أبو الهول

كنا نعزي في الحاج سعد، والمأتم حابك إذ كان الوقت بعد العشاء حيث يكثر المُعَزون. كانت الخيمة على قد الحال فيها من الثقوب أضعاف ما فيها من قماش، والكلوبات نورها يعاني شحوب الأنيميا الحادة، ومع هذا كان يبدو في الظلام الخرافي المُطبِق على قريتنا ساطعًا براقًا يُعشِي جموع الفلاحين القادمين يُعَزون والذين لم تتعوَّد عيونهم أبدًا الضوء في الليل، فما بالك بنور الكلوبات؟ ولهذا كانوا يتوهون في الخيمة ولا يتعرَّفون على الناس إلا بصعوبة.

وكان الأعيان يحتلون — كالعادة — مقاعد الصدارة ذات القطيفة الباهتة المتآكلة، والذهب الذي تحوَّل إلى جرب، والكسور والرضوض التي أصابت الأذرع والأرجل على مر الزمان.

وكنت أيامها عميد المتعلمين في بلدتنا إذ كنت طالب طب، وقد أجمع الناس إجماعًا رهيبًا على تلقيبي بالدكتور، وتبناني أهل بلدنا واعتبروني ثروةً قومية يفاخرون بها البلاد الأخرى. وتقول نساء قريتنا لصاحباتهن في الأسواق: يا بت اختشي داحنا حدانا دكاترة …

وأمُر على الأولاد وهم يلعبون فيكفون عما هم فيه من لعب ويشير إليَّ أحدهم قائلًا للآخرين: والنبي ده دكتور حق حقاني يا ولاد.

وإذا مررت على الكبار تترى الدعوات خلفي ممن أعرفهم وممن لا أعرفهم، تحرسني من العيون وتخليني لأبي وتنجح لي المقاصد.

وأصبح من حقي وواجبي إذن وقد رفعني الناس إلى مصاف الأعيان أن أجلس بينهم، ومع هذا كنت أفضِّل ويفضِّل معي بقية المتعلمين أن نجلس مع الغالبية العظمى من أهل بلدنا، الذين كان يقول عنهم الحاج سعد نفسه – عليه رحمة الله: «ربنا سبحانه وتعالى خلق الناس اللي بتفهم من تراب الجنة الناعم، وبعدين فضلت شوية نخالة خشنة احتار يعمل فيها إيه، فراح راميها وقال كوني عبادي الفلاحين، فكانت.»

كنا نفضِّل الجلوس إلى هؤلاء حيث لا نتكلَّف ما لا نطيق من التأدب واصطناع الرجولة، وحيث نتحدث كما نشاء بلا ضابط أو رابط أو تشكك، وحيث نجد من يتقبلون كلامنا وكأنه آيات منزلات.

وفي مأتم الحاج سعد أيضًا جلست في الركن القريب من الباب ومعي بعض طلبة الجامعة وعدد لا يحصى من «النخالة»، وسرعان ما تضخَّمت الجماعة بانضمام بعض الذين يتمسَّحون بالمتعلمين وعلى رأس هؤلاء أبو عبيد التمرجي في مستشفى حميات المركز، والذي كان يفضِّل أن تتواجد «الهيئة الطبية» في مكان واحد؛ فقد كان هو الآخر يزاول الطب يكشف ويشخِّص ويعطي الحقن، وله بالطو أبيض نظيف وجلابية «دبلان» وطربوش، والحق أنه كان يبدو بملابسه تلك أوجه منا جميعًا.

كان آخر القادمين إلى مجلسنا عبد الله المُزيِّن، والرجل كان يقوم أحيانًا بعمل حلاق الصحة ويبدو أنه هو الآخر كان يعتبر نفسه يمت بصلة ما إلى الهيئة، فكان إذا رآنا جالسين أعطى صبيه شنطة الحلاقة وأجلسه بها في مكان بعيد وكأنه يتخلَّص من شخصيته كحلاق، ثم يُهل علينا قائلًا للجميع: السلام عليكم!

ويلتفت إليَّ بسلام خاص قائلًا: نوَّرتنا يا دكتر.

وكان ينطقها «دكتر» ليؤكِّد لي وللسامعين أنه رجل فاهم، وليبدأ بها شخصيته كعضو مُلحَق بالهيئة الطبية الموقرة.

