قاع المدينة

١

يكاد يكون من المستحيل أن يفقد الإنسان ساعة يده؛ فهو إذا خلعها لا بد يضعها في مكان يثق فيه، وإذا ارتداها فلها جلدة أو «أستيك» يطبق على معصمه ولا يستطيع أمهر نشال أن يفكه؛ ولهذا فأغرب ما قد يحدث لإنسان أن يقلب يده ليعرف الوقت فلا يجد ساعته في المكان الذي تعوَّد أن يجدها فيه. هو حينئذٍ يقول لنفسه: لا بد أني نسيتها في مكان ما، ولا بد أن يتذكر أين؛ فالأمكنة التي يُضطر الإنسان لخلع ساعة يده فيها أمكنة محدودة جدًّا ومن السهل تذكرها. وهذا بالضبط ما حدث للقاضي؛ ففي الجلسة دفعه الملل من المرافعات الطويلة ومناكفات المحامين إلى النظر في ساعته، وفوجئ حين لم يجدها. وبينما كان محامي المدعي عليه يسوق دفعًا فرعيًّا كان عقل الأستاذ عبد الله القاضي يعمل بسرعة فائقة ليتذكر أين يمكن أن يكون قد نسي الساعة. وخطر له احتمال أكيد؛ أن يكون قد تركها في عجلة الصباح فوق التسريحة في حجرة النوم، ولكنه لم يطمئن إلى الخاطر وقرَّر أن يسأل فرغلي الحاجب. وسؤال فرغلي هو أول ما يتبادر إلى ذهنه حين ينقصه شيء أو يحتاج إلى شيء أو يشكو من شيء. إذا لم يجد القلم ففرغلي هو المسئول، وإذا تاه دوسيه فهاتوا فرغلي، وإذا كان لديه صداع فأول من يعلم هو فرغلي. ورفع الجلسة أمر سهل؛ كان محامي المدعي عليه لا يزال يفصل في الدفع الفرعي. وحدث أن توقف ليبتلع ريقه وفي الحال قام القاضي واقفًا وانتهز الفرصة وقال: رُفعت الجلسة. وانتفض كل من بالمحكمة واقفًا بينما مضى المحامون يتهامسون ويتساءلون فيما بينهم عمَّا يمكن أن يكون السبب، وهل لبلاغة محامي المدعي عليه علاقة برفع الجلسة يا ترى، أم إن المحكمة أرادت أن تستشير قانون عقد العمل؟

وحين أصبح الأستاذ عبد الله في حجرته كانت يده تدق الجرس. وجاء فرغلي قبل أن يدق الجرس، ورمقه القاضي فوجده كالعادة منتصبًا أمامه في أدب وقد صنع من أعوامه الخمسين عامودًا حيًّا لا انحراف فيه ولا اعوجاج؛ فكرشه قد شفطه تأدبًا، وطربوشه قد مال إلى اليمين في اتزان وقور حتى أصبح الزر فوق الأذن اليمنى تمامًا وأطرافه تداعب أعلى الأذن، والوجه جامد كله احترام، والرأس معوج قليلًا إلى أمام لتستطيع الأذن أن تلتقط أدق الهمسات، واليدان مضمومتا القبضات متحفِّزتان لأية إشارة. وليس هذا كل شيء؛ فأفندم تعقب الوقفة، وتخرج كل أفندم مثل الأخريات فيها خناقة تدل على التواضع، وخفوت يدل على الاستكانة، وقصر يدل على استعداد تام للقيام بأية مهمة.

– أفندم …

ورمقه القاضي وتعجَّب، وسأله عن الساعة.

وانتفضت فتل زر الطربوش واصطكَّت بجداره الأحمر في عنف، وفرغلي ينفي نفيًا أنه رأى الساعة أو له بها أي علم. وكان الأستاذ عبد الله يتوقع إجابته تلك إذ إن فرغلي لا يمكن أن يكون قد رأى الساعة أو له بها علم. كل ما في الأمر أنه كان لا بد أن يسأله حتى ولو ليقول لا.

وأيقن حينئذٍ أنه لا بد قد نسيها فوق التسريحة في حجرة النوم. وحين عاد إلى البيت كان أول ما فعله أن ألقى على التسريحة نظرةً خاطفة، وانقبض حين لم يجد الساعة فوقها، وأيقن تمامًا أن لا بد قد ضاعت أو سُرقت. من أين جاءه ذلك اليقين؟ لم يكن يدري. لعله تشاؤم كامن في النفس لا يبرز إلا في أوقات مثل تلك! لعله وهم! ومع هذا انطلق يبحث عنها في الأدراج والكومودينو والدولاب وتحت المكتب. ولعل مبعث حماسه للبحث كان فقط لتكذيب ذلك اليقين المفاجئ الذي انتابه وأكَّد له أن الساعة قد ضاعت ما في ذلك أدنى ريب.

وقلب الأستاذ عبد الله البيت رأسًا على عقب دون أن يعثر للساعة على أثر. وجلس.

كان أثناء عملية البحث قد خلع بنطلونه وسترته وبقي بالقميص والحذاء والجورب ليستطيع الانحناء والنظر تحت الفراش والكراسي، وأكياس المخدات، وكل تلك الأمكنة التي ما إن يضيع من الإنسان شيء حتى يتبادر إلى ذهنه على الدوام أنها لا بد تحت كنبة أو كرسي أو فوق دولاب، وفي الغالب لا يجد في تلك الأماكن سوى أكوام الغبار والعناكب، ومع هذا كلما ضاع منه شيء بادر إليها، وكأنها مخازن أمل يبقيها الإنسان ليلجا إليها حين يخاف أن يستحوذ عليه اليأس.

جلس الأستاذ عبد الله على الكرسي، ووضع ساقًا عارية بيضاء فوق ساق، وراح يفكِّر ويستغرب.

وإنسان مثل الأستاذ عبد الله تعترضه مشاكل من كل نوع ولون، ولكن أن تضيع ساعة يده، مشكلة غريبة ربما لا تحدث — إذا حدثت — إلا مرةً واحدة طوال حياته.

وكان للمشكلة وجهان؛ فمن ناحية كان ضياع الساعة حدثًا ضخمًا يطرق حياته التي أصبحت مملةً ورتيبة، ثم أن تختفي الساعة من البيت، بل من حجرة لها جدران أربعة صماء شيء يجعل من المشكلة لغزًا كتمارين الهندسة المستعصية يحلو له أن يحله ويُجهد فيه عقله.

أما الوجه الآخر للمشكلة فهو الوجه العادي لها؛ إذ كان منقبضًا لضياع الساعة لا لأنها أثرية أو ذات قيمة أو هدية حبيب أو شيئًا من هذا القبيل. أبدًا، كانت ساعةً عادية جدًّا لا ذهب فيها ولا بلاتين، «أنكر» ١٥ حجرًا كان قد اشتراها قبل الحرب وقضت معه سني الحرب وبقيت ملازمةً له بعدها، بقيت كالشريك المخالف كل يوم لها حادث، زمبلك ومسح وزجاج وتروس، حتى صرف عليها ثمنها وزهق منها وأصبح منظرها يثير. لم تكن ثمينةً إذن، ولكنه ما كاد يوقن أنها ضاعت حتى انقبض. إن الإنسان لا يعرف قيمة الشيء إلا إذا فقده. طالما هو معه فهو معتاد عليه بل قد يكون ضيقًا به، ولكنه ما يكاد يضيع حتى يُحس الإنسان وكأن جدارًا في نفسه قد انهار، وتبدأ حينئذٍ قيمة الشيء الحقيقية تأخذ مكانها في نظره.

كان منقبضًا. لو كان هو الذي ألقاها بيده من النافذة لَمَا أحس بلمحة أسف، ولكن ضياعها هكذا عنوة، ورغمًا عنه، شيء يستثير الضيق والتحدي.

كيف تضيع الساعة من فوق التسريحة بكل بساطة؟

القيمة المادية هنا لم تكن ذات وزن؛ فالأستاذ عبد الله على كل حال، لا يمكن يؤثر في مجرى حياته ضياع ساعة. هو رجل مبسوط، بل كان طول عمره مبسوطًا. وُلد مبسوطًا، وتعلم مبسوطًا، حتى وهو طالب في كلية الحقوق كانت له عربة «توبولينو» صغيرة، وكان والده المرحوم على قيد الحياة، وكان ينفق عن سعة وكان وكان.

إنه قاضٍ، ولم يتزوج بعد، ومع هذا فشقته فاخرة الأثاث، وحياته مليئة بالأرقام ٣٤٤٥، ٢٩٩٨٧٦، ١٠٠٣١، ٦٦، ٨٣٤٥ وهي أرقام عربته وثلاجته وبوليصة التأمين على حياته، وشقته ورقم حسابه في البنك.

ولا يتسرَّع أحد ويخمِّن أن الأستاذ عبد الله فاحش الغنى. هو رجل متوسط الحال، بل يكاد يكون متوسطًا في كل شيء؛ فهو ليس طويلًا، ولا يمكن أن تقول إنه قصير، وكذلك لا هو بالرفيع أو التخين، ولا بالأبيض أو الأسمر. بالاختصار إذا أخذنا مائة رجل من جميع أنحاء العالم وأخذنا متوسطهم في الطول والوزن والبشرة لوجدنا أمامنا الأستاذ عبد الله. حتى الشاي، تقول مدام شندي وهي توزع السكر: كام حتة يا عبد الله بك؟ وفي العادة تستدرك نفسها وتقول: آه، أنا عارفة. إنت بتحبه مضبوط. حتة ونص، مش كده؟ ويبتسم هو حينئذٍ ويقول وهو يستعد «للترمبت» في البريدج: إنتِ عارفة يا مدام، أنا رجل معتدل. ويضحك الموجودون وكأن الأمر نكتة؛ فنكت القاضي هي الأخرى دائمًا مضبوطة ومعتدلة الحلاوة.

وليس معنى ذكر البريدج ومدام شندي أنه مغرم ببيتها أو مدمن على الذهاب إليه. إن زياراته لعائلة شندي ليست بالكثيرة التي تُضايق ولا بالقليلة التي تجلب العتب. إنه أيضًا في هذا «جنتلمان» كما هو في أي مجال آخر؛ جنتلمان له ابتسامة دائمة يتحدث بها إلى الغرباء، ولا يبدأ في إزالة ما بينه وبينهم من كلفة إلا إذا بدءوه هم. وحين يتحدث يتحدث في بطء قليل، وحديثه دائمًا متوسط العمق فهو لا يحيط بأي موضوع إحاطةً كاملة، ومع ذلك لا يترك موضوعًا دون تعليق؛ إذ لا بد أن يقول شيئًا، ولو كلمة، ولو نوعًا من جبر الخاطر.

وبمثل ما نكون تعاملنا الحياة، والحياة تعامل الأستاذ عبد الله في اعتدال هي الأخرى، فلم ترفعه مرةً فجأة ولم تهوِ به؛ فمن الكلية إلى النيابة إلى المحكمة كما قدَّر لنفسه، وكما قدَّر له أبوه من قبله، كالقطار الذي تركبه في القاهرة وأنت متأكد تمامًا أنه بعد قليل سيكون في بنها ثم في الإسكندرية.

أجل! ماذا يفعل ضياع الساعة في حياته؟

كأن المسألة من التعقيد بحيث يستدعي حلها سيجارة، والأستاذ عبد الله لا يدخِّن ولكن لديه علبة سجائر يحتفظ بها في درج المكتب ليعزم منها على الزوار. وفي أحيان قليلة يدخِّن، مرةً كل شهر مثلًا أو كل شهرين. قام ليتناول سيجارة، وعاد إلى جلسته وإلى ساقه الموضوعة فوق ساق. واكتشف بحركته تلك أنه عارٍ أو يكاد، وأسرع يرتدي البيجامة قبل أن يراه أحد، مع أنه لم يكن في الشقة أحد؛ فهو يقطن بمفرده إذ هو أعزب. كان قد حدَّد لنفسه الخامسة والثلاثين ليتزوج، وكان في الثانية والثلاثين؛ أي باقي على انقضاء الحكم الذي أصدره على نفسه ثلاث سنوات. أما لماذا حدَّد الخامسة والثلاثين بالذات ليتزوج، فالأمر لا سر فيه ولا يحزنون؛ إذ هو قدَّر أنه سيعيش سبعين عامًا، ربما لأن والده تُوفي وهو في السبعين، وأمه في الثامنة والستين، وجده في الخامسة والسبعين، ربما هذا، وربما قرَّر أنه سيعيش حتى السبعين عامًا لسبب لا يدريه أحد. ولهذا قرَّر أن يتزوَّج في منتصف عمره تمامًا. وهو ليس أبله كما قد يظن البعض؛ إذ إن كثيرًا من الناس يقرِّرون أشياء خطيرةً في حياتهم اعتمادًا على أشياء غامضة لا أساس لها في عرف أو عقل مثل تلك.

دخل الأستاذ عبد الله في البيجامة، وعاد يجلس على الكرسي الهزاز الموضوع بجوار الراديو الضخم. جلس وهو قد استبعد نهائيًّا أن يكون جعفري هو الذي أخذ الساعة؛ فهو قد يشك في نفسه ولكنه لا يستطيع الشك في جعفري أبدًا. هو خادم العائلة أبًا عن جد، بل يقولون إن أحد أسلافه مات وهو عائد من الفرن بصينية «حمام بالفريك» التي كانت طعام جده المختار. وضمن ما ورثه الأستاذ عبد الله كان جعفري، وهو إنسان طيب جدًّا، ساذج جدًّا له ولاء الكلب وإخلاصه. هو من أولئك الناس الذين لم يكتفوا بالقناعة بمصيرهم، بل عبدوا ذلك المصير وبجَّلوه. كلمة «سيدي» عندهم لها قداسة ووقع، وحاجة السيد كحاجة الله أرفع من أن تمتد إليها يد. كان معه في بيت المنيرة وحين انتقل إلى سكنه الحالي في شارع الجبلاية انتقل معه. وكان يقيم في الشقة، وكان هذا سبب ضيق الأستاذ عبد الله منه.

لم تكن هناك أسباب واضحة لهذا الضيق؛ فجعفري أمين نظيف دقيق لا يكاد يتلفَّظ طوال اليوم بكلمة، والأستاذ عبد الله يُحب الصمت، وإذا كان هناك كلام فليكن باعتدال، وليكن أيضًا في المليان. تضايق منه وكان ذلك من عامين؛ لأن جعفري كان حجر عثرة؛ إذ هو يخجل منه وهو خادم العائلة الذي شهد أباه وشهد أمه والذي رآه وهو طفل وحضر كل ما أحرزته العائلة من أمجاد، فلم يكن من اللائق، ولا ممَّا يُرضي مزاج الأستاذ عبد الله الحساس أن يدخل عليه مرةً مثلًا ومعه فتاة. وكان الوقت قد حان، وسنوات العمر تمضي كالرياح، والثلاثون قد ولَّت، وحياة العزوبة تتسرَّب من بين يديه دون أن يفيد منها شيئًا. والأستاذ عبد الله كان مستقيمًا، لا لأن غير الاستقامة حرام، أو لأن هذه «الأشياء» لا تصح، أو … أو … إلخ، ولكن لأنه ذات مرة سوداء اشترك مع طالب زميله في الكلية، والتقطا فتاةً من الشارع في عربة زميله الكبيرة وأخذاها إلى طريق الإسكندرية. ورُوِّع عبد الله ثاني يوم بأعراض خطيرة، وصحيح أنه عولج وشُفي تمامًا ولكنه أقسم بينه وبين نفسه أنه لن يقرب امرأةً أبدًا إلا إذا تزوج. كانت أية امرأة في نظره عبارةً عن ميكروب يرتدي جوارب نيلون ويضع على شفتيه روجًا ويلدغ كل من يقترب منه. وكان ممكنًا أن يدفعه هذا للزواج، ولكنه كان قد قرَّر منتصف العمر ليفعل هذا. وظلَّت الخطة ساريةً بنجاح تام إلى ما بعد الثلاثين وقد بدأت الخامسة تُطل برأسها. وهنا ثار الأستاذ عبد الله على نفسه وحياته وصمَّم أن يودِّع — كما يقولون — حياة العزوبية. من أجل هذا حث جعفري على الزواج، بل ساعده، ولمَّا تزوَّج أخبره أنه لا يريده طوال اليوم، عليه فقط أن يأتي في الصباح ويغادر الشقة بعد أن يُعد له الغداء؛ وكل هذا ليخلو له المسكن ويصبح حرًّا يستطيع أن يودِّع عزوبيته كما يشاء.

