التعليمية، أَفَلَنْ تشعر بالاطمئنان إذا كان الشخص الذي تفكِّر فيه قد ألقى الكثيرَ من هذه الخطابات من قبلُ؟ «لا يمكن أن يكون هذا الشخص سيئًا تمامًا، انظروا إلى المناطق التعليمية الأخرى التي اعتقدَتْ أنه خبير.» هذا دليل اجتماعي، ناقشناه في الفصل الأول، وهو يؤكِّد نفسَه ذاتيًّا. كلما زاد الظهور الجماهيري، زادَتْ سهولة البقاء تحت الأضواء.
بين الحين والآخَر سوف ترى خدعةً مشابهة لعلم النفس العكسي؛ إذ سيحاول أحد الأشخاص اكتسابَ المصداقية بقوله إن الخبراء يسخرون منه! فيقول ذلك المُقْنِع: «يعتقد الجميع أن نظريتي خاطئة. إنهم يسخرون مني؛ إنهم لا يأخذونني على محمل الجد. حسنًا، لقد سخروا من جاليليو! لقد سخروا من الأخوَيْن رايت!» تُعرَف هذه الاستراتيجية باسم «حيلة جاليليو»، وهي خاطئة على نحوٍ واضحٍ. قليلٌ من العلماء الذين تعرَّضوا للسخرية اتضح أنهم كانوا مُحِقِّين، لكنْ ليس كلُّ مَن يحصل على الازدراء سيتضح أنه على صوابٍ. لقد سخروا من جاليليو، لكنهم أيضًا سخروا من المهرِّجين الثلاثة. لديَّ شكٌّ خفي (لكنْ لا يمكن إثباتُه بأية طريقة) أنه عندما ترى أن المُقْنِع يستخدم حيلةَ جاليليو، فإنه على الأرجح لا يتوقَّع إقناعَ الناس بأن السخرية تعني أنه مُحِقٌّ، بل يأمل أن يقتنع الناس بأنه حتى مع تعرُّضه للازدراء، فإنه على الأقل لا يحظى بالتجاهُل. إنها محاوَلةٌ غير مباشِرة للظهور بمظهر المرجعية كأنه يقول: إن الأشخاص المهمين يأخذونني على محمل الجدل على نحوٍ كافٍ، حتى إنهم يفكرون في أفكاري، على الرغم من أنهم لا يقدِّرونها بالكامل. عندما تشهد استخدامَ حيلة جاليليو، فإنك تنظر إلى مُقْنِع يتجاهله الخبراء.
تذكَّرْ أننا نحاوِلُ معرفةَ متى يجب الوثوق في المرجعية، وأننا نفعل ذلك من خلال تفقُّدِ متى يمكن أن تكون المرجعية خاطئةً. أول حالةٍ رأيناها، «لم يكن» فيها سايمون عالمًا جيدًا في واقع الأمر. بيلي مخطئ بشأن مؤهلات سايمون. إن مصداقية مؤهلات المُقْنِع من الصعب جدًّا التأكُّدُ منها دون استثمارِ قدرٍ كبيرٍ من وقتك، وفي كثير من الأحيان، دون امتلاكك قدرًا معينًا من الخبرة.
(١-٤) سوء فهم المزاعم
توجد طرق أخرى للخطأ يمكن أن تقع فيها عند الوثوق في أحد المرجعيات. ربما يكون سايمون عالمًا جيدًا، لكن بيلي المصدِّق قد يُسِيء فهْمَ زعْمِ سايمون عن الأمر «س». قد يحدث ذلك بسبب سوء تقديم معتقد سايمون على يد طرف ثالث، وقد يحدث أيضًا عندما يقرأ أحد الأشخاص عملَ سايمون ويرى أنَّ ما فهمه هو الاستنتاج الطبيعي، على الرغم من أن سايمون لم يقدِّم هذا الزعمَ على الإطلاق.
