هي … هي لعبة

الردح كالزغاريد فن مصري أصيل، وكما أن الزغاريد لا تُجيدها كل النساء، فكذلك الردح هناك متخصِّصات فيه يحفظن عددًا لا نهاية له من الشتائم والأوصاف، بعضها عادي وبعضها فيه تشبيهات واستعارات وكنايات، وبعضها أدب خالص. ولا يكفي الحفظ بل لا بد أن يكون في استطاعة الواحدة منهن أن تلضم الكلمة في الكلمة بلا تردُّد أو توقُّف، وتصنع من الشتائم سيلًا متدفِّقًا لا ينقطع، فإذا انقطع وقع المُحال. ولا بد للشتمة المستعمَلة من وقعٍ وموسيقى، ولا بد أن يكون للصوت المستعمل مقام معين يرتفع في الأماكن المهمة إلى «السوبرانو»، وينخفض عند بعض الكلمات الماسة إلى «الألتو». فمع أن المسألة شتيمة في شتيمة إلا أن هناك على كل حال شتائم لا تصح، ونحن شعب مؤدَّب وخجول بطبعه. ثم لا بد للردَّاحة من موهبة فطرية تستطيع بها أن تُخرج أرفع الأصوات وأعلاها بأقل مجهود؛ حتى لا تستنفد طاقتها وحتى تستطيع الصمود. فالردح مسابقة والفائزة هي من يعلو صوتها ويظل عاليًا إلى النهاية.

والفنون كالغذاء لا بد من مزاولتها على الدوام … وكان طبيعيًّا إذن ألَّا ينقطع الردح عن الحارة ليلًا أو نهارًا، ولا يعرف عطلةً أو راحة.

وفي ذلك اليوم وشعبان عائد من عمله بعد الظهر بقليل، والدنيا تسبح في أشباه السكون … في ذلك اليوم ما كاد يضع قدمه في أول الحارة حتى دقَّ قلبه؛ فقد سمع ردحًا عالي الوطيس يواتيه من آخرها. دقَّ قلبه لأنه خاف أن تكون الخناقة مع امرأته … وامرأته غلبانة من الأرياف، وإذا كانت الخناقة معها فعوضه على الله؛ فهي مبتدئة لا تستطيع أن تجاري بطلات المدينة. صحيح أنها بدأت في الآونة الأخيرة تتعلَّم، ولكنها لا تزال «تطبِّش» كما يفعل الرجال حين يتعلَّمون السباحة على كِبر. كل ما تستطيع أن تفعله هو أن تقف في النافذة وتوارب الشيش وتحاول الرد على غريمتها. وتخرج ردودها بعد جهد فهي ريفية خجول لا تستطيع أن تحشو فمها بكلمة فارغة مثلما تحشو نساء المدينة أفواههن؛ ولذلك فمهما قالت فكلماتها تتساقط كأوراق الخريف أمام التيار اللافح الذي يهب عليها من فم غريمتها.

وصدق ظنُّ شعبان فالخناقة فعلًا كانت مع امرأته، وكانت واقفةً لا حول لها ولا قوة كما توقَّع وامرأة إبراهيم أفندي قد وقفت في بلكونتهم وصوتها يجيب التائهين. والناس تتفرَّج بكل قِحَة، وهي لا تترك شاردةً ولا واردةً إلا قالتها.

وقف الرجل يتسمَّع علَّه يعثر على سبب للخناقة أو يرى إلى أي حد وصل النزاع، ولكنه ما كاد يتوقَّف حتى فار الدم في رأسه، كانت المسألة قد وصلته هو شخصيًّا وأتت على رجولته ثم تعدَّته إلى أبيه وأمه وذقون أجداده أجمعين.

ودقَّ البابَ كثيرًا قبل أن تفتح فهيمة امرأته. وامرأته سمعها ثقيل وبابهم أصم ولهذا طال دقه. ثم انفتح الباب، وما إن رأته فهيمة حتى شهقت وبكت وأمطرت في الحال دمعًا! وكاد يرفع يده ويرنها قلمًا وهو حانق على خيبتها وقلة محصولها من طول اللسان، ولكنه تردَّد، فلا بد للخناقة من سبب ولا بد أن يعرف السبب.

وزعق زعيقًا هائلًا يسأل عن السبب. واعتدلت امرأته واختفت دموعها فجأةً كما بدأت وقالت: ابنك انقتل!

