الفصل الثاني
الأحكام الحَدْسية والأوهام
الآن بعد أن أصبح لدينا تعريفٌ ملائم للوعي والغموض الذي ينطوي عليه،
يمكننا البَدْء في التخلُّص من بعض الأحكام الحَدْسية الشائعة. لقد
تشكَّل حَدْسنا إلى حدٍّ كبير بواسطة الانتقاء الطبيعي لتزويدنا بسرعةٍ
بالمعلومات التي من شأنها أن تنقذ حياتنا، ولا يزال يمكن لهذا الحَدْس
الذي تطوَّر في الماضي أن يستمر في مساعدتنا في الحياة الحديثة. فعلى
سبيل المثال، لدينا القدرةُ على أن ندرك دون وعيٍ العناصرَ المحيطةَ
بنا في بيئتنا في موقفٍ يمثِّل لنا تهديدًا، وهو ما يؤدي بدوره إلى
تقييمٍ فوريٍّ للخطر المحدِق بنا؛ مثل ذلك الحَدْس الذي يخبرنا بأننا
لا يجب أن ندخل المِصْعد مع شخصٍ معيَّن، على الرغم من عدم قدرتنا على
معرفة السبب بالضبط. غالبًا ما يقوم دماغك بمعالجة إشاراتٍ مفيدة قد لا
تكون مدركًا لها بوعي في تلك اللحظة: ذلك الشخص الآخر الذي يدخل المصعد
متوهج الوجه أو متسع حدقتَي العينَين (وكلا الأمرين يمثِّل إشارةً على
أن مستوى الأدرينالين لديه مرتفع وأنه على وشك التصرُّف بعنف)، أو باب
المبنى الذي عادةً ما يكون مغلقًا، ولكنه مفتوحٌ الآن. يمكننا أن نعرف
أن موقفًا ما خطيرٌ دون أن تكون لدينا أدنى فكرة عن كيفية معرفتنا ذلك
أو أسباب تلك المعرفة. يتشكَّل حَدْسنا أيضًا من خلال التعلُّم،
والثقافة، وعوامل بيئية أخرى. ويكون لدينا أحيانًا حَدْس مفيد في
قراراتنا الحياتية — مثل اختيار الشقة التي سنستأجرها — وهو حَدْس ناشئ
عن معلوماتٍ ذاتِ صلةٍ اكتسبها دماغنا — وأخذها في الاعتبار — من خلال
عمليات غير واعية. وفي الواقع، تشير الأبحاث إلى أن «إحساسنا الداخلي»
يكون أكثرَ موثوقية من نتائج التفكير الواعي المنطقي في الكثير من
المواقف.
1
لكن «إحساسنا الداخلي» يمكن أن يخدعنا كذلك، و«الحَدْس الخاطئ» يمكن
أن ينشأ بعدد كبير من الطرق، لا سيما في مجالات الفهم التي لم يكن من
الممكن أن يتنبأ بها التطوُّر؛ مثل العلوم والفلسفة. تأمَّل الاحتمالات
والإحصاء، حيث يشتهر حَدْسنا بأنه لا يُعتَمد عليه على الإطلاق: كثيرون
منا يشعرون بالقلق من السفر بالطائرة، على الرغم من أننا نحتاج —
إحصائيًّا — إلى الطيران يوميًّا لنحو ٥٥ ألف سنة قبل أن نتعرَّض لحادث
تحطُّم طائرة مميت (ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من أن الناس لا
يصابون عادةً بنوبات ذعر عند الجلوس خلف عجلة قيادة سياراتهم استعدادًا
لرحلةٍ إلى متجر البقالة، فإن سلامة المرء في مثل هذه الرحلات في
الواقع تكون أقلَّ بأضعافٍ مضاعفة مقارنةً بالطيران).
2 إننا بالكاد نستطيع التوفيق بين حَدْسنا وبين بعض الحقائق
العلمية الأساسية؛ إذ بدت لنا الأرض مسطَّحة إلى أن كشفت لنا التطورات
المذهلة في القياسات الفلكية غير ذلك. وفي بعض مجالات البحث — مثل
فيزياء الكم — لا يُعَد حَدْسُنا عديمَ الفائدة فحسب، بل إنه يشكِّل
عقبة صريحة أمام تحقيق التقدُّم. الحَدْس ببساطة هو شعور قوي بأن شيئًا
ما صحيحٌ دون أن يكون لدينا وعي أو فَهْم للأسباب الكامنة وراء هذا
الشعور؛ بصرف النظر عما إذا كان هذا الشيء يمثِّل حقيقةً صحيحةً في
العالم أم لا.