كنا جالسين في صمت نستمع إلى الشيخ مصطفى مقرئ بلدنا الذي كان قد تسلَّم دكة الفقهاء، وتسلَّمَنا بعد العشاء مباشرةً يصب علينا جام صوته الغليظ القبيح ولا يريد أن يختم أو ينتهي، وكلما تهدَّج صوته ظننا أن الفرج قريب وأنه سوف يسكت، ولكن يخيب ظننا؛ إذ ما أسرع ما كان يمط رقبته وكأنه يريد انتزاعها من جسده، ويكشِّر جدًّا ولا ندري لماذا يكشِّر، ويسد أذنه اليمنى ويُخفي عينيه ببقية أصابعه ويحزق وتمتلئ رقبته الطويلة الرفيعة بالعروق وبالهواء، وتنتفخ حتى لنخاف عليها وعلينا من الانفجار، ثم ينعص الشيخ مصطفى، وتتطاير شظايا صوته مخترقةً فضاء الليل الواسع ترج قريتنا رجًّا، ويصحو لها نائمون في بلاد أخرى.

•••

وكان الوحيد المباح له الحركة في المأتم هو شيخ الخفراء وقد شنط البندقية في كتفه وراح ينظر إلى الناس كمن يقول: نحن هنا. ينظر إليهم ويتمشَّى في الخيمة قليلًا، ثم يسرع إلى الخارج يفاجئ الأولاد الذين تجمَّعوا يتفرَّجون على المأتم والكلوبات ونقوش الخيمة الغريبة الباهتة، وينهال عليهم ضربًا بخيزرانته.

وجاء الفرج وقال الشيخ مصطفى ونحن غير مصدقين: صدق الله العظيم.

وانهال عليه الناس من كل صوب: تقبَّل الله يا أستاذ … الله يفتح عليك … حرمًا … الله يفتح عليك … حرمًا … الله يعمر بيتك.

وكانت الكلمات تخرج من الأفواه حارةً لافحة، آخر ما تصلح له أن تكون دعوات.

وامتلأت الخيمة بعدها بهمهمة الجماعات المتقاربة، وبدأنا نتكلَّم نحن الآخرين ونال الشيخ مصطفى من ألسنتنا الشيء الكثير، ثم بدأنا كالعادة نخوض في سير الأعيان، وانتهينا أخيرًا إلى ذكرياتنا عن القاهرة. كنا نتكلم نحن فقط وكان بلدياتنا الفلاحون ساكتين يسمعوننا ويضحكون، وينظرون إلينا ويتأملون كلامنا وكيف ننطقه، ويتحسَّسون بأعينهم جلابيبنا «الزفير» و«البفتة»، ويتفرجون على طربوش أبو عبيد التمرجي وعلى ساعة يدي وبريقها كلما عكست ضوء الكلوبات ولا يتكلمون. وهكذا كان دأبهم دائمًا إذا جلسوا معنا، نرى في وجوههم السمراء المعفَّرة اقتناعًا كاملًا بما نقول، وفي عيونهم إعجابًا مطلقًا بنا، وفي تأييدهم لنا حماسًا منقطع النظير … وكان يهيمن عليهم دائمًا وجوم لعله خوف منا، ولعله هوة يحسون أنها تفصل بيننا وبينهم، فكان الواحد منهم لا يخاطب الواحد منا، وإنما إذا أعجبه كلام قيل يميل على جاره ويهمس له معلِّقًا أو بلكزه. أما إذا بلغ الإعجاب حد الإعجاز فحينئذٍ تتصاعد منهم التعليقات رغمًا عنهم. كلها متشابهة، وكلها في آنٍ متقارب وكأنما تصدر عن جسد حي واحد خشن كبير.

وحينما أوجد ويوجد أبو عبيد التمرجي، كان ينتهز أول فرصة تسنح له ويخبط سؤالًا ما، ولا بد أن يكون السؤال في الطب. كان يزاول العلاج ويُهمه أن يثبت للفلاحين وللمتعلمين أيضًا أنه عالم كبير يناقش «الدكتور» مناقشة الند للند. وكان إذا تحدَّث معي أو سألني لا يفعل ذلك بلغة بلدنا المحلية وإنما بلغة البندر، وإلا فما الفرق بينه وبين الفلاحين؟ ولا يسأل السؤال بطريقة عادية، وإنما له أسلوب مؤدب في أدبه برود وتلامة، نفس أسلوبه الذي يعرض به «خدماته» على الناس ويطالب بأتعابه وفوقها «شوية» لبن أو أكلة بامية من بامية الزبائن الحلوة، ودائمًا بامية الزبائن حلوة.