وأشارت إلى الكنبة. وسقط قلب شعبان بين قدمَيه وكاد هو نفسه يسقط على الأرض مغشيًّا عليه لولا أنه حدَّق في الكنبة. كان ابنه جالسًا القُرفُصَاء فوقها ورأسه معصوب بمنديل، وعلى المنديل بقعة دم كبيرة، وفي وجهه خرابيش، وفي عينَيه نظرة فأر وقع في المصيدة، ولم يكن مقتولًا على أية حال.

وما كاد الولد يرى أباه ينظر ناحيته حتى تولَّاه رعب هائل وبكى بصوت عالٍ وقال: أنا مالي؟ هه، هو اللي ضربني الأول، هه.

وملأ شعبان صدره بالهواء بقوة محاوِلًا كتم غيظه، ولو لم يخرج الهواء ويتنهَّد لانفجر. القضية كانت قد بدأت تتجسَّد أمام عينَيه، فلا بد أن واحدًا من أولاد إبراهيم أفندي هو الذي ضربه، وإبراهيم أفندي له ثمانية أولاد، لا بد أن الضارب هو الولد الرفيع مثل عود القصب الذي يجري طول النهار ببنطلون أصفر قصير وسيقان جافة. وهو لن يستحمل منه خبطةً ولا لكمة. ولكن هل يمد يده على طفل؟ ثم كيف لم يغلبه ابنه الخائب مثل أمه؟ ابنه صحيح أصغر منه في السن وأدق منه في العود، ولكن كيف يغلب أيُّ ابن في الدنيا ابنَه؟ وكيف يجرحه ويبطحه؟

وتقدَّم شعبان. كان لا بد من رؤية الجرح قبل كل شيء، وما إن رآه الولد يقترب حتى انكمش إلى طرف الكنبة ولم يوقفه عن انكماشه إلا انتهاؤها، وغمغم شعبان وهو يسبه ويلعن أباه ويهدِّئ من رَوعه ويطمئنه إلى أنه فقط يود رؤية الإصابة. وامتثل الولد بعد تهديد، وظلَّ يرتعش وأبوه يفك المنديل، وصرخ وهو يجذبه. ولم تكن الإصابة قاتلةً أو ربع قاتلة؛ كانت جرحًا صغيرًا نصفه في الجبهة ونصفه في الشَّعر، والدم الذي حوله كثير والبن أكثر، بن يكفي لصنع ثلاث كنكات من القهوة وتبقى منه بعدها تلقيمة.

ومع أن شعبان أحسَّ بالجرح يمتد من جبهة ابنه إلى قلبه، إلا أن وجهه لم يتغيَّر وغيظه كان لا يزال كما هو. وأعاد رباط الجرح وزغر لابنه، وقال وهو يجلده بملامحه: وما ضربتوش ليه يا …؟

وبكى الواد وهو يُقسم بالقرآن الشريف إنه أشبعه ضربًا ولكمًا وعضًّا، ولكنه خانه وضربه بزلطة فجرحه.

وبدأت العاصفة؛ فهيمة تريد إبلاغ البوليس وعمل محضر وقتل ابن إبراهيم أفندي، وإن لم يفعل فستأخذ هدومها وعليه أن يوصلها إلى باب الحديد لتركب القطار وتعود إلى البلد حيث للولد أخوال يستطيعون حمايته والانتقام له. وشعبان ساخط على ابنه المغلوب يهدِّده بعلقة نصفها الموت حالما يطيب، علقة تصنع منه رجلًا يعرف كيف يذود عن نفسه ويجرح بدلًا من أن يأتيه مجروحًا. ولا يترك لابنه فرصةً للنجاة من العلقة إلا بأن يذهب في الحال ويجرح ابن إبراهيم أفندي جرحًا يمتد من أنفه إلى قفاه.

وتمضي ساعة.

وتهدأ العاصفة، ويستعيذ الزوج من الشيطان ومن ساعة الغضب، ويجد أن الناس للناس والطَّيب أحسن، وأنه لا بد أن يشتكي الولد لأبيه وهو يعرف إبراهيم أفندي رجل جد لن يرضيه ما فعله ابنه، فإذا أدَّبه كان بها، وإلا فهناك ألف طريقة لتأديبه. وترفض الزوجة هذا الحل بدعوى أنها جُرحت هي الأخرى؛ جرحتها طويلة اللسان زوجة «سي» إبراهيم وفضحتها، ولا بد من سنٍّ بسن وعين بعين والبادي أظلم. ويطمئنها الزوج ويعدها بأن حقها سيأتيها به كاملًا غير منقوص، وأن مقامها محفوظ وظفرها عنده بمليون واحدة كامرأة إبراهيم أفندي.

