هل الوعي حرٌّ؟
إن حَدْسنا المتمثِّل في أن الوعي يقف وراء سلوكياتٍ معيَّنة نابعٌ من شعورنا بأننا نتخذ القرارات بحُريةٍ في هذا العالم، بينما أعمالنا الإرادية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بإحساسنا بالتحكُّم الواعي في اللحظة الراهنة. وسواءٌ أكان القرار الذي نفكِّر فيه صغيرًا مثل اختيار شرْب الماء بدلًا من عصير البرتقال، أم قرارًا ذا تبعات كبيرة، مثل قَبول وظيفةٍ في تكساس بدلًا من وظيفة أخرى في نيويورك، فإننا نشعر بشدة أن الوعي مطلوب لعمليات التفكير (وحتى التفضيلات) الضرورية لاتخاذ قرارٍ ما. ومن ثم، فإن النتائج المتعلِّقة بكيفية اتخاذ القرارات على مستوى الدماغ — والتأخير بمقدار عدة أجزاء من الألف من الثانية في إدراكنا الواعي للمدخلات الحسية وحتى أفكارنا — تسبَّبت في وصف العديد من علماء الأعصاب، بما في ذلك جازانيجا، لشعور الإرادة الواعية بأنه وهم. لاحظَ أنه في مِثل هذه التجارِب، شعر المشاركون بأنهم يقومون بفعلٍ ما بإرادتهم الحرة، بينما الواقع أن هذا الفعل قد بدأ بالفعل قبل أن يشعروا أنهم اتخذوا قرار التحرُّك.
فما هو الدور الذي يلعبه الوعي إذا لم يكن هو خلْقَ إرادةِ التحرُّك وكان مجرَّدَ مُشاهِد لهذا التحرُّك وهو يحدث، وكل ذلك في ظل وهمِ أنه هو المسئول؟ يمكننا الآن أن نرى كيف أن الشعور بالإرادة الحرة — كما نختبره عادةً — ليس بالبساطة التي يبدو عليها. وإذا بدَّدنا هذا المفهوم الشائع، يمكننا البدءُ في التشكيك في فكرةِ أن الوعي يلعبُ دورًا أساسيًّا في توجيه السلوك البشري.
من المهم أن أوضِّح أنني عندما أتحدَّث عن طبيعة الإرادة الحرة في هذا السياق، فإنني أُشير تحديدًا إلى الشعور بالإرادة «الواعية». إنني أشير إلى الوهم الأساسي اليومي الذي يبدو أنه يُلازمنا جميعًا: أننا «ذوات» متمايزةٌ ومنفصلة؛ ليست منفصلةً فقط عن المحيطين بنا وعن العالَم الخارجي، ولكن حتى عن أجسادِنا نفسِها، كما لو أن تجربتنا الواعية بطريقةٍ ما تطفو مستقلةً عن العالَم المادي. فعلى سبيل المثال، لديَّ — مثل أي شخص آخَر — ميلٌ سخيف إلى اعتبار «جسدي» (بما في ذلك «رأسي» و«دماغي») شيئًا يسكنه وعيي؛ في حين أن الحقيقة هي أن كلَّ ما أُفكِّر فيه على أنه «أنا» يعتمد على وظائف دماغي. فحتى أدنى التغيرات العصبية التي قد تحدث عن طريق التسمُّم مثلًا، أو المرض، أو الجرح، يمكن أن تجعل «الأنا» غيرَ قابلة للتعرُّف عليها. ومع ذلك، لا يبدو أنني أستطيع زعزعة الحَدْس الخاطئ القائل بأنه يمكنني حتى اختيار ترْك جسدي (فقط لو كان بإمكاني معرفة كيفية فِعل ذلك) وكل شيء يشكِّل «الأنا» سيظل بطريقةٍ سحريةٍ ما قائمًا دون مساس. من السهل أن نرى كيف أن البشر في جميع أنحاء العالم، جيلًا بعد جيل، قاموا دون عناء كبير ببناء مفاهيمَ مختلفة عن «الروح»، وأوصاف لحياةٍ بعد الموت تحمل تشابهًا مذهلًا مع الحياة قبل الموت.