وكانت أسئلته تزعجني جدًّا؛ فأيامها كنت لا أزال في إعدادي طب أشرِّح الضفادع وأدرس الديدان، ولا أعلم عن الأدوية والأمراض إلا أني «دكتور»، وكان هو من كثرة عمله في المستشفيات قد حفظ كام اسم مرض وكام اسم دواء. وليلتها استطرد أبو عبيد يتحدث عن مرض الحاج سعد وكيف أخذه للدكتور حنا طبيب المركز وفشل علاجه، ثم وصف له هو حقن ستروميسين وأقراص سلفات يازين ٣ × ٣ × ٥ «وهكذا كان يقول»، وم، قلوي، ومنعه عن الطعام منعًا باتًّا، ولكن المرحوم هفَّت نفسه إلى الفسيخ يوم السوق والتهم وحده رطلًا؛ فحُم القضاء.

وغمغم الجمع الذي حولنا؛ فهنا وفي مجال القسمة والأعمار يستطيعون الكلام: بتيجي على أهون سبب.

– أجله كده.

– ما حدش بيفوت يوم من عمره.

– حكمته.

وإذا بدأ أبو عبيد، فمحال ينتهي؛ ولهذا أنشأ يحدِّثنا عما جرى بعد الوفاة؛ فهو الذي استخرج تصريح الدفن رغم عصلجة الطبيب، واستخرجه بعد ميعاد العمل الرسمي. وكان واضحًا أن لولا شطارته لبقي المرحوم بلا دفن إلى اليوم التالي.

ولست أذكر كيف استطعنا «استخراج» الحديث من أبو عبيد وإدارته بيننا نحن «المتعلمين»، ولكن أذكر أن المناقشة دارت حول الجثة وعن هل من الممكن أن تبقى أيامًا بلا دفن. وبعد أن هدأت حدة النقاش سألني أبو عبيد والاهتمام الشديد ظاهر على وجهه: ألَّا قوللي يا دكتور؟

وكان يقول لي «دكتور» ليبدو ثمة فارق بينه وبين حلاق الصحة من ناحية، وبينه وبين الفلاحين الذين يقولون «داكتور» من ناحية أخرى.

واستدرت إليه أستعد لسؤاله البايخ، فقال: هو التخشب الرمي بيظهر بعد الوفاة بعد إيه؟

وصمت الموجودون جميعًا، المتعلمون وغير المتعلمين، يحملقون مذهولين في كلمة «التخشب الرمي» وهي لا تزال ترن في الجو وتحوم حولنا، حتى حلاق الصحة أذهلته الكلمة فراح ينظر إلى أبو عبيد في دهشة وحسد وكأنما يستكثر عليه معرفة كلمة كتلك، وما لبث أنظار الجميع أن تحوَّلت إلى تستنجد بي وتنتظر الشرح. وكنت من لحظة أن سمعت الكلمة قد أصابتني حيرة بالغة فما كنت أعرف ما تعنيه، ولمَّا وجدت التساؤل حاصرني ابتسمت ابتسامةً صفراء وسألته السؤال الذي يكسب به العاجز الوقت: فيه؟

فقال وكأنه يطرح قضيةً عامة للمناقشة: أصلي اختلفت النهارده مع الدكتور صبحي الحكيمباشي بتاعنا، أنا أقول نص ساعة وهو يقولي يا أحمد ساعتين بس.

فإيه رأيك يا دكتور؟

وتصنَّعت لهجة العلماء وقلت: لأ، إنت غلطان وهو غلطان، هي تيجي ساعة كده. ونظرت إلى وجوه الجالسين فرأيتهم يسمعون إجابتي ويتبادلون النظرات، والكلمة لا تزال ترن في آذانهم ولا يفهمون. وصمتنا ثواني قليلة رحت أتطلَّع أثناءها إلى أبو عبيد لأرى إن كان قد اقتنع أم لا يزال به شك، وكان هو خافضًا بصره إلى الأرض يحدِّق في قبضته بأدبٍ جَم. وكنت أعرف حركته اللعينة تلك وأعرف أنه يصطنعها كلما ارتبكت أنا حتى لا يُحرجني؛ إذ لا يصح وهو «التمرجي» أن يحرج «الدكتور».