وبرغم أن الشقة خلت وذاق حلاوة الوحدة التي كان ينشدها، وانزاح جعفري بوجوده الدائم، إلا أنها بقيت خاليةً إلا منه؛ فقد كان يظن أنه حالما يذهب عنه الرجل ستمتلئ الشقة بالنساء، كيف؟ لم يُتعب نفسه ويفكِّر. ولكنه اضطر إلى التفكير؛ فهو قد أمضى فترةً طويلة من شبابه دون احتكاك بالنساء حتى تغلَّبت رغبته العارمة آخر الأمر، ونسي حكاية الميكروب، وقَبِل الأمرَ شكلًا وأصبح على استعدادٍ للمجازفة، ولكن أين المرأة؟ عُزلته طوال تلك السنين كانت قد حالت بينه وبين الطرق التي تُقبل منها النساء، ثم إنه كان قد أصبح قاضيًا في تلك المدة. صحيح أنه شاب لا يزال صغير السن نوعًا ما، ولكنه قاضٍ عليه «أو هكذا خُيل إليه» أن يحافظ على كرامة المنصب، ولا يدع أحدًا يأخذ عليه مأخذًا أو يضبطه في موقف حرج. ثم إنه لا يستطيع أن يُفضي برغبته لأحد، وكل أصدقائه ومعارفه رجال كبار محترمون؛ مستشار في مجلس الدولة، وكيل نيابة درجة أولى، محامٍ على الأقل من محامي النقض والإبرام، أساتذة في الجامعة، المنهراوي بك صاحب محلات الموبيليا الذائعة الصيت، صلاح شوشة ابن إعتماد هانم … أناس لا يمكن أصلًا التحدث معهم في أمر كهذا. حتى زملاؤه من دفعته، والذين كانت عربته الصغيرة سببًا من الأسباب التي منعته أن يعرف منهم سوى عدد قليل محدود، حتى هؤلاء الزملاء تفرَّقوا وتزوَّجوا وأصبح لهم أولاد، وإذا قابل أحدَهم تبدو المقابلة أوَّل الأمر عاصفةً ذات تهليل وعناق وسلامات، وبعد خمس دقائق يكتشفان أن كل ما بينهما من كلام قد انتهى ويصبح الحديث مجرد ترديد أجوف: والله زمان … وحشتنا … فين أيامك؟ أو عادة مكررة لذكريات تاريخية قديمة عن مدرس كانت له طباع شاذة.

هذا عن الرجال.

أما النساء فكان مقطوعَ الصلة بهن تمامًا. كانت هناك قريباته، بعضهن كان لا يطيقهن شكلًا ولا موضوعًا، وبعضهن جميلات كان يخاف منهن؛ فهن إما متزوجات أو طامحات في الزواج، والعين كانت عليه وهو العريس «السقع» الذي يسيل له اللعاب، غير أنه كان قد صمَّم تصميمًا لا نقض فيه ولا إبرام ألَّا يتزوَّج من قريباته أبدًا ولو قطعوا رأسه. أما لماذا؟ فهو نفسه لا يدري سببًا لهذا التصميم. كانت أية محاولة للتقرب منهن ممكن أن تؤخذ إذن على محمل الاستحسان وقد تنتهي بورطة ودبلة، وقد تنتهي بزواج. أما غير قريباته فكانت هناك مدام شندي، أرملة في الخمسين مولعة بالبريدج إلى حد الجنون، ولها أصدقاء من كبار رجال الدولة، ولها صالون ومجلس وتُجيد الحديث وإدارته، وتُجيد الابتسامات الفاهمة والإصغاء إلى المتاعب. سمراء غامقة السمار تكاد تكون صعيديةً من قلب الصعيد وتقول عن نفسها إنها تركية، وكثيرًا ما تزورها نساء متزوجات، ولكن كل منهن شخصية قائمة بذاتها. وصحيح أنه يتحدَّث معهن كثيرًا ويناقش شتى الموضوعات ويعلِّق أحيانًا على حذاء أنيق، أو تسريحة جديدة، ويقص عليهن طرائف مما يحدث له مع المتهمين والمفتشين والمحامين، ولكنْ حديث مثل هذا شيء، وحديث خاص ينتهي بلمسة أو بقبلة شيء مختلف تمامًا؛ فهو ليس وسيمًا، وهو يعرف أن هذا غير مهم في الرجال، ولكنه يعرف أيضًا أن وجهه كالصفحة البيضاء لا معالم بارزة فيه، ملامحه عادية جدًّا ليست جميلةً أو قبيحة، ولا تُثير إعجابًا ولا تبعث على الاشمئزاز ولا يُحس لها الناظر بأي انفعال. ليته كان قبيحًا! كثيرًا ما يتمنَّى لو كان مشوَّهًا حتى. ثم إنه عالِم تمامًا بخفة دمه ولباقته؛ فهو يرى الناس يتحدثون، يأتون في كلامهم بأشياء تبرق وتضيء الكلام، وتضيء وجه السامع بابتسامة أو ضحكة أو لمعة أسًى. وهو ينصت إلى أناس وهم يحكون فيجد لحكاياتهم وقعًا لذيذًا وكأن كلامهم محلًّى بالتوابل وفاتحات الشهية. وكان أحيانًا يُنصت إلى نفسه وهو يتحدث ويحاول أن يجد شيئًا، شيئًا واحدًا فقط، كلمة ذكية أو إشارة مليحة، أو حتى طريقة طريفة لرواية ما يقول، فلا يجد. كلامه مجرد كلام. يسمعه الناس إكرامًا له، وإكرامًا للفظة القاضي اللاصقة به. لا يعني هذا أنه كان عييًّا؛ إذ إنه لم تخنه الكلمة أبدًا. ليتها خانته مرةً إذن لحدث لكلامه شيء غير عادي.

لهذا فحديث خاص إلى واحدة من السيدات في صالون مدام شندي شيء لم يخطر له على بال، خاصةً وهو لم يتعوَّد أمثال ذلك الحديث، ولم يجرِّب مرةً واحدة إيقاع امرأة. وكان طبيعيًّا إذن أن يبدو في الصالون مؤدبًا خجولًا يملئوه الرعب من النساء المنبثات من حوله.

وما إن ذهب جعفر وبدأ يثور على نفسه ويكبت الثورة أحيانًا ويطلقها، حتى بدأ يتقدم ثم يتأخر ويعود إلى الإقدام. وشتمته واحدة مرة، وقبلت واحدة أخرى دعوةً إلى السينما، ورحَّبت بسهرة في الأوبرج، ولكن ما كاد يلمس يدها حتى انسحبت وتركته يكاد يُغمى عليه. وأخيرًا دفعته إلى تجربة مدام شندي نفسها، ولم يجد لديها حماسًا كثيرًا، وكذلك لم يجد معارضةً تذكر! وكانت استجابتها له فيها روتين وتعود، وعاملته كأنه طفل كبير شقي. وظل بعدها ثلاثة أيام يكظم خجله واشمئزازه، ولم ينسَ أبدًا أنها في الخمسينيات، وأنه فعل هذا وهو قاضٍ.

والإنسان حين يفشل لا يسكت، إنه لا يكف عن المحاولة أبدًا وبمضي الوقت قد يصادفه النجاح. وهكذا استطاع أن يستصحب نانا إلى الشقة بعد مضي ستة أشهر على خروجه معها.

والخروج مع فتاة مثلها كان بالنسبة إليه أمرًا صعبًا يؤديه كالضريبة الباهظة المفروضة عليه؛ فهو لا بد أن يختار مكانًا بعيدًا عن القاهرة، ولا بد أن يذهب إليه قبلها ليتأكد أن واحدًا من معارفه أو أصدقائه أو المحامين لا يعرفه، ثم يستصحبها إليه، ويظل في قلق عظيم وهو جالس معها، ولا ينزاح الهم عن صدره إلا حين تهبط من عربته بعدما تقرصه في يده قائلة: باي باي.

وأخيرًا جاءت معه وكان نصرًا أن تجيء، ومع هذا لم يستطع معها الكثير؛ فهي فتاة وهو خجول، ولولا أنها لا تعد جميلةً لما كانت قد رضيت بالمجيء. ودعك من الهدايا والتحف. وهكذا ظلَّت العلاقة بينهما في أخذٍ ورَد حتى ذهب الخجل وقل العناد، وبدأت تنمو عواطف مبهمة تجاهها حتى فكَّر مرةً أن يخطبها فهي بنت ناس، ولطيفة، وتُحب القانون، ولكن مسألة قَبولها المجيء معه كانت تقض مضجعه وتجعله يرفض مبدأ الخطوبة رفضًا باتًّا، غير أنه ما لبث أن صرف النظر عن التفكير في الخطوبة والزواج؛ فقد استطاعت علاقته بنانا أن تعلِّمه أشياء كثيرة، ويكفي أن تعرف فتاةً واحدة لتدرك منها الكثير من أسرار الفتيات أجمعين، وتصبح جَسورًا بعض الشيء، وتستطيع إذا آن الأوان أن تُثني على ذوق صاحبة لها، ثم تنتقل من صديقة إلى صديقة، وتتعلم أكثر، وتنمو لديك الخبرة، وتستطيع أن تجيد نوع الكلام الذي يحبه الفتيات، وتعرف دقائق الفروق بين لون فستان ولون فستان وكشكشة وكشكشة، وأين يكمن السكس آبيل في نظرات جريجوري بيك. وتستخدم خبرتك تلك في الأحاديث، ثم لا يعدم الأمر بعض القفشات والنكات والكلمات ذات المعاني، وابتسامات مطعَّمة بدعوات، ونظرات آخِرُ ما يُقصد بها أنها نظرات، وإذا بك قد وصلت، وإذا بالأستاذ عبد الله لديه ثلاث أو أربع فتيات؛ واحدة لدعوات السينما، وواحدة كانت تعلمه الرقص أو على الأصح تجدِّد معلوماته عن الرقص؛ فأخته كانت قد علَّمته وهو لا يزال «صبيًّا»، وواحدة تأتي وأخرى تذهب، حتى إنه ذهب إلى كباريه مرةً وتعرَّف هناك بشلة، فوجئ أن بينها أكثر من واحد من الأسرة القضائية، وتعرَّف براقصة أو على الأصح هي التي عرَّفته بنفسها، وجلست معه، وفتح لها زجاجة «السينالكو» ذات الثمن الغالي، وفتح المحفظة، وأصرت هي وهما عائدان منتشيان أن تفتح بنفسها باب الشقة.

مستحيل أن يكون جعفري هو الذي أخذ الساعة.

٢

لا بد أنها «شُهرَت».

كان إحساس الأستاذ عبد الله بالفرحة لأنه وجد موضوعًا عجيبًا يملأ حياته يكاد يطغى على أي إحساس آخر. أحسَّ أيضًا أنه لا يستطيع السكوت على هذا الموضوع الكبير وحصره في نطاق تفكيره الخاص. أحس أنه لا بد من مناقشة ما يدور في رأسه من خواطر وافتراضات مع أحد، لا بد من شرف، وقام إلى التليفون وطلب نقابة الممثلين.

وكان مَن يراه وهو يدير القرص والحماس يُطل من عينيه، يحسبه يود مفاجأة صديق بخبر مثير أو أنباء سارة. كان الخط مشغولًا، ومع هذا ظل يُدير القرص وحماسه لا يفتر. إنه لن يجد في العالم كله من يصلح لمناقشة هذا الموضوع معه سوى شرف، ولا بد أن شرف في نقابة الممثلين ولا بد أن يعثر عليه. هذا اللعين شرف صديقه مذ كانوا يقطنون في بيت العائلة في المنيرة. شرف أيضًا كان يقطن هناك ولكنه كان من عائلاتها الفقيرة؛ ولهذا ولأمر ما كان الأستاذ عبد الله لا يُحس أمامه بأي تعقيد ولا يخجل أن يقص عليه أدق خلجات نفسه دون أن يُحس بكرامته تُهان أو بتأنيب ضمير. كان يقول له ما لا يستطيع قوله لأصدقائه الأغنياء وأقاربه؛ ولهذا فقد كان يُحبه أيضًا أكثر من كل أصدقائه الأغنياء وأقاربه. هذا برغم أنه لا يحتل مثله أحد مناصب الدولة المهمة أو غير المهمة، فقد ترك المدارس وعمل في عشرات الأعمال، ثم احترف التمثيل الذي كان يهواه دائمًا وأصبح ممثلًا في الإذاعة وأدواره كلها قصيرة، وأطول دور كان ثلاث كلمات، ورغم ذلك فهو يعتد بنفسه كفنان اعتدادًا كبيرًا، وله آراء في الفن والمسرح والحياة، ومكانه الدائم في نقابة الممثلين.

ورغم ما كان بين الأستاذ عبد الله وبين شرف من حب فقد كانت العلاقة بينهما لها طابع غريب نوعًا؛ الأستاذ عبد الله لديه مشاغل كثيرة، ولكن أحيانًا تتبخَّر كل مشغولياته ولا يجد ما يعمله، وتصبح الدنيا خاويةً مملوءة بفراغ متثائب لا نهاية له؛ حينئذٍ يأتي دور شرف. يدق التليفون في نقابة الممثلين وهو التليفون الوحيد الذي يدق ويطلب شرف الدين: تعال يا شفشف. هكذا كان يناديه الأستاذ عبد الله. ودون أن يسأل شرف من، يأخذ طريقه إلى شارع الجبلاية أحيانًا راكبًا ترامًا، وأغلب الأحيان سائرًا على قدميه. هناك كان يجد شقةً أنيقة عالية مطلة على النيل، وماءً مثلجًا وطعامًا وعلبًا محفوظة، وأحيانًا زجاجات بيرة، وكرسيًّا مريحًا يسترخي عليه ليؤدي دوره.

ودوره كان دور المستمع. كان ينصت لصديقه عبد الله وهو يتحدث. وإذا تحدث شرف مع عبد الله فلا بد أن يكون الحديث كله عن عبد الله. وأشخاص قليلون جدًّا هم الذين يستطيع الإنسان أن يُحدِّثهم طويلًا عن نفسه دون أن يفكِّروا في قطع حديثه ليتكلَّموا هم عن أنفسهم، وكان شرف من هؤلاء. كان عبد الله يُشرِّق ويُغرِّب ويسرد أدق الخواطر والأشياء التي لا تدور إلا بينه وبين نفسه، وشرف يُنصت ولا يمل، وكان فنانًا في إنصاته؛ فهو لا يُنصت وهو ضيق بالحديث، أو متعجل لنهايته، ولا وهو فقط متابع الكلام يهز رأسه وينفخ دخان سيجارته. أبدًا! كان ينصت بحماس، وتبرق عيناه حين يتأزَّم الموقف، ويبتسم حين يحتاج الحديث إلى ابتسام، ويُقهقه حين يستدعي الموقف قهقهة، وتُحس وأنت تتحدَّث إليه أنك تُحادث إنسانًا يُهمه أمرك، ويحفل بكلامك، مهما كان، احتفالًا كبيرًا.

وأحيانًا يعثر الإنسان على مستمع كهذا تمامًا، ولكنه يكون عالمًا أنه ينصت ويتحمس وينفعل مجاملةً له لا أكثر ولا أقل، غير أن شرف لم يكن من هؤلاء. كان حماسه حقيقيًّا، ومشاركته في الحديث مشاركةً إيجابية؛ فهو يستمهل ويستوقف ويناقش ويسأل عن تفاصيل أخرى.

ولا بد أن لحظات حديث الإنسان عن نفسه تُمتعه ويسعد بها، خاصةً إذا كان لهذا الحديث مستمع كهذا. لا بد؛ لأن عبد الله كان يُحس براحة عظمى بعد هذه الأحاديث؛ ففي حياته العادية كانت تمر عليه أوقات كثيرة لا يرى نفسه فيها إلا إنسانًا تافهًا لا قيمة له ولا وجود، خاصةً حين يجد نفسه في مجتمع غاص، والجميع يتكلَّمون بانطلاق وانتعاش وهو وحده الذي يخرج كلامه باهتًا معقمًا كالماء المقطر لا طعم له ولا رائحة. كان في جلساته مع شرف ينطلق ويُحس بكلامه يخرج موزونًا له ثقل، وفيه حكمة غريبة عليه، وبلاغة، حتى فكَّر عبد الله ذات مرة أن يشتري جهاز تسجيل ليسجل به أحاديثه تلك ويعود ليستمع إليها بعد ذهاب شرف، ويُسمعها لأصدقائه ومعارفه، ويُريهم أنه ليس به عيب، وإنما العيب فيهم وفي مجالسهم. وفي حديثه مع شرف كان ينطلق وينطق بأشياء معجزة، وإلا لماذا كان يقوم شرف ويقعد لدى سماعها ويطلب منه إعادتها كما يطلب المستمعون من المقرئ إعادة التلاوة وقد بلغ بهم الاستحسان مداه.

كان يُبلور في أحاديثه تلك كل فلسفته في الحياة وآرائه في الناس. والإنسان إذا وُجد في حضرة الجماعة وكان عليه أن يُدلي برأي في موضوع، فإنه في العادة يقول ما تواضع الناس على قوله. يفعل هذا احترامًا للجماعة أو خوفًا منها، أو استسهالًا؛ فقد يجره رأي مخالف إلى نقاش قد يخرج منه مهزومًا مهيض الجناح. قليلون فقط هم الذين يملكون آراء شخصية، وأقل منهم أولئك الذين يستطيعون الجهر بآرائهم تلك دون وجل في حضرة الناس، ونادرون هم أولئك الجريئون الذين يستطيعون الذود عن آرائهم إذا هوجمت، وأقل القليلين هو من تتفق له الجرأة والمنطق فيستطيع ليس فقط أن يعبِّر عن رأيه ويُدافع عنه إذا هُوجِم، ولكنه يستطيع فوق هذا إقناع الناس به. نادرون جدًّا أولئك الناس، ولكن هذا لا ينفي الحقيقة، والحقيقة أن كلًّا منا حكيم في حدود، ولكن ليس كل منا قادرًا على التبشير بحكمته.

