لغز مختفٍ في وضح النهار
إن خبرتنا بالوعي جوهريةٌ للغاية لكينونتنا، إلى درجةِ أننا نادرًا ما نلاحظ أن شيئًا غامضًا يحدث من حولنا. إن الوعي هو «الخبرة ذاتها»؛ لذا فمن السهل ألَّا ننتبه إلى السؤال العميق الذي يحدِّق في وجوهنا في كل لحظةٍ من حياتنا: لماذا يتحلَّى أيُّ تجمُّعٍ للمادة في الكون بالوعي؟ إننا نتجاوز التفكير في هذا اللغز وكأن وجودَ الوعي أمرٌ بديهي أو نتيجة حتمية لوجود حياة معقَّدة، ولكن عندما ننظر مِن كثَب، نجد أنه أحدُ أغرب جوانب الواقع.
إن التفكير في الوعي يمكن أن يُثير متعةً تُماثل تلك التي نستمدُّها من التأمل في طبيعة الزمان أو في أصل المادة، وهو ما يستثير فضولًا عميقًا إزاء أنفسنا والعالَم من حولنا. أتذكَّر أنني كنت أنظر إلى السماء حين كنت فتاةً صغيرة، وأتذكَّر إدراكي أن الإحساس المعتاد بأنني على الأرض في الأسفل وأن السماء تعلوني هو تصوُّر غير دقيق على نحوٍ تام. لقد شعرت بالدهشة لحقيقةِ أنه على الرغم من أنني تعلَّمت أن الجاذبية تجذبنا نحو الأرض أثناء دورانها حول الشمس — وأنه لا يوجد «أعلى» و«أسفل» في حقيقة الأمر — فإن «شعوري» بأنني في الأسفل على الأرض تحت السماء ظلَّ دون تغيير. ومن أجل تغيير منظوري، كنت أحيانًا أرقد خارج المنزل وأمدُّ ذراعي وساقي في محاولةٍ لاستيعاب أكبر قدرٍ ممكن من السماء والأفق. وفي محاولة للتحرُّر من الشعور المألوف بكوني «هنا بالأسفل» وفوقي القمر والنجوم، كنت أرخي كلَّ عضلات جسدي — مستسلمةً للقوة التي تمسكني بإحكام على سطح كوكبنا — وأركِّز على حقيقة وضعي: إنني أسبَح في الكون على سطح هذه الكرة العملاقة؛ معلَّقة هنا بواسطة الجاذبية ومنطلِقة في هذه الرحلة. وحين كنت أستلقي هناك، كنت أشعر حقًّا أنني أنظر إلى الخارج نحو السماء، ولست أنظر إلى الأعلى. استمددت البهجة التي شعرت بها من إسكات حَدْس زائفٍ مؤقتًا ورؤية حقيقة أعمق: إن الوجود على الأرض لا يفصلنا عن بقية الكون؛ بل في الواقع، لقد كنا دائمًا، ولا نزال، في الفضاء الخارجي.
يهدف هذا الكتاب إلى زعزعةِ افتراضاتنا اليومية بشأن العالَم الذي نعيش فيه. إن بعض الحقائق مهمةٌ للغاية وغير بديهية على الإطلاق (تتكوَّن المادة في أغلبها من فراغٍ خاوٍ؛ والأرض هي كرة دوَّارة واحدة من مليارات الأنظمة الشمسية في مجرَّتنا؛ والكائنات المجهرية تسبِّب المرض؛ وهكذا)؛ لذا نحتاج إلى تذكُّر هذه الحقائق مرارًا وتَكْرارًا، إلى أن تتغلغل أخيرًا في ثقافتنا وتصبح أساسًا لتفكيرٍ جديد. ويحتل الغموض الجوهري للوعي — وهو موضوع محيِّر للغاية للفلاسفة والعلماء على حدٍّ سواء — مكانةً خاصة بين هذه الحقائق التي نحتاج إلى تذكُّرها. إن هدفي من تأليف هذا الكتاب هو أن أنقل للقارئ البهجةَ التي تنبع من اكتشاف مدى روعة الوعي وكم هو مدهش.
