II
وُلد جاك لاكان في باريس في ١٣ أبريل من عام ١٩٠١م، لأمٍّ تُدعى إميلي بودري
Emilée Baudry، وأب يُدعى ألفرد لاكان
Alfred Lacan.
٥ تعلَّم على أيدي اليسوعيين، وتدرَّب كطبيب ثم كطبيب نفسي، وقدَّم أولى
رسائله العلمية في عام ١٩٢٦م، ثم قدَّم أطروحة الدكتوراه (١٩٣٢م) عن ذهان البارانويا
وعلاقته بالشخصية، وكان معلماه الأكاديميان في الطب النفسي — إن كان لا بد للمرء من
معلمين — هما هنري كلود
Henri Claude وجيتان دي
كليرامبو
Gaëtan Gatian de Clérambault. كان الأول
ذرائعيًّا يسمح للأطباء النفسيين الفرنسيين الذين اهتموا في البداية بفرويد بحرية
اختيار أفكار جديدة واستخدامها، في وقتٍ كانت «النزعة الجنسية الشاملة
pansexualism»، تلك النزعة «الألمانية»، تُقابَل من
معظم المتخصصين في الطب باستجابة شيفونية تحمل عداءً أخلاقيًّا، واشتهر الثاني بابتكار
تصنيف «التلقائية الذهنية» وبخبرته اللسانية ومعرفته الموسوعية بتاريخ الملابس.
ومهما يكُن فقد استقلَّ لاكان عن معلمَيه، وارتبط بجماعة تطور
الطب النفسي L’Évolution
Psychiatrique التي جلبت إلى فرنسا الأفكار
الفرويدية، وانفتحت أيضًا على المقاربة «الوظيفية» للتطوريين الإنجليز (جون هولنجز
جاكسون John Hughlings Jackson وهنري هِدْ
Henry Head)، كما
انفتحت على المدرسة الظواهرية التي تطورت في زيورخ وألمانيا في العشرينيات، وصارت في
طليعة الطب النفسي في الثلاثينيات (كارل ياسبرز، ويوجين مينكوفسكي Eugen
Minkowski، ولوديج بنسفانجر Ludwig
Binswanger).
ومنذ البداية، كان لاكان عضوًا في الدوائر السريالية التي التفَّتْ حول أندريه
بريتون، كان يكتب الشعر، ويدعو الأصدقاء إلى عنابر مستشفى سانت آن
Sainte-Anne، حيث زخرفوا الحوائط ومارسوا بعض
التجارب في الكتابة التلقائية. ومع أنه كتب مقطوعتين للمجلة السريالية
Le
Minotaure في عام ١٩٣٣م — كانت إحداهما عن البارانويا،
وقد ظهرت في انسجام تام مع إحدى لوحات سلفادور دالي — إلا أن من الواضح أنه قطع روابطه
بتلك الجماعات.
في عام ١٩٣٦م قدَّم لاكان النسخة الأولى من بحثه عن مرحلة المرآة في المؤتمر الدولي
للتحليل النفسي الذي عُقد في مارينباد
Marienbad.
٦ ويعطي مقالٌ كتبه
لدائرة المعارف
الفرنسية Encyclopédie
française في عام ١٩٣٨م بعنوان «الأسرة
La Famille»، وبحثٌ كتبه في عام ١٩٣٦م بعنوان «وراء
مبدأ الواقع» (نُشر ضمن
كتابات في عام ١٩٦٦م)،
يعطيان فكرة عن عمق أدوات التصور التي كان قد أتقنها حول مفهوم مرحلة المرآة: إن دراما
الطفل أمام المرآة تجمع بين العناصر الأساسية في مفهوم فرويد عن النرجسية وصراع الموت
بين السيد والعبد في الجدل الهيجلي، وهي موضوعات تبقى بارزة في معالجة
السيمينار الأول لمرحلة المرآة. وقد تحددت مبادئ لاكان
بوضوح في تلك المقالات التي كتبها في الثلاثينيات ولاءٌ فريد لفرويد، ارتياب لا يلين
بكل الأشكال الفكرية الشائعة في عصره (بما في ذلك الأفكار «الإنسانية» الجديدة المرتبطة
بالظواهرية، وقد قارنها مبكرًا في عام ١٩٣٣م، في مراجعة لكتاب كلاسيكي من تأليف
مينكوفسكي عن باثولوجيا العصر، بفلسفة هايدجر الأكثر دقة وتخصصًا)، وربما أهم من هذا
كله، النزعة الهيجلية الجديدة التي استوعبها من المحاضرات التي ألقاها ألكسندر كوجييف
بين عامَي ١٩٣٣ و١٩٣٩م. وفي الحقيقة، إن من يبحث عن مقدمة للعالم الفلسفي الذي عاش فيه
لاكان، فلن يجد أفضل من قراءة «بدلًا من المقدمة» في بداية كتاب ألكسندر كوجييف
مدخل لقراءة هيجل (١٩٤٧م).
ومع نهاية الحرب، قام لاكان برحلة إلى إنجلترا بحثًا عن مناخ أخلاقي اكتسب قوته من
حرب انقضَت في الدفاع والكفاح وليس في الاستسلام والخداع: كان إحساسه بالحرية كبيرًا
خارج فرنسا، وتواصل هذا الإحساس في الحماس الذي قابل به العمل التحليلي للجماعتين
اللتين أنشأهما ويلفرد بيون
Wilfred Bion وجون ركمان
John Rickman.
٧ وكان لاكان يرى، في وقتٍ ما، أن جماعة بيون تمثل الطريق الصحيح لمستقبل
التحليل النفسي. وربما كان وراء هذا التقارب أفكار لاكان الجديدة التي عبَّر عنها في
بحثين كتبهما في عام ١٩٤٥م (قطع بهما سبع سنوات من الصمت الذي فرضه على نفسه)، وكان
أحدهما عن منطق الجماعات ووظيفة الزمن، والآخر عن منطق الارتياب والبارانويا.
٨ ومن المؤكد أن النتائج العملية للبحث الأول كانت بالغة الأهمية، حيث بدأ
لاكان، نتيجةً لمنطق مناقشته لطبيعة علاقة الزمن بالفعل والتردد، يعدل في الزمن الذي
تستغرقه جلساته التحليلية، وكان هذا التعديل في الوقت الذي يدفع المريض مقابلًا له أساس
النقد المستمر والمدمر لممارساته، بدايةً من عام ١٩٥٢م (حين وافق على أن يتوقف الأعضاء
الآخرون في جمعية باريس للتحليل النفسي (
SPP) عن تطبيق
تجاربه في جلسات مختلفة الطول)، واستمر الوضع على ما كان عليه في الستينيات حين اتُّهم
لاكان بعدم التكيف مع
شفرة الممارسة الجديدة التي
قدمتها الرابطة الدولية للتحليل النفسي (
IPA)، وتضمن
للمريض أن يكون الوقت الذي تستغرقه الجلسة ثابتًا. وفي السنوات التالية، بقي الاختلاف
في طول زمن الجلسة، وما زال السمة المميزة للتحليل اللاكاني، وكانت هذه القضية الواضحة
والمعلنة وراء قرار «عزل» لاكان من الرابطة الدولية للتحليل النفسي في عام ١٩٦٣م.
٩
اتخذ نقادُ لاكان، في الرابطة الدولية للتحليل النفسي، من ممارسته الإكلينيكية علامةً
لقياس كفاءته كمدرب في مجال التحليل (لم يتساءل أحد
مطلقًا عن حقه في أن يكون محللًا). وكانوا أكثر حذرًا أمام كتاباته، لدرجة اللامبالاة،
وربما كان علينا أن نقول لدرجة التجاهل التام.
كان سيمينار لاكان الأسبوعي سرَّ شهرته، وبحلول منتصف الخمسينيات كانت نسخة لاكان
عن
التحليل النفسي هي النسخة التي يعتدُّ بها في فرنسا، كما يتضح ذلك من كتابات ميشيل فوكو
١٠ وبول ريكور.
١١ ولم يكن السيمينار مجرد البؤرة الأساسية لدارسي التحليل والمحللين الشباب
في الجمعية الفرنسية للتحليل النفسي
SFP، ولكنه أصبح
مركز الجاذبية لعدد من المفكرين من ذوي الاهتمامات المختلفة، من بينهم لويس ألتوسير
Louis Althusser، وفيليب سولير
Philippe Sollers، وجوليا كرستيفا
Julia Kristeva. وفي عام ١٩٦٣م، اضطُر لاكان تحت
ضغط الأزمة المتعلقة بوضعه في الجمعية الفرنسية للتحليل النفسي إلى وقف نشاط السيمينار
في مستشفى سانت آن، ولكنه بدأ نشاطه بعد شهرين في إيكول نورمال
Ecole
Normale، أمام خمسمائة مستمع. وبحلول منتصف الستينيات كان
السيمينار يُعقَد في كلية الحقوق أمام ما يربو على ألف شخص، وصارت الزيارة المنتظمة
لسيمينار لاكان جزءًا أساسيًّا من
الحياة
العامة vie
mondaine في باريس.
ومهما يكن فقد تحركت مبادئ لاكان أمام أتباعه دائمًا، ليس لمجرد أن تسبق كلاب ديانا،
كما صوَّرها،
١٢ ولكن نتيجة التذبذب الجدلي في أفكاره أيضًا. كان لاكان معلمًا في المقام
الأول، ثم يأتي بعد ذلك دوره كمُنظِّر. وإذا كان ينزع إلى التلميح نزوعًا ذاتيًّا حين
تأتي الفرصة مباشرةً في الجلسة الأسبوعية حيث كانت ترد بدون إعداد، فقد مارس هذا
التلميح أضعافًا مضاعفة في كتاباته. انبثقَت كل هذه الكتابات تقريبًا عن جلسات
السيمينار، وعن المحاضرات التي كان يُدعى لإلقائها، وعن المؤتمرات، ولكنها كانت تُنقَّح
بعد ذلك وتُكثَّف تكثيفًا شديدًا أثناء الكتابة، وتتضاعف الإشارات ويزداد التعقيد
التركيبي والغموض. كان لاكان سيد الحوار. وقد صرَّح بأنه الإنجاز الجوهري للمحلل. إنه،
كمُحاورٍ بارع، لم يستعد خطواته إطلاقًا ليكرر نفسه، مثلما يشعر المدرس بالاضطرار إلى
ذلك، ولكنه كان يستعيد خطواته ليرى طريقه بصورة أوضح. إن لاكان المدون في السيمينار
أقرب ما يكون إلى ساحر الكلمة التي وجد فرويد نفسه يضعها،
١٣ وتبرزه الكتابات اللاكانية أحيانًا باعتباره قبلانيًّا
cabalist [القبلانية
cabala: فلسفة دينية سرية، عند أحبار اليهود وبعض
نصارى العصر الوسيط، مبنية على تفسير الكتاب المقدس تفسيرًا صوفيًّا. (المترجم، عن
المورد)] وخيميائيًّا
alchemist [الخيميائي أو المشتغل
بالكيمياء القديمة التي كانت غايتها تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب. (المترجم)]
يشير لاكان بكثرة إلى المحاضرات التي افترض فرويد أنه يجب تدريسها في أي معهد لتدريب
المحللين النفسيين في المستقبل: دروس في تاريخ الأدب وفقه اللغة وتاريخ الأديان والميثولوجيا.
١٤ وقد وضع لاكان مفهوم فرويد للتدريب التحليلي، المضاد للطب على نحو صريح، في
مواجهة التأكيدات النشتية
Nachtian [نسبة إلى ساشا نشت،
وقد ورد ذكرها في الصفحات السابقة. (المترجم)] السائدة في عصره، في العبارة التي يصدر
بها تقرير روما: «بيولوجيا أعصاب الإنسان»، وهو المفهوم الذي تأسَّس عليه
المعهد الفرنسي الجديد في عام ١٩٥٣م وفجر الانقسام في جمعية
باريس للتحليل النفسي (
SPP). وقد سعى سيمينار لاكان،
إضافة إلى تأثيره على برامج التدريب في الجمعية الفرنسية للتحليل النفسي
(
SFP)، إلى وضع هذا المفهوم الفرويدي موضع التنفيذ.
ومن ثَم، وُجِّهت الدعواتُ إلى ضيوف من بينهم أشهر الفلاسفة والأنثروبولوجيين واللسانين
الفرنسيين من خارج الجمعية للحديث في الموضوع العام «التحليل النفسي والعلوم
الإنسانية». وقد ضم
السيمينار الثاني هذه الأحاديث
التي دارت في ١٩٥٤-١٩٥٥م. والتزم لاكان في السيمينار بالإبقاء على التحليل النفسي
مفتوحًا أمام التأثيرات الجديدة وتحديات المفاهيم، سواء كان مصدرها العلوم الدقيقة
exact sciences، أو الفلسفة، أو التراث الثقافي
المتميز من كتابات الشعراء أو الأخلاقيين أو الصوفية. وهنا يكمن السر في تفرد لاكان
كمحلل: كان أول محلل منذ فرويد يحشد مصادر الثقافة كلها لإنارة بيته التحليلي.