إذن نظرية الذكاءات المتعددة لا تقف صامتةً فحسب فيما يخصُّ قابليةَ استبدال الذكاءات، بل تتوقَّع — في حقيقة الأمر — أنه «ليس من الممكن» أن يحلَّ أحدُ أنواع الذكاء محل الآخر. لماذا يعتقد كثيرٌ من الناس أن النظرية تقول زعمًا مضادًّا لذلك؟ ليس لديَّ سبيلٌ لمعرفة السبب، لكنني طالما ظننتُ أنه الأمل الجامح. لو كان حقيقيًّا أنَّ من الممكن أنْ نساعد في نجاحِ طالبٍ طالما كان يجد صعوبةً في الرياضيات أو في القراءة، بمجرد إدراكِ نقاطِ قوةِ ذلك الطالب، لَكان هذا الأمر رائعًا، ولَكان أشبَهَ بالعثور على مفتاحٍ مَنسِيٍّ يفتح صندوقَ الكنز.
(١-٥) إساءة تطبيق الخبرة العلمية
يوجد احتمالٌ آخَر يتمثَّل في كون سايمون عالِمًا جيدًا يمتلك مؤهلات ممتازة، لكنه لا يعلم حقًّا أيَّ شيءٍ عن الأمر «س». على الرغم من ذلك، يُعرِب سايمون عن رأيه في «س»، ويصدِّقه بيلي لأنه لا يلاحظ أن خبرةَ سايمون متخصِّصة في أمور أخرى. طالما اعتمد المعلنون على عدم تمييزنا لتخصُّص الخبرة؛ على سبيل المثال: يعلن لاعب كرة التنس الرائع روجر فيدرير عن منتجات تصنعها نايك وويلسون. يبدو هذا منطقيًّا؛ إننا بالتأكيد نتوقَّع من رياضيٍّ بهذه المكانة أن يكون على درايةٍ بالمعدات الرياضية، وأن يتمتَّع بالحكم الصائب تجاهَها. يعلن فيدرير أيضًا عن سيارات مرسيدس بينز وساعات روليكس؛ في هذا الصدد، هذه مبالَغةٌ كبيرة، لكنْ من الممكن أن نقول: «حسنًا، إنه شخص غني، ولذلك فإنه على الأرجح يعرف عن الأشياء الراقية في الحياة أكثر ممَّا يعرف بقيتنا. إنه ليس صانعَ ساعاتٍ بالتأكيد، لكنْ ربما يدرك ما الذي يجعل ساعة روليكس مبهرةً.» إلا أنه من الصعب حقًّا تبريرُ إعلانِ فيدرير عن جِل حلاقة جيليت؛ فمِنْ أي ناحيةٍ يُعتبَر مرجعيةً في جل الحلاقة؟
هذا الخطأ في الحكم على ما إذا كانت خلفية الشخص ذات علاقة بالأمر المنظور، يفسِّر شعورَنا بوجود خطأٍ عندما قال أحد مسئولي الجامعة إن الماضي الجنائي لبيرنارد دورمان كان «غيرَ مهمٍّ بالمرة». من المحتمل أن يُعتبَر ماضي دورمان غيرَ مهم إذا كنتُ أفكِّر مثلًا في شراءِ منزلٍ في نفس شارعه؛ هل سِجِلُّ صفقاتِ أعماله المشبوهة ينبئ بأنه سيكون جارًا سيئًا؟ لا على الأرجح. أما إذا كان سجِلُّه الإجرامي متعلِّقًا بمضايقة الجيران، فإن هذا سيكون وثيقَ الصلة على نحوٍ واضحٍ. ولا عجبَ في أن الناس اعتقدوا أن سجِلَّ دورمان في الأعمال كان يجب تأمُّله عندما فكَّرَتِ الجامعةُ في الدخول في اتفاقيةِ عملٍ معه.
(١-٦) تعارُض المرجعيات
ماذا نفعل عندما يختلف على الموضوع شخصان يبدو أنهما على قدم المساواة من حيث كونهما مرجعيةً جيدة؟ انظر المقتطف.
المقتطف ٦-٣: عند تعارُض مصدرين مرجعيَّيْن متكافئين، أيهما يجب أن تصدق؟
الفرضية «أ»: سايمون، العالِم، لديه أسباب علمية وجيهة لتصديق الأمر «س».
الفرضية «ب»: سيمون، العالِمة، لديها أسبابٌ علمية وجيهة لتصديق أن الأمر «س» زائف.
الفرضية «ﺟ»: لدى بيلي، المصدِّق، أسبابٌ وجيهة على نحوٍ متساوٍ لتصديق أن الفرضية «أ» صحيحة، وتصديق أن الفرضية «ب» صحيحة.