غير أني فوجئت بصالح — الله يعافيه بالعافية — يزر عينيه ويسألني: ألَّا يا دكتور إيه خشب الرمة ده؟

وصالح هذا كان فلاحًا ولكنه لا يزرع الأرض لحسابه وإنما يشتغل عند أحد المستأجرين أظنه واحدًا من عيلة أبو شندي، يشتغل مقابل طعامه وكسوته وكذا كيلة في العام. وكان لونه لا هو أسمر ولا أصفر، لون رمادي كلون التراب. وكان طويلًا هائلًا يخيف الناسَ مرآه حتى سمَّوه أبو الهول. وعمري ما رأيته مبتسمًا ولا رأيت عينيه مفتوحتين وكأنما كان يرى برموشه، وكانوا يقولون إن قلبه ميت، وإنه لا يخاف ولا يزعل ولا يفرح، وإنه أقوى واحد في بلدنا لولا أنه لا يحب إظهار قوته تواضعًا، ومن خشية الله. وكان كلامه بطيئًا تحس معه أنه ينتزعه من نفسه انتزاعًا، وكان دءوبًا على جلسة المتعلمين ولكنه لا يتكلم فيها أبدًا. وكان الناس يعرفون عنه هذا السكوت ولا يحاولون استفزازه، مخافة أن يثور مرةً فيقتل مَن أمامه. ومع هذا لا يذكر الذاكرون في بلدتنا — على كثرة ما فيها من مؤرخين وذاكرين — أنه ثار مرةً ولا اشتكى أو توجع.

وكادت جماعتنا تضحك للسؤال المفاجئ لولا المأتم، والظاهر أن أبو الهول كان قد عبَّر بسؤاله عما يدور في الخواطر جميعًا، فما لبثت الوجوه أن تطلَّعت إليَّ، كلها متسائلة جادة، ما عدا وجه أبو عبيد الذي راح يتطلع ناحيتي ويبتسم، ويقول بابتسامته: أقول أنا؟

وعبست أطلب منه السكوت وقلت على البديهة: أصل يا صالح جسم الإنسان ده عجيب قوي.

وسرحت أُحدِّثهم حديثًا عامًّا عن الجسد، وكيف يجري الدم، ويدق القلب.

وسكت؛ لأرى إن كانوا قد نسوا أو اقتنعوا، ولكن صالح زر عينيه مرةً أخرى، وعاد يسألني: أمال رمة إيه اللي بيقول عليها لفندي؟

وعاد «لفندي» أبو عبيد يقول بابتسامته اللامعة الباردة: تحرم تعمل دكتور؟ ولمَّا وجدني سكتُّ، والسكوت علامة الرضا، اندفع يقول: بعد إذنك يا دكتور، أصل بني آدم منا يا اخوانا جسمه من جوه مليان جير وحديد وزرنيخ وسليماني وماركوروكرون، وطول ما الواحد منا حي الحاجات دي بتبقى سايحة في الجسم، فلمَّا بينقضي الأجل ويتوفَّاه الله بتروح عاقدة على بعضها زي ما بيعقد جالوص الطين في وش البعدا، تقوم تيجي تحسس على جسم الميت من دول تلاقيه كنه لوح لطزانه تمام.

وسكت أبو عبيد عن الكلام، ويبدو أن ما قاله كان عجيبًا غريبًا لا يستطيع أحد تصديقه دون شهادة مني، وعادت العيون تنظر إليَّ وتطلب الشهادة، ولم أجد لديَّ شيئًا يدحض علم أبو عبيد، فهززت رأسي موافقًا، وحينئذٍ فقط تصاعدت التعليقات: يا خبر!

– أتري بني آدم رمة يا ولاد وما هوش داري.

– عجايب والله.

– ما تموت يا واد يا صالح خلينا نعرش بيك الزريبة.

– عشان تحمدوا ربنا على لقمة العيش ونفس الهوا يا عالم بذر كتان.

وأصبح أبو عبيد نجم الحلقة بلا منازع، وأخذت العيون تلتف حوله وترعاه في تبجيل وكأنه هو الذي يستطيع إذا شاء أن يحيل الواحد منهم إلى قطعة من خشب الرمة.

ولم أحتمل هذا، فسرعان ما وجدت نفسي أندفع في الحديث عن الوفاة والجثث حديث العارف الخبير، وأخذت أروي لهم النوادر والحكايات عمَّا يحدث في مشرحة كلية الطب وكيف أننا نقضي طيلة النهار والمشارط في أيدينا نقطع الأجساد ونبقر البطون، مع أني لم أكن قد دخلت المشرحة ولا رأيتها في حياتي.