إن أي مطلع على لاكان يدرك السرعة التي كان يغير بها نظرياته، جاء السيمينار في
السبعينيات مختلفًا تمام الاختلاف عما كان عليه السيمينار في الستينيات وأكثر بعدًا عن
لغة السيمينار في الخمسينيات، إلا أن كل سيمينار يتكون من مجموعة من الموضوعات يعود
إليها لاكان على مدار السنين، ولم يتغير الإطار الأساسي للسيمينار. أولًا: كانت نصوص
فرويد أو مفاهيمه الموضوع الحقيقي لاهتمام الجماعة، مع أن المقاربة كانت تتم باستمرار
من زاوية غير متوقعة (وهكذا يتم في السيمينار الأول
شرح الأسئلة المتعلقة بالتقنية كجزء من تعليق مسهب على نظرية النرجسية، ويتم في
السيمينار الثاني تناول مسألة الأنا بقراءة
المشروع [مشروع سيكولوجيا علمية. (المترجم)]
ووراء مبدأ اللذة لفرويد). ثانيًا: نجد أن مستوى
الإبانة قد تحقق بإيضاحات لاكان النظرية إذا قيس هذا المستوى بمدى انجذاب الدارسين
والحواريين إلى دروسه (هكذا لا يسلِّم لاكان في السيمينار
الأول بصحة مرحلة المرآة إلا ليتمكن من انتقاد الإفراط في استخدامها
خاصة على أيدي الدارسين الذين فتنتهم دروسه، ورسخ في السيمينار
الثاني جدل الأنا والآخر رسوخًا يكفي لتقديم الجدل الجديد عن الذات
والآخر Other). أخيرًا: رجع لاكان باستمرار إلى مجموعة
ثابتة نسبيًّا من نقاط التثليث أو المسائل الثقافية والتصورية دائمة العطاء: الذات
الديكارتية ومنهج الشك، أهمية الحقيقة والكذب والخداع بالنسبة للمحلل، التأثير الضار
للفكرة التحليلية المثالية عن «أنا قوية»، علاقة التحليل النفسي بالتراث الفلسفي، سواء
أكان كلاسيكيًّا (الفلسفة القديمة وفلسفة القرن الثامن عشر)، أم أخلاقيًّا (لا روشفوكو
La Rochefoucauld بلتزار جرسيان
Baltasar Gracián وفردريك نيتشه)، أم منطقيًّا
(راسل وفيتجشتاين Wittgenstein وتارسكي
Tarski)، بالإضافة إلى عدد آخر من النقاط المرجعية
الثابتة. ويحتوي كل سيمينار، بالطبع، على دليل أمام أسماعنا، إذا جاز التعبير، عن قوة
اللغة: تأثيرها على كلام المحلل، وعلى التباس الرمز وتألقه الباهر، وعلى منطق
الحوار.
وكان «تقرير روما» بداية كتابات لاكان التي وضعت اللغة والكلام في مركز اهتمامات
المحلل النفسي، وكان نثره الرائع احتفاءً بهذا التوجه الجديد.
١٥ وثَمة مقولتان، أو صيغتان، يقدمان فهمًا واضحًا لمشروع لاكان: «يُبنى
اللاشعوري كلغة»، «اللاشعوري خطاب الآخر». ويمكن تمييز عدد من المستويات المختلفة في
هذا المشروع؛ المستوى الأول: الكلام مادة العمل في التحليل النفسي، الكلام هو ما يتيح
صياغة مفاهيم العمليات التي اكتشفها فرويد في الحلم وزلات اللسان والنكات. وبحلول عام
١٩٥٥م، كان لاكان قد برهن، مقتفيًا خطوات ياكبسون، على أن التكثيف والإزاحة عند فرويد
بديلان لعمليتَي الاستعارة والكناية، وهما عمليتان مؤثرتان في اللغة.
المستوى الثاني: يدل اكتشاف فرويد لرمزية الأعراض (رموز تتعلق بالذاكرة)، وتمثيلها لأفكار وذكريات مكبوتة، على أن الأعراض (ومن ثَم
اللاشعوري) تُبنى لغويًّا، ويوجد مفتاح معناها، كما يوافق المحللون جميعًا، في عملية
الإحالة transference، وهي عملية يُترجِم فيها خطابُ
المريض ببطء الأعراضَ والخوافاتِ وأنماطَ السلوك وسمات الشخصية، يترجمها إلى كلام
يُوجَّه إلى المحلِّل ويُورطه. وهكذا يُنظَر إلى المحلل بوصفه الشاهد على بوح المريض،
أو بوصفه الآخر الذي استُحضر إلى الوجود بواسطة اللغة. إن ما يقوله المحلل في الرد،
بقدر ما يكون اكتشافًا موفقًا أو غير متوقع، ويكون له تأثير على المحلَّل ويستحوذ عليه (يجلب الضحك أو الدموع، يجافي أو
يواسي)، يمثل معنى اللاشعوري: اللاشعوري هو خطاب الآخر.
أكَّد لاكان، باستخدام نظرية لغوية انبثقت جزئيًّا من أعمال هيجل
١٦ وهايدجر، بالإضافة إلى بنيوية فرديناند دي سوسير ورومان ياكبسون وكلود ليفي
شتراوس، على بنية العناصر اللغوية التي تحدد المادة التي يقدمها المرضى للتحليل، ويجب
رؤية التفسير والتحليل في تأثيرهما المتزامن في العناصر اللغوية التي تميز كل مريض،
وبتعبير آخر، في العناصر اللغوية التي تُفقَد وتُشوَّه وتُبدَّل في عملية بناء الأعراض
من ناحية، وذاتية المريض كمتحدث من الناحية الأخرى.
ومهما يكن الأمر فقد شكك لاكان في توازي نسقَي الدال والمدلول اللذين يكونان اللغة
في
رأي سوسير. وأكَّد، بدلًا من ذلك، على أسبقية الدال في تحديد المعنى. قد يؤدي اللعب
بالكلمات إلى بناء عرض محتمل؛ مثلًا، يتم التعبير عن بغض رتمان
Ratman لرجل أمريكي في سلوك قهري يهدف إلى إنقاص
الوزن بالمعادلة: دك Dick (اسم الرجل) = دك dick (بدين
بالألمانية). ومع أنه ركَّز على السمات الأساسية
للنسق اللغوي، إلا أن تأكيده عليها كان أقل من تأكيده على العلاقة الديناميكية بين الذات والكلام الصادر عنها، وقد ميَّز
بداية من نظريته عن مرحلة المرآة ومفهوم الخيالي الملازم لها، ميَّز بين الأنا (وحدة بناء خيالية) والذات، التي ترتبط بعلاقة معقدة مع الأنا والآخر
other (النظير الخيالي للأنا) والآخر Other: مبدأ الآخرية
otherness الذي يفترضه سلفًا أيُّ نشاط كلامي، وهذه
الأخيرة، أي كلمة «الآخر الكبيرة»، تحمل الشفرة
اللغوية وتكفل المعنى، وهي الطرف الثالث في أية علاقة ثنائية، سواء أكانت تحليلًا أم
عشقًا. وهذا الآخر يكفل كلام الذات، حتى لو كان
الكلام يهدف أساسًا إلى الكذب على الآخر، إلا أنه يشوه ويبدل في بنية فنتازية، تسود
فيها الأنا وعلاقتها (الفنتازية) بموضوعاتها، ومن ثَم تكون علاقة الذات بالآخر هي خط اللاشعوري الرئيسي الذي يسعى التحليل إلى
تنقية الطريق أمامه، إلا أننا نلاحظ أن مفهوم الآخر لا يُذكَر، صراحة على الأقل، في
السيمينار الأول، ولم يظهر إلا في السيمينار الثاني.
مضى تطور هذه النظريات خطوةً خطوة مع «عودة» لاكان، العودة الشهيرة «إلى فرويد».
كان
المحللون جميعًا يقرءون فرويد ويناقشونه ويستشهدون به، إلا أن لاكان أضفى على هذه
القراءة خاصية جديدة تمامًا.
١٧ وبينما كان عدد كبير من المحللين، خاصة الذين تدربوا في بريطانيا وأمريكا،
يستشهدون بفرويد وكأنه سلطة علمية توصلت إلى نتائج علينا أن نبني عليها مستوًى آخر من
النظريات، أو مستوًى آخر من الحقائق الدقيقة، اقتنع لاكان بأن التحليل النفسي لا يمكن
أن يبتدع من جديد، كلما عقد المحلِّل والمحلَّل اتفاقيةً بينهما، إلا بتكرار
الأعمال الافتتاحية المدونة في كتابات فرويد وإعادة فحصها.
إن قراءة فرويد تتوقف على نظرية العلاقة التحليلية؛ أي على التحليل النفسي. إنها لا
تماثل قراءة الطبيعة، وبدلًا من قراءة فرويد بطريقة العالِم، بيَّن لاكان الطريقة التي
على المحلل النفسي أن يقرأ بها فرويد، إنها الطريقة التي يقرأ بها الناقد الأدبي شكسبير
أو يقرأ الفيلسوف بها أفلاطون. لا يمكن اقتلاع جملة من سياقها، إنها تكتسب المعنى من
السياق. لا يمكن قراءة بحث بدون التحقق من المشكلة التصورية الأكثر شمولًا، أو من
الصعوبة العملية، التي يمثل إجابة لها. وكان يسأل دائمًا: ما تأثير التحليل النفسي في
هذا النص؟ ومن ثَم يتضح، بتضفير نظريات لاكان الخاصة في كل خطوة مع قراءات فرويد، كيف
كان لاكان يقدم الجديد في مسائل موجودة في أعمال فرويد مقتفيًا الطريق التي سبق أن
وطئها فرويد. وهكذا، ترتبط مرحلة المرآة ارتباطًا وثيقًا بمفهوم النرجسية عند فرويد،
وبمفهوم أن الأنا والحب كليهما نرجسيان بصورة أساسية. أو، لنأخذ مثالًا آخر لهذا
التضفير، لقد أكد لاكان على مفهوم
Nachträglichkeit (الفعل المؤجل)، والعلة
الاسترجاعية الحقيقية للاشعوري، والنتيجة الأساسية لمجموعة الدوال التي تصنعه. ويقرأ،
بالمثل، ما كتبه فرويد عن أصل المجتمع والقانون في
الطوطم
والتابو كأسطورة تؤكد على الوظيفة الجوهرية للأب في تكوين ذات الإنسان.
وبالمقارنة مع أصحاب النظريات التحليلية الحديثة التي تؤكد على المرحلة التي تسبق بروز
علاقة الأم بالطفل (قبل الأوديبية، قبل الجنسية)، يؤكد لاكان على مركزية تاريخ العقدة
الأوديبية الثلاثية بالنسبة للذات، حيث تكون وظيفة الأب جوهرية وأسطورية؛ جوهرية حيث
إن
الأب يمثل القانون، قانون اللغة (الخالي من المعنى) في المقام الأخير، ويقدم المصطلح
الثالث أو الوظيفة الوسيطة التي تتيح للطفل العثور على مكان في النظام الرمزي (اللغة)
والهروب من الزقاق المسدود، زقاق الافتتان بصورة مرحلة المرآة (الآخر)، التي تدرك في
الفنتازيا كافتتان بالأم، وأسطورية؛ لأن وظيفة الأب مجازية تمامًا. إنه ليس أبًا
حقيقيًّا (من لحم ودم) أو أبًا خياليًّا (مع أن هذه الصورة الأخيرة تتشكل في الفنتازيا
على هيئة قوة عقابية مثالية)، ولكنه
اسم الأب
Name of the Father، مع اسمه يتحدد
مكان الطفل في العالم الاجتماعي، ويتاح له أن يصبح كائنًا له جنس عبر الوظيفة القضيبية
(أي علامة الاختلاف الجنسي) التي يشير إليها
اسم
الأب.