في هذا الفصل من الكتاب، سوف نتناول حَدْسنا فيما يتعلَّق بكيفية
حكْمِنا على ما إذا كان شيءٌ ما واعيًا أم لا، وسنكتشف أن الإجابات
التي تبدو واضحة بديهية تنهار أحيانًا عند فحصها فحصًا دقيقًا. وأحبُّ
أن أبدأ هذا الاستكشاف بسؤالين يبدو للوهلة الأولى أنهما بسيطان للغاية
وتسهُل الإجابة عنهما. لاحظْ أول الاستجابات التي تطرأ على ذهنك،
وتذكَّرها جيدًا بينما نستكشف بعض الحَدْسيات والأوهام النمطية.
يتداخل هذان السؤالان في عدة نقاط هامة، لكن من المفيد تناوُل كلٍّ
منها على نحوٍ مستقل. فكِّر أولًا في أنه يمكن أن توجد تجربةٌ واعية
دون أيِّ تعبير خارجي على الإطلاق (على الأقل في الدماغ). أحدُ أبرزِ
الأمثلة على ذلك الحالةُ العصبية التي تُسمَّى «متلازمة المُنحبس» (أو
«السُّبَات الكاذب»)، والتي يكون فيها جسدُ الإنسان بأكمله مشلولًا
ولكن الوعي سليم تمامًا. اشتهرت هذه الحالة العصبية من خلال جان
دومينيك بوبي، رئيس التحرير السابق لمجلة «إل» الفرنسية، الذي ابتكر
بعبقريةٍ طريقةً للكتابة عن معاناته الشخصية مع متلازمة المنحبس. فبعد
أن أصابته جلطة دماغية بالشلل، لم يستعِد بوبي شيئًا من قدرته على
الحركة سوى الرَّمش بعينه اليسرى. ومن المدهش أن القائمين على رعايته
لاحظوا جهوده من أجل التواصل، وطوَّروا بمرور الوقت طريقةً تمكِّنه من
تهجئة الكلمات من خلال الرَّمش بعينه بنمطٍ معيَّن، وهكذا تمكَّنوا من
الكشف عن النطاق الكامل لحياته الواعية. وقد وصف بوبي هذه التجربة
المروعة في مذكراته التي نُشرت عام ١٩٩٧ بعنوان «جرس الغوص والفراشة»
والتي كتبها من خلال نحو مائتَيْ ألف رَمشة. قد نفترض، بالطبع، أن وعيه
لم يكن سيتغيَّر بأي حال من الأحوال لو أن جفنه الأيسر استسلم للشلل
بدوره. ومن دون هذه القدرة على تحريك جفنه الأيسر، لما كانت ثمَّة
وسيلة لديه لإخبارنا بأنه واعٍ وعيًا تامًّا.
مثال آخر على الحبس الجسدي هو حالةٌ تُسمَّى «الوعي أثناء التخدير»،
حيث يعاني المريضُ الخاضع للتخدير العام لإجراء عمليةٍ جراحيةٍ الشللَ
دون أن يفقد وعيه. وممَّا لا شك فيه أن الأشخاص الذين يمرُّون بهذه
الحالة يعيشون كابوسًا متمثِّلًا في شعورهم بكل خطوةٍ من خطوات
العمليَّة الجراحيَّة، التي تكون أحيانًا عبارة عن تدخُّل طبي شديد مثل
استئصال أحد أعضاء المريض، دون القدرة على التحرُّك أو إخبار مَن حولهم
بأنهم مستيقظون تمامًا ويشعرون بالألم. يبدو أن هذا المثال والمثال
السابق يأتيان مباشرةً من فيلم رعب، لكن يمكننا أن نتخيَّل حالاتٍ أخرى
أقلَّ إزعاجًا يفتقد فيها العقل الواعي القدرةَ على التعبير؛ كما في
سيناريوهاتٍ تنطوي على ذكاء اصطناعي — على سبيل المثال — يصبح نظامًا
متقدمًا واعيًا، ولكن ما من سبيلٍ لديه لتوصيل هذه الحقيقة على نحوٍ
مقنعٍ لنا. ولكن إن كان ثمَّة شيء مؤكَّد بالنسبة إلينا فهو أنه: من
الممكن أن توجد تجرِبة وعي مفعمة بالحياة دون إمكانية رصدها من
الخارج.