واستوليت على انتباهاتهم كلها، وغاب عن ذاكرتهم أبو عبيد برمته، والمأتم وكل شيء.

وفي ذلك الوقت صعِد إلى أريكة الفقهاء رجل ضخم يرتدي الجبة والقفطان، وتبيَّنت فيه الشيخ عبد الحميد واعظ المركز، وكان الرجل — والحق يقال — نشيطًا في أداء وظيفته حتى لهجت الألسن بذكره. كان لا يترك مأتمًا في قرية إلا ويذهب إليه ويعزِّي فيه، ليس هذا فقط، بل إنه ما يكاد يجلس قليلًا وتخلو دكة الفقهاء حتى يمضي إليها في بطءٍ وقور، ويرتِّل بصوت هادئ «بسم الله الرحمن الرحيم»، ويعم الصمت المكان وتشرئب الأعناق تُتابع درس الشيخ وهو يرويه بصوت حلو، ينغِّمه ويُطيل في نبراته الحلقية، ويضم الصاد، وتخرج الراء لها زغرودة، وتُحس إذا ما سمعت الكلمات المترادفة الممدودة وهي تتهادي من حنجرته — بينما وجهه مكتنز أحمر، وشاربه مخطَّط أسود، وعمامته ناصعة البياض — تُحس أنه لا بد قد تعشَّى بخروف دسم قبل أن يُلقي الدرس، وأن كلماته تخرج مطمئنة شبعانة لا تشكو قلقًا ولا تعبًا، وأن لا أولاد له ولا زوجة أو مشاكل، وأنه — بالتأكيد — له الجنة.

صعِد الشيخ وأخذ يلقي الدرس، وكان مفروضًا أن أسكت مع الساكتين وأسمعه، ولكني كنت قد طرقت بحديثي بابًا لا يستطيع أبو عبيد أن ينافسني فيه؛ فالحقن والأدوية والأسماء الغريبة له فيها، أما الجثث، فسيرتها لا تأتي إلا على ألسنة الدكاترة وحدهم؛ ولهذا مضيت أتحدَّث، وانقسم المأتم؛ الغالبية تسمع الواعظ، والأقلية تسمعني، وأنا أوزِّع انتباهي بين كلامي وكلام الواعظ. كان الرجل قد وصل في حديثه إلى العذاب الذي ينتظر العاصين في الآخرة، وكان قد استولى على الألباب جميعًا؛ أقصد الباب «النخالة»؛ فالأعيان كنت ألمحهم يتهامسون ويتثاءبون وينظرون في ساعاتهم ويختلفون على أنها أضبط، أما أصحاب الأجساد الضامرة البالية فكانوا مسمرين في أماكنهم يسمعون، ووجوههم صفراء ذابلة كأوراق القطن الخضراء حين تصيبها الدودة واللطع، وأفواههم مفتوحة وعيونهم محمرة بالرمد والرماد تحاور الضوء وتداوره لتستطيع أن تتابع الواعظ وهو يتحدث حديث العالم الخبير عما يناله المذنبون، وكيف يتولى أمرَ كل منهم أربعةٌ من زبانية الجحيم الغلاط الشداد؛ يخلعون عنه ملابسه، ثمَّ ينهالون عليه ضربًا ﺑ «مقرعة» من حديد لها أسنان تنهش لحمه، وتُدشدش عظامه، حتى إذا ما استوى وشبع أخذوه إلى طابق آخر من النار، وتولَّوا إدخاله في مواسير جدرانها من اللهب. يظل يُحرَق وهو حي، وكلما ذاب جلده كان له غيره ليتجدَّد عذابُه. فإذا عطش وطلب ماءً سقَوه من ماء النار، وماء النار من حميم وغساق.

الغالبية كانت تسمع الواعظ، ولا تكاد تعرف ما المقرعة، ولا الحميم أو الغساق، ومع هذا فمن طريقة الشيخ عبد الحميد في الإلقاء، ومن غرابة الأشياء التي كان يرويها ورهبتها، كان التأثر قد بلغ بالناس حد البكاء.