وهكذا تكون كتابات لاكان عن دخول الطفل إلى
الرمزي
بواسطة الوظيفة الأسطورية للأب نسخة منقَّحة عن عقدة أوديب في كتابات فرويد. إن عقدة
أوديب تبين كيف يصبح للأطفال جنس (عبر عدد من الاستجابات للحرمان من القضيب) وكيف
يصبحون بشرًا (بالهروب من أمِّ مرحلة المرآة، التي يجعل عدم اكتمالها إحساس الطفل
بالنقص إحساسًا فظيعًا، إلى
الرمزي، حيث يكتسب النقص
بعدًا رمزيًّا عبر تولد الرغبة). ويواصل لاكان بثلاثية المفاهيم التي تناسب كل مجال
(الحاجة/الواقعي، الاحتياج/الخيالي، الرغبة/الرمزي)، الثلاثية التي تناولها بالتفصيل
في
السيمينار في أواخر الخمسينيات، يواصل نقده لتلك النسخ بين نظرية التحليل النفسي التي
تساوي بين مفهوم فرويد للدوافع والحاجة المحددة بيولوجيًّا، مبرهنًا على أن الواقع
الحقيقي للفعل التحليلي هو عالم الرغبة، الذي تخلقه اللغة محولةً الحاجة إلى رغبة في
الاستجابة لاحتياجات الآخر (الأم) (
mother)
١٨ للحب. إن الرغبة، مثلما هو الحال بالنسبة للدافع الفرويدي، لا يتم إشباعها
أبدًا، وتتواجد، ويتم استبدالها وتحويلها باستمرار، إلا أن لاكان يعارض من ينكرون نظرية
الدافع عند فرويد باسم «علاقات الموضوع» (مريوري بريرلي
Marjorie
Brierley، ورونالد فيربرن
Ronald
Fairbrain، و«المدرسة البريطانية»)، كما يعارض من يقولون بتماثل
الدافع والحاجة. وقد برهن لاكان في الواقع على أن منظِّري علاقات الموضوع أنكروا غالبًا
ما أطلقوا عليه نظرية الدافع؛ لأنهم
افترضوا بتهورٍ
أنها ساوت بين الدافع والحاجة، وكانت قراءات لاكان لفرويد تصويبًا لهذه الفرضيات الفجة
التي تفتقر إلى تفسير، ويحتوي
السيمينار
الأول والسيمينار الثاني على معظم
المناقشات التي تتناول هذا النقد المزدوج، حيث قتل لاكان أبحاث هؤلاء وغيرهم من
المنظرين التحليليين بحثًا ليبرهن على أن نظرياتهم وممارستهم تؤدي إلى دروب
مسدودة.
وبعد ذلك وابتداءً من منتصف الستينيات، ركَّزت نظريات لاكان على العلاقات بين الدال
والذات والآخر و«الموضوع
الصغير أ objet petit
a»، (وهو مفهوم ارتبط بالآخر في مرحلة المرآة من
ناحية، وارتبط، من الناحية الأخرى، بالموضوعات المفضلة في الدوافع الفرويدية: الثدي،
البراز، البول، القضيب، وأضاف لاكان إليها الصوت والتحديق). وانصبَّ اهتمامه على تحديد
الخواص الأساسية في الخطاب التحليلي، امتدادًا لتأكيده على الكلام كوسطٍ تحليلي فريد
في
تأثيره. وتزايد توغل الجانب اللغوي من تدريسه في لغة الرياضيات، بما في ذلك تعريف خواص
«الفضاءات» المتنوعة التي تفترضها نظرية التحليل النفسي (على سبيل المثال،
الخارج/الداخل، الشعوري/اللاشعوري)؛ لكن السلاسل الدالة على الرغبات والاحتياجات لا
ترتبط معًا بواسطة الذات في فضاء اللاشعوري فقط، المميز عن الشعور والمتصل به (ومن ثَم
يمثل تمثيلًا جيدًا بسلسلة موبيوس Mobius strip) [شكل
ثلاثي الأبعاد يمكن تكوينه من ورقة مستطيلة بعد طيها وتوصيل طرفيها. (المترجم)] ولكنها
ترتبط أيضًا في عقدة بروميو [Borromean knot: نسبة إلى
عائلة بروميو، مجموعة من ثلاث دوائر مرتبطة معًا بحيث تنفصل إذا قُطعت أيٌّ منها.
(المترجم)] وقد عزز الارتباط الوثيق بالرياضيات (دراسة الرموز ونظرية الأرقام) والفلسفة
(نظرية المعرفة والمنطق) هجومه على «السيكولوجزم
psychologism» [نظرية تستخدم المفاهيم السيكولوجية
لتفسير الأحداث التاريخية. (المترجم)]
وفي هذه المرحلة أصبح تفكير لاكان أكثر عُرضة للترديد الببغاوي والمحاكاة الساخرة،
كما يتضح في الكثير من كتابات تابعيه. وافترض، مع تكاثر الخطابات اللاكانية داخل
المدرسة الفرويدية Ecole Freudinne في باريس (أسَّسها
لاكان في عام ١٩٦٤م، حين تمزَّقت أوصال الجمعية الفرنسية للتحليل النفسي
(SFP) في محاولة للتوفيق بينه وبين الرابطة الدولية
للتحليل النفسي (IPA) خارجها) افترض نظرية من أربعة
خطابات، وهي نظرية غامرت بتوضيح الطريقة التي نشأت بها المحاكاة الساخرة والترديد
الببغاوي، وصارت خطابات الهستيري وخطاب السيد مملة وسخيفة في الخطاب الأكاديمي discours
universitaire. وفي النهاية، في أواخر السبعينيات
وأوائل الثمانينيات، ما عاد أحد يعرف بأي خطاب تحدَّث جاك لاكان نفسه. وكما قال
أحيانًا، كان يقوم بالتحليل في سيميناره، وكان جمهوره محللين له. وبعد الانهيار النهائي
للمدرسة الفرويدية بتسعة عشر شهرًا، كتب رسالة إلى لوموند Le
Monde افتتحها بالكلمات الآتية: «أنا، جاك لاكان، وحيد كما كنت
دائمًا …» ومات في ٩ سبتمبر عام ١٩٨١م.
III
جاك لاكان والتحليل في اللغة الإنجليزية
١٩
يتطلب الأمر التعليق على علاقة لاكان بالتحليل في اللغة الإنجليزية. ومن الشائع حتى
الآن في المناقشات التي تدور حول لاكان ألا يُذكَر اسمه إلا ليُرفَض بوصفه مهووسًا
ومشعوذًا. وإذا وضعنا الاقتناع بهذه الفرضية في الاعتبار، فلا يمكن إلا نقول إن قراءته
مستحيلة (ومن ثَم فهو مشعوذ)، ولا تكمن أهميته إلا في خطورته، بسبب وجود أتباعه
المتملقين الذين ينشرون نظرياته الحمقاء، ويُشوهون فهم العامة لحقيقة التحليل النفسي.
إن حقيقة أنه فرنسي، وحقيقة أنه يكتب نثرًا صعبًا بأسلوب شديد الخصوصية، تؤخذان كدليل
قاطع وبديهي على عدم أهميته.
إن نقدًا من هذا الطراز لا يحتاج، عادة، إلى رد. إنه نقد لا يليق إلا بالمؤرخين
وعلماء الاجتماع ذوي النزعات الشيفونية المتحجرة. وبالإضافة إلى ذلك، يبدو واضحًا أن
المجلدين اللذين يضمان سيمينار لاكان، وتُطبع ترجمتهما الإنجليزية الآن في مطبعة جامعة
كمبردج، يحملان ردًّا كافيًا، إلا أنه يبقى ما يقال عن العلاقة بين لاكان ومدرسته —
والمحللين الذين أثَّر فيهم — وسياق أولئك الذين يعملون في اللغة الإنجليزية، سواء أكان
السياق تحليليًّا أم غير تحليلي.
«إننا، في فرنسا، لاكانيون تمامًا، بالضبط مثلما نحن فرويديون تمامًا.» هذا ما قيل،
في تقديم ندوة دولية عن التحليل النفسي، على لسان جويس ماك دوجال Joyce
Mac Dougall، وهو محلل من الناطقين بالإنجليزية يقيم في فرنسا.
ورأيٌ من هذا القبيل لا يمثل إعلانًا عن الالتزام بالولاء، إنه اعتراف بحقيقة أن أي
محلل يعمل في اللغة الفرنسية، في السياق الثقافي الفرنسي، بتاريخه الفريد، لا يمكن إلا
أن يكون لاكانيًّا، حتى اللغة الفرنسية لاكانية.
افتح قاموسًا فرنسيًّا معتمدًا Petit
Robert، وهو قاموس بمثابة Shorter Oxford English Dictionary،
وافتحه على مادة Symbolique [الرمزي]، ستجد تحت صيغة الاسم المذكر:
Specialt. Psychan. “L’order des
phénomènes auxquels la psychanalyse a à faire en tant qu’ils sont structurés
comme un langage” (LACAN).
[«اختصاصي. تحليل نفسي. «نظام الظواهر التي يتعامل
معها التحليل النفسي طالما تُبنى كلغة». (لاكان)]
وستجد إشارات أخرى للاكان الذي يُقدَّم هنا، وعليك أن تلاحظ ذلك، كسلطة لغوية على نحو
قاطع. ومن المستبعَد أن يحارب محلل نفسي يقوم بتحليل الناس جميعًا ضد ما تقبله
اللغة.
والأهم من ذلك أنه بينما لا ينتمي كثير من المحللين، وربما معظمهم، إلى مدارس تعتنق
نظريات لاكان صراحةً، وبينما يودُّ كثير من المحللين الذين قضوا سنوات طويلة في التدريب
طبقًا للخطوط اللاكانية أن يضعوا مسافةً كبيرة بينهم وبين الذين يعلنون أنهم لاكانيون،
مسافةً كتلك التي بينهم وبين معظم المحللين الأمريكيين المتعصبين، إلا أن هؤلاء
المحللين جميعًا يودون شيئًا ويفعلون شيئًا آخر، وفي الظروف المبشرة على نحو مناسب ما
زالوا يقدمون أنفسهم بوصفهم لاكانيين.
وهذه القدرة على الانشقاق والإنكار ليست جديدة على التحليل النفسي. وليس على المرء
إلا أن يتأمل سلوك عدد كبير من المحللين البريطانيين في عملية التفاهم الخاصة بانشقاق
ميلاني كلاين/أنَّا فرويد في الجمعية البريطانية منذ الأربعينيات، هناك، كان الجانبان
كلاهما «فرويديين»، إلا أن النزاع المذهبي يظهر في الوقت نفسه بصورة مطلقة أمام
المشاركين، ويبدو وكأنه نتيجة لفجوات لا يمكن تجاوزها، ولكن الأمر يختلف عما كان عليه
الوضع في حالة لاكان، حيث لم ترغم ميلاني كلاين أو أنَّا فرويد على ترك الرابطة الدولية
للتحليل النفسي؛ مع أن الإشاعات، وليست الكتابات التاريخية الوافية، تقول إن الأمور
اقتربت من ذلك في لحظة من اللحظات، إلا أن هذا ربما حدث في ظروف تاريخية فريدة وخاصة
حيث كانت جماعة راسخة، تشكِّل العمود الفقري لجمعية قومية، وتمنحها شكلها المميز، وتأتي
جماعة من الخارج لتعيش تحت السقف نفسه وتنازعها. يضاف إلى ذلك أن هذه الجماعة القادمة
من الخارج تتمتع بخاصة فريدة تتمثل في اسم أبي رائدتها. وفي مثل هذه الظروف، كان من
المستحيل استبعاد إحداهما من الرابطة الدولية للتحليل النفسي. وليس هذا هو الحال في
خلافات ومناوشات أقل شهرة. من يحظى الآن بأهمية أكبر في نزاعات جمعيتَي التحليل النفسي
الأمريكيتين المرتبطتين باسمَي ساندور رادو Sandor Rado
وجوليس مازرمان Jules Massermann؟
وطبقًا لكل التعليقات، لم يكن للانشقاق الأصلي في الجمعية الفرنسية، أي انشقاق عام
١٩٥٣م، علاقةٌ كبيرة بشخصية لاكان أو بشخصه، إلا أن بعض آرائه عن أسلوب معاهد التدريب
على التحليل النفسي لعبت دورًا مهمًّا في الصراع، إلا أن القضية انحسرت على نحو متزايد
في الفترة من عام ١٩٦١م إلى عام ١٩٦٤م في مشكلة واحدة لا تقبل الحل؛ مسألة شخص لاكان.