والآن، لنَعدْ إلى السؤال الأول ونسأل أنفسنا: ما الذي يمكن اعتباره
دليلًا على الوعي؟ إننا نعتقد، إلى حدٍّ كبير، أنه يمكننا تحديد ما إذا
كان الكائن الحي واعيًا أم لا عن طريق دراسة سلوكه. فيما يلي افتراضٌ
بسيط يقوم به أغلبنا، تماشيًا مع حَدْسنا، ويمكننا استخدامه كنقطة
بداية: «البشر واعون؛ النباتات ليست واعية.» يعتقد معظم الناس بشدة أن
هذه جملة صحيحة، وثمَّة أسباب علمية جيدة للاعتقاد بأنها كذلك. إننا
نفترض أن الوعي لا وجود له في غياب الدماغ أو الجهاز العصبي المركزي.
لكن ما الدليل أو السلوك الذي يمكننا رصده لدعم هذا الادعاء بشأن
التجربة النسبية للبشر والنباتات؟ فكِّر في أنواع السلوك التي نعزوها
عادةً إلى الحياة الواعية، مثل الاستجابة للضرر البدني أو رعاية
الآخرين. تكشف الأبحاث العلمية أن النباتات تقوم بكلٍّ من هذين الأمرين
بطرقٍ معقَّدة؛ رغم أننا، بالطبع، نتصوَّر أنها تفعل ذلك دون الشعور
بالألم أو الحب (أيْ دون وعي). لكن بعض سلوكيات البشر والنباتات
متشابهة للغاية إلى حدِّ أن هذا التشابه يشكِّل في واقع الأمر تحديًا
لاستخدامنا سلوكًا معيَّنًا باعتباره دليلًا على وجودِ خبرة
واعية.
في كتابه «ما يعرفه النبات: دليلٌ ميداني للحواس»، يصف دانيال
تشاموفيتز بتفاصيلَ رائعة كيف يمكن لتحفيز النبات (باللمس، أو الضوء،
أو الحرارة … إلخ) أن يستحثَّ استجاباتٍ مماثلة لاستجابات الحيوانات في
ظل ظروفٍ مشابهة. فالنباتات يمكنها أن تستشعر بيئتها من خلال اللمس،
ويمكنها اكتشاف العديد من جوانب محيطها — بما في ذلك درجة الحرارة —
بوسائل أخرى. بل إنه من الشائع جدًّا أن تتفاعل النباتات مع اللمس:
فالكَرْمة تزيد من معدل نموِّها وتغيِّر اتجاه هذا النمو حين تشعر
بوجود جسمٍ قريب يمكنها الالتفاف حوله، ويمكن لنبات «خَنَّاق الذباب»
سيئ السمعة أن يميز بين الأمطار الغزيرة أو هبَّة رياح قوية — وهما
أمران لا يتسبَّبان في إغلاق شفرات النبات — وبين عمليات التسلُّل
المتردِّدة الوَجِلة لخنفساء أو ضفدع يعتبره النبات غذاءً، وحينها
يُغلِق النبات شفراته عليها في عُشر ثانية.
يوضِّح تشاموفيتز كيف يؤدِّي تحفيزُ الخلية النباتية إلى تغيراتٍ
خلوية تؤدي إلى إطلاق إشارة كهربائية — على غِرار التفاعل الناجم عن
تحفيز الخلايا العصبية في الحيوانات — و«كما هو الحال في الحيوانات،
يمكن لهذه الإشارة أن تنتشرَ من خلية إلى أخرى، وهي تتضمن الوظيفة
المنسقة لقنوات الأيونات؛ بما في ذلك البوتاسيوم، والكالسيوم،
والكالمودولين، ومكوِّنات نباتية أخرى.»
3 ويصفُ تشاموفيتز أيضًا بعضَ الآليات المشتركة بين النباتات
والحيوانات، وصولًا إلى مستوى الحمض النووي. ومن خلال بحثه، اكتشف
الجينات المسئولةَ عن قدرة النبات على تحديدِ ما إذا كان في الظلام أو
في الضوء، كما تبيَّن أن هذه الجينات هي أيضًا جزءٌ من الحمض النووي
البشري. في الحيوانات، تُنظِّم هذه الجينات نفسُها الاستجاباتِ للضوء
وتشارك في «توقيت الانقسام الخلوي، ونمو الخلايا العصبية على مستوى
المحور، والتشغيل السليم للجهاز المناعي». وتوجد آلياتٌ مشابهة في
النباتات لاكتشاف الأصوات، والروائح، والموقع، وحتى تشكيل الذكريات.