كنت ذاتَ مرةٍ في إحدى الفعاليات عندما سُئل صديقي ومعلِّم التأمُّل جوزيف جولدشتاين عما إذا كان يعتقد أنَّ لدينا إرادةً حرَّة. وقد أجاب عن السؤال بوضوحٍ لافتٍ للنظر عندما قال إنه لا يعرف حتى ماذا يعني هذا المصطلح. ما معنى أن تكون لدينا إرادةٌ مستقلة عن العلاقات بين الأسباب والنتائج في الكون؟ وأشار بيديه إشارةً راقصة في الهواء فوقه؛ في محاولةٍ للإشارة إلى هذه الإرادة الحرة الخيالية، وهو يتساءل: «كيف يمكننا حتى محاولة تخيُّل مثل هذه الإرادة حولنا؟»
تخيَّل أننا في مدينةٍ مستقبلية، وأن سيارةً ذاتيةَ القيادة صدمت أحدَ المشاة. سوف تعتمد الاستجابة لهذا الحدث المؤسف على سببِ عدمِ توقُّف السيارة. إذا تبيَّن أن برامجها مَعيبة ولا يمكنها التعرُّف على المشاةِ عندما يرتدون معاطفَ شتوية داكنة، على سبيل المثال، فإن ذلك سيتطلب استجابةً معيَّنة. وإذا تعطَّلت مستشعِرات السيارة بسببِ عيبٍ في هذه السيارة تحديدًا، فإن ذلك يتطلب استجابةً مختلفة. وإذا صدَمَتِ السيارةُ الشخصَ السائرَ لأنها كانت تتجنَّب الاصطدام بحافلةٍ مزدحِمة ودفعها وسط زحام مروري في الاتجاه الآخر، فسننظر إلى هذا الموقف (ونستجيب له) على نحوٍ مختلف تمامًا عن السيناريوهَين الأوَّلين — باعتباره «نجاحًا» للتكنولوجيا المتقدِّمة للسيارة، بدلًا من اعتباره عيبًا بها. إن مجرد معرفتنا أن سيارةً ذاتيةَ القيادة صدمت أحدَ المشاة ليست معلوماتٍ كافيةً لمساعدتنا في منع هذه السيارة من أن تُكرِّر الحادثة أو لمعرفةِ كيفية صُنع سياراتٍ أفضل.
من المهم أن نُلاحظ أنه في هذه التأملات حول السيارات الذاتيةِ القيادة، لم يدخل الوعي في المحادثة قط. ويمكن النظر إلى الدماغ بطريقةٍ مماثلة عندما يتعلَّق الأمر بالإرادة الواعية. فسيكون من المهم دائمًا معرفة «السبب» الذي جعل شخصًا ما يتصرَّف بعنف، على سبيل المثال. ثمَّة مجموعة من السلوكيات البشرية التي يمكن أن تتأثَّر بالردع، والعواقب السلبية، والتعاطف، إلى جانب تلقينِ الأدمغة النامية للأطفال بالتنظيم الذاتي والتحكم الذاتي؛ وجميع الطرق الأخرى التي تستخدمها المجتمعاتُ المتحضرة لإبقاء البشر حَسَني التصرُّف (عمومًا).
يُغيِّر الدماغ من سلوكه باستمرار استجابةً للمدخلات التي يتلقَّاها. كما أنه يتغيَّر ويتطوَّر من خلال الذاكرة، والتعلُّم، والتفكير الداخلي. فمع التوجيه الصحيح، فإننا نتوقَّف في النهاية عن رمي أنفسنا على الأرض والدَّق بقبضاتِ أيدينا عندما لا نحصل على ما نريد. وما كنا لنتمكنَ من الوصول إلى ذلك دون مفاهيمَ مثل المسئولية، والمساءلة، والعواقب. لكن في المواقف التي تكون فيها الضغوط الحضارية المعتادة عاجزةً (حين يعاني شخصٌ ما هلاوسَ فصاميةً مثلًا)، فمن المنطقي معاملةُ هذا الشخص وسلوكه على نحوٍ مختلف عن الشخص الذي يخضع لتلك الضغوط الحضارية. وبالمثل، فإن فَهم النوايا الكامنة وراء السلوك العنيف يُعطينا معلوماتٍ مهمة حول نوع «البرمجيات» التي يعمل بها دماغُ شخصٍ ما. فالشخص الذي يُخطِّط لعدةِ جرائمِ قتلٍ لديه دماغٌ يعمل بشكلٍ مختلف تمامًا عن شخصٍ أصيب بجلطة دماغية أثناء قيادة سيارته وقتل عددًا من الأشخاص عن طريق الخطأ.