وأخيرًا جاء الإنذار: لن يُسمح للمحللين الفرنسيين في الجمعية الفرنسية للتحليل النفسي
بالانضمام إلى الرابطة الدولية للتحليل النفسي إلا إذا وافقوا على حذف اسم لاكان من
قائمة المحللين القائمين بالتدريب. وكان البند الثالث عشر، كما هو معروف، يتطلب أن تقوم
الجمعية الفرنسية للتحليل النفسي ببتر اسمَي لاكان وفرانسوا دولتو
Françoise Dolto من قائمة المحللين المدرِّبين. وقد
عنَّ للمفاوضين وهم على درج الطائرة، ربما كفكرة أخيرة، أن يعودوا من إدينبرج إلى باريس
ليكتبوا تقريرًا عن نجاح المفاوضات. كان الأمر بمثابة غصة في حلوق الكثير من المحللين
الفرنسيين، هل يقومون ببتر اسم المحلل الذي قام بتحليل عدد كبير منهم، وأشرف على تدريب
عدد أكبر، وكان سيميناره حجر الزاوية في تعليمهم التحليلي؟ وارتدى البعض، في الواقع،
قناع كاسيوس Cassius المعروض عليهم. ذهبَ لاكان،
محرومًا من الكنيسة، كما قال، وذهب معه احتمال بقاء الجمعية الفرنسية للتحليل النفسي
على قيد الحياة، وحينذاك وُلد أول معهد للتحليل النفسي يرتكز على شخصية لاكان البارزة:
المدرسة الفرويدية في باريس.
ولمن يريد فهم ظاهرة لاكان التي استحوذت على قطاع كبير من الإنتلجنسيا الفرنسية،
يوجد
عملان مطبوعان بالإنجليزية: سياسات التحليل
النفسي Psychoanalytic
Politics من تأليف شيري توركل
Sherry Turkle، وهو عمل طموح في علم الاجتماع،
وحياة جاك لاكان
ومفاتيحه The life and
legends of Jacque Lacan من تأليف كاترين كليمن
Cathérine Clément، وهو عمل متجانس على نحو رائع،
حيث إنه جاء نتيجة لسنوات طويلة من الاطلاع على ظاهرة لاكان. في أوائل الخمسينيات بدا
كل شيء وكأنه زوبعة في فنجان، في عام ١٩٥٢م كان عدد الدارسين الذين يحضرون سيمينار
لاكان خمسة وعشرين، وكان فخورًا بعدم تناقص العدد بمرور الوقت في ذلك العام، وكان عدد
المحللين المسموح لهم بالمشاركة في الاقتراعات الحاسمة التي أدت إلى انقسام ١٩٥٣م أقل
من عشرين. وبعد ثلاثين عامًا، حين مات لاكان، خصَّصت الصحف الفرنسية اليومية تسع صفحات
لتغطية الحدث. وبين هذين العهدين المختلفين، قدَّم لاكان سيميناره. وساعد أيضًا على
تأسيس جمعية للتحليل النفسي كان لا يمكن أن تبقى على قيد الحياة، سواء به أم بدونه،
وأسَّس أخرى، وتقدَّم وحده بعزم ليحلها قبل وفاته بتسعة عشر شهرًا، لكن تأثيره على
قضايا التحليل النفسي كان منعدمًا من الناحية العملية خارج فرنسا طبقًا للتقرير الرسمي
للرابطة الدولية للتحليل النفسي، إلا أنه يحدث الآن، في بريطانيا وأمريكا وأستراليا وفي
كل مكان من البلاد الناطقة بالإنجليزية، ناهيك عن التأثيرات الأكبر والأسرع في إيطاليا
وإسبانيا وأمريكا الجنوبية، نموٌّ متزايد لثقافة تحليلية تسيطر عليها الأفكار والشعارات
اللاكانية، لكنها ثقافة لا تساهم في تأهيل المحلل النفسي لاعتراف الرابطة الدولية.
اضطُر لاكان إلى إقامة حانوته «في الخارج». ويبقى أن على حركة التحليل النفسي الدولية
أن تتصالح مع ذلك الاضطرار ونتائجه.
وإذا كانت هناك وسيلة واحدة ليفهم بها المحللون النفسيون لاكان، فهي بالتأكيد نسخ
الدروس التي قدمها للمحللين تحت التدريب في كل عام منذ ١٩٥٣م، وهذا السيمينار مشغول
باستمرار بأسئلة عن التقنية والمناهج، وبإيضاح المجادلات النظرية المضطرمة يوميًّا
بصورة مباشرة في الجلسة التحليلية. وبالنسبة لغير المحللين، ربما يقدم السيمينار شيئًا
يمكن أن يضاهي محاضرات تمهيدية لفرويد، شيئًا أيسر
منالًا، وأكثر جاذبية، وأكثر إغواءً، حتى من كتاباته الأخرى، إلا أنه شيء شديد الأصالة:
المحلل النفسي في محادثة، حين يكون في البيت، أو حين يجب أن يكون فيه.
IV سيمينار لاكان
الكتاب الأول: أبحاث فرويد في التقنية ١٩٥٣-١٩٥٤م
أدار لاكان سيميناره كجزء أساسي من برنامج التدريب في الجمعية الفرنسية للتحليل
النفسي، وكان العنوان العام «سيمينار وتعليق على نصوص فرويد». ويعالج السيمينار الأول كتابات فرويد عن التقنية، إلا أن اهتمامه
لا يقتصر على كتابات فرويد المعروفة للقراء في الطبعة المحققة تحت ذلك العنوان (أي
مجموعة الأبحاث التي يضمها المجلد الثاني عشر، تحت العنوان العام «أبحاث في التقنية»،
بما في ذلك أربعة أبحاث جُمعت معًا بعنوان «وصايا في تقنية التحليل النفسي»)، لكنه
يتناول أعمال فرويد بصورة أوسع، خاصةً تلك الأبحاث التي تنتمي للفترة الانتقالية المهمة
التي بدأت بمفهوم النرجسية. ويهتم السيمينار الثاني
بموضوع الأنا في نظرية فرويد والتقنية التحليلية. وتتم ترجمة السيمينار الثالث إلى الإنجليزية أيضًا، وهو يطور نظرية الأنا والخيالي
والرمزي، ويشرح، في إسهاب شديد، حالة شريبر Schreber
والنظريات التحليلية في الذُّهان. وفي عام ١٩٨٦م، طُبع في فرنسا سيمينار آخر ينتمي إلى
الخمسينيات: الكتاب السابع: أخلاقيات التحليل النفسي،
١٩٥٩-١٩٦٠م Livre VII.
L’Ethique de la Psychanalyse 1959–1960، يهتم
بأخلاقيات التحليل النفسي، والمحلل، ويبدأ بالتأمل في الأخلاق
النيقوماخية Nicomachean
ethics لأرسطو، وأنتيجون لسوفوكليس، والماركيز دي ساد.
ومن المهم أن نؤكد على أن هذا السيمينار كان موجهًا إلى المحللين تحت التدريب. ومن
هنا انبثقت البؤرتان اللتان اهتم بهما دائمًا: الأسئلة التقنية (ماذا يفعل المحلل؟ ماذا
على المحلل أن يفعل؟ ماذا فعل المحللون (ماذا نفعل حين نحلِّل)؟)
٢٠ والاهتمام بالنظرية التحليلية المعاصرة، بترابطها النظري ونتائجها بالنسبة
للأسئلة المتعلقة بالتقنية. وفي الخمسينيات، كان لاكان يتوجه إلى محللي المدرسة
البريطانية بصورة أساسية من بين المحللين النفسيين المعاصرين الذين توجَّه إليهم. قد
تعامل مع البريطانيين باهتمام يربو بكثير (ودرَسهم بصورة أكثر تعاطفًا) عن اهتمامه
بالأمريكيين. يحتوي
السيمينار الأول على مناقشات
مسهبة لأعمال أنَّا فرويد وميشيل بلنت وميلاني كلاين؛ وبالمثل، يخضع موضوع علاقات
الموضوع لمناقشات واسعة في
السيمينار الثاني، وتفحص
أعمال رونالد فربرين فحصًا دقيقًا. وفي الحقيقة، كان لاكان يميل في أعماله إلى وضع
التحليل الأوربي في مواجهة التحليل الأمريكي، واقتصرت تعليقاته اللاذعة في معظمها على
المحللين الذين لجئوا إلى أمريكا مهاجرين، ونسوا المعنى الحقيقي لاكتشاف فرويد وهم
يكافحون حتى «يتكيف» التحليل النفسي مع طرق غريبة على تقاليد الثقافة الأوروبية.
في سبتمبر ١٩٥٣م، طرح لاكان في «تقرير روما» ثلاث مسائل تواجه التحليل النفسي المعاصر:
٢١
-
(أ)
وظيفة الخيالي، وخاصةً مسألة الفنتازيا ومكانتها الرمزية (وتصاغ هذه
المسألة وكلاين في الذاكرة).
-
(ب)
علاقات الموضوع الليبيدي (ومنظرو «علاقات الموضوع» في الذاكرة).
-
(جـ)
الإحالة العكسية counter transference
[الإحالة transference: هي إسقاط مشاعر المريض
وأفكاره على المعالج أو المحلل. والإحالة
العكسية: هي إسقاط مشاعر المعالج أو المحلل، الشعورية
واللاشعورية، وأفكاره على المريض. والترجمة الدارجة لهذين المصطلحين هي
الطرح والطرح العكسي، أو التحويل والتحويل العكسي. (المترجم)] ومسألة تدريب
المحلل (كان في ذاكرة لاكان عدد من أبحاث بولا هيمن Paula
Heimann، وأني رايش Annie
Reich، ومارجريت ليتل Margret
Little — وقد نوقشت أعمال الأخير ببعض التفصيل في
السيمينار الأول — ونُشرت تلك
الأبحاث في مجلة التحليل النفسي الدولية
في عام ١٩٥٠م، وساهمت، بالإضافة إلى بحث وينيكوت
Winnicott في عام ١٩٤٧م، وهو بحثٌ مبشر
نُشر بعنوان «الكراهية في الإحالة العكسية»، في وضع هذه المسألة على جدول
أعمال المحللين جميعًا).
وكان من المتوقع أن يُقدَّم سيمينار لاكان في العام الذي تلا نشر تقرير روما هذه المسائل بدأب، وبأشكال متنوعة.
وحتى يفهم المرء الطريقة التي تصور بها لاكان سيميناره، فإن عليه أن يتعرف على
الخريطة المعرفية التي تخططها أعمال لاكان أمام المستمع والقارئ، وهي خريطة شديدة
الخصوصية. ويوجد الكلام، بالطبع، في القلب من تصوره، وينبثق اهتمامه باللغة من معرفته
بأن الكلام هو الوسط الفريد للتحليل النفسي والأداة التي يمارس بها كل تأثيراته، سواء
أكانت مفيدة أم ضارة، إلا أن اللغة لم تكن أبدًا تصورًا واحدًا: يتم تصورها بطرق
مختلفة، ويطور لاكان في السيمينار الأول عددًا كبيرًا من النقاط التي مسها في «تقرير
روما»، الكلام كأساس للتبادل في المجتمع الإنساني (كلمة السر)، الحقيقة منبثقة من محور
الكذب والخداع، الالتباس الشامل في الكلام التحليلي؛ مما يتيح لشيء جديد أن يصبح
شعوريًّا، ولكن كان هذا هو لاكان الذي لم يكن قد اهتم بعدُ بخلق تكامل بين النظرية
التحليلية واللسانيات السوسيرية. هنا لا توجد مناقشات حول وظيفة الدال وتفوقه، ويبرز
مصطلح
signifiant،
وثَمة أسسٌ قوية لترجمته، كما يحدث أحيانًا، إلى
signifying وليس «الدال»
signifier. وحتى وقت متأخر، حتى عام
١٩٥٥ أو عام ١٩٥٦م، لم يكن لاكان قد بدأ في استخدام المصطلحات بأسلوب سوسيري [نسبة إلى
سوسير. (المترجم)] مباشر. وتأتي الإشارة الأولى في كتابات في «الشيء الفرويدي» — وهو
بحثٌ كُتِب في أواخر ١٩٥٥ و١٩٥٦م — والجزء الذي يتناول الدال والمدلول في ذلك البحث من
الأجزاء نُقحت تنقيحًا تامًّا بين ظهور البحث في ١٩٥٦م وإعادة نشره في
كتابات.
٢٢ ويمكن للمرء، في الواقع، أن يبرهن على نحو ملائم على أن استفادة لاكان من
سوسير في ذلك الوقت كانت تشير ببساطة إلى أن فرويد كان لسانيًّا
أمام الأدب avant la
lettre، حيث نصَّ، في كتبه عن الأحلام وزلات اللسان
والنكات، على قوانين اللغة التي يخضع لها الحلم والعَرَض، برغم استخدام بعض الحيل غير
اللغوية. وربما بدأ
التقارب بين نظرية الأحلام عند
فرويد ومصطلحَي «الاستعارة» و«الكناية» في ١٩٥٦م، مع قراءة لاكان مناقشة ياكبسون لآليات
الحلم عند فرويد، وهي مناقشة موجَزة نُشرت في ذلك العام.