وفي مقابلةٍ مع مجلة «ساينتفك أمريكان» يصفُ تشاموفيتز كيف تلعب أنواعٌ
مختلفة من الذكريات دورًا في سلوكيات النباتات:
إذا كانت الذاكرة تنطوي على تشكيل الذكرى (تشفير المعلومات)،
والاحتفاظ بالذكرى (تخزين المعلومات)، واستعادة الذكرى
(استرداد المعلومات)، فإن النباتات تتذكَّر بكل تأكيد. فعلى
سبيل المثال، نبات «خَنَّاق الذباب» لا يُغلق مصيدته إلا إذا
لمست حشرةٌ شعرتين من الشعر الموجود على أوراقه؛ ومن ثم فهو
يتذكَّر اللمسة الأولى … وتتذكَّر شتلات القمح أن فصل الشتاء
قد انتهى قبل أن تبدأ في الإزهار وصنْع البذور. وتصنع بعض
النباتات المجهَدة ذريةً أكثرَ مقاومةً لنوعِ الإجهاد نفسِه
الذي تعرَّض له أسلافها، وهو نوع من الذاكرة العابرة للأجيال
اكتُشف حديثًا في الحيوانات أيضًا.
4
تُجري عالِمة البيئة سوزان سيمارد أبحاثًا في علم بيئة الغابات، وقد
حقَّقت أبحاثها تقدُّمًا كبيرًا في فَهْمنا للتواصل الذي يحدث بين
الأشجار في الغابات. في عام ٢٠١٦، ألقت سوزان محاضرةً في مؤتمر
«تِد»
TED الشهير وصفت فيها إثارة
اكتشاف التكافل بين نوعَين من الأشجار أثناء إجراء أبحاثها على شبكات
الفطريات الجذرية؛ وهي شبكات متشعِّبة تحت الأرض من الفطريات تربط
نباتاتٍ مستقلة، وتنقل الماءَ، والكربون، والنيتروجين، ومعادنَ وموادَّ
مغذية أخرى، بين هذه النباتات. كانت سيمارد تدرُس مستويات الكربون في
نوعين من الأشجار؛ وهما دوجلاس التنوب (أحد أنواع شجر الصنوبر)
والبِتولا الورقية، عندما اكتشفت أن النوعين منخرطان في «محادثة ثنائية
حيوية». ففي أشهُر الصيف، عندما تكون شجرة «التنوب» بحاجةٍ إلى المزيد
من الكربون، تُرسل البِتولا المزيدَ من الكربون إليها، وفي أوقاتٍ
أخرى، عندما تكون التنوب لا تزال في مرحلة النمو، وتحتاج البِتولا إلى
مزيدٍ من الكربون لأنها بلا أوراق، ترسل التنوب المزيدَ من الكربون إلى
البِتولا — وهو ما يكشف أن هذَين النوعَين متكافلان في واقع الأمر.
ومما يُثير الدهشة أيضًا نتائج أبحاث إضافية أشرفت عليها سيمارد،
وأظهرَت أن «الأشجار الأم» من دوجلاس التنوب قادرةٌ على التمييز بين
أقاربها من النوع نفسِه وبين الشتلات الأخرى المجاورة. وجدت سيمارد أن
الأشجار الأم استعمرت الأشجار من نوعها عن طريق شبكات فطريات جذرية
أكبر، وكانت ترسل إليها المزيد من الكربون تحت الأرض. كما أن الأشجار
الأم «قلَّلت من تنافس جذور تلك الأشجار لإفساح المجال أمام الأشجار
الناشئة للنمو»، كما كانت ترسل رسائلَ حين تُصاب أو تحتضر من خلال
الكربون، وتوصِّل إشاراتٍ دفاعية أخرى إلى شتلات تلك الأشجار، مما يزيد
من مقاومة هذه الشتلات للضغوط البيئية المحلية.