ويظل جو البيت مشحونًا، وشعبان يخلع بنطلون الشغل وقميصه ويرتدي الجلباب ويُريح يدَيه من نوبة السواقة التي بدأت في الخامسة وانتهت حين تصلَّب ظهره وتورَّمت كفاه وزغللت عيناه. ويسأل عمَّا طبخته الزوجة وهبَّبته ولا يجدها طبخت ولا هبَّبت، ويلعن العيشة التي لا راحة فيها أبدًا. الشغل أومنيبوس والبيت عربة كارو، وفي كل عودة لا بد أن يجد مصيبة، وكم مصيبة يتحمَّلها العمر! والواحد له عمر واحد.

بعد قليل كان شعبان يمسك ابنه المرتجف المرتعش من يده ويدق باب إبراهيم أفندي.

دقَّ مرةً فسكتت الأصوات التي كان يسمعها في الداخل. وعاد يدق فماتت الأصوات، وانطلق حينئذٍ يدق بلا توقف.

وفُتح الباب أخيرًا، فُتح فجأة، وفجأةً أيضًا وجد الأسطى شعبان نفسه أمام صالة وفي نهايتها كومة بشرية هائلة. كان الوقت وقت غداء، والعائلة كلها جالسةً تتناوله، والمائدة صغيرة ضيقة لا تتسع لهذا العدد الهائل من أفراد العائلة.

كانت هناك الست شفاعات الزوجة، تخينة ومحنية على المائدة ككيس القطن المثني، وكانت هناك الحاجة تبارك والدة إبراهيم أفندي عجوز جدًّا وناحلة وشعرها مصبوغ بالحناء ولونه أصفر وأحمر وأبيض. ثم كان هناك ثمانية أطفال بدَوا من كثرتهم وتجمُّعهم اثنَي عشر أو يزيدون، وكلهم باسم الله ما شاء الله وبلا ضغينة أو حسد أولاد إبراهيم أفندي. وفي الركن وفي مساحة لا تتعدَّى ورقة البوستة كان يجلس رجل رفيع رفيع، لونه أصفر باهت ووجناته بارزة كالشرفات، كان هو بلا ريب إبراهيم أفندي عميد العائلة والمسئول عن إنتاج هذا العدد الضخم من الكائنات الحية، والمسئول كذلك عن بقائها. وكان الجميع في معركة لا رحمة فيها ولا هوادة؛ فالطعام قليل والمائدة ضيقة والرغيف مهما كبِر لا يحتوي إلا على عدد محدود من اللقم، والصراع دائر من أجل البقاء، أو نتش حتة، أو الاعتداء على لقمة أو الحصول على غموس. صراع رهيب شمل العائلة كلها وشمل كذلك قططها؛ فالعائلة — من العز — تحيا معها أربع قطط لها جيش من الأولاد، والقطط وأولادها لا بد أن تأكل، ولا بد لها من خوض صراع أمرَّ وأدهى لتجد فرجةً بين ساقَين أو ثقبًا بين جسدَين؛ لينالها من الوجبة على الأقل لحسة أو عظمة.

وكل شيء يدور في صمت شامل، ولا تسمع إلا أصوات الملاعق واحتكاكات الأسنان بالأسنان وجعجعة المضغ واللكزات التي يصوِّبها الأخ إلى أخيه والجار إلى الجار القطة.

وما كاد الباب يُفتح ويبدو الأسطى شعبان واقفًا على عتبته حتى حدث هرج ومرج كثير، وقام إبراهيم أفندي يعزم، وتضايقت الست شفاعات من هذا القادم في وقت الغداء. وأحسَّ الأسطى شعبان بالخجل، وتبودلت عبارات مجاملة كثيرة، وحُلفت عشرات الأيمانات والأقسام وتزحزحت مقاعد، وماء ولد وصرخت قطة.

وأخيرًا جلس الأسطى على الكنبة وهدأت الأصوات، ثم التأم شمل الكومة البشرية مرةً أخرى وعاد السكون الذي لا تقطعه سوى أصوات الأشداق والأسنان وهي تمضغ اللقم وتمزِّقها، مضافًا إليها أصوات ترحيبات كان يردِّدها إبراهيم أفندي وفمه ممتلئ بالخبز وعقله ممتلئ بالتخمينات.

وكان واضحًا أن عاصفةً ستهب بعد قليل، وانتهز كل فرصة الهدوء الذي يسبقها وراح يعبِّئ نفسه ويستعد.