قد يبدو من التناقض الحديثُ عن الأخلاق في هذا الإطار؛ لأن الوعي ضروري لمناقشة المسائل الأخلاقية. فلما كانت الأخلاق مجالًا يتعلَّق بالمعاناة، فإن كل المحادثات حولها تدور حول كيفية «الشعور» بشيءٍ ما. لكن من حيث كونُ الدماغ نظامًا للمعالجة الفيزيائية؛ فإن بعض أهدافه يمكن أن تكون أخلاقية بطبيعتها — تحديدًا، العمل على تقليل عدد الأحداث التي تُسبِّب المعاناة — وهنا تُشبه أدمغتنا السيارات الذاتية القيادة المذكورة سابقًا. وعلى الرغم من أننا نتحدَّث عن تعديلِ تجربةٍ واعية، فإن الوعي نفسه لا يعني بالضرورة التحكُّم في النظام؛ وكلُّ ما نعرفه هو أن الوعي يشعر بالنظام. وليس من التناقض أن نقول إن الوعي ضروري للاعتبارات الأخلاقية، ولكنه في الوقت ذاته غيرُ ذي صلة عندما يتعلَّق الأمر بالإرادة.
يُعد التمييز بين سلوكيات الدماغ المتعمَّدة والسلوكيات التي يسبِّبها تلفٌ في الدماغ أو قُوًى خارجية أخرى («ضد إرادة الفرد») أمرًا سليمًا وضروريًّا، لا سيما عند تنظيم قوانين المجتمع وأنظمة العدالة الجنائية. لكنَّ الادِّعاء بأن الإرادة الواعية وهميةٌ لا يزال قائمًا — بمعنى أن الوعي لا يقود السفينة — ويمكن الحفاظ على تلك الإرادة جنبًا إلى جنب مع هذه التمييزات الأخرى المتمثلة في التعمُّد والمسئولية.
التجارب الموصوفة في هذا الفصل ليست ضروريةً لإثبات هذه النقطة في حقيقة الأمر. فخِبرتنا وحدها تكشف الوهم، ويمكنك اكتسابُ بعض الأفكار المتبصرة حول هذا الأمر من خلال تجرِبة بسيطة. اجلس في مكانٍ هادئ وامنح نفسك خيارًا — أن ترفع ذراعك أو قدمك — مع وجوب إجراء هذا الخيار قبل وقتٍ معيَّن (قبل أن يصل عقرب الثواني في الساعة إلى الرقم ستة، على سبيل المثال). فلتقُم بذلك الأمر مرارًا وتكرارًا، ولْتُراقب خبرتك من لحظةٍ إلى أخرى عن كثَب. لاحظ كيف يتم إجراء هذا الاختيار في الوقت الحقيقي، وما الشعور الذي يُسبِّبه. من أين ينبع القرار؟ هل «تُقرِّر متى تقرِّر»، أم يبزغ القرارُ ببساطة في تجربتك الواعية؟ هل ثمَّة إرادةٌ واعية تعطيك بطريقةٍ ما الفكرة؛ «حرِّك ذراعك»، أم أن الفكرة تصل إليك من مصدرٍ ما؟ ما الذي يجعلك تختار الذراع وليس القدم؟ قد يبدو لك فجأةً أن «أنت» (أي تجربتك الواعية) لم يكن لها أيُّ دور في الأمر.
يبدو واضحًا أننا لا نستطيع أن نقرِّر ما نفكِّر فيه أو نشعر به أكثرَ مما نستطيع أن نقرِّر ما نراه أو نسمعه. إن التقاءً معقَّدًا للغاية بين العوامل والأحداث الماضية — بما في ذلك جيناتنا، وتاريخ حياتنا الشخصية، وبيئتنا المباشرة، وحالة أدمغتنا — هو المسئول عن كل فكرةٍ تالية نفكِّر فيها. هل قررتَ أن تتذكَّر الفرقة الموسيقية في مدرستك الثانوية عندما بدأ الراديو في إذاعة تلك الأغنية؟ هل قرَّرتُ أنا أن أكتب هذا الكتاب؟ الإجابة بشكلٍ ما هي نعم، لكن «أنا» في السؤال ليست هي تجربتي الواعية. في الواقع، قرَّر دماغي، بالاشتراك مع تاريخه ومع العالم الخارجي، أن أكتب هذا الكتاب. أما أنا (بمعنى تجربتي الواعية) فقد شهدت ببساطة هذه القرارات وهي تتجلى للعِيان.