٢٣
ولا يطور لاكان الفارق بين «الآخر other» و«الآخر Other» إلا في ثنايا السيمينار الثاني، ويكتسب الموضوع
أهمية كبيرة في كل أعماله التي تلت ذلك، ويميزها عن التراث الفينومينولوجي في فرنسا بعد
الحرب، ذلك التراث الذي يمثله سارتر ومارلو بونتي خير تمثيل، إلا أنه من الواضح أن
لاكان قد أشار في تقرير روما إلى هذا الفرق التصوري
الذي يغطيه وارتبط بتأكيده على اللغة، وارتبط ارتباطًا وثيقًا باهتمامه بالوسط الذي
يعمل فيه التحليل النفسي. وبنظرة حالية إلى الماضي نستطيع أن نرى أن مفهوم الكلام
واللغة الذي اتضح هناك كان يحتاج إلى إنجاز هذا الفارق.
ارتبط تفكير لاكان في اللغة، دائمًا، ارتباطًا وثيقًا بانعكاساتها على الذات
وعلاقاتها بالموضوع أو «الآخر»؛ المتلقي. ومن قبل، في عام ١٩٥٤م، في بحث عن الزمنية
temporality بعنوان «
الزمن
المنطقي وتأكيد اليقين المتوقع Le temps logique et l’assertion de certitude
anticipée»، رسم لاكان فوارق قاطعة بين المفاهيم الثلاثة للذات
ليصف المراحل الثلاث لجدل الذات. توجد، أولًا، الذات المنطقية التي لا تحتاج إلى وجود
الآخرين لتصدر حكمها: الذات العقلية، «ذات»، «من المعروف أن …» (أو بالتعبير الأكثر
شيوعًا في الإنجليزية،
the ‘it’ of ‘it is known
that…’)، «التي يمكن أن تكون الرب، أو الطاولة، أو حوض الغسيل».
٢٤
ثانيًا: ثَمة ذوات بلا أسماء، وهي ذوات العلاقات المتبادلة بين الذوات والعلاقات
بين
الأنداد، ولا تعرف إلا بقدر ما تكون متبادلة بين ذات وأخرى، وهي ذوات متكافئة مع الآخر
عمومًا، في علاقة تبادلية لا تكون المعرفة الذاتية فيها ممكنة إلا من خلال الخاصية التي
نحن بصددها في الآخر (The ‘on’, or ‘one’). ثالثًا:
يكتسب ضمير المتكلم (Je) المتفرد، ويميزه على نحو فريد،
الفعل الذي ينبثق فيه «ضمير المتكلم» the ‘I’ في عملية
اعتزال الآخرين أو الانفصال عنهم أو «التطهر» منهم.
وفي ذلك الوقت، رسم لاكان توازيًا واضحًا بين جدل الذات المنطقية كما أوجزنا هنا
وتولد الذات السيكولوجية من اللاتحديد الذي يُدرَك بين المرء والآخر في مرحلة المرآة.
وفي هذه المرحلة، فسَّر الحركة التي تُسبِّب تشوش النفس
self والآخر في مرحلة المرآة، بانبثاق الغيرة.
وأعلن أيضًا أن المناقشة في بحثه تؤثث الشكل المنطقي الجوهري (وليس الشكل الوجودي)
للذات السيكولوجية.
وفي الأعمال التالية، لم يكن من الممكن أن يرسم لاكان مثل هذا الفارق الحاد بين الذات
السيكولوجية والذات المنطقية، ويمكن أن نقول إنه لم يهتم اهتمامًا خاصًّا بالذات
السيكولوجية، مع أنه وصف مرحلة المرآة مستخدمًا، غالبًا، مصطلحات سيكولوجية باعتبارها
تمثل طورًا من أطوار تطور الذات السيكولوجية. ويمكن لنا أن نفهم ارتيابه في قيمة دراسة
الذات السيكولوجية حين نتأمل عباراته عن سيكولوجيا الأنا، وهي على قدر كبير من الأهمية
كجزء من نظرية التنقيح في التحليل النفسي، وقد هاجم فيها أعمال علماء نفس الأنا
الأمريكيين وأعمال مجموعة أنَّا فرويد. ويصف في
السيمينار
الأول الأنا السيكولوجية بأنها ذات وظيفة تكوينية، بينما الأنا
التحليلية ذات وظيفة ديناميكية: «تظهر الأنا [في التحليل] كدفاع، وكرفض.»
٢٥ ويبعد الاتجاه العام في
السيمينار الأول،
في الواقع، عن أن يكون تعليقًا تطوريًّا على مرحلة المرآة — وعلينا أن نتذكر أن لاكان
قدمها أول مرة في عام ١٩٣٦م، ثم ظهر بحثه الرئيسي عن مرحلة المرآة في عام ١٩٤٩م — ويتجه
إلى دراسة المرحلة باعتبارها «وظيفة نموذجية»: نموذجية لعلاقات الذات طالما كانت مرحلة
المرآة هي
الصورة الأصلية للأنا.
٢٦ وتنتقد مناقشاتُ لاكان في هذا السيمينار استخدام التفسيرات التي تفترض أن
مرحلة المرآة، كمرحلة من مراحل التطور، قريبة الشبه بالمراحل أو الأطوار التحليلية
الأخرى، كما تنتقد الفكرة التي ترى أنها تمثل امتدادًا لتلك المراحل، ويشير في انتقاد
استخدام نموذج مرحلة التطور في الطفولة، ويعزوه إلى فرينزي بقدر ما يعزوه إلى فرويد
(ويجب، بالتأكيد، وضع اسم إبرهام مع اسم فرنيزي)، يشير إلى:
ربما يكون من الأفضل، في الحقيقة، ألا نشير هنا إلى المفاهيم التطورية
الزائفة. ربما لا يكون المكان هنا مناسبًا لطرح فكرة التطور الخصب. إن مسألة
توضيح الآليات البنيوية هي، بالأحرى، التي تؤثر في خبرتنا التحليلية، وهي مسألة
تركِّز على البالغين. وربما يتضح لنا، بالاسترجاع، ما يحدث في الطفولة، بطريقة
افتراضية يمكن التحقق منها إلى حد ما … ما ألحَّ عليه فرويد دائمًا كان …
الحماية مما يمكن اعتباره، على كل المستويات، مراحل مختلفة.
٢٧
وفي الحقيقة علينا أن ننظر إلى القسم الأكبر من هذا السيمينار بوصفه إعادة تقييم
«لكل
الاستخدامات، مهما تكن محدودة ومتنوعة في الوقت نفسه، الاستخدامات التي يمكن استنباطها
من مرحلة المرآة.»
٢٨ وأحد تلك الاستخدامات هو توضيح أن واقع «المراحل» الفمية والشرجية والجنسية
هو «واقع الصور الذهنية عن الجسد البشري، وواقع أنسنة العالم، وإدراكه كصور ذهنية
مرتبطة ببنية الجسد».
٢٩
كان بحث مرحلة المرآة جزءًا من محاولةٍ بارعة ودءوبة للتعليق على علاقة الذات
بالآخرين، وكان البحث الذي كتبه لاكان عن «
الزمن
المنطقي» جزءًا آخر يساويه من حيث الأهمية وإن اختلفت طبيعة الإسهام.
وفي ذلك البحث الذي يرجع إلى عام ١٩٤٥م، يمكن أن نرى براعة مفهوم الذات في علاقتها ﺑ
«الآخرين»؛ ﺑ «الآخر» بوصفه مخاطبًا أو محاورًا في عبارة علمية، بالآخر بوصفه «مكافئًا
موضوعيًّا» للذات (
qui doivent “l’un l’autre
se” reconnaître)؛
٣٠ وكذلك بالآخر الذي ينفصل عنه «ضمير المتكلم». ويبشر تعقيد هذا البحث
بانبثاق مفهوم
الآخر Other في فكر لاكان. وهذا
الانبثاق لا ينشأ عن تطوير مرحلة المرآة، ولكنه ينشأ، بالأحرى، عن اهتمام لاكان، ذلك
الاهتمام المتواصل باللغة، وعلينا هنا أن نفحص مجموعة من الاهتمامات اللغوية التي ينبثق
عنها مفهوم
الأخر Other.
إن الخداع هو الشغل الشاغل للتحليل النفسي الفرويدي، لكن التداخل بين الفلسفة
والتحليل النفسي؛ وهو تداخل طبيعي للغاية في نظر لاكان، وشديد الغرابة في نظر مدارس
التحليل الأخرى، تداخل عظيم الأهمية هنا، كما شهد على ذلك الوضع الحاسم الذي احتلته
فينومينولوجيا الإيمان الرديء والخداع الذاتي، في نقد سارتر للتحليل النفسي في
الوجود والعدم وفي الكثير من المناقشات التي
تفرعت عنه في اللغة الإنجليزية.
٣١ ويوافق بعض المحللين النفسيين الآخرين على أن موضوعات الخداع الذاتي والصدق
والكذب موضوعات عادية، وعلى أنها جزء حتمي في ممارستهم العملية، لكنهم لا يعطونها أهمية
كبيرة على المستوى النظري.
٣٢ ومنذ البداية ينشغل لاكان في أعماله بالأهمية النظرية ويرتبط انشغاله
بموضوعين؛ الأول: حجم الخداع الذاتي في الأعمال النظرية للمحللين النفسيين، خاصة في
نظرية الأنا، وهذا الخداع الذاتي يؤثِّر في قلب الاكتشاف التحليلي؛ أي إن الأنا ليست
سيدة في بيتها. لكن المسألة تتجاوز ذلك؛ ومن ثَم يرى لاكان أن المحللين النفسيين
المعاصرين مخدوعون بأوهام شكَّلتها وظيفةُ الأنا بطريقة شديدة الخصوصية: لا تخدعهم
أنوات
egos المرضى إلا بقدر ما تخدعهم أنواتهم. إن
هؤلاء المحللين يقدمون أنا المحلل كنموذج للمريض، كشيء يمكن أن يتقمصه المريض ليصلح
بنيته الذاتية، ويرى لاكان أن المحلل قد يكون في وضع الموت (وضع الأخرس —
le mort [الميت] بالفرنسية — في الزفة)، وضع السيد
الميت في جدل السيد والعبد، أو وضع الوسيط، أو حتى الدبلوماسي، في محادثة تشارك فيها
عدة أطراف، أو ببساطة وضع الشاهد على الحقيقة، لكنه بالتأكيد ليس في وضع قريب من وضع
المثال، أو وضع الأنا العليا.
وهكذا يكتشف لاكان مظهرًا أساسيًّا من مظاهر الخداع الذاتي للأنا في تطور نظرية
التحليل النفسي: إن الخداع الذاتي الذي يقع فيه المنظِّرون، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا
بالأهمية التي يكتسبها التقمص في الممارسة التحليلية، هو ما يسعى شعار «العودة إلى
فرويد» إلى دحضه، لكن هذا الشكل من أشكال الخداع يرتبط بموضوع أقدم: موضوع الأوهام التي
تعزِّزها الصورةُ الذهنية؛ الارتياب (الأفلاطوني) في المظاهر (بما في ذلك النوع الخاص
من الوهم الذي تولده العدسات والمرايا، وهو نوع يمكن أن يبرِّر نسبيًّا موقف المعارضين
لجاليليو حين رفضوا النظر من تليسكوبه؛ لأنهم رأوا أن آلة من هذا النوع لا يمكن أن
تولِّد إلا الوهم). إننا نجد مناقشة مستمرة لعلم السلوك الحيواني، متداخلة مع النموذج
البصري، ومؤسسة على أعمال تنبرجن
Tinbergen ولورنز
Lorenz، وتستدعي أعمالهما لتأكيد الوظيفة الأساسية
للصورة الذهنية في دورات السلوك، وخاصةً السلوك الجنسي. والمصطلحان الرئيسيان هنا هما
«الإغراء»
lure و«الإغواء»
captation.