الأسطى شعبان جالس مكسوف يرتِّب ما سوف يقوله وينتقيه، ويجرِّب بينه وبين نفسه كيف يقوله. وإبراهيم أفندي يُدرك أن ولدًا من أولاده لا بد هو الجاني وهو السبب في الدم الذي جفَّ على منديل ابن شعبان، ولا بد أن امرأته كالعادة تولَّت علاج الأمر بطريقتها الفاسدة، وأخفت عنه الحكاية ككل مرة وتركته ليواجه المصيبة وحده. ومع هذا كان عليه أن يدفع أول الأمر ببراءة أولاده أجمعين ويتحدَّث عن طيبتهم، ويأتي بالبراهين على أنهم أولاد حلال مسالمين. فإن أفلتت البراءة كان عليه أن يتصيَّد الحجج ويقيم المعاذير ويَعِد آخر الأمر بالعقاب الباتر.

والست شفاعات نسيت تمامًا أنها لم تترك أبًا لهذا الرجل الجالس أمامها إلا ولعنته وطوَّقته بأبشع التهم منذ وقت قليل، واندفعت ترحِّب به وفي نفس الوقت تُعد ما سوف تقوله دفاعًا عن ابنها، ثم ما سوف تقوله دفاعًا عن نفسها أمام زوجها إن هو سألها كيف أخفت عنه ما حدث، ولم تنسَ بطبيعة الحال أن تحسب حساب الضرورة القصوى وتُعد نفسها لخناقة، وتُعد لشعبان سربًا طيبًا من الشتائم يليق بوداعه. والأولاد قلوبهم كانت تدق فالجاني لا بد منهم، وكلٌّ منهم فرح أنه ليس الجاني وأنه سيشهد لتوه محاكمةً رائعة يلذ له حضورها كشاهد رؤية فقط وليس كمتهم.

غير أن أمل الأولاد خاب؛ فبعد قليل جلجل صوت أبيهم يأمرهم بالانسحاب، ويأمر زوجته بإزالة بقايا الطعام.

وجلجلة صوت أبيهم وإن كانت لا تحدث إلا نادرًا ولا تحدث إلا في حضرة أغراب، إلا أنها أحيانًا تُخيف ويحسن طاعتها. ورُفعت بقايا الطعام، ولم يكن قد تبقَّى سوى الصحون والملاعق فقط، وللإنصاف بقيت أيضًا حبات أرز قليلة دخلت في شقوق المائدة ولم تستطِع أصابع الأطفال ولا حتى أظافر القطط أن تصل إليها.

وكان في نية إبراهيم أفندي أن يُجلجل صوته مرةً ثالثة ويأمر زوجته بتركه مع الأسطى شعبان على انفراد، لولا أنه شكَّ في احتمال طاعته، فآثر السلامة والاحتفاظ بكِيانه سليمًا أمام الضيف لا تجرحه كلمة ولا زغرة أو تعليق.

وهكذا، وليُبعدها، أمرها بلهجة رقيقة لطيفة لا يقولها إلا زوج غارق في سعادة زوجية دائمة أن تُعد القهوة، وأصابته نظرة جانبية مدبَّبة كطرف الإبرة أفهمته أن ليس لديهم بن.

وحينئذٍ افتعل إبراهيم أفندي ضحكةً ما، وقال للأسطى شعبان وهو يخبطه فوق ركبته: والا تشرب شاي أحسن؟ أنا عارف، أنت تحب الشاي. كل الأسطوات يحبوا الشاي. خليه تقيل يا أم نعيمة.

وبينما كان الشاي يُعد كانت أم نعيمة لا تتركهما على انفراد أبدًا وكأن في الأمر مؤامرة؛ فهي غادية رائحة تنقُل كرسيًّا من مكان إلى مكان، أو تسأل إبراهيم أفندي إن كان يريد شيئًا، وويله إن كان قد أراد شيئًا.

وأخيرًا آن الأوان وقال إبراهيم أفندي: خير؟

ولم يقل شعبان حرفًا. أشار لابنه وسكت.

وقال إبراهيم أفندي وقد أرتسم أسًى أكثر من اللازم على وجهه، وكأنه فوجئ برؤية رأس الولد المجروح: خير؟ ما له؟ ما لك يا بابا؟ ما لك؟!

فقال شعبان: ابنك عوَّره.

– ابني مين؟!

قالها إبراهيم أفندي باستنكار ثم أضاف: انت متأكد؟ يعني واحد من الأولاد اللي كانوا هنا دول هو اللي ضربه؟!

– أيوه.

– يا ولد! يا ولد أنت وهوه!

قالها إبراهيم أفندي في شموخ وشهامة.

وجاء الأولاد يتدارَى بعضهم في بعض، وكشَّ فيهم الأب: اقف عدل يا ولد. اقف عدل. شيل إيدك من على كتف أخوك يا قليل الأدب.