والأقلية كانت تتابع حديثي، وكنت قد تعدَّيت حدود كل معقول وأخذت أروي لهم تفاصيل دقيقةً مزعجة عن حوادثنا ونوادرنا مع الجثث، وكيف أننا نتناول طعامنا أحيانًا في المشرحة وعلى مرأًى من البطون المفتوحة، وأحيانًا أخرى كثيرة نلعب «الكوتشينة» على صدور الموتى، وكيف أنني صنعت من العظام والجماجم محابر ومساطر وأقلامًا. ثم حكيت لهم قصةً طويلة عن الذراع الذي اشتريته مرةً من فراش المشرحة، وأخذته معي إلى حجرتي، وما أحدثه من هرج ومرج بين سكان البيت … إلخ … إلخ.

وسألني أبو الهول وهو لم يعد يحتمل: واشتريت الذراع بكام يا داكتور؟

وتصنعت التذكر وقلت: والله خدته من الراجل يومها بريال.

فقال مبهورًا: أماه! يا خبر اسود ومنيل! أمال يا خواتي بني آدم على بعضه يسوى كام يا داكتور؟

فقلت وأنا أهز أكتافي: والله ما اشتريتوش، إنما يسوى له جنيه كده ولا اتنين.

وانطلق المستمعون يرددون في ذهول: شوف يا أخي! أي والله، صحيح، ما أرخص من بني آدم.

– دي عبر لمن يعتبر.

– لازم دول كانوا عملوا في دنياهم عمل يغضب الله.

وسألني أبو الهول وقد بدأت ملامحه تتحرَّك، وعينه تتفتح، وملامحه تعلوها دهشة: وبيجيبوا الناس دول منين يا داكتور؟

والحق أني ما كنت أعرف، فزعمت أن هناك متعهِّدًا يورِّد للكلية ما تحتاجه من جثث «قياسًا على متعهِّد الضفادع في إعدادي».

وكان الشيخ عبد الحميد في هذه الأثناء قد قارب الانتهاء من حديثه، والناس قد طال استماعهم إلى وصفه الدقيق لما ينتظر العاصين حتى بلغت أرواحهم الحلقوم، فما كاد يستثني من العذاب ويقول: «إلا من خشي ربه …» حتى هاج الناس وماجوا يتنفسون الصعداء — وقد عثروا أخيرًا على طاقة أمل — ويُثبتون أنهم حقًّا وصدقًا مؤمنون خاشعون، ويقولون في نفس واحد مبهور: «لا إله إلا الله.»

ورأيت الشيخ عبد الحميد يتطلَّع إليهم بوجهه السمين الذي كسته حبات العرق، ويفرك كفيه مسرورًا؛ فحماسهم ذاك كان خير دليل على الأثر الخطير الذي أحدثه كلامه.

وتطلَّعت أنا الآخر إلى جمهوري. كان كل شيء على ما يرام، وكدت أفرك كفي أنا الآخر، لولا ابتسامة أبو عبيد الباردة التي لم تكن قد جفَّت بعدُ من فوق ملامحه.

وأطلقت آخر سهم في جعبتي، ومضيت أحدِّثهم عن الملل الذي أصابني من طول الإجازة وعن شوقي إلى تدريب يدي ومزاولة التشريح، ولكي أقطع دابر الشك قلت إنني حتى مستعد أن أدفع في الجثة خمسة جنيهات، إنما، أنا فين والجثث فين؟

وخرجت من المأتم يومها مرفوع الرأس؛ حتى إن أبو عبيد قال لي وهو يودِّعني: مع السلامة يا بيه.

ولم أُراجع نفسي، ولا فكَّرت بعد هذا فيما قلته، ولا في التخشب الرمي أو مقارع الحديد ذات الأسنان، كانت في نظري أحاديث مآتم وجلسات لا أكثر ولا أقل، تكون إذا قامت، وتنفض معها.

ولكني استيقظت ذات ليلة على نباح كثير يهدر أمام بيتنا حتى خلت أن كلاب جيراننا تطارد عزرائيل، وسمعت بابنا يدق، ولم يفزعني ذلك؛ فكثيرًا ما كان يدق في أية ساعة من ساعات الليل ويكون السبب مغص مفاجئ أو بول محتبس.

كان الدق يزعج أبي فقط، ويجعله يلعن اليوم الذي أدخلني فيه الطب؛ فقد كان يخاف أن أخرج لرؤية مريض مرةً فيتربص لي واحد في الظلام ويقتلني. أما لماذا يفكِّر أحد في قتلي فذلك سؤال لم يخطر لأبي أبدًا.

فتحت الباب ففوجئت بإنسان محني يحمل فوق ظهره «زكيبة» مملوءة لحافتها ويقول: مسيك بالخير يا داكتور.