٣٣
وربما يبدو الاعتماد على علم السلوك الحيواني مثيرًا للدهشة بالنظر إلى نقد لاكان
للنزعة الطبيعية. ويرى البعض، في الواقع، أن لاكان يعادي البيولوجيا عداءً لا يلين. إلا
أنه، مع ذلك، لم يقترح أبدًا أن علينا أن نهمل البيولوجيا أو نتجنبها، أو نتعامل معها
في حذر، لقد اعتقد اعتقادًا حازمًا أن أولئك الذين يحاولون تأسيس تحليل نفسي على أسس
بيولوجية مخطئون، إلا أن تناقضًا حادًّا للغاية بينه وبين جون بولبي
John Bowlby وأمثاله من الذين استخدموا، في
الخمسينيات، الأعمال الحديثة لعلماء السلوك الحيواني ليستغنوا بها عن الهيدروليات
الحيوية
bio-hydraulics في نظرية الغرائز الفرويدية،
ومن المفترض أنها هيدروليات أسطورية لم تعد مقبولة. لقد تخلى بولبي عن الغرائز وتبنى
بدلًا منها مفاهيم الارتباط، والمفاهيم الطبيعية التي لا تزول بصمتها في حالات الفقد
والانفصال. وهنا ثَمة مفارقة فضولية، إذا وضعنا في الاعتبار ما كتبه لورنز وآخرون عن
الاندفاع الفرويدي الأصيل في أعمالهم، حيث من المحتمل تمامًا أن بولبي كان يستعير
مفاهيم علم السلوك الحيواني، وكانت في الأصل تحليلية بصورة لا تقبل الشك قبل أن يتمَّ
«تطبيعها»، وكان يعتقد أن هذه المفاهيم ترتكز بصورة أكثر رسوخًا على الملاحظة الموضوعية
للسلوك الحيواني (حيث إنها مبنية على هذه الملاحظة). وفي المقابل لم يولِ لاكان هذه
المفاهيم أدنى اهتمام. وكان يرى أن السلوك الحيواني يدل على الوظيفة العامة
للصورة الذهنية في السلوك الجنسي؛ الوظيفة العامة للخداع
والإزاحة. إن للحيوان والإنسان نزوعًا طبيعيًّا مشتركًا، نزوعًا للوقوع في شرك الصورة:
تتميز الحياة الجنسية، في الواقع، تميزًا فريدًا بقوة الصورة الجذابة، وهو هنا يتناول
موضوعًا من الموضوعات الفرويدية الكلاسيكية: «شذوذ» الحب الجنسي و«جنونه» (باستخدام
مصطلحات فرويد)، حيث الخداع هو القاعدة، الشرط اللازم في الواقع، وليس الاستثناء:
… في عالم الحيوان، يسود الخيالي الدورة الكاملة للسلوك الجنسي … احتمالية
الإزاحة، البعد الوهمي الخيالي، أساس لكل ما يتعلق بنظام السلوك الجنسي.
٣٤
وكان لاكان قد أشار إشارةً ضمنية إلى مفارقات الصورة البصرية وأوهامها في بحثه عن
مرحلة المرآة.
٣٥ إلا أنه يوسع المناقشة، في
السيمينار
الأول، ويربط أعماله بالتشابه الذي رسمه فرويد بين إنتاج الظواهر
النفسية وعمل المجهر أو التليسكوب. وفي تطور رائع للمناقشة، يتحول لاكان من الصورة كما
توجد في أبحاث السلوك الحيواني — كاريكاتير، تخطيط لصورة — وانعكاس الصورة في مرآة، أو
في بحيرة، إلى مخطط بصري، مخطط باقة الأزهار المقلوبة الذي ينتج عن مرآة كروية وأخرى
مستوية، وهذا كله ليس إلا أداة، كالتليسكوب الذي اتخذه فرويد نموذجًا للنفس، لتوضيح
طريقة إنتاج الصورة وخصائصها: الصور الواقعية والتقديرية. ويمكن فهم مرحلة المرآة
كإشارة إلى حدث حقيقي، إلى طفل يتأمل صورته. إن المخطط البصري، وهو في ذلك كتليسكوب
فرويد، لا يمكن استخدامه كتمثيل لبنية حقيقية أو حتى كتابلوه شخصيات تتأمل كلٌّ منها
الأخرى. الصورة الآن لا تخرج عن حدود البصريات، ولا يمكن استخدامها في التحليل النفسي
إلا كنموذج، وليس كوصفٍ مقتضب.
ومن الواضح أن التحول من مرحلة المرآة إلى المخطط البصري كان يسير في اتجاه واحد،
من
التعليق التعاقبي إلى التعليق المنطقي أو البنيوي. ويمضي لاكان بعيدًا حتى إنه يقول إن
أهم ما يميز مرحلة المرآة هو اختفاؤها الفجائي في اللحظة التي يتغلب فيها الرمزي على
الوظائف القائمة التي كانت تؤدي — حتى تلك اللحظة — إلى التعرف على الرغبة في الآخر،
ويدرك لاكان بوضوح أهميةَ ما تتضمنه المناقشة المنطقية، وليس التطورية، ويؤكد على ضرورتها:
إن هذه الأسبقية [أسبقية التعرف على الرغبة أولًا في الآخر بصورة أساسية]
ليست تعاقبية، لكنها منطقية، ويقتصر دورنا هنا على الاستدلال. ولا يقلل هذا من
كونها أساسية، إنها تتيح لنا أن نميز مستويات الرمزي والخيالي والواقعي.
٣٦
ويضيف ربط هذا المخطط البصري بمناقشة فرويد في بحثه عن النرجسية، يضيف لهذه المناقشة
صلابةً وقوة. ومن الطبيعي أن يكون لاكان قد اطَّلع على ما كتبه فرويد عن النرجسية لدعم
نظريته عن مرحلة المرآة. إن تطلع نرسيس في النهر، متجاهلًا صوت إيكو، تمثيل أسطوري قريب
الشبه مما كتبه لاكان عن تشكل الأنا، إلا أن ما كتبه فرويد لم يحسم الأمر بشأن قوة
الارتباط، الذي كان يتمناه، بين مفهوم النرجسية وأحد النماذج البصرية. ويستخدم لاكان
النموذج البصري لتوسيع ما كتبه فرويد عن مثال الأنا والأنا المثالية، وهما مفهومان يميز
بينهما في بحثه عن النرجسية ثم يتركهما جانبًا وهو يواصل تطوير نظرية الأنا والأنا
العليا في العشرينيات.
٣٧ ويلتقط لاكان شذرات المفاهيم التي قدمها لاكان، ويمفصلها مع المخطط البصري
ونظريته عن الخيالي ليبين كيف يمكن للنموذج البصري أن يعلق على «نقطة الالتحام» بين
الخيالي والرمزي. ومرة أخرى، يتوازى هذا الإنجاز مع إنجاز فرويد، الذي يقودنا بحثه عن
النرجسية إلى الأنا العليا، تجسيد القانون والأخلاق. إنها منطقة تشبه، إلى حد بعيد، تلك
التي يغطيها الرمزي عند لاكان. ويعود موضوع الصورة كوهم في نظرية النرجسية بكامل قوته
في نظرية الحب (النرجسي واللاجنسي)، ويعود وضعه الحاسم بوصفه
افتنانًا verliebtheit في أبحاثه عن التقنية والإحالة. ومع
دخول الحب كان لاكان على استعداد للانتقال إلى موضوع آخر رئيسي في السيمينار: مناقشة
ميشيل وأليس بلنت
Alice Balint عن
الحب الأوَّلي وتقنية التحليل النفسي
Primary love and
psycho-analytic technique.
وتحمل مناقشة لاكان لكتاب بلنت نغمةً متعاطفة وانتقادية في الوقت ذاته. يُعجَب لاكان
إعجابًا عظيمًا بعمل بلنت مع المرضى (حتى إنه سيوضح بعد ذلك في السيمينار فائدة مفاهيمه
الخاصة — عن ميثاق الكلام، والإعلان عن أن حقل التحليل النفسي هو حقل الكذب والخطأ —
بحدث من أحداث بلنت الإكلينيكية)، ويشرح لاكان نظرية بلنت ليوضح وجود انحراف تقني ومأزق
نظري. إن بلنت «متورط في علاقة ثنائية، وينكر ذلك»
٣٨ (وهو تعبير أعلنه فلاديمير جرانوف
Granoff
Wladimir في السيمينار، ويرى لاكان أنه تعبير ملائم). إن انتقاده
للتحليل بالصورة التي يبدو عليها في نموذج العلاقة الثنائية (الخيالية) يشمل كلاين
Klein وبلنت. مع كلاين يلاحظ كيف أنها، المحلِّلة،
تكفل إعادة تنظيم الرمزي بتقديم الكلمات، التي ستُشكل نواة عقدة أوديب، إلى الطفل،
وتفشل في تنظير هذه الحركة. ومع بلنت، يدخل لاكان في مناقشة طويلة عن ضرورة رؤية
التحليل باعتباره «علاقة متبادلة بين الذوات»
intersubjective (وهو مصطلح انتقده في مناسبات
أخرى، كما رأينا، مثلًا، في بحث «الزمن المنطقي» باعتباره مضلِّلًا ويفتقر إلى الدقة):
«طالما بقينا في سجل التحليل، فسوف نُضطر إلى إفساح المجال أمام علاقة تبادلية أصيلة
بين الذوات.»
٣٩ إن لاكان، وكأنه الثقل الموازي لبلنت، يناقش جدل التحديق
gaze، رؤية الآخر الذي يراني، كما افترضه سارتر في
الوجود والعدم. إن موضوع التحديق، موضوع الذات
باعتبارها «عينًا»، كبير الأهمية في نموذج المرآة الذي تطور عن مفهوم مرحلة المرآة،
وتطور بصورة أكبر في
السيمينار الحادي عشر. ويرى
لاكان أن التحديق يشير إلى الطريقة التي بواسطتها تتضمن «الطبولوجيا العينية للجسد»،
٤٠ التي تحدد أشكال الخيالي، تتضمن بُعد الفضاء الخيالي الذي لا يقتصر على سطح
الجسد أو فتحاته: إنه يتضمن إشارة إلى وجود الآخر في الفضاء الخيالي. ولا يمكن لمفهوم
تحليلي أن ينكر الإشارة الأساسية إلى الآخر إلا مفهومًا يركِّز على الذات
self، أو على الأنا، أو على «الحب الأناني»
(بلنت).
ومع أن مقاربة لاكان لأبحاث فرويد عن التقنية مقاربةٌ ملتوية (لم يهتم أبدًا بالتغلغل
في مجموعة «أبحاث عن التقنية» بحثًا بحثًا)، إلا أن موضوعًا واحدًا كبير الأهمية ينبثق
منها ويمتد كخيط في ثنايا السيمينار: ظاهرة الحب. ومن الطبيعي مع مناقشات كثيرة لظاهرة
الافتتان (
verliebtheit، أو حالة الوقوع في الحب) وجود إشارة
أساسية إلى الإحالة
transference وإلى وضع المحلل فيما
يتعلق بها. ولا يوجد في أي موضع، بصورة أوضح، ما إذا كانت إجابة مقنعة عن السؤال «ماذا
يفعل المحلل؟» ستكون حاسمة لأسئلة التقنية. يوجد، من ناحية، موضوع الفتنة والتحديق
ونظرية الاستعراض والمرآة. ويوجد، من الناحية الأخرى، نظرية الحب، والرباط الرمزي،
وخصائص الحب الذي تحكمه قوانين العطاء (مما يجعل لاكان يعرِّف الحب، بعد ذلك في
السيمينار، بأنه عطاء ما لا يملكه المرء)، ويستنتج لاكان من هذا كله أن الإحالة، رغم
النظر إليها عادةً باعتبارها عملية «وهمية
illusory»
تحدث فعليًّا على المستوى الرمزي.
٤١ وفي الجلسة قبل الأخيرة يربط موضوع الميثاق عند ليفي شتراوس وموس
Mauss، ميثاق التبادل والعطاء، بنظرية الكلام
والعلاقة بين الذات والآخر، ويفترض أن البعد الحاسم للإحالة، بعيدًا عن الحب والكراهية
المفترض أنهما جاهزان للعمل في الإحالة التحليلية، هو الولع بالتجاهل.
والتطوير الذي أنجزه لاكان، بعد ذلك، في هذا الخط الفكري تطويرٌ واضح: «مفهوم الذات
التي يفترض أنها تعرف.» وصراع الذات مع قضايا السيادة والمعرفة المتمثلتين في احتياج
المحلَّل إلى المحلِّل، إلا أن من المهم أن نرى أن هذه الفكرة ترتبط، من ناحية، بنظرية
الإحالة باعتبارها ولعًا passion، وترتبط، من الناحية الأخرى،
بموضوعات الحقيقة والكذب والخداع، التي يكرِّس لها بعد ذلك أكثر الأحداث تألقًا في
السيمينار. وإذا كان التجاهل والإخلاص، كما أعلن البعض، يشكلان الوضعين الأساسيين
للمحلل، فإن لاكان كان يأمل في إعادة توجيه النظرية التحليلية لا ليصنع منها صفات
سيكولوجية للمحلل، ولكن ليضع مبادئ يؤسس عليها تقنيةً ونظريةً عن علاقة الذات
بالمحلِّل، والآخر other والآخر Other.