ووقف الأولاد وجاءت وِقفتهم أقرب ما تكون إلى الطابور. كانوا ثمانية، وكانوا يصنعون مع الأرض مثلثًا أصغرهم طوله أشبار وأكبرهم أطول من الوالد نفسه بقليل.

وحدَّق فيهم إبراهيم أفندي وهو يتفحَّص ليحزر من الجاني، ويُحس بنوع من الثقة لأنه رئيس هذا الطابور كله يستطيع أن يحرِّكه كيف يشاء. وقال لابن شعبان: مين فيهم اللي ضربك يا بابا؟

وأشار الولد إلى فؤاد الذي يقف في الوسط وقال: دهه.

وهنا ضاع زمام الموقف وهاج كل شيء، وارتفع صوت شعبان يحكي وبعنف وقد ذهب عنه خجله وحرجه، ويطالِب أن يُضرب الجاني علقة، الآن الآن، أمام عينَيه وإلا كان ما كان.

وردَّ عليه إبراهيم أفندي بصوت لا يقل عنه علوًّا، واشتركت شفاعات بلسانها ويدَيها ورموشها وعينَيها، وتناثر الأولاد في الصالة بعضهم يردِّد كلمات الأب، وبعضهم يعزِّز حركات الأم، وبعضهم يقلِّد كلمات الأسطى شعبان ويسخر من كلماته، وفي تلك الأثناء هاجت القطط وانطلقت تموء دون أن يُزعجها أحد، وسقطت أشياء في الحمام، وقرقعت قباقيب على البلاط، ورفع صاحب القهوة المجاورة مذياعه على الآخر، وأذَّن المغرب، وبدأت صيحات اللبن الزبادي.

وآب كل شيء فجأةً إلى هدوء حين ارتفع صوت إبراهيم أفندي يقول: ولزومه إيه كتر الكلام؟ نحقق، واللي عليه الحق ينضرب بالجزمة.

وهكذا بدأ التحقيق.

وبدأ الخلاف؛ فمن من الولدَين يحكي أولًا؟

واستقرَّ الرأي أخيرًا على أن يبدءوا برواية المجني عليه المجروح.

وبدأ ابن شعبان يتكلَّم، وما إن فتح فمه حتى صمت الجميع وترقَّبوا، وعمَّ السكون، وحينئذٍ تلجلج ولم يستطِع إخراج الكلمات إلا بعد أن نظر إلى أبيه، وكشَّ فيه أبوه فانطلق يقول: كنا … كنا بنلعب. وبعدين قسمنا … قسمنا نفسينا؛ أنا كنت بدا … بدافع ودهه (وأشار إلى فؤاد دون أن ينظر إليه) ودهه كان الأسطول … جه … جه يزقني ما قدرش عليَّ.

واندفع فؤاد الرفيع يقاطعه: أنا ما قدرتش عليك؟ مش إحنا قايلين مفيش طوب؟ ضربتني بالطوبة ليه؟

وهبَّ فيه أبوه يقول إخرس، فخرس فؤاد، وخرس ابن شعبان أيضًا وعمَّ سكون.

وتنحنح شعبان وقال لابنه: يا ولد إحكِ كويس. كنتم بتلعبوا إيه؟

ورفع إبراهيم أفندي جذعه ورأسه وذراعَيه محتجًّا على سؤال الأسطى شعبان، طالبًا أن يترك الولد ليروي ما حدث دون أي تدخُّل أو مساعدة.

وقال شعبان وأمره إلى الله: يا خوانا دانا بس عايز تعرفوا إيه الموضوع.

ومضى الولد يقول: جه يزقني ما قدرش عليَّ … فراح جايب زلطة وحدفني بيها جت ﻓ… ﻓ…

وبدأ الولد ينهنه لولا أن هبَّ فيه أبوه: إكتم يا بن اﻟ… إنت بنت؟ إكتم إوعَ تتنفس.

وفعلت كلمات الأب فعل السحر.

ورفع الابن وجهه لأول مرة، وحدَّق في الموجودين بجرأة وأشار إلى فؤاد وقال: علشان ما … ما قدرتش عليَّ … رحت جبت زلطة يا جبان.

وهبَّ فيه الجميع أن يخرس فلم يخرس، ومضى كالوحش الصغير يُهبهب ويعوي: عاملِّي أسطول؟! والله لمَّا تكون إنت مليون أسطول. علشان ما قدرتش عليَّ؟ حد كان قالك؟ قالك إلعب … حد … حد قالك إعمل أسطول؟ لمَّا إنت جبان.