وكان عبد الله كأي إنسان له حكمة استخلصها من تجاربه وما مارسه، وكان يغلق عليها نفسه ولا يفتحها إلا في حضرة شرف، ولا يُبشِّر بها إلا له وحده.

والغريب أنه لم يكن يؤمن بحكمته تلك. كان شرف هو الوحيد الذي يقتنع بكل آرائه، أما عبد الله فكان لا يقتنع بها ولا يُنفِّذها ويفضِّل أن يتبع آراء الآخرين، فأن نعتنق آراءنا عملية في حاجة إلى جرأة هي الأخرى.

ودخل شرف.

كان طويلًا نحيلًا له شعر مهوش وملامح طويلة ممطوطة، تُحس إذا ما رأيته أنه لا بد «فنان» من الفنانين، له ابتسامة خجولة يحتار دائمًا أين يداريها. وإذا ابتسم برز له ضبٌّ صغير لا يكاد يلحظه أحد.

وكعادته توجَّه إلى المطبخ فور دخوله وعاد ومعه كوب من الماء المثلج ظل يرتشفه على قطرات، ثم خلع جاكتته وعلَّقها على المسند وتمدَّد. ولم ينسَ وهو يمدِّد نفسه أن يضع ساقًا فوق ساقٍ ويتناول سيجارةً من العلبة التي قدَّمها له عبد الله.

ظل القاضي يراقبه حتى انتهى من عملية جلوسه ونظراته ترتجف باللهفة، وكأنما يختزن في جوفه بركانًا. وكان واضحًا أن شرف قد أدرك هذا وتعمَّد المغالاة، ولكنه نطق أخيرًا وقال وهو يحدِّق في ملامح عبد الله ويحاول أن يستشف الأمر. وهل هو إحساس بالوحدة هذه المرة، أم حب جديد، أم رأي طازج عن نشأة الجريمة بين الأحداث.

– ما وراؤك يا همام؟

فقال الأستاذ عبد الله: حصلت أبدع حاجة النهارده.

– خدت الدرجة الرابعة.

– لأ، شُهرَت سرقت الساعة.

– شُهرَت مين؟ الرقاصة؟!

لم تكن شُهرَت هي الراقصة، ولا صديقةً أخرى لنانا، ولا تَمُت بصلة إلى هذا الصنف من النساء كله؛ إنها هدية فرغلي الحاجب.

وبدأت المسألة في ثورة من ثورات الأستاذ عبد الله على نفسه، أو بمعنًى أدق على صديقاته. لم يكن يستريح أبدًا لعلاقاته بهن. كان هناك شيء ما يحد من سلوكه أمامهن، كان لا يستطيع أن يُطلِق نفسه على سجيتها أمام نانا أو غيرها. لا بد أن يكون مؤدبًا ولا بد من الرقة والكلمة الحلوة، ولا بد من ابتسامة لا تذبل يضعها في عروة فمه طوال الوقت الذي يقضيه مع الواحدة منهن. كان من فرط إحساسه بقلة مواهبه أمامهن يُحاول قدر طاقته أن يكون خفيفًا كالنسمة وأن يرضيهن ما أمكنه. ولم تحاول واحدة منهن إرضاءه أبدًا، وإن حاولت كان يُحس أنها تفعل ذلك لسبب، وأن وراء الإرضاء ما وراءه. وفكَّر مرةً في شيء جديد على حياته. لم لا؟

واصطنع الديمقراطية. ووقف فرغلي الحاجب أمامه في حجرته قبل الجلسة، وظل هو يشكو من أزمة الخدم وكيف أن الرجال لصوص والنساء العواجيز متعبات ولا يستطعن العمل. وكان فرغلي لا يكف عن إحناء رأسه علامة الموافقة على كل كلمة ينطقها القاضي، بل أحيانًا يحني جسده كله ليدل على الموافقة التامة. وفي يوم آخر بدا على القاضي الضيق الشديد وادَّعى أمام فرغلي أنه طرد الخادم الجديد. وأبدى فرغلي أسفه البالغ وراح يصب اللعنات على الخدم أجمعين، وعلى ذلك الخادم المطرود بالذات وكأنه كان يعرفه ويعلم أنه جدير بكل تلك اللعنات.

وفي المرة الثالثة قالها القاضي صراحة، وسأل فرغلي أن يعرف امرأةً أمينة مخلصة تقبل العمل عنده. واشترط أول الأمر أن تكون كبيرةً في السن، وهزَّ فرغلي جذعه مُؤَمنًا على الشرط، ولكن سعادة البيه تصنَّع تفكيرًا عميقًا ثم قال له وكأنه يعدل عن رأيه: الأحسن ألَّا تكون عجوزةً جدًّا ويُستحسن أن تكون نصفًا. وهزَّ فرغلي جذعه موافقًا. ثم عدل عن رأيه مرةً ثانية وقال: والا الأحسن تكون شابة تستطيع أن تقوم بشئون البيت خير قيام، ثم أن سُلَّم الخدم مرتفع والشقة في الدور السابع. ولم يكتفِ فرغلي بهز جذعه موافقًا، ولكنه ابتسم هذه المرة ابتسامة المدرك الفاهم المقدر.

وكان اليوم التالي يوم جمعة وهو الميعاد الذي اتفق مع فرغلي على المجيء فيه. وكانت الساعة الثالثة ودق الجرس. ولم يكن جعفري موجودًا بطبيعة الحال، كان قد أدَّى عمله ومضى، فقام الأستاذ عبد الله بنفسه وفتح الباب. ووجد ابتسامة فرغلي تملأ فتحته. كان فرغلي إذا ابتسم يفتح فمه ويغمض عينيه علامة الانبساط. وكان يرتدي بدلةً ملكية غير بدلة الحُجاب، بدلةً لا بد قد أنعم عليه بها قاضٍ سابق؛ فقد كانت قديمةً وواسعة متهدلة لم تعرف المكوى أبدًا طريقًا إليها. وكان للبدلة قميص كان يبدو كالجلباب الذي له ياقة لا أول لها ولا آخر، ومع هذا يُصر فرغلي على إحاطتها برباط عنق من كثرة استعماله أصبح كفتلة الدوبارة، وأصبحت عقدته رفيعةً متينة كعقدة الحبل.

ابتسم فرغلي وقال: الطلب موجود يا سعادة البيه.

ورنَّت «موجود» رنينًا حلوًا في أذن الأستاذ عبد الله، وقال بلهفة: فين؟

– تعالي يا شُهرَت.

وجاءت شُهرَت، ودخلت. لم ينظر إليها الأستاذ عبد الله أول الأمر، فقط لمحها، وأحس بخجل حين رآها ترتدي ملاءة لف، وخاف أن يكون أحد من سكان العمارة قد لمحها وهي داخلة شقته. وحين أغلق الباب استراح. ووقفت في ركن من الصالة قريبًا من الباب، ودخل هو وفرغلي حجرة المكتب، وجلس وأمر فرغلي أن يجلس، ولكن الرجل أصر على الوقوف وتشبَّث، وأصر القاضي على أن يجلس. ومع هذا حين رضخ للأمر وجلس، أحسَّ القاضي بنوع من خيبة الأمل، وكأنه شك أن يكون قَبول فرغلي الجلوس في حضرته، ولو بناءً على أمره، يعني أنه بدأ يتساهل في احتراماته. وازداد اضطرابه وأصبح يكسوه مزيج من الخجل والتردد والحيرة. لم يكن قد رأى وجهها بعدُ، فقام — وانتفض فرغلي لقيامه — وغادر الحجرة إلى الحجرة الأخرى، ورمقها بنظرة، وكان في نيته أن تكون خاطفةً حتى لا تدرك أنه يتفرج عليها، ولكن نظرته تلكَّأت طويلًا عند وجهها وكادت ألَّا ترتد لولا أن انتزعها انتزاعًا. لم تكن بالصورة التي تخيَّلها. كانت تبدو كامرأة بلدي مثل غيرها من آلاف النساء. المرأة تحس أنها زوجة وأم ولا تبدو عليها أبدًا سمة الخادمات. الشيء المحير أن وجهها كان يبدو مختلفًا غريبًا، يلزمه أكثر من نظرة ليستطيع أن يحدِّد ملامحه، وليعرف إن كانت جميلةً أم عادية الجمال. ولكنه وافق، وحين عاد إلى فرغلي سأله عن الأجر، ورفض فرغلي رفضًا باتًّا أن يتحدث في هذه الماديات. إن أعجبته فليعطها ما شاء وإن لم تُعجبه فغيرها موجود. ومع أنه لم يُحس بالارتياح لما قاله فرغلي إلا أنه أعطاه سيجارة. وكانت الخطوة التالية التخلُّص منه؛ ولهذا ناوله خمسين قرشًا أجر المواصلات. واحتجَّ فرغلي بملامحه يُقبِّل يده.

وأخيرًا ذهب.

كانت لا تزال واقفةً في الصالة وكان هو قد عاد إلى حجرة المكتب وجلس فقال لها: م تيجي.

وجاءت والملاءة لا تزال ملتفةً حولها، ووقفت تواجهه وتسند ظهرها إلى الباب المفتوح. وعبرها بنظرة أخرى؛ كانت ملامحها قويةً ناطقة، وكان وجهها مشربًا بحمرة، وتحت ستار ملامحها القوية أنوثة لا تستطيع أن تحدِّد موضعها. وقال لها وهو يتعمَّد الخطأ: اسمك عفت.

فأجابت: خدامتك شُهرَت.

ولاحظ أن صوتها له رنين أنثوي مبحوح يدغدغ الأذن، ثم إنها نطقت خدامتك بلهجة أقرب إلى التأدب منها إلى الذلة والاستسلام.

– متجوزة؟

وسكتت قليلًا ثم قالت: أيوه.

– ومخلفة؟

فقالت: بنتين وولد.

وعاد يرمق وجهها بعيون جريئة لا ترمش ولا تخجل. كان يبحث عن شيء ما، ذلك الشيء الذي علَّمته خبرته أن يبحث عنه كلما التقى بامرأة، الشيء الذي يعني أن لا مانع لديها مثلًا. ولكنه لم يجد. فقط فطن إلى أنها لا تزال ممسكةً بالملاءة وقبضتها شديدة فيها. وسألها وكانت الساعة الثالثة: اتغديتِ؟

وأنزلت وجهها إلى الأرض وقالت: الحمد لله.

وفهم أنها لم تفعل، بل خُيل إليه أنها لم تتناول إفطارها أيضًا.

وأمرها أن تذهب إلى المطبخ فهناك بقية من طعام، وغمغمت تُصر على أن الحمد لله، ولكنه ألحَّ وأغلظ، وحين وجدها لا تعرف مكان المطبخ قام وأراها الطعام، وعاد إلى الحجرة وجلس يفكِّر. لم يكن يتوقعها هكذا! فيها قوة تلك المرأة. إنها غلبانة وترتدي الملاءة اللف، ولكن ما يُضفي على شخصيتها مهابةً قلَّ أن تتوفَّر لامرأة مثلها، لعله ما يصبغ ملامحها من براءة. هل يستطيع؟ إنه خائف. إن البراءة تحتاج إلى جهود صعبة للتغلب عليها. وأحس من حركتها أنها انتهت من تناول طعامها، فاتجه إلى المطبخ ووقف على بابه، وكان يود أن يبدأ حديثًا: إنت اشتغلت عند حد قبل كده؟

– لأ، دي أول مرة.

ولم يصدقها. إنها تريد أن تبدو في نظره من ربات البيوت اللائي دفعتهن الحاجة إلى العمل. تمثيلية قديمة. وانتهى عند هذا الحديث وكان لا يريد له أن ينتهي، ووجد موضوعًا وأمرها أن تخلع الملاءة وكانت لا تزال تلفها حول نفسها، وخلعتها واحتارت أين تضعها وكل ما في المطبخ أنيق ونظيف لا تجرؤ على وضع الملاءة فوقه. ووضعتها على السجادة في ركن الصالة، وكانت ترتدي تحت الملاءة فستانًا من الحرير الباهت جدًّا.

وقال لها وعلى فمه ابتسامة ماكرة: تعرفي تعملي قهوة؟

فأجابته وهي تنظر في وجهه باستقامة: سكر إيه؟

النظرة صريحة، والطريقة التي تنظر بها إليه فيها أنوثة قوية، فأجاب في بطء: م… مظبوط.

وضحك دون سبب يدعو للضحك، وأضاف دون أن يكون في نيته أن يضيف: واعملي لك فنجان.

وأجابت وهي مشغولة في إعداد الكنكة: كتر خيرك.

وتملَّكه ارتباك غير قليل. أحس كما لو كانت هذه المرأة شُهرَت تعرف كل شيء عن نواياه، والدافع الذي حدا به إلى أن يكلِّم فرغلي، وتعرف لماذا ضحك من ثوانٍ، ولماذا هو واقف أمامها؛ الآن يحاول أن يتمحك فيها، ولا بد أنها بينها وبين نفسها تسخر منه، وتضحك على القاضي الفاضي.

وتملكه عناد. ولو! فليكن هذا! فلتكن تعرف كل شيء! لم يعد أمامه أي خيار.

كانت شُهرت في ذلك الوقت واقفةً أمام الموقد وممسكةً الكنكة بيدها ورأسها منحنٍ، وعيناها مستغرقتان (أو على الأقل هكذا كانتا تبدوان) فيما أمامها. فغادر مكانه عند الباب واقترب خطوات ثم قال: وانتِ ساكنة فين؟

قال هذا دون أن يحفل بالجواب، وقاله وهو يضع يده على كتفها، بل قاله ليستطيع أن يضع يده على كتفها. ولم يعلم بماذا أجابت؛ لأنه في تلك اللحظة كان يحاول أن يقيس بأصابعه مدى استجابتها. وأحسَّ بكتفها تحت أصابع يده يتململ ولا استسلام فيه. واقترب منها بلا وعي متحديًا تلك المقاومة، وأصبح واقفًا خلفها مباشرةً وأحس بجسدها كله ينتفض أمامه ويتململ. واقترب منها أكثر وجذب كتفها ليمنع حركتها، وانتفض جسدها انتفاضةً كبيرة استدارت أثناءها وسألته: الفناجين فين؟

ونبتت نقط عرق كثيرة فوق جبهته.

وحاول أن يبتلع ريقه الجاف.

وأمرها بلهجة حادة أن تُنظِّف الشقة بعد أن تنتهي من القهوة.

وعاد إلى الكرسي الهزاز. وأحضرت له الفنجان في أدب ووجهها جاد. وفي أقل من ثوانٍ كانت الشقة كلها يغمرها الماء ولا شيء على أرضها، وكانت هي منحنية تنظِّف وتمسح في نشاط زائد. وكان وهو في مجلسه يلمح جسدها المنحني كلما أصبح في متناول بصره. وكانت سيقانها من الخلف بيضاء محمرة، ومن خلال ثوبها المتآكل كان يلمح بعض جسدها. وكان منظر تلك الدوائر من اللحم الحي وهي تُطل من النوافذ المبعثرة في ثوبها تفور له دماؤه.

وقام من مجلسه واقترب منها مدعيًا أنه يُشرف على عملية التنظيف، وأخذ يأمرها: الحتة دي لسه. كمان هنا. وطي شوية عشان تطوليها. ووجهها إلى الأرض وجسدها كله طوع نظراته.

وانتهت من عملها.

وسألته إن كان هناك شيء آخر؟ وأجاب بالنفي، وحينئذٍ سألته عن الوقت الذي يجب عليها أن تحضر فيه؟ وقال لها: كل يوم الساعة الثانية والنصف بعد الظهر.

وكان هذا مناسبًا جدًّا؛ ففرغلي يذهب في الثانية.

وراودته نفسه أن يحاول معها محاولةً أخيرة في ذلك اليوم، ولكنه خاف من فشل آخر فأجَّل المحاولة. ولفَّت هي الملاءة حول نفسها ومضت بخطوات قوية فيها مهابة وجلال.

وظل الأستاذ عبد الله يلعن ضعفه بعدما ذهبت. امرأة مثلها لا يقدر عليها؟! امرأة آتية بإرادتها، والشقة خالية، وهو مهما كان شاب ذو مركز، ولا يستطيع؟!

٣

وكانت تأتي بعد هذا في الثانية والنصف تمامًا. وفي كل يوم يفكِّر، وفي كل يوم يؤجِّل، إلى أن كان وكانت تعيد تنظيم الفراش بناءً على أمره (إذ كان جعفري يقوم بهذا في الصباح) وأطبق عليها فجأةً وأخذها بين ذراعيه، وحاولت أن تتملَّص وتقول أنا في عرضك وأنا في طولك ووالنبي، ولم يأبه هو بهذا ولا لمقاومتها، وفي الحقيقة أتعبته كثيرًا حتى أجبرها على السكوت.

وما كاد يجبرها حتى انتابته موجة فرح غامرة، وود أن يعرف إن كانت ساكتةً لأنها لا تملك شيئًا أمام قوته القاهرة ولا تستطيع دفعه، أو إن كانت ساكتةً لأنها قد سلمت وخضعت أخيرًا، فكف عن إجبارها ولكنها لم تقاوم ولم تدفعه؛ إذ ما الفائدة بعد كل الذي حدث؟!

وتركها.