ويعود كل موضوع من هذه الموضوعات للظهور من جديد في السيمينار التالي، وتعاد صياغته
دائمًا بمصطلحات مختلفة، بحيث لا نستطيع غالبًا، إلا بعد عناء شديد، أن نعرف أنه قد سبق
تناوله، وأنه المشهد التحليلي (واللاكاني) الذي نعرفه. وهذا الشكل من لولبة المفاهيم
أو
تدويمها طريقةٌ فارقة يعيد بها لاكان إنتاج حركة الجلسات التحليلية التي تلتف على
نفسها، وتتكرر بطرق رائعة، تتأخر وتتقدم في خطوط متعرجة، في حركة مماثلة لحركة حصان
الشطرنج التي شبَّه فرويد حركة الخطاب بها،
٤٢ أو في حركة مماثلة لحركة الأرجوحة، وهي الحركة التي يتناولها لاكان
بالمناقشة في
السيمينار الأول. إنها عملية التغلغل:
ليست تكرارًا أو تقدمًا، ولكنها عملية ضرورية بالتأكيد، وكأن على عبقرية لاكان أن
تكرِّر مناقشاته النظرية وما كتبه عن التطبيق، أو تكرر تفسيراته لأعمال فرويد، في
سياقات مختلفة تمامًا، بحيث تبدو الفكرة «ذاتها» (فكرة الانعكاس في المرآة، أو مفهوم
الميثاق الرمزي) بصورة جديدة وعلى أرضية مختلفة. «إن الكلمة ليست الشيء، ولكنها ومضة
ندرك الشيء في ضوئها» (ديدرو). وما نراه مع لاكان، خلال ومضة الكلمة، هو مشهد يتحول
أحيانًا بشكل فجائي، وفي أحيان أخرى لا يتحول إلا تحولًا طفيفًا، إلا أن المحصلة
النهائية هي التغير المستمر. وبمرور الوقت تغيرت نظريات لاكان تغيرًا جذريًّا، حيث كان
كل سيمينار يدفعه إلى التطوير والتأمل. لا توجد نظرية لاكانية، ولكن كان هناك تعليم على
نحو فريد وفارق، ومعظم هذا التعليم مجسَّد في السيمينار، ومنها
سيمينار عن أبحاث فرويد في التقنية، ودارت جلساته بين عام ١٩٥٣م وعام
١٩٥٤م، وهو الأول، ومدون بصورة كاملة نسبيًّا.
V سيمينار جاك لاكان
الكتاب الثاني: الأنا في نظرية فرويد وفي تقنية التحليل النفسي
١٩٥٤-١٩٥٥م
«يمكن أن تكونوا لاكانيين، مثلما أنا فرويدي.»
كان موضوع السنة الثانية من سيمينار لاكان التعليمي في الجمعية الفرنسية للتحليل
النفسي عن «الأنا في نظرية فرويد وفي تقنية التحليل النفسي»، وتمثل بعض الجلسات أساس
المواد المنشورة التي كتبها لاكان بعد ذلك في الخمسينيات، خاصةً «سيمينار عن الرسالة المسروقة»، وهو سيمينار شهير، نُشر في مجلة الجمعية
الفرنسية للتحليل النفسي (التحليل النفسي La Psychanalyse 2,
1956، العدد الثاني ١٩٥٦م). واستهلَّ به لاكان كتابات، الكتاب المنشور في عام ١٩٦٦م.
وبدايةً من هذا السيمينار في أوائل الخمسينيات، ركزت أعمال لاكان على التعليم، وكل
ما
كتبه لاكان هو بالأساس تقطير وخلاصة لمواد تم إنتاجها وتكرر ورودها في سيميناره
الأسبوعي؛ وقد نُقِّحت، أحيانًا، عدة مرات بأشكال متنوعة. في أوائل الخمسينيات كان
سيمينار لاكان النقطة الوحيدة تقريبًا للتعرف على تفكير لاكان. والآن، وبعد وفاته
بسنوات، تقدِّم النسخُ المنشورة من هذا السيمينار أفضل وسيلة للتعرف على ذلك التفكير.
إن الصعوبة التي تشتهر بها «كتابات» لاكان، وهو الاسم
الذي أطلقه عليها حين جمع بعضها للنشر في عام ١٩٦٦م، تضعف تمامًا في هذا التدوين
للممارسات التعليمية. إن حقيقة عودته باستمرار إلى موضوعات معينة، كما ذكرنا من قبل
بإيجاز، تتيح للقارئ رؤية المسألة، المفهوم المطروح للمناقشة، من زوايا مختلفة.
وأنوي هنا أن أقدِّم إلى من قد يقرأ السيمينار
الثاني دليلًا إلى نص يأخذ شكل الفسيفساء الباروكي أكثر مما يأخذ شكل
التتابع الخطي. ويصفُ لاكان سيميناره بأنه «بانوراما»، وكل ما أسعى إليه هو تدوين قائمة
ببعض الموضوعات التي تحدد للقارئ عددًا من المواضع التي يرى منها على الأقل مشهدًا لبعض
المعالم الرئيسية. وتبرز ثلاثة من هذه الموضوعات الرئيسية: الآلة، والآخر Other، والتكرار إذا
نظرنا إلى سيمينار السنة كوحدة شاملة.
ونجد في السيمينار الثاني المزيجَ نفسَه الذي يميز
السيمينار الأول، نجد مزيجًا من التعليق النصِّي،
والاستطراد، والتماثل غير المتوقع، والإشارة. وإن كان ثَمة اختلاف فهو يتمثل في أن درجة
المناظرة الحيوية وإثارة الأسئلة من قِبل المشاركين عن خطاب لاكان في هذا السيمينار
كانت أكثر حدةً مما كان عليه الحال في السيمينار
الأول. ويعرض السيمينار المزيجَ نفسَه غير المتوقع من الإشارات الأدبية،
والمناقشات الفلسفية، من التاريخ التحليلي للحالات، وتشريح المفاهيم. إلا أن النظرة
النهائية، بالرغم من ذلك، تختلف.
بينما انصب اهتمام لاكان الأساسي في السيمينار
الأول على تطوير الأفكار التي وردت في أعماله السابقة، خاصة في
«تقرير روما» (نُشر في عام ١٩٥٣م بعنوان «وظيفة
الكلام واللغة ومجالهما في التحليل النفسي»). وفي أبحاثه عن مرحلة المرآة، فإن
السيمينار الثاني يحتوي على موضوع جديد يمثل
علامة فارقة: نظرية الآلة والتواصل والسبرنطيقا، وكانت ذروة سيمينار ذلك العام محاضرةً
ساهم بها لاكان في سلسلة متوازية من المحاضرات عن «التحليل النفسي والعلوم الإنسانية»،
نظمتها الجمعية الفرنسية للتحليل النفسي، وكانت المحاضرة بعنوان «التحليل النفسي
والسبرنطيقا أو عن طبيعة اللغة». وقد تأثرت، في الحقيقية، دروس سيمينار تلك السنة
تأثرًا جوهريًّا بهذه السلسلة التي جرَت متوازيةً مع السيمينار. إن موضوع الآلة
والسبرنطيقا وموضوع العلوم الإنسانية (بتضافرهما فيما قدَّمه لاكان) يقدمان لمحة عن
تعليمه تنأى به عن أن يكون مجرد تعليق على نصوص فرويد. وبيَّن أنه (ذلك الذي لا يقتصر
أبدًا على التعليق المباشر)، يمضي باتجاه التأمل الواسع في إبستمولوجيا التحليل النفسي
واختبار الأصالة الحقيقية في أعمال فرويد، وكان يستهلُّ السيمينار، غالبًا، بإشارات إلى
محاضرات الليلة السابقة، وإلى المناقشات التي أثارتها؛ خاصةً تلك المحاضرات التي ألقاها
بنفنست Benvensite، وهيبولت
Hypolite، وكوريه
Koyre، وليفي شتراوس، وميرلو-بونتي
Merleau-Ponty. ومن ثَم، يدرك القارئ أن النسخ
الموجودة من السيمينار الثاني لا تسجل إلا جزءًا من
سلسلة مناقشات استمرت على مدار العام في الجمعية الفرنسية للتحليل النفسي.
وما قد يثير دهشة قارئ السيمينار الثاني هو الاتجاه
الذي يدرس منه لاكان موضوعه المفضَّل؛ الأنا في النظرية التحليلية والتقنية التحليلية.
ولا توجد بالفعل إشارات إلى النص الفرويدي الذي كان أساسيًّا في المناقشات المماثلة
التي دارت في بريطانيا وأمريكا: نص فرويد عن الأنا
والهو. ولا يناقش لاكان، وهو أمرٌ أكثر إثارة للدهشة، بحث فرويد عن
النرجسية، وبحث لاكان المكمِّل له، «مرحلة المرآة». ويفترض لاكان أن أعضاء السيمينار
على اطلاع بالعمل الذي اكتمل في السنة السابقة، في السيمينار
الأول، حيث نوقش موضوع الأنا مناقشةً مستفيضةً مع نظرية الخيالي ومسائل
التقنية التي أثارها التقمص والعلاقة الثنائية. وهناك، ركَّز لاكان على نظرية مرحلة
المرآة في تشكل الأنا، مكمِّلًا ذلك ﺑ «مخطط الباقة المقلوبة» الذي استخدمه كنموذج
للعملية التحليلية، وفي السيمينار الثاني ينتقل لاكان
من مقدمة النرجسية — التي كانت متزامنة مع كتابات فرويد عن التقنية — إلى الطوبوجرافيا
الثانية في العشرينيات. ويسلِّم لاكان بأن الأنا في هذا النموذج الطوبوجرافي الثاني
(سيكولوجيا الجماعة وتحليل الأنا (١٩٢١م)،
الأنا والهو (١٩٢٣م)) تمثل تحولًا في نظرية
فرويد، تحولًا جعله مفهومُ النرجسية ممكنًا، ولكنه يرى أن مفتاح اختبار هذا التحول يكمن
في أول أعمال فرويد الرئيسية في العشرينيات؛ وراء مبدأ
اللذة (١٩٢٠م).
وينهمك لاكان انهماكًا شديدًا ممعنًا في الجذور المعرفية للتحليل النفسي وفي تفسيرها
حتى يتمكن من فهم
وراء مبدأ اللذة، أصعب أعمال فرويد
وأكثرها استعصاءً على الفهم. وعمومًا، اقتصر مشروع لاكان في التعليق على نصِّ فرويد على
تقديم قراءة واحدة له ضمن قراءات أخرى في محاولة «للتعبير عن الظروف التي جعلت ما يقوله
فرويد ممكنًا».
٤٤ وفي الواقع، ثَمة مناسبات عديدة كان لاكان يختم فيها مناقشاته بالقول: «إذا
كان اكتشاف فرويد لا يعني ذلك، فهو لا يعني أي شيء.» ويتطلب الانهماك في مثل هذا
المشروع، هذا المنهج في القراءة، خاصةً حين يتناول كتابًا مثل
وراء مبدأ اللذة، يتطلب عملًا تمهيديًّا يوضح الخلفية على نحو يفوق
المعتاد، كشذرة من التأمل الخالص، يتواءم مع تفسير تأملي، ويتطلب، في الحقيقة، ذلك
النوع من التفسير.
٤٥ ويدور في هذا السيمينار جانبٌ كبير من المناقشات المنهجية والتاريخية
والفلسفية: الفقرات المبكرة عن موضع اكتشاف فرويد من تاريخ الأنا منذ سقراط حتى الآن.
ويرى لاكان أن هناك علاقةً وطيدةً بين فرويد والتراث «الأخلاقي» من لارشفوكو وبسكال إلى
نيتشه، الادعاء بأن تحول فرويد في العشرينيات، خاصة في «وراء مبدأ اللذة»، يرجع إلى
إنقاذ التحليل النفسي من الذوبان في السيكولوجيا الأكاديمية، وإنقاذه بالمثل من انعدام
التأثير على المرضى أنفسهم الذين شُفوا أولًا بواسطته، والذين، بوجوده الحقيقي، أصبحوا
محصَّنين ضده. وكان هذا الموضوع الأخير، وبقي، موضوعًا دائمًا في أعمال لاكان
٤٦ الادعاء المتعلق ﺑ «الانكماش العام في التأثير العلاجي»
٤٧ بعد الحرب العالمية الأولى (واستمرَّ بعد الحرب العالمية الثانية). ويشكل
هذا الادعاء إحدى قواعد دعوته إلى ضرورة تنقيح أسس التحليل النفسي، بالعودة إلى فرويد،
ولكن يجب أن تكرر العودة إلى فرويد استراتيجية فرويد؛ أي إعادة ابتكار التحليل النفسي
حين يصبح مألوفًا ويفقد غرابته: إن المرضى الذين يمكن أن يقدموا تفسيرًا تحليليًّا
لأنفسهم يعرضون «الحيلة الأكثر إزعاجًا التي يمكن لنا انتزاعها من كاهن الوحي»،
٤٨ بحيث يحتفظ الكهنة بخطوة أمام المتضرعين.