وهنا جاءته زغدة (كده وكده) من أبيه فسكت وعمَّ السكون. وكان لا بد أن يعم السكون فإن أحدًا لم يكن قد فهم شيئًا، ثم إن ما تبادله الولدان زاد الأمر تعقيدًا، وأصبح هم كل والد أن يعرف كنه تلك الخناقة بعد أن كان همه أن يُعد نفسه للدفاع عن ابنه.

وكان واضحًا أنهما لن يستطيعا أن يستخلصا السبب من المتخاصمَين والمجني عليه متحفز والجاني يُنكر، والحقيقة ضائعة بين التحفُّز والإنكار.

وكان لا بد من التدخُّل للعثور على الحقيقة، وإبراهيم أفندي الذي لم يرضَ بتدخُّل شعبان بدأ هو الذي يتدخَّل ويسأل على اعتبار أنه والد الجاني فلن يحابي المجني عليه.

وأطال إبراهيم أفندي رقبته ومدَّ رأسه وقال كأي وكيل نيابة مدرَّب، موجِّهًا السؤال إلى ابن شعبان: اسمع يا شاطر؛ قل لي كنتوا بتلعبوا إيه؟

فأجاب ابنه بسرعة: كنا بنلعب لعبة الكنال.

وأسكت ابنه بلعنة وعاد يوجِّه السؤال للمجني عليه، فقال الأخير: كنا كنا بنلعب … لعبة الكنال.

وهزَّ إبراهيم أفندي رأسه وعاد يسأل: لعبة الكنال دي إيه؟ كورة؟!

فأجاب الولد: لأ لأ، لعبة الكنال … قسمنا … قسمنا نفسينا …

وهزَّ إبراهيم أفندي رأسه وعاد يسأل: يا بني إيه لعبة الكنال دي؟

فقال الولد بفروغ بال الصغير: ما نا ما نا بقولك آهه … قسمنا قسمنا نفسينا … إحنا إحنا الجيش المصري وهم أسطول الإنجليز … وحطينا حطينا خط كده وقلنا قلنا ده الكنال.

وفي نزق الأطفال، ترك الولد مكانه بجوار أبيه وقد ذهب عنه تحفُّظه وخوفه تمامًا، ومضى إلى وسط الصالة يمثِّل: حطينا خط كده … يعني يعني الكنال … والجيش المصري يقف هنا … وأسطول الإنجليز يجي يجي من هنا … وإذا عدوا الخط يبقى اتغلبنا وياخدوا الكنال.

وهنا غمز إبراهيم أفندي لشعبان علَّه يضحك، ولكن شعبان لم يضحك. كان وجهه لا يزال جادًّا ولا يزال يريد أن يطمئن أن ابنه كان محقوقًا ليضربه أو صاحب حق ليشهد ضرب خصمه. أمَّا الست شفاعات فكانت ساكتةً ترقب الولد اللمض في اشمئناط واحتقار، والأولاد كانوا مشغولين بالتفكير في لعبة الكنال، يقلِّبون الأمر على وجوهه ليرَوا إلى أي الفرق ينضمُّون إذا لعبوها.

وأحسَّ ابن شعبان بالجو فيه هدوء مريب فسكت، ولكن أباه استحثَّه وزغده وقال: هيه، قول.

فأجاب الولد بفرحة وكأنه أخذ إذنًا باللعب في الحارة إلى ساعة متأخرة: أنا كنت في الجيش المصري … ع اليمة دي … فأم سحلول جه يهجم عليَّ …

وقاطعه إبراهيم أفندي بلهجته الممدودة: أم سحلول مين؟

فقال الولد على الفور: دهه، فؤاد.

ثم استدرك: أصل إحنا مسمينه أم سحلول.

ونظر إبراهيم أفندي إلى ابنه شزْرًا واستدار إلى ابن شعبان وقال: اسمه فؤاد، أم سحلول إيه دي؟

وعاد ابن شعبان يحكي: وبعدين إذا إذا حد …

والتفت إبراهيم أفندي فجأةً إلى ابنه وهو يغلي: بقى كده يا وله يسموك أم سحلول؟ اتفرجي على ابنك يا ست هانم، اتفرجي يا ست أم ﺳﺤ…

وكاد يقولها ولكنه أنقذ لسانه في آخر لحظة، والتفت لابن شعبان وقال: كمل، كمل يا خويا، كمل يا أم أربعة وأربعين أنت راخر.

وانطلق الولد: وبعدين إذا واحد من الأسطول قدر يعدي الخط تبقى فرقتنا اتغلبت. أنا كنت مع بندق وخشبة وحسام، وخشبة وحسام اتغلبوا، فاتلمِّت فرقة أم سحلول كلها عليَّ …

وقاطعه إبراهيم أفندي: قلنا ميت مرة فؤاد، قلنا فؤاد، ده دي؟

وتكلَّم شعبان: معلش يا إبراهيم أفندي، عيال. خليه براحته علشان يحكي كويس.