5 وبالمثل، عن طريق نشر السموم عبر الشبكات الفطرية تحت
الأرض، تستطيع النباتات أيضًا مكافحة الأنواع التي تهدِّدها. ونظرًا
إلى الروابط الهائلة ووظائف شبكات الفطريات الجذرية هذه، يُشار إليها
باسم «شبكة الإنترنت الطبيعية للأرض».
6
ومع ذلك، يمكننا بسهولة تخيُّلُ النباتات تمارس السلوكيات الموصوفة
هنا دون أن يكون ثمة «شيءٌ يشبه» كونك نباتًا؛ لذا فإن السلوك المعقَّد
لا يُلقي الضوء بالضرورة على ما إذا كان النظام واعيًا أم لا. ويمكننا
استكشاف حَدْسِنا بشأن السلوك من زاوية أخرى من خلال طرح السؤال
التالي: «هل يحتاج النظام إلى وعيٍ لممارسة سلوكيات معيَّنة؟» على سبيل
المثال، هل يحتاج روبوت متقدِّم إلى أن يكون واعيًا ليربِّت على ظهر
صاحبته عندما يراها تبكي؟ أغلبنا سوف يُجيب على الأرجح: «ليس
بالضرورة». فبعض شركات التقنية تقوم بخلقِ أصواتٍ مُحوسَبة لا يمكن
تمييزها عن الأصوات البشرية.
7 وإذا قمنا بتصميمِ ذكاءٍ اصطناعي وبدأ يومًا ما في قولِ
أشياءَ مثل: «توقَّف من فضلك — ما تفعله يُؤلمني!» فهل ينبغي أن نأخذ
ذلك دليلًا على وجود الوعي، أو ببساطة على برمَجةٍ معقَّدة، ولكنها
مفتقِدةٌ إلى الوعي؟
إننا نفترض، على سبيل المثال، أن خوارزميةً مجردةً تمامًا من الوعي
تكمُن وراء قدرة جوجل المتزايدة على تخمينِ ما نبحث عنه بدقة، أو قدرة
برنامج مايكروسوفت أوتلوك على تقديم اقتراحاتٍ بشأن مَن قد نرغب في
إضافته لتسلُّم نسخةٍ من رسالة البريد الإلكتروني التالية. إننا لا
نعتقد أن جهازَ الكمبيوتر الخاصَّ بنا واعٍ — فضلًا عن أن يهتمَّ بنا —
عندما يومض اسمُ أحد أقاربنا، مثل العم جون، مذكِّرًا إيانا بإدراجه في
الرسالة التي نكتبها لإخبار الأسرة بمولد طفل جديد. من الواضح أن
البرنامج تعلَّم أن العم جون عادةً ما يُدرَج اسمه في رسائل البريد
الإلكتروني إلى الوالد وإلى ابنة العم جيني، ولكن ليس لدينا أيُّ دافع
لنقول لهذا البرنامج: «شكرًا لك — كان هذا لطفًا منك!» غير أنه من
الممكن تصوُّر أن تقنيات التعلُّم العميق المستقبلية سوف تمكِّن هذه
الأجهزة من التعبير عن أفكارٍ وعواطفَ واعيةٍ (مما يُعطيها قدراتٍ
متزايدةً على خداع البشر). وتكمُن المشكلة في أن كلًّا من الحالات
الواعية وغير الواعية تبدو متوافقة مع أي سلوك، حتى تلك المرتبطة
بالعاطفة، ومن ثَم فإن السلوك في حدِّ ذاته لا يُشير بالضرورة إلى وجود
الوعي.
وهكذا، فجأة، تبدأ إجاباتنا الأولية عن السؤال الأول — سؤال ما الذي
يُعد دليلًا على وجود الوعي؟ — في التلاشي. وهذا يقودنا إلى السؤال
الثاني، بشأنِ ما إذا كان الوعي يؤدي وظيفةً أساسية — أو له أيُّ تأثير
على الإطلاق — في النظام الماديِّ صاحبِ الوعي.