من بين المشكلات الأربع التي سوف أتناولها، هذه على الأرجح هي الأكثر شيوعًا في الأبحاث التعليمية، وسببُ كون الأمر على هذه الحالة مفهومٌ. سيوجد خلاف بين المرجعيات عندما لا يوجد نموذج علمي ناجح على نحوٍ معقول لإحدى الظواهر. إذا سألتَ مائةً من علماء علم النفس المعرفي: «ما الذي يجعل الأشخاص مُبدِعين؟» فستحصل على الكثير من الإجابات المختلفة. حتى إذا كان العلماء المائة المتخصِّصون في علم النفس المعرفي الذين سألتهم هم أفضل العلماء حقًّا، فإنهم لن يتفقوا؛ لأن الإبداع مسألة غير مفهومة على نحوٍ جيد. على النقيض من ذلك، إنك إنْ سألتَ مجموعةَ العلماء المائة أنفسهم: «عندما تنظر إلى أحد الأشياء، كيف تعرف مدى بُعْده؟» فإنك ستحصل على اتفاقٍ أعلى بكثيرٍ. إنها مشكلة مدروسة جيدًا، ونحن نعلم الكثيرَ عن طريقة عمل هذه العملية. إن الأسئلة التي يهتم بها المعلمون تكون عادةً أكثر شبهًا بسؤال الإبداع أكثر من شبهها بسؤال المسافة؛ ولهذا السبب يختلف في أغلب الأحيان باحثو التعليم، حتى الخبراء المرجعيون منهم.
•••
كان هدفنا حتى الآن سَرْد الطرق التي يمكن أن تصبح فيها حجة مستندة إلى مرجعية خاطئة، ويُقصَد بالحجة المستنِدة إلى مرجعيةٍ الوثوقُ في أنَّ أحد الاستنتاجات مدعومٌ علميًّا لأن شخصًا خبيرًا قال إنه مدعومٌ علميًّا. وتعرَّضْنا لدراسة أربعٍ من هذه الطرق، انظرِ المقتطف ٦-٤.
المقتطف ٦-٤: المواقف التي يمكن أن تصبح فيها حجة المرجعية خاطئةً
(١) اتضاح أن الأمور التي نعتبرها علاماتٍ على المرجعية ليسَتْ موثوقًا فيها للغاية، وأن الشخص في حقيقة الأمر ليس خبيرًا من الناحية العلمية.
(٢) من الممكن أن نتوصَّل إلى اعتقادٍ زائفٍ بسبب سوء فهم الموقف الذي يتخذه العالِم.
(٣) من الممكن أن يكون الشخص عالمًا جيدًا، لكنْ يكون مخطئًا لأنه يأخذ موقفًا من موضوعٍ خارج نطاق خبرته.
(٤) قد يختلف حول أحد الموضوعات شخصان لهما إنجازات متساوية تؤهلهما ليكونا مرجعيةً في هذا الموضوع، وفي نهاية المطاف لا يتبيَّن لنا أيُّ مرجعية منهما ينبغي تصديقها.
يبدو الأمر كما لو كنا متحمسين للوصول إلى الاستنتاج القائل: «لا يمكنك تصديق أحد الأمور فقط لأن أحد المرجعيات يقول إنه كذلك!» يبدو أن جمعية لندن الملكية — وهي واحدة من أقدم الجمعيات العلمية في العالَم، وتعود إلى عام ١٦٦٠ — كانت محقة في شعارها، الموجود في مقدمة هذا الفصل، الذي يقول: «لا تثق في كلامِ أحدٍ». يبدو أن هذا متفق مع جوهر هذا الكتاب الذي يهدف إلى السماح لك بالحكم على مزايا البحث العلمي بنفسك. إلا أن رفض المرجعية لا يمكن أن يحدث بهذه السرعة.