الصوت مألوف، ولكن رغم الليل كان يجود بآخر أنفاسه وشعشعة الفجر قد أوشكت، لم أستطع التعرف على صاحبه.

– مين؟

– أني صالح.

– أبو الهول؟

– أيوه أبو الهول يا داكتور. بقالي ساعة أخبَّط لما الكلاب كلت رجليه. وسع شوية.

وتراجعت إلى الوراء قليلًا، فاستدار وأنزل الزكيبة على الأرض ثم قال: الأمانة أهه.

– أمانة إيه؟!

كنت أسأله وأنا أنظر إلى وجهه، وأُحاول إدراك ما لم يستطع قوله. ولم أرَ على ضوء «اللمبة السهاري» إلا أن — أبو الهول — يبتسم، وكانت أول مرة أراه يبتسم، فأدركت أن الأمر أخطر مما توقعت.

ونطق أبو الهول وقال إنه كان عائدًا إلى الكفر بعد سهرته في البلد، فرأى جثة غريق طافيةً في المصرف، فقال: بس. وأخرجها من الماء ووضعها على الجسر، ثم عاد جريًا في جري إلى بيت أبو شندي، وشحت منه زكيبةً على ذمة الطحين، ورجع إلى المصرف جريًا في جري، وعبَّى الجثة، وحملها، وخرَّم من الذرة الصيفي حتى لا يراه أحد، وتسلَّل إلى بيتنا بها.

ووقفت أتابع كلامه، وأنظر إلى طوله وعرضه وعيونه الوارمة وأشم الرائحة الفظيعة التي أدركت أنها تنبعث من الزكيبة، وأنا مذهول مدهوش أكاد لا أعي ممَّا يقول حرفًا.

ووجدت نفسي أنفجر فيه.

وانتظر إلى أن انتهيت وقال: جرى إيه يا داكتور؟ إنت طلبك حدانا غالي قوي. إحنا بداك اليوم. وإن كان ع الخمسة جنيه أني مش عايز خمسات؛ اللي تحط إيدك فيه أني قابله.

ولم أعد أحتمل، واندفعت آمره والغيظ يخنقني أن يعيد الجثة كما كانت تمامًا.

وصبر عليَّ حتى جثت بكل ما عندي، ثم بربش عينيه وقال: وزعلان قوي كده ليه يا داكتور. بلاش نضرب في العالي. هات يا سيدي جنيه والعوض على الله.

وانفجرت فيه مرةً أخرى: انت اتهبلت؟ إنت اتجننت؟ إنت جرى لعقلك. فرفع يده في فروغ بال وقال: ألاه يا اخواتي. بلاش الجنيه راخر. هات يا سيدي ريال خلينا ننفض. عدتها دراع بس يا داكتور.

وأخيرًا جدًّا، بعدما ارتفع صوتي، وبدأ الغضب واضحًا تمامًا في ملامحي، استطاع أبو الهول أن يفهم أني لا أساوم، وأن عليه أن يُعيد الجثة إلى المصرف في الحال.

وهنا تجمَّدت ملامحه، وعادت إلى جدها الذي لا ينفك، وأغمض عينيه وقال: كده. بقى تعملها في يا داكتور. هم الأفندية كدابين يا اخواتي. تحلف ع المصحف انك ما قلت الواحد بخمسة جنيه، تحلف. قلت والا مقلتش.

وثار بيننا جدل طويل، أنا أُصر على أني لا أذكر شيئًا، وهو يُعيد على مسامعي ما قلته كلمةً كلمة ويعطي الأمارات والشواهد. ولم أوفَّق في إقناعه بإرجاعها إذ كنت أتعثَّر وأنا أُقنعه في الخجل الشديد الذي كان يملأ نفسي، ولمَّا لم أجد فائدةً هدَّدته بإبلاغ الأمر للعمدة؛ وحينئذٍ اربدَّت ملامحه وبدا كأنه سيثور ثورةً لا يعلم إلا الله مداها وقال: كلام إيه ده يا ولاد؟! بقى تعملها فيَّ كده والآخر تبلغ.

طب ورحمة أبويا محمد أبو صيام ماني مرجعها واللي معاك اعمله.

وبلغ مطرح ما تبلغ. إنت مش قلت الواحد بخمسة جنيه؟ قلت والا ما قلتش؟ بقى تعملها فيَّ كده وتبلغ. طب بلغ. ورحمة أبويا محمد لاسيبهالك وماشي. قلت والا ما قلت.