8 من الناحية النظرية، يمكنني أن أتصرَّفَ بكلِّ الطرق التي
أتصرف بها وأقولَ كل الأشياء التي أقولها دون أن يكون لديَّ خبرةٌ
واعية بها، مثلما قد يفعل روبوت متقدِّم (رغم أنه يصعُب تخيُّل ذلك بلا
شك). هذا هو جوهر تجربةٍ فكرية تُعرف باسم «الزومبي الفلسفي»، والتي
اشتُهرت عن طريق ديفيد تشالمرز. يطلب منا تشالمرز أن نتخيَّل أن أيَّ
شخص قد يكون — حقًّا — زومبي؛ وهو شخص يبدو ويتصرَّف من الخارج مثل
أيِّ شخص آخر تمامًا، ولكن دون أيِّ خبرة داخلية على الإطلاق. إن تجربة
الزومبي الفكرية مثيرةٌ للجدل، ويدَّعي فلاسفةٌ آخرون، ولا سيما دانيال
دينيت من جامعة تافتس، أن ما تقترحه هذه التجربة الفكرية مستحيل؛ بمعنى
أن أيَّ دماغ بشري يعمل بشكلٍ كاملٍ لا بد أن يكون واعيًا، بطبيعة
الحال. لكن تصوُّر «الزومبي» مسألة تستحق التأمُّل ولو من الناحية
النظرية فقط؛ لأنها تساعدنا في تحديد السلوكيات التي نعتقد أنها يجب أن
تكون مصحوبة بوجودٍ للوعي، إن وُجدت.
الهدف هنا هو التخلُّص من أكبر عددٍ ممكن من الافتراضات الخاطئة،
وهذا التمرين الذهني تحديدًا مفيدٌ، سواءٌ كان وجود الزومبي متوافقًا
مع قوانين الطبيعة أوْ لا. تخيَّل أن شخصًا ما في حياتك هو في الواقع
زومبي أو روبوت مزوَّد بذكاء اصطناعي (يمكن أن يكون أيَّ شخص؛ بدايةً
من شخصٍ لا تعرفه يعمل في متجر، ونهايةً بصديقٍ مقرَّب لك). في اللحظة
التي تشهد فيها سلوكًا من هذا الشخص تعتقد أنه لا بد أن يكون سلوكًا
متزامنًا مع خبرةٍ داخلية لهذا الشخص، اسأل نفسك لماذا تعتقد ذلك. ما
هو الدور الذي يبدو أن الوعي يلعبه في سلوكه؟ لنفترض أن صديقك الزومبي
شاهدَ حادثَ سيارة، ويبدو عليه القلق على نحوٍ متناسب مع الحدث،
ويُخرِج هاتفه للاتصال بسيارة إسعاف. هل يمكن أن يكون هذا الشخص
يتصرَّف بشكل آلي دون إحساس داخلي بالقلق والاهتمام، أو دون عملية
تفكير واعية تؤدي به إلى إجراء المكالمة الهاتفية ووصفِ ما حدث؟ هل
يمكن أن يحدث كل هذا حتى لو كان روبوتًا، دون أن يشعر بأيِّ شعور يدفعه
لهذا السلوك؟
لقد اكتشفت أن تجربة الزومبي الفكرية يمكنها أيضًا التأثيرُ على
تفكيرنا على نحوٍ يتجاوز مقصدها الأصلي. فبمجرد أن نتخيَّل أن السلوك
البشري مِن حولنا موجود دون وعي، يبدأ هذا السلوك يبدو أشبه بالعديد من
السلوكيات التي نراها في العالم الطبيعي والتي لطالما افترضنا أنها
غيرُ واعية، مثل سلوك نجم البحر الذي يتجنَّب العقَبات، وهو حيوانٌ
مائي لا فقاري ليس لديه جهاز عصبي مركزي.
9 وبعبارة أخرى، عندما نخدع أنفسنا لنتخيَّل أن الناس
يفتقرون إلى الوعي، يمكننا أن نبدأ في التساؤل عمَّا إذا كنا في الواقع
نخدع أنفسنا طَوال الوقت عندما نعتبر أنظمةً حيةً أخرى — مثل اللبلاب
المتسلِّق أو شقائق النعمان البحرية اللاسعة — مجردةً من الوعي. إن
لدينا حَدْسًا متأصِّلًا بعمق — ومن ثم اعتقاد راسخ — بأن الأنظمة التي
تسلك مثل سلوكنا هي أنظمة واعية، وأن تلك التي لا تفعل ذلك غيرُ واعية.
ولكن ما توضحه تجرِبة الزومبي الفكرية لي تمامًا هو أن الاستنتاج الذي
نستخلصه من هذا الحَدْس ليس له أساس حقيقي سليم. إنه مثل صورة ثلاثية
الأبعاد، تنهار في اللحظة التي نخلع فيها نظارتنا.