(٢) هل يمكن الاعتماد على المرجعية في أبحاث التعليم؟
يبدو أنه توجد ثلاثة اختلافات جوهرية بين الطبيب والباحث التعليمي؛ أولًا: عندما يتعلَّق الأمر بالأطباء، والسباكين، وغيرهم من المهنيين الذين أثق بهم، «فإنني لستُ مضطرًّا للتحرِّي عنهم». إنني أعتقد — ولي بعضُ الحق في اعتقادي هذا — أن رخصة ممارسة المهنة ذات دلالةٍ على الكفاءة؛ لذلك فإن المشكلة الأولى المذكورة في المقتطف ٦-٤ محلولة؛ فالشخص الذي يمتلك مؤهلًا معتمدًا يؤكِّد على امتلاكه الخبرةَ هو كذلك على الأرجح.
علاوة على ذلك، يقرِّر المحترفون في هذه المجالات أن مزاوَلةَ مجالٍ فرعيٍّ معيَّن تتطلَّب المزيدَ من التدريب، أو تتطلَّب الحصولَ على رخصة منفصلة. قد يحصل ميكانيكي السيارات على رخصة تؤهله لإصلاح سياراتٍ من علامات تجارية معينة. وأيُّ طبيبٍ يتمتع ببعض الخبرة في أمراض القلب، لكنْ إذا كانت الحالةُ خطيرةً، فإن المريض يُحال إلى اختصاصي أمراض القلب؛ لذلك، فإن المشكلة الثالثة (انظر المقتطف ٦-٤) محلولةٌ إلى حدٍّ بعيدٍ؛ فالخبراءُ يتردَّدون في اتخاذ مواقف تتجاوز نطاقَ خبرتهم نظرًا لوجود متخصِّصين معترف بهم.
من الاختلافات الأخرى المهمة بين أبحاث التعليم والمجالات الأخرى ذات الخبراء الموثوق فيهم: أننا نعتقد أنه توجد حقيقة ثابتة في تلك المجالات الأخرى؛ على سبيل المثال: استدعيتُ في الأسبوع الماضي الكهربائيَّ لتشخيصِ وإصلاحِ إحدى المشكلات؛ فقد كانت مصابيح غرفة المعيشة تومض. لم يخطر في بالي قطُّ أنه قد يوجد اثنتان أو ثلاث من المدارس الفكرية المتعارضة التي تتناول طريقةَ إصلاحِ هذه المشكلة. عندما أفكِّر في الأمر الآن، أدرك أنه من المحتمل أن يوجد أكثرُ من طريقةٍ لحل المشكلة، لكنني أتوقَّع أن مختلف الكهربائيين سيقرُّون بأنه على الرغم من أن لهم طريقةً مفضلةً في حل المشكلة، فإن بقية الطرق الأخرى على الأقل «لا بأسَ بها»؛ لذلك، لا تنشأ المشكلةُ الرابعة (انظر المقتطف ٦-٤). في مجال التعليم، يعتقد الخبراء أن طرق الخبراء الآخرين «مريعة»، وأنها من المحتمل أن تدمِّر الأطفال، وهكذا.
الاختلاف الثالث بين خبراء التعليم والأطباء أو المحاسبين يتعلَّق بدور المستهلك في حل المشكلة. في المجالات التي يوجد بها خبراء معترَف بهم، يحاوِل الممارِسون بقوةٍ تقليلَ إسهامنا في حل المشكلة، فلا يدعوني ميكانيكي السيارات إلى لفِّ بعض البراغي أثناء تصليح سيارتي، أو إلى إبداء آرائي فيما سيفعله لاحقًا. إنه (تحريًا للدقة) يرى أنني سأكون مصدرَ إزعاجٍ أكثر من أي شيء آخَر. والطبيب أيضًا يجيب عن أسئلتي بتسامحٍ، لكنه لا يقدِّم تفاصيلَ أكثر ممَّا أطلب؛ في كلتا الحالتين، فإن رسالتهما الأساسية لي: «لكي تجعل الأمورَ تسير بسلاسةٍ، افعلْ بالضبط ما أقول.» مهمتي هي تنفيذ تعليماتهم، سواء أتمثَّلَتْ تلك التعليمات في تغيير الزيت كثيرًا، أم في ممارسة تمارين رياضية أكثر. لدينا اتفاق غير معلَن على أن قدرتي على فهم «سبب» ضرورة فعلي لهذه الأمور محدودةٌ. بالتأكيد، من الممكن أن أطرح أسئلة وأحاول فهم الأمور على نحوٍ أفضل، وأحيانًا من الممكن أن تحفِّز أسئلتي الطبيبَ على إجراء بعض التغييرات الطفيفة، إلا أنني دائمًا أستسلم لمرجعيته. أنا لن أفكِّر أبدًا في استخدام تشخيصه كنقطةِ انطلاقٍ لخطةِ رعايةٍ صحية من تخطيطي.