وزأر إبراهيم أفندي بصوت منخفض وعينَين جاحظتَين: حَكي يحكي، إنما أم سحلول إيه؟ قلنا له اسمه فؤاد، هي قصة. ده دي؟

وهنا أشار فؤاد الرفيع إشارةً خفية لابن شعبان معناها: «طيب، والله لأوريك.»

ولكن ابن شعبان لم يتوقَّف ومضى يقول: فضلت أنا وده، هوه اكمنه أطول مني حب يديني هدر، قمت أنا شكيته مقص راح نازل على سنانه؛ فالولاد ضحكوا عليه وفضلوا يضحكوا ويقولوا: إيدن أهه، إيدن أهه، العبيط أهه، العبيط أهه، فهو اتغاظ ومسك زلطة وراح خابطني في راسي.

واندفع فؤاد يقول: أبدًا والله، إنت ستين كداب في أصل وشك، والله يا بابا ما ضربته، هو اللي وقع. أنا ما لي؟ أنا ما ضربتوش. إحنا اتفقنا إن إذا غلبنا منهم اتنين يسلموا، هو ما رضيش يسلم وقعد يزق فينا، واحنا نزق فيه، فراح واقع على الأرض اتعور.

وكان إبراهيم أفندي يحاول إسكات ابنه طوال الوقت، ومع هذا فقد تغاضى عنه حتى عثر في كلامه على حجة، وحينئذٍ أسكته ومطَّ رقبته وسأل ابن شعبان: انتوا اتفقتوا صحيح إن إذا اتنين اتغلبوا تسلموا؟

وانتظر الجميع الجواب بفارغ الصبر. كان كل من بالحجرة قد نسي من الجاني ومن المجني عليه، واستحوذت اللعبة على تفكيره. الأولاد كفوا عن الدوشة، وأم نعيمة يدها في خصرها وأذنها متجهة إلى مصدر الصوت والمتاعب، وشعبان مائل إلى الأمام يراقب ابنه في حماس، والجدة كفَّت عن المُواء، والقطط هي الأخرى كفت عن الأنين واختفت بين طيات ملابس الجالسين.

وقال إبراهيم أفندي وهو ماضٍ كوكيل النيابة في دوره يستدرج الولد: إنتوا اتفقتوا صحيح يا حبيبي؟

وتلجلج ابن شعبان ونظر إلى أبيه يستشف ما وراء نظرته ثم قال: إحنا إحنا أيوه اتفقنا … بس بس …

وتنفَّس إبراهيم أفندي لأول مرة بارتياح وعوج رأسه وقال وهو يكيل السؤال القاضي: طيب، ليه بقى سيادتك مسلمتش زي ما اتفقتوا؟

وواجهه ابن شعبان في دهشة واستغراب وقال: أسلم ازاي؟!

فعوج إبراهيم أفندي رأسه إلى الناحية الأخرى وقال: زي ما اتفقتوا. ليه بقى يا سيدي ما سلمتش؟

فقال الولد على الفور: ما هو … ما هو إذا سلمت يبقى اتغلبنا.

وأغلق إبراهيم أفندي عينه اليمنى وقال: تتغلبوا تتغلبوا.

وازداد الاستنكار في وجه الولد وقال في دهشة: إذا اتغلبنا يكسبوا هم.

وأجاب إبراهيم أفندي وهو يغلق العين الأخرى: يكسبوا يكسبوا، ليه ما سلمتش؟

وقال الولد بفروغ بال: مهم كانوا أخدوا الكنال.

فقال إبراهيم أفندي وهو يمط شفتَيه: ياخدوه ياخدوه.

واندفع الولد بغضب حقيقي يقول: ياخدوه ازاي؟ … هي … هي لعبة … ﻫ… هي لعبة؟!

وكذلك اندفع أبوه يقول: وده اسمه كلام يا أبو فؤاد؟

وكادت تحدث بوادر ضجة، لولا أن إبراهيم أفندي صرخ: هوس، هوس. يا اخوانا إيه اللي جرى؟ دي لعبة بيلعبوها. قول يا بني ما سلمتش ليه؟ قول.

فقال الولد: أسلم ازاي؟

وقال أبوه: يسلم ازاي؟

وقالت أم نعيمة: زي الناس يا دلعدي.