وبعبارة أخرى، الوعي هو ما نشير إليه عندما نتحدَّث عن التجرِبة في أكثرِ أشكالها جوهرية. هل ثمَّة «شيء يشبه» كونك أنت في هذه اللحظة؟ من المفترض أن تكون إجابتك هي نعم. هل ثمَّة «شيء يشبه» كونك ذلك المقعد الذي تجلس عليه؟ ستكون إجابتك (على الأرجح) هي لا، بالقدْر نفسه من الحسم. وهذا الاختلاف البسيط — بين ما إذا كانت ثمَّة تجربة حاضرة أم لا — الذي يمكِننا جميعًا استخدامه كنقطة مرجعية، هو الذي يشكِّل ما أعنيه بكلمة «الوعي». هل ثمَّة «شيء يشبه» كونك حبةَ رمال، أو بكتيريا، أو شجرةَ بلوط، أو دودةً، أو نملةً، أو فأرًا، أو كلبًا؟ عند نقطةٍ ما على طول هذا الطيف، تكون الإجابة هي نعم، ويكمُن اللغز العظيم في معرفةِ السبب وراء «إضاءة أنوار الوعي» لدى بعض تجمُّعات المادة في الكون.
ويمكننا حتى أن نتساءل: عند أيِّ نقطة من تطوُّر الإنسان ينبثق الوعي إلى الوجود؟ تخيَّل الكيسة الأريمية البشرية بعد بضعة أيام فقط من تخصيب البويضة، والتي تتكوَّن من حوالي مائتَيْ خليةٍ فقط. إننا نفترض أنه لا يوجد على الأرجح «شيء يشبه» أن يكون المرء هذه المجموعة المجهرية من الخلايا. لكن بمرور الوقت، تتكاثر هذه الخلايا وتتحوَّل ببطء لتصبح طفلًا بشريًّا له دماغ بشري، قادر على اكتشاف التغيُّرات في الإضاءة والتعرُّف على صوت أمِّه، حتى وهو لا يزال في الرحم. وعلى عكس جهاز الكمبيوتر، الذي يمكنه أيضًا اكتشاف الضوء والتعرُّف على الأصوات، فإن هذه المعالجة تكون مصحوبة بخبرة أو شعور بالضوء والصوت. وفي أيِّ مرحلة من مراحل تطوُّر دماغ الطفل يُخبرك حَدْسك فيها قائلًا: «حسنًا، الآن ثمَّة خبرة تُعاش هناك»، يكمُن اللغز في التحوُّل. أولًا، لا يكون ثمَّة وعي، ثم فجأة، وعلى نحوٍ سحري، وفي اللحظة المناسبة … ينبثق شيءٌ ما. وبغضِّ النظر عن مدى ضآلة هذا الشيء الأولي، فإن شرارة الشعور أو الخبرة تشتعل على نحوٍ واضح في قلب ذلك الجماد، متجسِّدة من قلب الظلام.
وعلى أي حال، يتكوَّن الطفل الرضيع من جُسَيْماتٍ لا تختلف عن تلك التي تحوم في قلب الشمس. فالجُسَيمات التي تشكِّل جسدك كانت ذات يومٍ مكوِّنات لعددٍ لا يُحصى من النجوم في ماضي هذا الكون. وقد سافرتْ ملياراتِ السنين لتستقرَّ في جسدِك — في هذا التكوين المحدَّد الذي هو أنت — وهي الآن تقرأ هذا الكتاب. تخيَّل متابعة حياة هذه الجُسَيْمات من أول ظهورٍ لها في الزمان والمكان وحتى اللحظة التي أصبحت فيها مرتَّبة على نحوٍ يُتيح لها أن تبدأ في أن تشعر بشيءٍ ما أو تختبر شيئًا ما.
لماذا تؤدي تكويناتٌ معيَّنة من المادة إلى أن تشتعل هذه المادة بالوعي؟