وعاد إليها بعد قليل. كان يود أن يحدِّق في ملامحها القوية ويرى ما حدث لتلك الملامح، ويرى ما جرى للحمرة التي تُلوِّن وجهها، وفوجئ بعينيها محتقنتين وخدودها تلمع. وتضايق وسألها: ما لك؟

وكان يتوقع أن تغمغم كعادتها بشيء مثل: ولا حاجة. ولكنها سكتت. فكشَّ فيها: ما لك؟! فيه إيه!

وحدَّقت في الفراغ وسكتت.

وهز كتفها هزةً يختلط فيها قليل من الإشفاق بكثير من الضيق: ما لك؟

فقالت: أصلي عمري ما عملتها.

وانهمرت الدموع من عينيها.

ولم يصدِّقها أبدًا. تمثيلية قديمة أيضًا تجيد أداءها تلك المرأة ذات الشخصية. تريد أن تضحك عليه وتوهمه أن تلك أول مرة. حسبته عبيطًا أو ساذجًا، أو لا بد تريد زيادة.

غير أنها لم تطلب زيادةً في أجرها، ولم تسمح لعينيها بعد ذلك أن تلتقي بعينيه، كانت تحدِّثه وقليلًا ما كانت تحدِّثه، وهي إما خافضة بصرها إلى الأرض أو متشاغلة بشيء.

وكانت قد أعجبته، ولعل ما أعجبه في التجربة أنه أخذ كل شيء بذراعه هو. لم تكن نقوده ولا أدبه ولا مركزه هي التي انتصرت، كانت قبضته وقوته هي التي جلبت له النصر. وكان النصر حبيبًا لأنه قد أنهى به ذلك الصراع الخفي الذي دار في أعماقه بين صلابتها وضعفه؛ إذ إنه كان يُحس على الدوام أنها أقوى منه، وأنها لو لم تكن خادمةً وكانت سيدة صالون مدام شندي لما استطاع إليها سبيلًا. كان النصر حلوًا يُغري بتكراره.

وفي المرة التالية كانت هناك مقاومة أيضًا، ولكنها مقاومة اليائسة من المقاومة.

وتبدأ الأحداث عاصفةً ثم لا تلبث أن تئوب إلى هدوء واعتياد. وكان وجود شُهرَت في البيت حادثًا. كان مجرد أن تظهر على الباب بملاءتها ويبدأ شبشبها يدق الباركيه شيئًا يستيقظ له إذا كان متناومًا، ويعتدل إذا كان جالسًا، ويبدأ يفكِّر. ترى هل يفعلها أو يؤجلها للغد؟ تراها كيف تبدو وماذا تقول عنه؟ وهل يُعجبها؟ وهل يبدأ الآن أم الأنسب بعد تناولها الطعام؟ كان لا يستريح. وكان صوت الأطباق وهي تغسل، أو هفهفة المقشة وهي تعمل، أو إذا سألها سؤالًا وهو جالس في حجرة بعيدًا وجاء صوتها ذو الرنين الأنثوي المثير يجيبه، ممدودًا طويلًا يلف أرجاء الشقة ويداعب أذنيه، كانت أصوات مثل تلك لا تنقطع، وكان وجيب قلبه لا ينقطع أبدًا. كانت المسألة في نظره مغامرةً دائمة فيها قلق الترقب ولذة المفاجأة. ولكن الأيام والأصوات — مهما كانت — فالإنسان سرعان ما ينساها ويسلاها، وسرعان ما يعتادها ويصبح ما كان يجعله يقشعر لا يكاد يثير انتباهه بالمرة.

وكان كل همه أول الأمر أن يشل مقاومتها تمامًا حين يكون معها، ثم انتهى عهد المقاومة وأصبح الأمر لا يكلِّفه أكثر من أن يمسك بيدها مسكةً ذات معنًى، أو يحدِّثها عن أي شيء ويبتسم بركن فمه ابتسامةً محملة، أو يسألها عن «صحتها» ويضحك. وكانت تحاول حينئذٍ أن تبتعد عنه، فإن كانت حجرة المكتب حاولت الذهاب إلى المطبخ، وإن كانت في الصالة وأطبق عليها تملَّصت منه بخفة وتوجَّهت إلى حجرة النوم. ولم يكن يدري لم تفعل هذا وهي تعلم إن آجلًا أو عاجلًا سينالها؟ كل ما يحدث أنه كان يُستثار أكثر، وبعد أن كان بادئًا الأمر على سبيل المداعبة إذا به يتشبَّث، ويقلبه إلى جد يسارع في تنفيذه.

وكانت ما تكاد تلمح رغبته وتبدأ تراوغ، حتى ترتسم على وجهها ابتسامة شاحبة فيها خجل ضعيف، قليل من الفتور، وكثير من التسليم بالأمر الواقع والقضاء والقدر، غير أنه كان ما يكاد ينتهي منها حتى تنقلب هذه الابتسامة إلى شيءٍ آخر، وكأنما تسخر منه، وكأنما تقول له: ولو!

ما كاد يصبح الأمر عادةً حتى بدأ هو الآخر تفعل العادة فعلها فيه وينطلق على سجيته أكثر. كان يترك نفسه معها إلى آخر ما تستطيعه نفسه. لم يعد يدقِّق كثيرًا ولا يصطنع ابتسامات، وأصبحت هي بالنسبة إليه شيئًا كالمرتبة الحية التي يتمرَّغ عليها ويتثاءب، ويتمطَّى ويعري ساقه ويستريح. وحين بدأت العادة تُفقد التجربة ما كان لها من إثارة، بدأ يبحث عن إثارات أخرى؛ بدأ يهمس في أذنها بكلام وقح لتردِّده له، ويتعمَّد أن يكشف عن نفسها كل غطاء حتى يطلع على كل مكنوناتها، حتى تلك الأشياء القليلة التي تستحيي أي أنثى محترفة أن تفرِّط فيها.

وبعد أن سار في الطريق كثيرًا اقتنع آخر الأمر أنها لم تكذب عليه، وأنه كان أول رجل ينالها بعد زوجها. ومن قد لا يقنعه الكلام فالتجربة والمشاهدات اليومية والتصرفات التي تحدث دون وعي، وتلك الأشياء الصغيرة التي لا يستطيع الإنسان أن يضع لها اسمًا أو حتى يملك وصفها، هذه الأشياء تكشف على الدوام الحقيقة، وتُقنع. وذات يوم سألها وهو يضمها إليه ويواجهها ليستطيع أن يستشف كل خلجة من خلجاتها: إنت بتحبيني يا شُهرَت؟

لم يكن يدري الدافع الذي حدا به إلى سؤال كهذا، ولكن السؤال على أية حال كانت له نفسه جذور قوية، ولم يأتِ صدفةً أبدًا أنه فوجئ بلسانه وهو ينطقه. كانت حاجة في نفسه قد ألحَّت عليه.

هذه المرأة لها زوج وأولاد، وهي حلوة، وتعرف أنها حلوة، وقد جاءت تدفعها الحاجة إلى العمل، ثم نالها، وهو ينالها كلما أراد. أهي تقبل ذلك فقط لمجرد أنه سيدها ورب نعمتها كما يقال؟ أم لأنها تريده وتتمناه؟ وهل إذا كانت تريده، أمن أجل منصبه وعيشته الفاخرة أم من أجل ذاته والرجل الذي فيه؟

كانت هذه النقطة تؤرقه. كان يتمنى — ولو مرةً واحدة في حياته — أن يكون رجل امرأة — أية امرأة — ولو كانت شُهرَت. وظل يتلمَّس الشواهد، ولكن الشواهد لم تُفِده. إنها لا زالت تفرح كلما ترك لها بقايا من نقود. إنها أحيانًا تسأله أن يُقرضها ريالًا أو نصف ريال. هل الحاجة هي حقيقة ما تدفعها أم هي ترغب فقط في تغفيله وابتزاز نقوده؟ وهل مواظبتها على إرضائه هو من أجله ومن أجل رجولته؟ أم هو تمامًا كمواظبتها على تنظيف الشقة ومسحها؟

الشواهد لم تُفِده. أوقعته في حيرة، لا لأنها متعادلة الجوانب، ولكن لأنه أيضًا لم يكن يفكِّر في شُهرَت بكل ما حولها وبكل ما يربطه بها إلا فقط في تلك الدقائق التي يريدها فيها. كانت حياته تمضي كما اعتادت أن تمضي؛ العمل، والقضايا، والحيثيات المتأخرة، والبريدج، ومدام شندي، ولقاءات مع فتيات أخريات، ونزهات بالعربة وغيرها وغيرها ممَّا يصنع حياته. كانت الأسئلة تشغل باله في تلك اللحظة التي يخفق قلبه ويدق، حين يخطر في باله ذات لحظة أن ينالها؛ ولهذا لم تشغل الأسئلة تفكيره كثيرًا.

ولماذا اللف والدوران؟ قل إنه سألها لمجرد العبث أو لمجرد حب الاستطلاع، أو لأنه كان يتمنَّى فعلًا أن تكون قد أحبته.

وسكتت شُهرَت. أسبلت جفونها، وجفونها المسبلة ليست شيئًا جديدًا عليه؛ فبرغم ما في عينيها من جمال كانت لا تكاد تحدثه إلا وجفونها مسبلة.

وضحك وضغط عليها وضحك وقال: هيه، بتحبيني؟!

فابتسمت وتساءلت: هو اللي بيحب حد يقول له أنا باحبك؟

وخرجت كلماتها ساذجةً بسيطة. ولا بد أن الكلمات البسيطة تنبع من الصدق؛ لأنها تنفذ مباشرةً إلى النفس بطريقة لا يستطيع الإنسان حتى أن يراجع أذنيه ليتشكَّك في صدقها.

وجعلته إجابتها يحتار. من أين أتت تلك المرأة بهذه الإجابة؟ إنها تذكِّره بمحاورات سقراط وأفلاطون. هؤلاء الناس البسطاء كيف يفكِّرون بمثل هذا الصدق والحق؟ لو كانت متعلمةً لكان قد قال لنفسه إنها لا بد قد قرأت تلك الإجابة في كتاب، ولكنها غير متعلمة، بل هي لا تعرف القراءة والكتابة. وأعجبه الحديث فمضى يحاورها: إزاي؟ طبعًا، لازم يقول له أنا باحبك.

فأسبلت جفونها وقالت: ده لما يقول كده يبقى عايز يضحك عليه.

– يضحك عليه ازاي؟

– الحب في القلب وإذا طلع على اللسان يبقي مش حب.

وأعجبه الحديث جدًّا. ترى ماذا تعرف تلك المرأة عن الحب؟ وما الحب في نظرها؟ إنه يقرأ عن الحب، ولكن الذين يكتبون عنه أناس مثقفون وحكماء. وهو يخوض المناقشات حول معنى الحب ومصدره والدافع إليه ولكنه يخوضها مع أمثاله من المتعلمين، ويا لها من فرصة تلك التي أتاحت له أن يناقش امرأةً «خام» مثلها في الحب. وسألها: قولي لي يا شُهرَت، الحب ده إيه؟

فانثنت وأشاحت بوجهها وقالت: يوه، أنا عارفه بقى!

وأخذ يرجوها أن تجيب ويلح في الرجاء، فقالت: أنا عارفة. أهم طول النهار يقولوا الحب الحب.

فقال بعصبية: لأ، أنا عايز رأيك انت. يعني في نظرك الحب ده إيه؟

– الحب ده حاجة من الله.

– يعني إيه من الله؟

– يعني لما ربنا لما يريد الواحد يحب.

– يحب يعني إيه؟ يبقى عايز إيه؟ يحس بإيه؟

– والنبي يا بيه أصلك رايق.

وسكتت. وكان يبدو أن سكوتها لا لأنها لا تجد إجابةً ما، ولكن لأنها لا تستطيع أن تقولها.

•••

والإنسان قد يبدأ الشيء لمجرد التسلية، وإذا به يتحمَّس له وينقلب الأمر إلى جد خطير. وهكذا أثارت له تلك المناقشة مشكلة. إنه لا يعرف زوجها، ولا حتى يذكر اسمه ولا يعرف إن كان صالح أو محمود. سألها عنه مرة، وأحيانًا تردِّده أمامه ولكنه لم يَعلَق بذهنه، بل إنه لا يعرف ماذا يشتغل هذا الزوج، ولكنه زوجها على أية حال وخلَّف منها أطفالًا ثلاثة؛ فلا بد أن بينهما شيئًا. ترى ما هو؟

ولم يسأل الأستاذ عبد الله نفسه هذا السؤال إلا لأنه كان قد وضع نفسه بين شُهرَت وزوجها. ترى هل تُحبه أكثر من زوجها، أم تُحب زوجها أكثر؟ مشكلة لو كان قد فكَّر فيها في أي وقت آخر لَمَا كان قد أقام لها وزنًا، ولكن في الظروف التي كان يدور فيها الحديث بينه وبين شُهرَت بدت المشكلة مهمةً جدًّا في نظره؛ ولهذا قال لها وقد احتواهما الفراش: شُهرَت …

فقالت: نعم!

– إنت بتحبيني أكتر والا جوزك؟

خجل من نفسه حين نطق السؤال، وكاد يغيِّر الموضوع، ولكنه ما إن نطق به حتى بدأ قلبه يدق وكأنه ينتظر نتيجة امتحان. أجل! هل تحبه أكثر من زوجها؟

وكان ما غاظ الأستاذ عبد الله أنها سكتت. لم تفتح فمها، فقط أسبلت عينيها وابتسمت، وخجلت وسكتت. ماذا كان يعني سكوتها؟ بالتأكيد لو كانت تحبه أكثر لأخبرته ولو من قبيل التظاهر، ولكنها لم تُجب. وملأه غيظ صبياني. هذه الحقيرة ماذا في زوجها الذي لا يستطيع الإنفاق عليها يجعلها تفضِّله عليه؟ أيحسم الأمر ويطردها، فعلًا يطردها، ولكن الخطوة كبيرة ولا يستطيع تنفيذها الآن وهو قد تعوَّد عليها، ثم إنها عرفت مزاجه وما يرضيه وما يُسخطه وهو يستريح لوجودها. ثم هذا الشيء الذي لا يمكنه تحديده والذي يشده إليها. والمسألة مسألة زمن؛ لقد أمضت مع زوجها سنين، ولم تقضِ معه سوى أيام معدودات. لا بد أن يعلِّمها كيف تحبه، هذه المرأة ذات الملاءة اللف الغلبانة، ألَا يستطيع أن يعلِّمها كيف تحبه؟

وأمَضَّه التفكير في هذا. كيف يجبرها؟ كيف يستولي عليها؟ كيف؟

وازداد غيظه حتى كاد ينفجر.

ولكنه لم ينفجر، بعد ساعة واحدة كان جالسًا إلى المكتب غارقًا في خضم أربعين قضيةً عليه أن ينظرها في الغد، وقد نسي كل شيءٍ تقريبًا عن شُهرَت وزوجها والمشكلة التي أثارها بنفسه، حتى إنه حين أمر شُهرَت أن تُعِد له فنجانًا من الشاي أمرها بنفس اللهجة التي يستدعي بها فرغلي شاهدًا من الشهود.

٤

كانت التجربة في أول الأمر يلفها التزمُّت والجد، يستدعيها بخطة وإصرار ويرهب وجودها، ويرهقه ذلك الوجود وتشغل باله كل حركة من حركاتها، غير أن الموضوع كله لم يلبث أن أصبح عادة، ثم أصبح عادةً مملة.

لم يعد في وجه شُهرَت ما يخيف أو يُجبِر على الرهبة، أصبح وجهها وجه امرأة عادية تحت أمره في كل وقت وكل لحظة! وأصبح جسدها في يده كالورقة المهملة التي يستطيع متى شاء أن يكوِّرها ويلقيها في سلة المهملات.

وحين وصل الأمر إلى هذا الحد امتلأت نفسه بنشوة الفوز. لقد انتصر! ولم يعد يفكر في شُهرَت كثيرًا أو قليلًا. أصبح وجودها في الشقة شيئًا عاديًّا مثل «الفاز» الموضوع في ركن «الأنتريه»، كل الفرق بينها وبينه أن زهور الفاز تتغيَّر كل يوم، أما شُهرَت فملامحها كالزهور الصناعية التي لا تذبل ولا تنضر ولا يتغيَّر تفتُّحها.

غير أنه في أحيان قليلة جدًّا كان يسأل نفسه: ترى هل انتصاره هذا حقيقي؟ ترى هل استحوذ على شُهرَت تمامًا؟ ترى هل أنساها زوجَها وأحبته؟

في معظم الأحيان كان لا يحفل بالإجابة على تلك الأسئلة. الأمر لم يعد يهمه؛ فحتى لو كان قد أخذها كليةً أم لا تزال لغيره، فسيان. ولكنه في نوبة من نوبات تلك الأسئلة تحمَّس وشغله الأمر حينًا فقرَّر أن يُجري تجربة.

قرَّر أن يُنقِص ماهية شُهرَت، فإن كانت قد تعلَّقت به فستقبل الأمر حتمًا، فإذا لم تكن فستتركه. ولم يُخالِجه أدنى خوف أن تتركه، بل كان في الواقع يتمنى أن تتركه. وقد بدأ كلما سأله فرغلي متملقًا عن الحال يعقد وجهه ويحدِّثه عن أخطائها الكثيرة، ويحوم حول عيوبها، وملاءتها، وعدم قدرتها على القيام بعبء الأعمال في البيت. كان يريد شيئًا جديدًا.