واندفع فؤاد النحيل يقول: شفت يا بابا؟ هو اللي قلبها جد. إحنا كنا بنلعب. هو اللي قلبها جد. قلنا له سلِّم، قام شتمنا وقعد يضرب فينا عشان منعديش الخط. والله هو اللي وقعني وقعد يضرب فيَّ، وعضني، ثلاث عضات، أهم. دا كان … زي المسروع … دا مكانش بيلعب … دا قلبها جد … وكل … ده … عشان مش عايز يتغلب … وأنا ما لي؟ هو اللي وقع … ولمَّا وقع اتعور … أنا ما لي؟ والله ما لمسته، دا يدوبي قرَّبت عليه نزل فيَّ ضرب.

وانخرط الولد في البكاء.

وهنا استعاد إبراهيم أفندي الشخطة التي شخطها شعبان في ابنه وشخط شخطةً أعلى منها وقال: إخرس! إنت بتعيط زي النسوان؟ عمى في عينك.

وصرخت فيه زوجه: جرى إيه يا ابراهيم سرعت الواد، هو قد الشخطة دي؟ وإيه حكاية النسوان دي رخره. ما تقعد معووج يا ابراهيم وتتكلم عدل. إتكلم عدل يا ابراهيم.

وقرأ إبراهيم أفندي في الجملة الأخيرة إنذارًا خفيًّا، وفعل الإنذار فعله في الحال.

وهكذا ضاع زمام الموقف واختلطت الأصوات؛ صوت الأسطى شعبان تخين وتُصاحبه حشرجة كحشرجة الكلاكس حين يعلِّق، وصوت إبراهيم أفندي رفيع أخنف كأنما يصدر عن طاقة واحدة من طاقتَي أنفه، وصوت أم نعيمة حيَّاني نواعمي طويل كحبال الكتان، وصوت الجدة أم إبراهيم أفندي كصوت ابنها تمامًا وكأنها جد، وكلمات شعبان فيها احتجاج صارخ، وكلمات إبراهيم فيها دعوة للسلام والمحبة، وما يصحش يعملها الصغار ويقع فيها الكبار، وكلمات شفاعات عزف منفرد لزمارة كمساري ترام، وكلمات تقال وكلمات لا تقال، ولم يسلم الأمر حتمًا من بضع دعوات خرجت من فم الجدة واستقرَّت على رأس العدو، أي عدو.

وآب كل شيء إلى هدوء حين قال الأسطى شعبان: زاي بعضه. إحنا ما لنا بركة إلا بعض. نصطلح نصطلح.

وقبَّل الجاني رأس المجني عليه، وتبودلت بضع نكات تناسب المقام، وتفضَّلت الست أم نعيمة وضحكت على نكتة، وتفرَّق الأولاد وقد انتهت الرواية، وجاء الشاي وشرب الأسطى شعبان وشرب إبراهيم أفندي على حس الضيف. وتكلَّم الرجلان في السياسة، وقال إبراهيم أفندي إن الله معنا وسينصرنا على القوم الكافرين، وقال شعبان الإنجليز دول عظمهم دايب من شرب الخمرة، يدوبك تزق الواحد يقع.

وأخيرًا آن الأوان وأخذت الجلسة حقَّها واستأذن شعبان، وعزم إبراهيم أفندي عليه بالعشاء، عزومة مراكبية، ولكن الأسطى أصر ومضى آخذًا ابنه في يده.

وقبل أن يهبط شعبان السلالم سمع أصواتًا تأتيه من الداخل، وتلكَّأ قليلًا فعرف صوت إبراهيم أفندي الأخنف وهو يقول: تحرَّم يا كلب تلعب مع العيال دول؟

– أحرَّم يا بابا.

وعاد إبراهيم أفندي يقول: تحرَّم تلعب لعبة الكنال ومش عارف إيه؟

وصرخ الولد وقال: أحرم يا بابا.

– تحرم يعملوك أم سحلول يا خايب؟

– أحرم والنبي.

– تحرم تعمللي أسطول وايدن وكلام فارغ من ده؟

– أحرم يا بابا أحرم … والنبي حرمت.

ولعلع صوت أم نعيمة: خلاص حرم يا ابراهيم خلاص … ما عدشي ح يعملها … قطيعة تقطع ايدل وشورته واللي جابوه … قول تُبت يا واد … قول تُبت …

•••

وقبل أن يضع شعبان قدمه على أول درجة من درجات السلم، التفت إلى ابنه وملَّس على رأسه وعلى المنديل الذي يخفي الجرح وقال: وله، إوعى تكون سلمت في الآخر يا واد …

ونظر الولد إلى وجه أبيه المرتفع، وأمسك يده الضخمة بكلتا يديه، ثم ألصقها بوجهه الصغير وضمها إليه وتعلق بها، وابتسم ولم يُجب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