ويبدو أن صوتنا كان قد ارتفع حتى وأقلق أبي؛ فقد وجدته يبرز من باب حجرته ويقول: إيه جري إيه؟

وأسرعت إليه أرجوه ألَّا يزعج نفسه، وأحاول إقناعه أن المسألة مغص لا أكثر ولا أقل، ولكني كنت متأخرًا؛ إذ كان قد لمح صالح واقفًا بوجه لا يبشِّر بخير فقال: والواد ده عايز إيه؟ دا الواد ده حرامي «والظاهر إن الفلاحين كلهم حرامية عند أصحاب الأرض». دا بيسرق الكحل من العين وابوه من قبله. إيه اللي جابك دلوقت يا وله؟ عايز إيه؟

كان أبي يقول هذا وهو يتجه إلى الباب، وإلى صالح، ولم أستطع أن أتدخَّل فيما حدث بعد ذلك؛ فقد تعثَّر أبي في الزكيبة، وكاد يسقط وتساءل غاضبًا عمَّا جاء بها، وعمَّا جاء بصالح، وقال وهو يتحسَّسها ويحاول أن يخمِّن محتوياتها: إيه ده يا واد يابو الهول؟ إنت سارق بطيخ يا ابن اﻟ…

وجايبه هنا ليه يا وله؟ والدكتور ماله؟ دا مش بطيخ، أف، إيه ده يا خويا. أعوذ بالله! أعوذ بالله!

وصرخ أبي صرخةً عالية مفاجئة، وكانت تلك أول مرة أراه يصرخ والفزع يملأ عينيه والرعب قد تملَّكه، واندفعنا إليه أنا وصالح نسنده حتى لا يتهاوى، وسرت به وحدي إلى الفراش والصدمة قد أفقدته القدرة على السؤال أو الاستفسار أو حتى النطق، ولكن لم يدم ذلك سوى لحظات. استرجع نفسه تمامًا بعدها، وجلس يُنصت لي وأنا أحكي له ما كان من أول ما طقطق الحديث في المأتم، ينصت وهو يخبط كفًّا على كف ويقول: مجرم! حرامي ابن حرام سل مل.

ولمَّا عدت إلى أبو الهول وجدته جالسا مسندًا ظهره إلى الحائط ورأسه مائل في تأثر عميق، وحين رآني وقف وقال: سلامته لفندي. يا خبر أسود ومنيل! ودي كانت شورة إيه السودة دي؟! سلامته.

وهززت رأسي وأنا أُعِد الدش البارد الذي جهَّزته له ولكنه كفاني مئونة الكلام؛ فقد وجدته ينحني على الزكيبة ويمتحن متانة رباطها ويقول: والنبي يا داكتور أني عمري ما حلفت برحمة أبويا محمد باطل إنما عشان خاطر والدك. يا خبر أسود يا ولاد! دا الواحد خزيان من روحه. يا شيخ داني انبليت م الكسفة. اللهم اخزيك يا شيطان. ما كنت مروح في حالك يا وله ما لك ومال خشب الرمة والزفت ده. إنما تقول إيه. يا خبر اسود ومنيل. داني كنت بقول لروحي زمان الداكتور حياخدك بالحضن يا وله. والختمة الشريفة عمري ما حلفت بحياة أبويا محمد باطل.

وكان قد أوقف الزكيبة فالتفت إليَّ قائلًا: والنبي يا داكتور ولا صغرة تسندها سندة صغيرة، بس أوعى هدومك، هه، يا قوة الله.

ورفعها بقوة جبارة فوق كاهله، وتمتمتُ وأنا لا أكاد أستطيع الكلام: معلهش يا صالح. تتعوض. معلهش.

فقال وهو يستدير وتستدير الزكيبة وراءه ويتجه إلى الباب: والا عليه، أهي إن طلعت والا نزلت زكيبة، هي يعني والا المقمعمة اللي بيقول عليها سيدنا الواعظ، أهي إن طلعت والا نزلت زكيبة، حتكون أكتر من اللي بنشيله، يا شيخ قول يا رب.

وكان قد خرج من الباب، وكاد يختفي في الظلام حين فوجئت به يتوقف، ثم يستدير ليواجهني ويقول من تحت الزكيبة: بس افتكر كويس يا داكتور، بذمتك يا شيخ وديانتك والأمانة عليك، قلت والا ما قلتش؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