وفي أول الشهر نفَّذ الفكرة وأنقص جنيهًا. واحمرَّ وجه شُهرَت وهو ينهي إليها بالخبر. احمرَّ جدًّا حتى خُيِّل إليه أنه لأول مرة يشاهد احمرارًا حقيقيًّا في وجه. احمرَّ وجهها وتلقَّت منه الماهية ووضعتها في حافظتها الصغيرة الكالحة ولم تنطق بحرف.

وفي ثاني يوم لم تحضر، وقلق الأستاذ عبد الله وأنَّبه ضميره قليلًا، ولكنه لم يشأ أن يؤلم نفسه أكثر فنفض عن نفسه مهمة التفكير والتأنيب وقرَّر أن يطلب من فرغلي أن يبحث له عن «طلب» آخر، ولكنه نسي أيضًا أن يكلِّم فرغلي؛ إذ كان في تلك الأيام قد شغله موضوع مهم؛ فقد رأى نانا ذات مساء خارجةً من سينما راديو بصحبة شاب، وظلَّ يتتبعها ويسأل ويستقصي حتى عرف كنه ما بينهما من علاقة. وحينئذٍ تجدَّد كل ما دار بينه وبين نانا بشكل حاد، وأصبحت استعادتها هي كل ما يشغله.

وبعد ثلاثة أيام أو أربعة كان عائدًا إلى بيته داخلًا بالعربة إلى الجراج الذي يحتل بدروم العمارة التي يقطن فيها، وإذا به يجد شُهرَت جالسةً على الأرض بجوار باب الجراج.

لمحها وتضايق، وقرَّر أن يتجاهلها؛ ولهذا صعد من الباب الصغير الذي يصل الجراج بمدخل العمارة مباشرة، ولكنه وكما توقع تمامًا سمع الجرس يدق بعد دخوله الشقة بقليل.

وفتح وكانت شُهرَت. وابتسم ابتسامةً صفراء وسمح لها بالدخول.

لم تتكلم هي، وكان لا يدري ماذا يقول. وراح يراقبها باستخفاف وهي تمضي إلى المطبخ وتخلع ملاءتها وتعمل.

كان جالسًا في حجرة المكتب فنادى عليها وجاءت، وصحيح أنه كان خجولًا ولكنه أصبح لا يخجل من شُهرت، بل إنها الشخص الوحيد في العالم الذي أصبح لا يخجل منه أبدًا. قال لها: جيت؟

فأجابت وهي تنظر إلى أصابعها المبللة: واحنا نقدر نستغنى.

فازدادت جرأته وقال: أمال كنت مشيت ليه؟ عشان الفلوس نقصت يعني؟

وتملَّكته وهو ينطق السؤال بعض المرارة؛ فقد تذكَّر أن إنقاص الماهية كان امتحانًا لتمسُّكها به وأنه فشل في الامتحان. وأجابت: أصل البنت كانت عيانة وخدتها المستشفى.

ورأى في إجابتها كذبًا لا يوصف.

غير أن نسمة إشفاق هبت، لعل مبعثها كانت ملامح شهرت. كانت شاحبةً بعض الشيء ووجهها يلمع وفيه استسلام، وملامحها كلها ذابلة ومدلاة إلى أسفل، وكأن كرامتها قد استحالت إلى سائل ذليل يقطر من أنفها وفمها وذقنها، فقال لها: هي التلاتة جنيه مش كفاية والا إيه؟

فقالت: نعمة، بس منعم أصله ساب الشغل.

– منعم مين؟

– جوزي.

– آه، وساب الشغل ليه؟

– بيقول توفير والا مش عارفة إيه.

– هو بيشتغل إيه؟

– دباغ.

– دباغ إيه؟ فين؟

– في المدينة، في المدبح.

وزام الأستاذ عبد الله ولم يُجِب، وأحسَّ في التو بكره هائل لا يدري لمن يوجِّهه، وكلما نظر إليها ورأى الشيء اللامع يتساقط من ملامحها ورآها مستكينة، ووراءها زوج عاطل وأولاد، كان يزداد ما يُحس به من كره وغثيان. ويبلغ الغثيان مداه حين علم أن زوجها يعمل في مدبغة، وتختلط في ذهنه أشياء؛ جلد قذر ورائحة بهائم وغراء وعناق شُهرَت وفراشه، فينفجر: طب روحي.

ومضت عنه.

ولعن الأستاذ عبد الله نفسه مرارًا بعد هذا الحديث فقد جرَّ عليه مشاكل. كانت المرأة أول الأمر مُغلقةً لا تفتح فمها بكلمة فبدأت تشكو. اليوم زوجها عثر على عمل في محل ألبان، وغدًا ترك العمل، والبنت عندها حمى وإسهال، البنت ماتت، صاحبة البيت تطاردهم ودوشة كبيرة جرَّها على نفسه بلا أدنى سبب.

وأصبحت شُهرَت عالة.

وأصبح التخلص منها ضرورة.

ولكنه خجول، وليس هذا كله شيء؛ فهو إنسان على أية حال، وهل يقبل على إنسانيته وهم يجتازون هذا الكرب؟ من أين يأكلون؟ كان عليه أن يحتمل والاحتمال له حدود؛ لذلك كانت ما تكاد تفتح فمها بالشكوى حتى يقفله.

ثم إنه رجل وشُهرَت لا تزال المرأة التي أعجبته يومًا ولا تزال أمامه مشاكل الجسد رغم أنه يأنف من عمل زوجها السابق في المدبغة.

وفوجئ الأستاذ عبد الله ذات يوم بضحكة، ضحكة رنَّت في أذنيه رنينًا غريبًا مختلطًا أذهله وحيَّره.

كانت شهرت رغم كل ما مرَّ بينها وبينه امرأةً ذات وقار. كان يراها دائمًا في ملاءتها، جسدها ملفوف وقامتها طويلة ولا انبعاج في أعضائها أو ترهُّل، وكان وجهها جادًّا في أغلب الأحيان ولكنه ذلك النوع السمح من الجد، وفي أحيان قليلة كانت تبتسم، ابتسامة كل ما تفعله أنها تزيد السماحة في وجهها، وتدفع ببريق معيَّن إلى نظراتها.

وكان رغم كل ما بينه وبينها يُكِن لها نوعًا من الاحترام كانت هي بالتأكيد مبعثه؛ فلا يذكر أنها لوَّثت لسانها مرةً بخطأ، ولا قلَّلت من احترامها له، ولا طلبت منه مطلبًا باهظًا، وكانت مطالبها كلها متواضعةً بسيطة ولا تلجأ إلى سؤاله إلا في أحوال نادرة.

غير أن تلك الضحكة أزعجته. كانت فيها ميوعة واستهتار وهو لم يعهد فيها ميوعةً أو استهتارًا. ونادى عليها: يا شُهرَت!

– نعم.

وخُيِّل إليه أن «نعم» تخرج أكثر طراوةً من فمها.

وجاءت. لم يدرِ ماذا يقول لها أو لماذا ناداها. ووجد نفسه يسألها إن كانت تخلَّصت من الصرصار الذي في المطبخ، وكان قد رآه وأمرها أن تقتله. وابتسمت له وقالت وهي تتدلَّل: ده لقيته لايف على صرصراية.

وأطلقت ضحكةً رفيعة، واشمأزَّ منها وحدَّق فيها، وخُيل إليه أنه يلمح في وجهها أشياء لم تكن موجودة، أو أن وجهها ينقصه شيء كان موجودًا. كانت أيام أن جاءت امرأة مصرية بلدي تنظر في وجهها فلا تجد فيه غير زوجة لها أولاد، وإذا به يراها الآن؛ أجزاء قد غارت من ملامحها وأجزاء برزت، وعيناها داخلتان في وجهها وحولهما دوائر وعلامات غير بريئة، علامات تدل على تحوُّل أصابها، حتى ابتسامتها لم تعد بسيطةً ساذجة كعادة ابتسامتها، أصبحت تحمل جزءًا صناعيًّا ملحقًا بها ومفتعلًا.

وراعه ما وجده من تغيير.

وظلَّ الأمر يشغل باله. هل هو مسئول عمَّا حدث؟ وهل هو فعلًا الذي أحدث فيها هذا التغيير؟ وهل هو الذي انهال على ملامحها المخلصة المتزوجة فأحالها إلى ملامح امرأة تُباع وتشترى؟

وفي الواقع أحسَّ بنفسه مسئولًا ولكنه تجاهل إحساسه بتأنيب الضمير. إن الإنسان لا يؤنب نفسه إلا إذا خاف من عقاب يتبع فعلته، وهو لم يكن خائفًا من أي عقاب.

السبب الحقيقي الذي شغل باله كان شيئًا بدأ ينهش صدره، خوفًا غامضًا محيرًا. ترى هل هو وحده المسئول عن ذلك التغيير أم إن شُهرَت قد أنشأت علاقات أخرى مع أناس آخرين. أحس بالغيرة، غيرة من نوع مطروق. ليست غيرة الحبيب على الحبيب، ولكنها غيرة السيد على خادمته، أو غيرة السيد على نفسه. كان خائفًا جدًّا أن تكون شُهرَت قد ساوته بصبي مكوجي أو بائع خبز؛ ولهذا كان قلقًا، ولهذا تزايد قلقه.

وفيما توالى من أيام كان لا ينظر إلى شُهرَت إلا والشك يملأ عيونه، وإذا أرسلها إلى قضاء حاجة يستجوبها بدقة بعد أن تحضر، ويحاول أن يستغل فِراسته كوكيل نيابة سابق، وكل معلوماته عن علم النفس الجنائي؛ لإدراك ما إذا كانت تخدعه أم تقول له الحقيقة.

وكان يسمعها تتضاحك أحيانًا وهي تصعد السلم فيسألها حين تدخل، مع من ولماذا كانت تضحك؟ ثم ينتهز أول خطأ ويعاقبها بشدة.

وكان يعجب ويستغرب فقد تحوَّلت شُهرَت. كانت أول ما جاءت لا تكاد تستطيع أن ترفع عينَيها في وجهه، فإذا بها الآن كلما نهرها حدَّقت فيه وغضبت، ولولا بقية من حياء لقالت: وانت ما لك؟ ثم بدأ يلاحظ أن قسوةً ما قد صارت لها، وأن شخصيتها تخمد فيها روح الزوجة الأم وتتصلَّب وتأخذ شكلًا فيه حِدة وعصبية وجمود. كانت تناقشه وهي التي لم تكن تجرؤ على نقاشه، وترد على حُجَجه بحجج. وكان يلعن ضعفه، وأحيانًا ينتهر نفسه ويسألها: ما الذي يمنعه من طردها؟ ولكنه منذ أن بدأت تقوى بدأ ينكمش، وأحيانًا لا يستطيع الاستمرار في مناقشتها.

هل كان خائفًا منها؟

هل كان يخاف إن هو أغضبها أن تفضحه مثلًا وتسوِّد سمعته؟

أم كان فقط يخجل من مجابهتها وهو العليم بلسانه المتواضع؟ لعله كان يخجل. ثم إنها كان لها منطق، ومنطقها كان دائمًا قويًّا دامغًا. كان هو يعتمد في مناقشته لها على أوهام وافتراضات وتخمينات مبعثها ما يدور في رأسه عن سلوكها، وكانت هي تعتمد على حقائق تكاد تدفعها في وجهه دفعًا.

والغريب أنها كانت كلما اشتطت في موقفها منه ازداد هو أدبًا، بل أحيانًا كان يتملَّقها. لا لم يكن ذلك النوع من الملق الذي يزفه كعادة المرءوسين للمفتشين وكبار رجال الوزارة الذين كانت تربطهم ببعضهم العلاقات. لا، نوع آخر أكثر تخفيًا. مثلًا بدأ يسألها عن زوجها بشكل منتظم وعن أولادها. وكان الزوج يحيره؛ كانت شُهرَت لا تكف عن الشكوى منه، وتلعن اليوم الذي دخلت فيه بيته، وسب كسله وخيبته. ولكنها كانت تتلفظ بالشتائم من فوق لسانها فقط، وكأنها تنهر ابنها البكر ولا تعني ما تقول. كان أيامًا يعمل وأيامًا كثيرة لا يعمل، وهي على الدوام تعمل. وأولادها باستمرار موضوع مفضل لأحاديثها، وهي المسئولة عن كل شيء أمام صاحب البيت، وحتى أمام صاحب العمل الذي يشتغل عنده زوجها. ويعمل زوجها بمسمط يومًا، وفي يوم يوزع جبنةً على الزبائن، وأحيانًا قهوجي، وأحيانًا تجهِّز له هي عجينة الطعمية ويقف على رأس حارتهم يقليها ويبيعها. وكان يأخذ له في كل عمل يومين ويولي. وكان الأستاذ عبد الله يتولاه الذهول كلما فكَّر في تلك العائلة التي تحيا معلَّقةً بين الأرض والسماء، ويتساءل: ترى كيف تحيا لو لم تكن شُهرَت تعمل عنده؟ ولكنه يفكِّر في كل ذلك كما يرثي الإنسان لزلزال يحدث في الملايو ويطيح بالقرى. رثاء، مجرد رثاء يقضي عليه الملل الذي بدأ يتسرَّب إليه من شُهرَت ومشاكلها وعائلتها.

وجاءته في منتصف شهر تطلب منه جنيهًا، ولم يكن صدفةً أن تطلب منه ذلك في اليوم التالي ليوم نالها فيه. وحزَّ طلبها في نفسه وسألها: لم؟

فقالت وهي تضحك وتتدلع وتتمادى: سلف.

ورمقها فوجدها تنظر إليه بعينين لا تردُّد فيهما ولا خجل، فخجل وأعطاها الجنيه. وصمَّم أن يكون هذا شهرها الأخير. وقال لها بابتسامة فاشلة: وتجيبيه امتى؟

فأجابته: نقسطه.

وأعقبت إجابتها بضحكة ارتعشت لها أذنه.

وفوجئ بها بعد أيام وقد حضرت لأول مرة دون ملاءة.

كانت ترتدي «جيب» من قماش كاروهات رخيص، ولكنه جديد، وترتدي فوقه خرقةً قديمة ممكن تسميتها مع كثير من التجاوز «بلوزة»، ولم يكن يغطي شعرها شيء. كان رأسها عاريًا، وكان ثمة أحمر خفيف — لعله صُنع بقلم كتابة أحمر — على شفتيها. وكان منظرها يبعث على الاشمئزاز.

كان الملاءة تُضفي عليها جدًّا وتجعل لها منظر الأم، أما هذا الزي، فصحيح لم يكن فاضحًا ولكنه ليس رداء أم بأية حال من الأحوال، ثم إن رأسها حين كشفته غيَّر من وجهها وشعرها، وأظهر ما كان خافيًا في وجهها وشعرها وأصبح لملامحها تعبير عمومي. كانت ملامحها فيما مضى لها طابع خاص ونكهة تميِّزها عن أية امرأة أخرى، ولكنها بدت مجرد امرأة ذات شعر خشن لم ينسكب عليه طلاء أو نعَّمه زيت، وقد أصبح مفضوحًا لا يحجبه منديل ولا تحفظ عليه كرامته ملاءة.

وقال لها باستغراب حقيقي: عملت في نفسك كده ليه؟

فأجابته بصوت كأنما كُشف عنه الغطاء هو الآخر فأصبح مبحوحًا ذا نبرة غريبة: أصلي بانكسف من الملاية لما باجي العمارة.

وأضافت وهي تخطر أمامه: مش كده أحسن؟

قالت هذا وهي تنظر إليه عبر كتفها وتلتفت خلفها بعينين فيهما نفس الجرأة والاستهتار.

ومطَّ شفتيه علامة اليأس وقال لها: جوزك يا ترى قال إيه؟

وطرقع شيءٌ في فمها وقالت: يا خي دا اهدي، هو حد بيشوفه.

– ليه سافر والا إيه؟

فقالت وقد تغيَّرت ملامحها: بقاله بسلامته تلات اشهر قاعد في القهوة.

– ليه.

– فنش شغل.

وضحكت ضحكةً ذات شهقة، وقالت وهي تغيِّر الموضوع وتخطر أمام مرآة الأنتريه: مش بذمتك أحسن من بتوع السيما يا بيه؟

وأقسم في سره أن يكون هذا شهرها الأخير.

وعوجت وسطها وقذفت بيدها في حركة تمثيلية متراخية على وجهها في المرآة وقالت: مش أنفع يا به اشتغل في السيما؟

ومضت تصنع «البوزات» وتعقص رقبتها. ولمَّا لم يردَّ قالت وكأنما ترد على نفسها: الناس بيقولوا إني أنفع في السيما.

٥

وثاني يوم حضرت بالملاءة، وسألها عن السبب وهو يضحك بسخرية، فقالت وهي واجمة إن البلوزة التي كانت ترتديها لا تصلح، وإنها في حاجة إلى بلوزة جديدة، وقد اشترت القماش ولكن يلزمها جنيه آخر للترزي.

وصمَّم ألَّا يعطيها أي مليم، صمَّم والأمر يشغله. ترى لماذا هذا التغيير؟ ولماذا تُصر على ارتداء ملابس كتلك وهي تبدو أجمل بالملاءة. ولم يفترض حسن النية وهو يجيب، واستمر يتساءل: ترى ماذا تفعل بعد انتهائها من عملها عنده؟ وكيف يأكلون؟ لا بد أنها تخرج في الشارع، وذوات الملاءات لا بد أن سعرهن قليل ولهذا تريد الجيب والبلوزة ليرتفع ثمنها.