هذا الاتفاق غير قائم في التعليم، فالمعلمون والآباء لا يرغبون ببساطة في فعل ما يخبرهم به خبراءُ التعليم، فالباحثون لا يتمتعون بهذا النوع من المصداقية، ولا يستحقونه؛ ونتيجةً لذلك، «يفسِّر» الآباء والمعلمون ما يوضِّحه باحثو التعليم، وفي بعض الأحيان يكون تفسيرُهم غيرَ متَّفِقٍ مع الأمر الذي يعتقد الباحثُ أن العلمَ يدعمه، كما أوضحنا في حالة نظرية الذكاءات المتعددة لجاردنر؛ وهذا هو سبب المشكلة الثانية التي ناقشناها (انظر المقتطف ٦-٤).
تلخيصًا لما سبق، فإننا نثق في المرجعيات عندما: (١) تعتمد جهةُ ترخيصٍ موثوقٌ فيها خبرتَهم. (٢) توجد حقيقة ثابتة في المجال يتفق عليها الخبراءُ. (٣) تسمح الحقيقة الثابتة للخبراء بتشخيص المشكلات بدقةٍ، ووصْفِ الحلول التي تنفع في معظم الحالات ولا تتطلَّب إبداعًا أو مهارةً من جانب غير الخبراء. إذن أين نحن في مجال التعليم من هذه الشروط؟ لم يتوافَرْ أيٌّ من هذه الشروط الثلاثة حتى الآن.
كما ذكرنا، فإنه لا توجد جهةُ ترخيصٍ تشهد بمهارة باحثي التعليم. كلُّ ما يمكنك فعله هو البحث عن الشهادات الأكاديمية للباحث، أو عن عمله كباحثٍ بدوامٍ كامل في إحدى الجهات. لقد أوضحتُ أن هذه المؤهلات ليست عديمةَ الأهمية، لكنها أيضًا ليسَتْ موثوقًا فيها إلى حدٍّ بعيد.
أما عن تقديم أبحاثِ التعليم «حقيقةً ثابتةً»، فإنه من الواضح إلى حد بعيد أننا لم نصل إلى هذه المرحلة؛ فالباحثون لا يمتلكون مجموعةَ معارف يتفقون عليها جميعًا، حتى لو من أجل أهدافٍ تعليميةٍ محدودة؛ مثل: «ما مقدار التركيز الواجب تخصيصه للصوتيات عند تعليم القراءة؟»
•••
إذن ما القول الفصل في مسألة المرجعية؟ لقد بدأنا بتوضيح المنطق وراء الحجة المأخوذة من المرجعية (المقتطف ٦-١، ومكرَّر هنا أيضًا في المقتطف ٦-٥).
المقتطف ٦-٥: القائمة الأصلية للحجة المأخوذة من المرجعية
الفرضية «أ»: سايمون، العالِم، لديه أسبابٌ علمية وجيهة لتصديق «س».
الفرضية «ب»: بيلي، المصدِّق، لديه أسبابٌ وجيهة لتصديق أن الفرضية «أ» صحيحة.
«لذلك»، يصدِّق بيلي أن «س» مدعومٌ بالأدلة العلمية.
(المصدر: إم لونت. الاعتماد على حجج المرجعية عند الاستقصاء العلمي. مخطوط غير منشور.)
على مدار هذا الفصل، رأينا أنه توجد أسباب عديدة للشك في الفرضية «أ» والفرضية «ب»؛ لذلك حريٌّ بنا أن نتشجَّع لمواجَهةِ أيِّ مرجعيةٍ تعترض طريقَنا، حسبما قال جيفرسون في المقولة الافتتاحية لهذا الفصل. كيف نتحلَّى بالجرأة في السعي وراء المعرفة؟ إذا كنا لا نستطيع الثقةَ في كلام المرجعية، فكيف نقيم قوة الدليل بأنفسنا؟ هذا هو موضوع الفصل السابع.