ومع يقينه في صدق ما يخمنه إلا أنه راح يستنكر أن يكون ما يفترضه هو الحقيقة، ولم يشأ أن يُتعب نفسه؛ كانت شُهرَت بالنسبة إليه قد انتهت، بضعة أيام فقط ويطردها بلا رجعة، فلتفعل ما يحلو لها.

وألحَّت في اليوم التالي وهي تطلب منه أن يقرضها الجنيه مدعيةً أن البلوزة قد تم تفصيلها، ورفض بجفاف. كانت قد استنفدت كل ما لها من نقود، وأي سلف لن يسترده، وهو قد صمَّم على إزاحتها ولن ينتظر إلى آخر الشهر؛ غدًا يقول لها مع السلامة.

ولكنه كان يحدِّث نفسه بهذا وكل يوم ينسى. يخرج من الشقة في الصباح وفي نيته أن يفعل، ثم يهبط إلى الجراج ويدور حول العربة ويتأكد من نظافتها، ولا بد أن يجد فيها شيئًا يستحق أن يلوم صبي الجراج من أجله، ثم تتهادى به العربة إلى المحكمة، وما إن يصل حتى تدب الحياة في بنائها. تحيات من اليمين ومن اليسار، وقيام وقعود، وهرولة وهرجلة. وفرغلي ما يكاد يلمح العربة حتى يُقبل لاهثًا ويفتح بابها وينحني ويلفع الشنطة ويتبعه من بعيد، والناس من حولهما راكعة الرءوس ولا مجال للكلام. ويدخل حجرة الانتظار؛ بعض القضايا لم يكن لديه وقت لمراجعتها وقد أشبعها تأجيلًا ولا بد من مراجعتها قبل بدء الجلسة. ويدخل الكاتب عجوزًا وله منظار وبطؤه أكثر كآبةً من منظاره، ويأخذ أكثر من خمس دقائق ليقول صباح الخير ويتلكأ. وتأتي القهوة ويفرد دوسيهات القضايا. ويحس بالوقت يمضي بسرعة والساعة تقترب اقترابًا جنونيًّا من العاشرة، والجمهور في القاعة يتململ وقد بدأ يسمع بأذنه أصوات الاستنكار والهمس الخافت حين تعتريه موجات ارتفاع، فيغادر مكتبه. وفرغلي واقف على الباب وتدوي كلمته: محكمة! تكاد من فرط علوها وصلابتها أن تصنع قوس نصر ينفذ من تحته القاضي إلى كرسيه.

وتبدأ القضايا، سريعةً متلاحقة يهتم بتتبُّعها أول الأمر، ثم يؤجِّل تتبُّعها ويسرح أو يحدِّق في وجه أعجبه أو لم يعجبه لشاهد من الشهود، أو يستثقل دم محامٍ، أو تطرق باله أحيانًا فكرة أن يستقيل من الحكومة ويعمل محاميًا.

وينتهي اليوم، وتمضي به العربة ويتركها على باب الجراج ويصعد، وما إن يفتح الشقة ويجد ملاءة شُهرَت راقدةً في الأنتريه كالراية السوداء حتى يذكر أنه نسي أن يفاتح فرغلي في أمر طردها.

ويصمِّم ألَّا ينسى في اليوم التالي، وينسى في اليوم التالي.

٦

انتهى الأستاذ عبد الله من سرده وهو يخبط كفًّا على كف. كانت المسألة في غاية الوضوح؛ شُهرَت أخذت الساعة لتبيعها وتدفع ثمن البلوزة بعدما رفض إقراضها وبعدما أحست أنه ينوي طردها. وكانت المسألة من كثرة وضوحها تدعو إلى الغيظ. لماذا الساعة بالذات؟ ولماذا اليوم بالذات؟

وكان شرف لا يزال ممدِّدًا قُبالته يستمع، ويبدو أن طول ما رواه عبد الله قد عمل عمله فجعل عقل شرف يسترخي. كان جالسًا يكاد يكون لا حول له ولا قوة.

وبلغ الغيظ بالأستاذ عبد الله منتهاه وقد أحس بنفسه يجابه الموقف وحيدًا. جاء بشرف ليعينه فإذا به فاتر الحماس والأمر لا يكاد يهمه. خادمة مثلها تأخذ ساعته عيني عينك وهي تعلم أنه حالًا سيعرف. إنها ليست سذاجةً منها أن تفعل ذلك، إنها وقاحة وتحدٍّ. وانفجر يحدِّث شرف ويتحوَّل كلامه إلى صياح. كان منفعلًا وكأن كرامته هي التي سُرقت، وامرأة فاجرة هي التي سرقتها لتحترف بها. إنه لن يسترجع الساعة فقط، ولكن شُهرَت لن تنفذ من يده، سوف يريها أنه ليس بالضعف والطيبة التي تتصورها وأنه ليس من الطير الذي يؤكل لحمه.

وأخذ الرجلان يكدان تفكيرهما ويتشاوران فيما يمكن عمله.

شرف جالس ممدد الساقين.

وعبد الله يروح ويجيء ولا يستقر في الحجرة.

كان يومها يوم الأحد وهو اليوم الذي تعوَّدت شُهرت أن تأخذ فيه إجازة، وهي لم تتعوَّد، هو في الحقيقة الذي عوَّدها. لم يفعل ذلك أول ما جاءت، بل هو تقليد وضعه مؤخرًا بعدما ضاق بشُهرت، ولم يعد نوالها يكفي شغفه، وأصبح لا بد من العودة إلى الطريقة القديمة وإخلاء الشقة لزوار آخرين.

وفكَّر أول ما فكَّر أن يبلغ البوليس، ولكنه راجع نفسه، وراجع كل ما نظره في حياته من قضايا وكل ما سمع عليه فلم يجد أن البوليس قد أفلح مرةً في إعادة مسروقات صغيرة كتلك. ما إن يبدأ البوليس يتدخَّل حتى تغوص المسروقات في سابع أرض، وليس هذا كل شيء؛ فإبلاغ البوليس يحتِّم عليه أن يقر — وهو القاضي الأعزب — أنه يستخدم عنده امرأة. ثم قد تتوقَّح شُهرَت وتفلت منها ألفاظ؛ ولهذا كان من المستحيل عليه أن يُبلغ البوليس.

وكان فرغلي أول من خطر له؛ هو مفتاح القضية. لا بد من استدعائه وشرح ما حدث له وتحميله المسئولية باعتبار أنه ولي أمرها وهو الذي أحضرها، ثم عليه بعد هذا أن يُكلِّفه باستدراجها والحصول على الساعة منها. ولكن شرف لفت نظره إلى شيء، شُهرَت ليست بالسذاجة التي قد يتصوَّرها ولن تقع هكذا من أول هجوم. ثم من يدري؟! لعل حب الاستطلاع يدفع فرغلي إلى توجيه أسئلة أخرى. لا بد أن يكون هو المتحدث إليها بنفسه حتى يستطيع أن يرد في الوقت المناسب ويزن الأمور.

ولكن، كيف يقابلها؟

هي الآن في بيتها — والساعة الثالثة — وهو لا يعرف بيتها. فرغلي هو الذي يعرفه، وفرغلي الآن في بيته، وإذا صبر إلى الغد فلن يضمن بأي حال أن تبقى الساعة تنتظره. إنه مؤمن إيمانًا راسخًا أن لو أمكنه بطريقة ما أن يفاجئ شُهرَت في بيتها الآن فسوف تروع وتعترف وتُناوله الساعة. ولم يفلح شرف في زلزلة هذا الإيمان، واضطُر في آخر الأمر إلى متابعة أفكاره وإلى أن يبحث معه مشكلة العثور على فرغلي.

وظل عبد الله يُعمِل فِكره، وتذكَّر شيئًا؛ تذكَّر أنه نسي المفاتيح مع فرغلي مرةً ثم استطاع العثور عليه وعلى بيته واستعاد المفاتيح بطريقة ما. ما هي تلك الطريقة؟

وكان الرجل في قمة توتره. كان عقله يعمل بسرعة وقوة لم يعمل بها منذ سنين، وذهنه حاضر لامع متدفق، وثمة دافع جبار يتفجَّر في نفسه ويغذِّيه بالنشاط ولا يكف عن تغذيته. كان كقائد جيش يُعِد للهجوم في الفجر ويعمل حسابًا لأدق الاحتمالات. وتذكَّر أمرًا؛ صبي الجراج، تذكَّر أنه كانت له علاقة باستعادة المفاتيح. وفي الحال استدعى البواب وأمره أن يستدعي صبي الجراج. واستمرَّ يروح ويجيء حتى دق جرس الباب ودخل الولد وفي أعقابه البواب الضخم الأسمر.

كان الصبي شابًّا قمحي اللون مُهلهَل الملابس، يبدو الريف على سيماه، بل يبدو أنه هارب من أهله في الريف. وظل الأستاذ عبد الله يسأله على الأقل خمس دقائق قبل أن يستخلص منه شيئًا. كان يبدو على الشاب أنه مروع باستدعائه أمام القاضي، مذهول بالشقة والناس المتطلعين إليه.

وأخيرًا هدأ الشاب بعد أن حاول ابتلاع ريقه الجاف وكاد يبتلع حنجرته، وسأله عن فرغلي، وأنكر الولد إنكارًا تامًّا أنه يعرفه أو له به صلة. وحاول القاضي أن يسترضيه بسيجارة ولم يشأ أن يزيده اضطرابًا ويأمره بإشعالها أمامه، وعاد يسأله وهو يطمئنه ويربت على كتفه. وبعد جهود اشترك فيها شرف والبواب، تطوع الشاب أن يحاول تذكر بيت فرغلي والبحث عنه. ولكي تتوفر السرعة الواجبة أمر القاضي البواب أن يستصحبه ويأخذا تاكسيًّا ولا يعودان إلا بفرغلي. وأعطاه جنيهًا يدفع منه مصاريف الانتقال.

وافترض الأستاذ عبد الله أن فرغلي قد جاء ومضى يكمل الخطة.

إن الموقف صعب. فرضنا أنه عثر على شُهرَت وواجهها، هل يضمن نفسه؟ إنه هنا — وهي في بيته وهي خادمته — كان في أحيان كثيرة لا يستطيع أن يبقي عينيه في عينيها طويلًا، فما بالك في ظروف كهذه؟ ولم يستقر الخاطر في ذهنه لحظة. كان الغضب يجتاحه ويؤكد له أنه قادر على مواجهة مائة شُهرت وأنه ما إن يراها حتى يصبح في إمكانه ألا ينتزع منها الساعة فقط، ولكن ينتزع روحها أيضًا.

ولكي يطمئن كان لا بد له من الاستعانة بأمر آخر؛ إذا عنَّ لها أن تكابر وتنكر، وإذا استطاعت أن تتماسك أمامه فلا بد من تهديدها، وهو لا يملك وسيلةً لتهديدها سوى تخويفها بالبوليس والسجن، ولكي تخاف من البوليس يجب على الأقل أن تراه بعينها، وهو يعرف معاون بوليس قسم ثانٍ الجيزة، وممكن أن يستصحبه إلى بيتها فقط لمجرد تهديدها وإخافتها، ثم إن معاون البوليس هذا شاب مرح لطيف يستطيع أن يشرح له الأمور إذا تفوَّهت شُهرَت بأقوال تشين. ولكن ماذا لو رفض المعاون أو اعتذر، وبيت شُهرَت بالتأكيد ليس من اختصاصه، ألَا يكون قد كشف نفسه دون داعٍ؟

ولا يدري كيف ساورته الفكرة، ولكنه صافح شرف في التو وهو يهنِّئ نفسه على ذكائه واكتشافه حلًّا عبقريًّا. لماذا لا يقوم شرف بدور الضابط، والاثنان يتعاونان على إعادة النظام إلى شعر شرف المهوش حتى تصلح رأسه لضابط.

ودق الجرس.

وخرج الأستاذ عبد الله ووجد فرغلي واقفًا يلهث وقد رفض البواب أن يجعله يصعد في الأسانسير وجاء به من يده عن طريق سلم الخدم. وفرغلي ببدلته الواسعة القديمة المعتادة، وطربوشه الغامق المائل والعرق ينز من وجهه. وفي كلمات مقتضبة قليلة أنهى إليه القاضي بما حدث.

وما كاد فرغلي يتحقق حتى تراجع إلى الوراء كالمذعور، وقال وهو لا يزال يلهث: إزاي؟ إزاي؟ إزاي بنت اﻟ…

وظل يردِّد الجملة لا يغيِّرها وثلاثتهم يهبطون السلم.

وركبوا العربة.

القاضي أمام عجلة القيادة في المقدمة، وشرف بجواره، وفرغلي جالس على أطراف الكرسي الخلفي يكاد يقف لو كان سقف العربة يسمح، وكان هو أيضًا الذي يتكلم طوال الوقت أو بالأحرى يسب ويستنكر ويعد القاضي أنه سيخرب بيتها وييتم أولادها، ويطردها من الحتة.

وكان فرغلي يتكلم عن «الحتة» كما لو كان القاضي يعرفها. وسأله الأستاذ عبد الله عنها فقال فرغلي بلهجة الواثق: جنب حارة الروم على طول.

وعاد القاضي يسأل وفرغلي يجيب بأسماء لم يسمع عنها القاضي ولا حتى شرف، وأدرك الاثنان أخيرًا أن «الحتة» التي يقصدها فرغلي هي الحارة السد التي تقع في مكان ما وراء الجامع الأزهر.

٧

بدأ الأستاذ عبد الله الرحلة وهو في قمة انشراحه. ضمن الوصول إلى شُهرَت، وضمن المفاجأة، وضمن العثور على الساعة، وضمن الخطة. بدأ الرحلة تمامًا كالتلميذ المجتهد الذاهب إلى امتحانه وهو متأكد من النجاح وعلى وجهه إشراقة النصر، ولم يكن منشرحًا فقط، بل كان أيضًا نشوان؛ ففوق أنه سيستعيد ما أُخذ منه غدرًا، فقد كان في الطريق إلى اختبار ذكائه ومقدرته على التفكير. والمغامرة في حد ذاتها لذيذة، مغامرة جديدة رائعة أن يضبط شُهرَت بنفسه ويضبطها متلبسة، ويراقب انفعالاتها بدقة، ويرى ارتباكها ورجفتها وإنكارها. أو قد يحدث حادث مفاجئ لم يُعِد له حسابًا، ولكنه لا بد سيكون ممتعًا وسيكون التغلُّب عليه أكثر إمتاعًا. المغامرة رائعة حافلة، في كل خطوة منها متعة، وفي رواية تفاصيلها بعد ذلك لأصدقائه سعادة.

الأحاسيس الدافئة كانت تملؤه والخواطر السوداء كان يطردها؛ فقد لا تكون شُهرَت هي السارقة رغم دقة ذكائه، أو تكون قد تصرَّفت في الساعة، أو يفشل في مواجهتها ومفاجأتها.

وتتآمر عليه عشرات الاحتمالات ولكل احتمال منها وجاهته، ويُحس برأسه يكاد ينفجر؛ منذ أن عاد من المحكمة وهو لا يكف عن التفكير، والإنسان له عقل واحد، وعقله قد تحمَّل فوق طاقته وما عاد في استطاعته المضي.

وقرَّر أن يوقف التفكير في شُهرَت والساعة — وما قد يكون — في الحال، ولم يستطع. وفي كل مرة يظهر طرف سؤال أو احتمال ثم لا يلبث أن يتكامل، ويصبح مُطالَبًا ببحثه والإجابة عليه؛ ولهذا قرَّر أن ينصرف عن الموضوع كلية، ولم يجد أروع من أن يجعل عقله يسترخي ولا يفعل شيئًا سوى استقبال ما يتتابع أمامه من مشاهد وتأملها وحصر نفسه فيها.

ومن تلك اللحظة بدأ يُحس بنفسه ينزلق ويتوه ولا يستطيع أن يحدِّد واقعةً بذاتها، أو يتذكَّر دقائق حدث معين، أو يعثر على سبب واضح لما اعتراه، وكأنما قد حدث كل ما حدث وهو نائم يحلم أن شيئًا ممَّا رآه لم يحدث. إنه لا يزال يذكر علامات باهتةً للبداية، وكان في شارع الجبلاية والشارع طويل نظيف تحفُّه أشجار مقلَّمة فروعها ومرسومة، والمساحات واسعة والعمارات شامخة وعالية، وكل عمارة لها نمط وشخصية، والمارة نادرون، والهدوء مخيم والسكون تام لا يُسمع فيه إلا حفيف العربات السارية، وكلها من ماركات فاخرة وموديلات حديثة، والهواء مفتِّح النوافذ يسري ناعمًا رقيقًا في حرية، وموج النيل يمشي على أطراف أصابعه حتى لا يعكِّر قدسية السكون المستتب.

والعربة تمضي وكأنها تمضي فوق بساط من حرير، وصدره ممتلئ بأحاسيس جياشة وحواسه تستعد للمشاهد المثيرة المقبلة، وشرف بجواره يدخِّن في صمت ولذة ويبتسم كلما تذكر دوره، وفرغلي جالس في المؤخرة متشبث بالمسند الأمامي يكاد يشم رائحته ورائحة بدلته، ورذاذ كلامه يتطاير ويُغرق أذنه اليمنى.

وعند أول الكوبري تلتقي العربة بأسراب العربات القادمة من الزمالك والجزيرة والدقي والجيزة، أسراب جديدة رائعة الألوان كأسراب الطيور تعبر الكوبري وهي تكاد تطير. وفي دُوامة ميدان قصر النيل تتسرَّب الموديلات القديمة وعربات الأجرة ويوزِّع الميدان محتوياته ويملأ بها شوارع المدينة حيث الحركة دائبة والاتساع أقل، والبنايات متلاصقة متقاربة، والأصوات قد بدأت تشغل الأسماع، والألوان تتعدَّد، والماشون على أرجلهم قد بدءوا في الظهور. وفي العتبة تختلط العربة بالأوتوبيسات وعربات الترام والمارة والكارو، وتبدأ الجلابيب، وتعنف الحركة، ولا يبقى ثمة نظام.

وحين يدلفون إلى شارع الأزهر يصل الصراع إلى قمته، ويختلط في بطن الشارع الحابل بالنابل، والراكب بالماشي، وعويل العجلات وصراخ الكلاكسات، وزمامير الكمسارية وزئير الموتورات، وسرسعة أجراس الأحصنة، وصفافير عساكر المرور، وزعيق الباعة والمارة، والحرارة تصل أوجها والازدحام منتهاه، ويصبح لا مكان لفرد وكل شيء بالجملة؛ الركوب بالجملة والشراء بالجملة، والحوادث أيضًا بالجملة، والآلات هي التي تتصارع والبقاء للأكبر، وبين الحين والحين تسمع: حاسب، كالصرخة الأخيرة لقتيل يغرق.

وتصبح قيادة العربة عذابًا، وروحه تبلغ الحلقوم، والمارة لا يكفون عن سبه، وفرغلي لا يكف عن رد السباب بأحسن منه، وتصميمه على تأديب شُهرَت يزداد. لم يعد كافيًا أن يخيفها ويستعيد الساعة. لا بد من الانتقام لكرامته. آه لو يخنقها، أجل يلف أصابعه حول عنقها ويظل يضغط ويضغط على النفير، ولا يسمع له صوتًا ويشدِّد من ضغطه والضجة تمتص الأصوات وتمنع الصرخات، والازدحام هائل، والتقدُّم بطيء يفجِّر المرارة، وجامع الأزهر يبدو عاليًا مغبرًا أحجاره كبيرة — الحجر يبني بيتا — وجداره متين تملؤه الخرابيش والحفر ولا يهتز بما حوله، ويشهد الصراع القاتل من مئات السنين ولا يحرِّك ساكنًا ولا يستطيع ساكن أن يحرِّكه، وتنحرف العربة إلى اليمين.

ويتركونها بناءً على نصيحة فرغلي وتحت مسئوليته، ويُكملون الرحلة سيرًا على الأقدام. وبعد خطوات قليلة يُحس بفراغ في رأسه وكأنه أصبح وحيدًا في مكان عريق مهجور. والضجة ماتت والهدوء قد أصبح شيئًا ملموسًا، وكل ما حوله قد بدأ يهوي أمام ناظريه. إنه مصري مائةً في المائة، أبوه من المنيرة وأمه من العباسية وله أقارب فقراء في الصعيد، وسافر ورأى وانتقل وحقق ولمس بنفسه أقصى درجات الحاجة. وهو متأكد أنه لا يزال في القاهرة لم يغادرها، وأن المكان الذي يمشي فيه حي من أحيائها، ولكن المرئيات تتتابع كلما تقدَّم، ويُحِس بالذهول وبأنه يُدلي بحبل في بئر لا قرار لها.

الشوارع أول الأمر مستقيمة ذات طول وعرض وأسماء مشهورة، وأسفلت واضح وتلتوار، والبيوت على الجانبين مزدحمة ومكدَّسة، ولكنها بيوت لها أرقام وبلكونات ونوافذ بشيش وزجاج وبوابات ذات زخارف، والحركة مائجة هائجة، والدكاكين لها أصحاب ومكن وعمال ويُفَط مكتوبة بخط أنيق، والمارة وجوههم حليقة، فاتحة، فيها دماء، وملابسهم كاملة زاهية ذات ألوان وتفصيل، واللغة راقية مكونة من جمل وكلمات، والجو تملؤه رائحة الوقود المحترق والمانيفاتورة والعطور.

ويتقدَّمون، وتضيق الشوارع وتقل شهرتها، وتفقد البيوت أرقامها وتنقص أدوارها، وتصغر أبوابها وتصبح نوافذها بلا شيش، وتتحوَّل الدكاكين إلى حوانيت صاحبها هو عاملها ويداه هي المكنة، وتشحب وجوه المارة وتزداد سُمرة، وتبهت ألوان الملابس ويتقادم بها العهد، وتتحلَّل اللغة وتصبح كلمةً ونداءات وشتائم، وتهب رائحة العطارة والجلود والغراء والخشب المنشور.

ويتقدَّمون، وتضيق الشوارع وتضيق وتُفضي إلى حارات تصك أسماؤها الآذان، وتأخذ مكان الأسفلت كتل صلبة من الأحجار، وينتهي التلتوار، وتتقادم البيوت ويفصلها عن الحاضر أحقاب وأحقاب، وتصبح النوافذ فتحات ليس فيها غير الحديد. وتخفت الحركة، وتندر الحوانيت وتنقطع، ويصبح بين البقال والبقال مشوار، وتتضخَّم الملامح وتغمق الوجوه وتنبت اللحى وتغزر الشوارب، وتتناقص الملابس ويصبح البنطلون بلا قميص والجلباب بلا سروال، وتتفتَّت اللغة إلى أنصاف كلمات وأرباع، وتعبيرات لا يفهمها سوى أصحابها، وتختفي روائح الدكاكين وتمتلئ الأنوف بروائح التقلية والملوخية متصاعدةً من البيوت.

ويتقدَّمون، وتتعرَّج الحواري وتتداخل وتؤدي إلى أزقة لها أسماء تُضحك غرابتها، وتصبح الأرض من التراب، وعلى التراب أوساخ وماء وطين. وتموت الحركة وتختفي الحوانيت، وتنتقل البضاعة إلى عربات يد أو صناديق معلقة في الحيطان، وتفقد البيوت ما فوقها من طلاء وما في نوافذها من جديد، ويقل المارة من الكبار ويظهر الأطفال ويتكاثرون، وكذلك يفعل الذباب، وتتضخَّم الملامح وتتورَّم وكأنما قرصتها دبابير، وتتهرَّأ الملابس وتتمزَّق وتفقد الكثير من أجزائها، ويظهر أناس بلا لباس، وتصبح اللغة سرسعةً وأصواتًا وحروفًا تتصاعد من حناجر شديدة البروز، وتملأ رائحة الطين والقِدَم الأنوف.

ويُوغلون في التقدم، وتتلوَّى الأزقة والمسالك وتؤدِّي إلى مكان ليس له كيان، كل ما فيه يختلط بكل ما فيه، الأرض المرتفعة المكونة من أجيال متعاقبة من القاذورات والأتربة، بالأبنية المنهارة التي ناءت بما فوقها من أكوام وأعمار، ولون الأرض ذات الطين بلون الجدران ذات التراب، والملابس بالخرق المبعثرة في الطريق، ورائحة الناس برائحة الأرض برائحة البيوت، والهمهمات المتقطعة بهبهبة الكلاب بالأبواب الكبيرة وهي تزيق وتفتح، والحركة البطيئة الميتة بالهوام الزاحفة، والمساكن المنخفضة المتربة بالقبور التي ترقد على مرمى البصر، وفرغلي المخلول لا يتغيَّر احترامه ويسبقه بنصف خطوة، لا يريد أن يسبقه كثيرًا ولا أن يتأخر، ولا يريد أن يوليه ظهره، ولا يستطيع أن يسير ووجهه إلى الخلف، ويجامله بعقد ملامحه؛ إذ المهمة التي جاءوا من أجلها خطيرة تستدعي عقد الملامح، والناس تحيِّيه وهو يرد تحيتهم في اقتضاب. الناس تحييه وتسأله عن الأحوال ويحف به احترام وهو الحاجب الذي لا حول له ولا قوة، ولا أحد يعرفه في شارع الجبلاية، هو القاضي الذي له الحول والقوة.

ويمضون وحولهم خرائب وبيوت تتساند حتى لا تنهار، والناس هي الأخرى تتساند حتى لا تنهار. والعجوز يتحامل على شاب، والأعمى يسحبه صبي، والعليل يسنده جدار، والنبي وصى على سابع جار، وخيط خفي يجمع الكل ويربطهم معًا وكأنهم حبات مسبحة، وكأنهم روح واحدة تحيا في أجساد كثيرة متفرقة، والزمن لا قيمة له؛ فالطفل الرضيع على كتف أمه هو الطفل الذي يحبو ويختلط بأكوام الزبالة، هو الطفل الماشي الذي يتمنطق بالأحجبة خوفًا من العين، هو الطفل الميت أو الذي عاش، هو الصبي في ورشة أو محل، الغادي الرائح يقلد الممثلين والأراجوز، ويتهجَّى ألفاظ السباب، هو الشاب في عفريتة أو جلباب يجذب أنفاس السجائر المصنوعة من السبارس، هو الرجل العامل أو الرجل العاطل، هو الغائب عن الوعي بجوار حائط، هو الدائخ من الأفيون والبطالة والسيكونال، هو الشيخ الذي يقضي النهار يصلي ويدعو للأولاد ويترحَّم على ما فات ويجمل لنفسه الآخرة.

والبنت العروس المخطوبة، هي الأم ذات الأطفال، وصاحبة المنديل بأويه، هي المتشحة بالسواد، وضاربة الطفل هي المضروبة من الزوج، والطابخة هي الملهوفة التي تبحث عما تسد به الأفواه.

ويأتيه صوت فرغلي وهو يشير إلى البيت الوحيد المتماسك ويقول: بيتي.

ويعزم بقوة ويشدِّد ويلعن شُهرَت التي جعلت رقبته كالسمسمة.

ويسأل عن الحارة السد ومتى يصلون، ويجيب فرغلي أنهم فيها، في الحارة السد، وأن بيت شُهرَت قريب بعد خطوات. ويمضون وتحف بهم نظرات مستغربة تتوجس، وراء كل نظرة كلمة غريب. ووراء الغريب تساؤل، ووراء التساؤل خطر.

والنساء الجالسات على العتبات ينسجن من السآمة أحاديث، ومن الأحاديث مقدمات حزن، يرونهم فيتعجبن وتميل الرءوس على الرءوس وينتقل الهمس من عتبة إلى عتبة، وكأن بين العتبات أسلاكًا، ويقول بعضهن: بوليس. وتتحشرج الأصوات وهي تنطق الكلمة. وأخريات يتفاءلن ويقلن: صحة. ثم يرين فرغلي ويتحقَّقن منه فتنخفض الهمسات أكثر.

وأطفال وأطفال، وأطفال يتجمَّعون، يتجمعون أمامهم وخلفهم وعلى الجانبين، عيونهم ذابلة فيها رمد وعماص، ووجوههم صغيرة تحمل كل ما فوق الطريق، وتتوافد معهم جيوش الذباب. ويصرخ طفل وهو يقذف فرغلي بطوبة ويقول: محكمة!

ويلعنه فرغلي وينهره بلين، ويلتفت الباقون إلى اللعبة، وتصبح «محكمة» على كل لسان، ويطير فرغلي وراءهم فيهربون ويهج الذباب، ثم يعودون إلى التجمع ويعود الذباب إلى الطنين.

ويتأكد فرغلي من بيت شهرت ويسأل إحدى الجالسات فتشير إلى بيتٍ قريب، وينتقل الاسم على كل لسان، وكل لسان يُضيف كلمةً وتخمينًا. ويترك الجالسات جلوسهن ويضمهن موكب الأطفال، ولا فارق كبير بين سواد النساء وسحنة الأرض وزعيق الأطفال وهمهمة الكبار، والشمس تصب أشعتها وتجعل كل ما فوق الأرض يغلي ويفور وتتصاعد منه الروائح، والنهار يُظهِر كل شيء ولا يخفي شيئًا، يظهر عن عمد وإصرار وكأنه ينتقم ويشمت.

وينتظر فرغلي وشرف على الباب وحولهما الركب، ويصعد هو وحده، والبيت مظلم وبابه كفُوهة العجوز الأترم وعود الكبريت لا ينفع ويهوي إلى أرض المدخل؛ إذ الأرض منخفضة ولزجة وكلها طين، والمدخل واسع كقبوة الفرن المهجور. وشهرت في الدور الثاني — هكذا قالوا — والدور الأول سواد في سواد، والرائحة لا تُطاق، والجدران متآكلة وكأنما نهشتها أفواه ثعابين، وعليها تموجات رشح وأملاح وكأن النيل فاض وأغرق البيت ثم انحسر، وامرأة جالسة على عتبة حُجرة في المدخل تغسل وساقها بيضاء مكشوفة تضيء في الظلام، تحدِّق فيه وتتوجَّس خِيفة، وتنعقد يداها فلا تترك الغسيل ولا تغطي فخدها العاري، والسلم متآكل ومتداعٍ وخشبه مخوخ ودرجاته تنقص درجات، والقدم تزيق، وخطر السقوط محدق، وعود كبريت عاشر ينطفئ، تطفئه ريح تهب من مكان خفي لا يُرى، ريح باردة رطبة والجو في الخارج حار، ريح باردة تنفذ إلى النخاع فترج النخاع. والدور الثاني لا هو دور ولا هو ثانٍ؛ عروق عارية كضلوع هيكل عظمي تصنع السقف بينها مهاوٍ وحفر، وحيطان شاخت ومالت وانحنت، وباب قريب من السلم؛ باب مكون من ألواح قديمة غير ممسوحة ولم تجرِ عليها فارة، والخشب قد تغيَّر لونه وأصبح رماديًّا أزرق، وعلى الباب عجين جاف، وبراز طيور وحيوانات، وكف دم بنية، ووجه رسمه طفل بالطباشير كوجه جنية.

ويمد يدًا لا تريد أن تمتد، ويدق بابًا لا يحتمل الدق، ويُطل وجه يقول لها: «عايزك في كلمة.» ويصفر وجهها وكأنما سُلط عليه كشاف في أول الأمر، ما إن يراه حتى يشحب ويظل يشحب ولا يكف عن الشحوب، والعينان صافيتان أول الأمر يعكِّرهما ارتباك مفاجئ وخوف، ثم يمتد الشحوب إلى بياضهما ولا يستقر للحدقتين قرار. هي شهرت قد رحَّبت به. وخرج صوتها متداعيًا منهارًا كله ذهول وحيرة واستغراب. وتفتح الباب ويبدو جسدها يلفُّه جلباب رجالي قديم فيه شق يقسمه بالطول، والشحوب قد وصل إلى قدميها وجعل أظافرها تبيض. ويضطرب. هذه المرأة المرتعشة سرقت ساعته. الساعة معها لا بد فماذا يمنعه من خنقها؟ ولماذا لم يعد لديه الحماس الأول؟ وعقله يتأرجح بين التقدم والتأخر. لقد جاء وانقضى الأمر.

وكما دبَّر تمامًا ها هو ذا يقولها، ولكن بغير اللهجة التي دبَّر أن يقولها بها: «عايزك في كلمة.» ويصفر وجهها وكأنما سُلط كشاف أصفر، وتخاف، وتدعوه للدخول، وتحاول أن تمحو ارتباكها وتبتسم، وترتعش شفتاها وتفشلان في أداء الابتسام. يدخل هو ويعد العدة للتراجع؛ فممكن أن يحدث أي شيء، قد يقتلونه أو يسرقونه أو تصرخ شهرت وتستغيث. ومن مكان في الحجرة يندفع إليها أطفال ثلاثة، بنت في العاشرة طويلة ورفيعة جدًّا وسمراء وعيونها ضيقة وسوداء كالحبر، ووجهها رفيع جامد ميت لا ينفع ولا يتحرك ولم يعرف الضحك، وشعرها أسود يلمع، ورائحة جاز، وضفيرة مجدولة وأخرى سائبة، ومشط خشبي مغروز في قمة الرأس، وطفلان آخران؛ بنت وولد أو بنتان أو ولدان تشبَّثا بأمهما وأمسكا بثوبها، ومن الظلام المشبع برائحة الجاز تنصب عليه أربعة أزواج من العيون المستغربة تتطلَع وتتساءل، ويرتعش، ويبتلع ريقه ويردِّد كالأسطوانة المعبأة: «عايزك في كلمة.»

وتُفيق شهرت وكأنما أعطيت حقنة.

وتطرد الأولاد وتغلق الباب، ومع هذا يتشبَّت الأولاد بالباب المغلق وتبدو عيونهم لامعةً من خلال الشقوق كعيون الصراصير ترقب ما يجري في الحجرة. ويلهث ويدور برأسه، الحجرة ضيقة كالصندوق الذي ضاع مفتاحه، والضوء يختنق وهو يتسرب إليها من نافذة علوية، وسرير قديم كالح ذو عمدان رفيعة كالبوص، وحديده كله صدأ، ومرتبته أغمق من الصدأ، وفي ناحيةٍ شيء كالدولاب قديم، وجوال فيه ثقوب مملوء لحافته ومركون بجوار الحائط وعلبة أرنبة، ومرتبة في الركن الآخر وكراكيب وصفائح وأخشاب متناثرة، وعلى الحائط صورة الإمام علي يشق بسيفه رأس كافر، والكافر رأسه مشقوق ومع هذا لا يزال ممتطيًا حصانه واضعًا قدميه في الركاب، وعلى المرتبة يتحرَّك شيء، وإذا بالشيء رجل؛ رجل طويل أسمر نائم ورأسه كالزلعة الراقد بجوارها، وعلى وجهه رغم نعاسه تكشيرة، وجبهته معقودة، ممدَّد بطوله على المرتبة وحزامه مفكوك، وملابسه الداخلية قديمة سوداء وظاهرة من فتحة بنطلونه، وللمرة الثالثة يقول: «عايزك في كلمة.»

ويعود الكشاف الأصفر ينصب على وجهها وتقول: خير!

وتخرج الكلمة، مرتعشةً معتقدة تمامًا أن لا خير هناك، ويقول كالمنوم: الساعة فين؟

ويتخشَّب جسدها وتدب على صدرها بيديها، وتنكر برموشها، وتقسم بازدياد شحوبها. ويعيد السؤال، وتُغلظ في القسم، وتُصر على الإنكار، وشيء رفيع ثاقب يخرج من عقله ويؤكد له أنها السارقة. ويمضي كالمحكوم عليه في الخطة يكيل لها الكلمات ويركِّز الاتهام، وتختنق وهي ترد، وتتحشرج الكلمات على فمها وهي تُنكر، ويأخذ دَور وكيل النيابة وتأخذ دور المتهمة، ويصبح صاحب حاجة، وتحاول أن تكون صاحبة كرامة، ويصرخ كالسيد المسروق وتتمسكن كالخادمة السارقة، ويطغى على الحوار صرخات تأتي من الباب؛ البنت الكبيرة تُبعد إخوتها وهي تسمع ما يوجَّه إلى أمها، والطفلان لا يريدان ترك مكانهما، وكأنما يُدركان بغريزتهما أن أمهما شهرت في خطر ولا يستطيعان تركها تواجه وحدها الخطر.

وتزداد عصبيته ويهدِّد بالبوليس وبأن ضابط المباحث على الباب، ويبدو عليها عدم التصديق، فيفتح الباب ويعوي الباب وهو يفتح، ويأخذها إلى النافذة وتُطل ويطل، ويقول: يا حضرة الضابط.

ويقول شرف: أيوه يا سعادة البيه.

ويغمز بطرف لسانه ويكاد يضحك، ثم يذهب الهزل عن وجهه فجأة، وتتجمَّد ملامحه ويخاف عليه أن تنكشف النمرة، فيرتد عن النافذة، وتتراجع شهرت إلى الحجرة ويتبعها ويقول: يا الساعة يا سنة سجن.

وترتجف خطواتها ويعود فيقول: وانت عندك أولاد يتبهدلوا.

ويلاحظ توقُّفها عن المسير وهو ينطق الأولاد، فيردِّد ما قاله ويشدِّد على الأولاد.

وتحاول أن ترغم نفسها على البكاء وتعتصر عينيها، فلا تبكي ولا تهبط دمعة واحدة، ويتقلَّب الرجل النائم ويُغمغم وكأنه يحلم. وتصيح شهرت: جوزي …

ويزداد عصبيةً وتتوتر أعصابه ويهمس بالتهديد، وشيء في داخله يهمس؛ الأم تدافع عن وجود العائلة، والزوج يائس نائم. ويزداد حدة، ويكسي وجهه بقناع مخيف، ويُطلق تهديده الأخير، وتتعلَّق عيناها بعينيه، وعيناه ليس فيهما ذرة رحمة، وليس في نفسه ذرة قسوة، ولا يدري لماذا يهدِّد ولماذا هو مُصر ولماذا لا يرحم ولماذا لا يزداد قسوة، وتقول له: فتش.

ويتأكَّد لديه أنها السارقة، ويندفع يفتش بقدمه؛ الجوال مملوء «قوالح» الأذرة، وتحت السرير عروسة خشب وخِرَق قديمة كالجلابيب، والعطن يملأ خياشيمه، وعدة أحذية متهالكة لا تصلح للارتداء فوقها غبار كثير، وماسورة حديدية، والدولاب طوله متر وطلاؤه بني وفوقه طبقة سوداء سميكة، وداخله حبة بطاطس مسلوقة عليها صرصار، وبصلتان وورقة ملح لم تُفتح، وعند الجزء الأسفل منه لمعت عيناه فقد وجد أشياء تخصه؛ علب ملبس ذات زخارف، وصندوق خشبي مُطعَّم، وأقلام حمراء ورصاص، وغطاء قلم حبر، ونصف ولاعة قديمة. وتجيئه غمغمة شهرت تفسِّر وقد أدركت سر لمعة عينيه وتقول: للأولاد … يلعبوا بيها.

ويجد جوربًا من جواربه ممزَّقًا وقديمًا وفيه رقع ومغسول، ويُحس بخجل يهبط بقلبه إلى قدميه ويرتفع بدمه إلى رأسه، ويثور في نفسه بركان، ويُخرج فحيحًا ملتهبًا من ملامحه وفمه ولسانه، ويسألها لآخر مرة عن الساعة.

ويتململ الزوج، ويدفع الذباب بيد نائمة، وتعلو ضجة الأولاد عند الباب، وتفتح شهرت فمها وتُطبقه، وتُخرج من حلقها أصواتًا، وشعرها منكوش، ورعبها ينكش شعرها أكثر، وجسدها يهتز في الثوب الرجالي الواسع، ويدها مشلولة على يدها الأخرى، وعيناها تبرقان في سرحان تائه، وهو أحيانًا يُفيق لنفسه، ويُدرك أنه يُمثِّل، وأنها لا تُمثِّل، وأنها تستحق، وأنها لا تستحق، وأن ملامحها القوية التي أذلَّته تجف أمامه من العذاب، وأنه لا يُحس بنشوة النصر، وقوًى عديدة تتجاذبه، ويزداد تحديقه خطورة، وأخيرًا تفر دمعة واحدة من عينيها، وتفر من فمها كلمة، وتتبع الدمعة دموع، والكلمة تتبعها كلمات، ويتبيَّن أنها تقول: أنا لقيتها والنبي وكنت ناوية أرجعها.

الساذجة! يا للسهولة؟! كيف تعترف بمثل هذه السرعة؟! لقد أعد نفسه لمعركة طويلة.

وتتحرَّك وتمد يدها إلى الدولاب المفتوح، وتستخرج من رفه الأعلى كوبًا زجاجيًّا مكسورًا، وتمد أصبعين يرتجفان داخل الكوب، ويخرج الأصبعان ببطء وبينهما الساعة؛ ساعته! وتمدها إليه دون أن ترفع بصرها، ويهبط عليه ماء صاعق بارد، ويهدأ كل شيء في صدره، ويُحس بصدره يضيق، وبالحجرة نتنة بشعة، وتبرق الساعة في اليد الممدودة، ويجذبه البريق ويتناولها ويتفحَّصها، ويفرح بها فرحًا صبيانيًّا كما يفعل الأطفال، ويزجر نفسه ويفرح، ويقلب الساعة بين يديه ويضعها على أذنه ويجدها دائرة، وحشرجات رقاصها لم تزل كما هي، ويجدها مضبوطةً وتُشير إلى الرابعة وخمس وعشرين دقيقة، ويجد نفسه على السلم.

ويتنبَّه ويتوقف، ويركبه إحساس خفي أنه أخطأ، وينادي شهرت، وتبدو عند بابها قائلة: نعم. وأولادها قد عادوا يتشبَّثون بها، والبنت الكبيرة عيونها سوداء رهيبة واقفة ترقب أمها بوجه جامد ومن بعيد ويداها ممسكتان بالضفيرة السائبة، وهي — شهرت — ثابتة في مكانها لا يتحرك لها رمش أو ذراع. ويتردَّد، ويسألها لماذا أخذت الساعة؟ وتجيبه وتقول: الماهية ما تكفيش … وحضرتك … مرضيتش.

ويسألها فتقول: البلوزة … كنت عايزة أدفع حق خياطتها.

فيسالها فتقول: الملاية تكسف.

وعيناها لا أثر فيهما لأي انفعال، محدقتان في الفراغ، تهبط منهما الدموع بلا بكاء، كالسماء حين تمطر بغير سحاب، وتجيئه الإجابات ملفوفةً في ضباب، ورأسه يهتز رافضًا أن يصدِّق، ويسألها وكأنه يشارك في حل مشكلتها: لمَ لَم ترهن السرير أو تبِعه بدل السرقة؟ وتسيل دموع كثيرة من عينيها وهي تقول إن السرير ليس سريرهم.

– أمال سرير مين؟

– سرير أم هانم.

– أم هانم مين؟

– شريكتنا في الحجرة.

ويكاد يوقف الكلمات ليفكِّر فيها قبل أن تلمس آذانه، ولكنه يبتلعها ويتركها تغيب في لاوعيه.

ويرتفع صوت خشن من الداخل يسأل عن الضجة والحكاية ويتثاءب، وتستدير لتجيب، ويستدير هو ليهبط على عجل.

وحين يصل إلى الحارة يتنفَّس بقوة، وينطلق غير عابئ بالواقفين أمام البيت، ويُسرع والهمسات تنمو وتبلغ أسماعه وتنتشر، ثم تبرد وتذبل وتأخذ مكانها همسات جديدة.

ويستحثه فرغلي وهو يبتسم في قبح بشع: هيه؟!

ولا ينطق بحرف، ويمضي وأناس من حوله تمضي، وأسئلة تترى، والعيون المنصَبة من الجانبين تتكاثر؛ عيون واسعة عميقة مستفهمة تُزيح رموشها في تثاقل مريض وتتساءل عمَّا فعل الأفندية القادمون بواحدة منهم؟ وتلتقي النظرات عبر الطريق تكاد تصنع أمامه أسوارًا شائكة توقفه وتقيِّده، وإلحاح فرغلي لا ينقطع، والرذاذ المتطاير من فمه لا يكف، ويُحس بالناس تكاد تُطبق عليه حبًّا في الاستطلاع، فيُخرج الساعة من جيبه ويلفها حول معصمه ويقفل الإبزيم. وتتصاعد الهمهمات من خلفه. ويزعق فرغلي ويسري الخبر. وتتلاصق النسوة وتنخفض الهمسات، وفي أعقابها ترتفع دعوات تطلب للولايا الستر، ويزمجر الرجال ويتضاحك الصبية وينتشر الحادث من نافذة إلى نافذة وعبر السطوح، ويُحس بشهرت تتمزَّق وتتهلهل وتتقاذف الأفواه أشلاءها، وهي شاحبة صامتة خائفة مستسلمة لا تملك من أمر نفسها شيئًا.

ويدرك العربةَ وكأنها طوق النجاة، ويتبين أن شرف غير موجود، ويسأل عنه فرغلي فيقول إنه نفض يده من الأمر كله فجأةً وقال إنه لم يعد يستطيع ومشى. ولا يحس بأية غرابة وكأنه كان يتوقع من شرف هذا. ويهرب من اعتذارات فرغلي التي يعقبها بوعيده وتهديداته وكأنه سارق الساعة، وكأنه المسئول عن الكون وعمدة الحتة. ويدلف إلى العربة ويضغط على محركها كأنما يضغط على ضمير يؤلمه، وتندفع إلى الأمام.

وتعود الشوارع تنتظم وتتسع ويصبح لها طول واستقامة، وتعود الملابس تتكامل وألوانها تجد وتزدهر، والذقون تزال، والشوارب تُنمَّق، والملامح تصغر وتدق، وتختلط العربات بالسابلة؛ عربات كارو أول الأمر، ثم أجرة مستهلكة، ثم أجرة وملاكي وأوتوبيس. ويتسع صدره وكأنما انزاح عنه كابوس ويزداد اتساعًا، ويخف الهواء ويخف، وتقل أحماله وتكبر رفعته، والدنيا تتفتَّح وتتفتَّح.

ويجد نفسه في ميدان قصر النيل.

والنسمات بدأت تهب، والوجوه تُفيق من حر اليوم، والكوبري يمتلئ بالمتنزِّهين، والماء كثير كثير، والعمارات بعيدة بيضاء كأبراج الحمام، والمدينة جميلة جميلة، أجمل من أية مرة رآها فيها، والمنظر ضخم وحاشد، وأنفاسه تتلاحق في نهم، ورأسه يدور.

وما يكاد يصل إلى الدور السابع من عمارته بشارع الجبلاية حتى يُسرع إلى الشرفة ويتهاوى على مقعد، ويُسند رأسه ويحاول أن يستعرض من جديد كل ما مر به.

٨

بعد ساعات قليلة كانت حجرة المكتب لا تزال كما هي، ولا تزال لها نفس شرفتها الشاهقة المُطلة على النيل.

وكانت الشرفة تشهد — كعادتها كل ليلة — ما يطرأ على القاهرة من تغيير ساحر مذهل.

النور القوي الذي كان يُضيء المدينة طيلة النهار أخذت حدته تهمد، ولونه يشحب ويتغيَّر، وكأن يدًا خفيةً قد امتدت إلى شعلة الشمس الموقدة ومستها. واصفرَّ الضوء فاصفرَّت المدينة، وانطلقت من خلالها آلاف من شعاعات الشمس الغاربة وزجاج يعكسها ويزغلل بها الناظر.

واحمرَّ الضوء.

وتلبَّدت السماء وحدها بالحمرة، أما المدينة فقد كستها رمادية مغربية زرقاء.

ثم اسودَّت الأرض.

وأظلمت السماء.

وكاد الليل يبتلع المدينة لولا ملايين من أضواء صغيرة بُذرت فوق سطح الأرض، وما لبثت أن نبتت وتغذَّت على الظلام وترعرعت، وأصبحت أنوارًا براقة تلمع وتبرق.

ثم نضجت الأضواء وتفتَّحت لها أزهار، وانتشرت في جو المدينة أنوار حمراء وخضراء وزرقاء وصفراء ذات أشكال وأسماء وأنواع.

واستحال الظلام إلى كرنفال.

كانت الشرفة وحدها هي التي تشهد التغيير رغم أن الأستاذ عبد الله كان لا يزال جالسًا فيها، مستلقيًا على الكرسي المريح، رأسه ثابت لا يتحرك، وعيناه ساهمتان مثبتتان كعينَي ميت، وعقله هائم تائه غير مكترث بالنهار الذي ولَّى أو الليل الذي أقبل، يحدِّق في الفراغ المطبق المظلم، ويجوب — دون أن يحرِّك رأسه — سماء المدينة ذات المحصول الوافر من الأضواء، ويهيم ويحاول أن يركِّز انتباهه وبصره في نقطة تائهة في ظلال الليل، بعيدة عن الأضواء، واقعة لا بد هناك، هناك في أقصى المدينة وراء مئذنة الأزهر. يهيم يهيم وبين الحين والحين يبرق معدن الساعة الملفوفة حول معصمه فيخطف بصره، ويجذب عينيه الغارقتين في الظلام، ويُحس بشيء ملتهب ينبثق في صدره كالنزيف، ويكز على شفتيه دون أن يدري كُنه ما يتملَّكه، وينفجر في رأسه خاطر مُلح؛ أن يخلع الساعة ويرميها على طول يده في النيل.

•••

غير أنه لم يُنفِّذ الخاطر أبدًا، وطبعًا لم يقضِ الليل في الشرفة، وفي الصباح كان يتوجه إلى عمله كالمعتاد، فقط كان قد عاوده ذلك الصداع الملعون.

•••

ولا تزال الساعة حول معصم الأستاذ عبد الله، كلما رآها تذكَّر تلك الرحلة الغريبة ذات الكابوس وازداد اعتزازه بساعته وبنفسه، بل إنه ظلَّ يريها لأصدقائه ومعارفه وكل من يلقاه أيامًا كثيرة، وكان يفعل هذا كمقدمة لا بد منها لرواية ما حدث له. وكان يُغفل في قصته كثيرًا من التفاصيل، ولكنه كان ما يكاد يصل إلى الحارة السد حتى يعاوده ذلك الإحساس بالنزيف، فيندفع ببتر الوصف وينتقل إلى الجزء التالي من القصة، ويصف الهجوم الخاطف الذي انهال به على شُهرَت فتهاوت أمامه وناولته الساعة.

ولم يسمح لفرغلي أبدًا أن يتحدث أمامه عنها، ورغم هذا كان يسمح لأذنه أن تلتقط منه بعض أخبارها وما يوجِّهه إليها من سباب واتهامات، مبيِّنًا كيف فسدت وأصبحت ذات سمعة، وسمت نفسها «أميرة».

كل ما حدث أنه ذات يوم رآها، رأى شُهرَت في شارع الملكة وهو مار بعربته، فأبطأ من سيره. كانت واقفةً على محطة الأوتوبيس، وكان واضحًا أنها لا تنتظر الأوتوبيس، وكانت تصبغ شفتيها بروج حقيقي وترتدي الجيب الرمادي الذي كانت تأتي به.

وأهم شيء أنها كانت ترتدي فوق الجيب، بلوزةً جديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