٤٩
يخصص لاكان الأجزاء الأساسية من السيمينار الثاني لمناقشة الوضع المعرفي للتحليل
النفسي وعلاقته بالعلوم الدقيقة
exact sciences، وتبلغ
الذروة حين قال في محاضرته عن «التحليل النفسي والسبرنطيقا» إن التحليل النفسي ينتمي
إلى «العلوم الحدسية»؛ تلك الفروع المعرفية التي تهتم ﺑ «مغزى الفرصة».
٥٠ ولا يتضح لنا تمامًا كيف اختار لاكان مصطلح «الحدسي»
conjectural.
٥١ «الحدسي» هنا يقابل «الدقيق»، مثلما «المحتمل» يقابل «الأكيد»، وأيضًا
مثلما «الرأي» يقابل «المعرفة».
٥٢ ولكن يتضح، مع ذلك، السياق الذي يقدم فيه لاكان هذا الادعاء: كادعاء، أو
أمل، لصالح التحليل النفسي، على التحليل النفسي ألا يضيع في بحثٍ يائس عن جدارته
بالاحترام الذي تتمتع به العلوم الدقيقة، جدارة بالاحترام تحتفظ بها نتيجة العمى الذي
يقود الإبستمولوجيا إلى التغاضي عن علاقة الإنسان الحاسمة بالرمز، الذي يحدد حدود
العلوم «الدقيقة» و«الإنسانية» واحتمالات تلك العلوم.
إنها على أية حال الفرصةُ الأولى التي يستخدم فيها لاكان مفهوم العلوم الحدسية.
٥٣ إلا أن الأرضية المؤثثة بمناقشات مستفيضة عن الآلة، والواقع (يتساءل لاكان
في
السيمينار الثاني: «لماذا لا تتكلم النباتات؟»)
٥٤ السبرنطيقا، والفرصة، وطبيعة الرياضيات، تعطي انطباعًا أقوى عن حدود العلوم
الحدسية التي ينتمي إليها التحليل النفسي وطبيعة تلك العلوم (ربما رأى آخرون، أتوا بعد
ذلك، أن الحقل المعرفي المتميز هو ذلك الذي شغلته البنيوية، لفترة قصيرة رائعة).
وربما تكون نقطة البداية في مناقشة لاكان للمسائل المتعلقة بعلاقة التحليل النفسي
بتاريخ الفلسفة والفكر عمومًا، وبمسائل الأهمية الحيوية لنظرية التحليل وتقنيته، ربما
تكون أطروحة بسيطة: إن البشر يشبهون الآلات أكثر مما يشبهون الحيوانات.
٥٥ تأتي العبارة بفرضيتين مثيرتين للخلاف إلى حد ما، لكنهما مألوفتان تمامًا،
وتشيد شيئًا جديدًا تمامًا يعكس أزمتهما.
أولًا: هناك ثمارُ مادية القرنين السابع عشر والثامن عشر (من ديكارت في
الإنسان L’Homme إلى لاميتريه في
الإنسان الآلي L’Homme
machine): إن الحيوانات آلات بالمعنى الفج؛ أي إنها
مصنوعة وتؤدي وظائفها كما تؤدي أجزاء الآلة الأتوماتيكية والمحركات المائية وظائفها.
وهناك، بعد ذلك، ثمار النزعة الطبيعية في القرن التاسع عشر (داروين): إن البشر حيوانات؛
لأن أجسادهم تؤدِّي الوظائف نفسها التي تؤديها الحيوانات وطبقًا للقوانين ذاتها، والأهم
أنهم يشاركون الحيوانات التاريخ نفسه.
ومن ثَم،
استنتج عدد كبير من المفكرين في القرن العشرين أن البشر حيوانات وآلات في الوقت ذاته،
وهو استنتاج صائب. وتنسجم أطروحة لاكان انسجامًا دقيقًا مع الادعاءين في الوقت ذاته،
إلا أنها تقدم لنا مهمةً أخرى على الفور، مهمة نتجنبها عادة بالرضا الوسنان، أو بالهلع
القلق، بها نقبل تطبيع البشر
naturalization وميكنتهم
mechanization أو نجابه ذلك الموقف: المهمة هي
تحديد القرابة والتشابهات الدقيقة في هذين الادعاءين. وإذا وضعنا في الاعتبار سياق
التحليل النفسي في منتصف القرن، الذي بدا أنه لا يستطيع أن يتصور أن شيئًا عدا
البيولوجيا بإمكانه أن يقوم بدور الأم أو المربية بالنسبة للتحليل النفسي الذي نبتَ
ريشُه، فإن نتائجه تكون ثورية: بدلًا من أن تعد (أم إنه تهديد؟) البيولوجيا الأم
باستيعاب (أم إنه إنكار؟) ابنها الطبيعي، أي التحليل النفسي، يجد الوليد نفسه في حقل
يخصه بالكامل، إلا أن أحد الجيران المقرَّبين على الأقل يتكلم لغته الخاصة، ألا وهي لغة
الرمز.
٥٦
استخدم لاكان في السيمينار الأول مناقشات وآراءً
تفصيلية تتعلق بالسلوك الحيواني لشرح نظريته عن الخيالي، بدون المجازفة بالظهور بمظهر
الاختزالي البيولوجي، وهي تهمةٌ كثيرًا ما وجَّهها إلى نظرائه في التحليل النفسي. وفي
السيمينار الثاني، يوجد التحول إلى المصدر الآخر
للإزعاج في ميتاسيكولوجيا فرويد، وتوجهها الميكانيكي، ويحدث تطور غير متوقع. يرى كثيرون
أنه كان من المتوقع أن يقف لاكان بتأكيده على اللغة والكلام، وهو تأكيد متأثر بفلسفة
هيجل وهايدجر، أن يقف إلى جانب ذوي النزعة الإنسانية، المعادين للنزعة البيولوجية،
المدافعين عن تلقائية autonomy التحليل النفسي. إنه،
بالعكس، مُعادٍ بعنف للنزعة الإنسانية (تقريبًا بالصورة التي يرحب بها ميشيل فوكو بشبح
«موت الإنسان» في الفصل الأخير من نظام
الأشياء The order of
things). ورفض أي دفاع عن تلقائية التحليل النفسي
الذي أنكر ادعاءات الفروع المعرفية الأخرى عن صلتها الوثيقة بنظرياته وتطبيقاته، وأدرك
لاكان أن مثل هذا الدفاع (المماثل ﻟ «سياسة النعامة» التي يصفها كما اتضحت في قصة بو
الرسالة المسروقة)، ارتبط غالبًا بالإهمال
المتعمَّد للفكر البيولوجي والفيزيائي.
إن آراء لاكان عن المنزلة الإبستمولوجية للتحليل النفسي أضفت عليه منزلةً أرفع بكل
معنى الكلمة: علاقة ديناميكية متكافئة بين التحليل النفسي والعلوم الأخرى، العلوم
الدقيقة. ويرى لاكان أن نظرية فرويد بمثابة ثورة كوبرنيكية، ليس فقط بمعنى أنها غيرت
وضع الإنسان في «الكون» بإزاحة مركز الإنسان بعيدًا
عن ذاته، ولكن أيضًا بمعنى أنها أثرت تأثيرًا أساسيًّا على معنى الفيزياء (ومن ثَم على المفهوم الحقيقي للكون). إن الفيزياء، وهي في
ذلك تشبه التحليل النفسي، تنتج عن علاقة الإنسان بالرمز، إلا أن الرمز الذي تنشغل به
الفيزياء رمز رياضي، «حرف صغير مكتوب على السبورة». وتُضطر الذات في الفيزياء، إضافة
إلى ذلك، إلى تبني موقف خاص إزاء الرمز: موقف الذات الموضوعية المحايدة، وهو موقف قابل
للتبادل مع أي ذات أخرى. ومن الناحية الأخرى، كشف التحليل النفسي العلاقة غير المتوازنة
بين الذات الجسدية الفانية والرمز. لنضرب مثلًا استخدمه لاكان بصورة خاصة إلى حد بعيد:
لكلٍّ منا علاقة برمز خالص، سواء أكان اسم العائلة أم اللقب أم اسم الأب، وهو رمزٌ يحمل
معه علاقة بميلادنا وببذور المستقبل (ومن ثَم بموتنا الخاص). إن اسم الأب يقدم هنا
بُعدًا أساسيًّا في اللغة كلها: البقاء الشبيه ببقاء
الصخور، ذلك البقاء الذي تسعى اللغة إلى فرضه على عالم مشوَّش سريع الزوال، والحرية
التي تمنحها سرعة زوال الكلام وتفككه للحيوان الذي يرفض ضغط الواقع المستمر، وينغمس
بدلًا من ذلك في خلق عالم احتمالي بديل لا يخضع لقوانين البيولوجيا المتعلقة بالحياة
والموت.
للرمزِ نفسه، وحدةِ اللغات الطبيعية، خصائصُ تختلف تمام الاختلاف عن خصائص اللغات
الاصطلاحية في الرياضيات، كما اتَّضح ذلك في وجود الأحلام (ومنهج فرويد في تفسيرها).
إلا أن لاكان كان يتمنى تحديد طريقة لاصطياد ذات التحليل النفسي بين هاتين الوظيفتين
للرمز: بين الرموز الطبيعية (ويتم اصطيادها في الخيالي) وقوانين الرمزي:
تنبثق الرموزُ الأولى، الرموزُ الطبيعية، من عدد من الصور السائدة؛ صور الجسد
الآدمي، صور عدد من الموضوعات الواضحة كالشمس والقمر، وبعض الصور الأخرى. ومن
هنا تكتسب اللغة الإنسانية قيمتها ومصادرها وذبذبتها العاطفية. هل هذا الخيالي
متجانس مع الرمزي؟ لا. وسيكون اختزاله إلى مجرد تأكيد على هذه الموضوعات
الخيالية انحرافًا عن معنى التحليل النفسي …
٥٧
الرمزي، في المقابل، هو شكل اللغة، الشكل النسقي الأساسي — وهو ما يدعوه لاكان
«التوحيدي»
combinatorial — وهو لا يقل بدائية عن
الرموز الطبيعية، والأهم أنه يتشكل من الوجود الحقيقي للرمز:
المعنى هو حقيقة أن الإنسان ليس سيد هذه اللغة البدائية الأولى. لقد تم
إلقاؤه فيها … الإنسان ليس سيدًا في بيته. ثَمة شيء يندمج فيه، ويحكم بالفعل من
خلال توافقاته … ينهمك الإنسان بكل وجوده في موكب الأرقام، في ترميز بدائي
يختلف عن التمثيل الخيالي، وفي وسط ذلك، علينا أن نتعرف على شيء ما في الإنسان.
٥٨
وبالتالي، فإن الاكتشاف الجديد بشأن الموضوع الذي يمثله اكتشاف فرويد بالنسبة للاكان
يتطلب حتمًا مراجعة مفهوم «موضوع العلم» (الموضوع الذي يبدو أن وجود العلم، كنسق
للمعرفة، يقترحه)، حيث يعتمد العلم، مثلما هو الحال في التحليل النفسي، في تأثيره على
الرمز.
إن لاكان يَنفُذ، كلما تطرَّق إلى مناقشة العلوم الحدسية، إلى تاريخ العلم وفلسفته:
… من المستحيل ألا نضع نظرية عامة للرمز، محور التقسيم الجديد للعلوم، حيث
ستحتل علوم الإنسان مرةً أخرى وضعها المركزي كعلوم للذاتية.
٥٩
إنه يضع احتمالية العلوم الحدسية مع العلوم الدقيقة التي جعلت الطبيعة، بدايةً من
نيوتن، بكماء وقابلة للقياس، طبقًا لقانون الرمز، أي طبقًا لقوانين الرياضيات. يذكِّر
لاكان جمهوره بأن أنقى رمز متاح هو الحرف الصغير على السبورة، بصرف النظر عما إذا كان
رمز التكامل أو «ط» [٢٢/ ٧، نسبة محيط الدائرة إلى قطرها. (المترجم)] أو رمز اللانهاية.
إن العلوم التجريبية ترتكز على الرياضيات لتقدم للواقع ما يقبل القياس، إلا أن أية
سلسلة من الحروف الصغيرة، أو بصورة أوضح وأكثر إزعاجًا لمن يجهل الرياضيات، سلسلة من
الأرقام الصغيرة، مثل ٠٠٠١٠٠٠١١١٠١، تتطلب ترتيبًا وتتابعًا لتكتسب وضعًا؛ ومن ثَم يكون
لها معنًى؛ أي إنها تُدرَك باعتبارها تعمل وفقًا لقاعدة. إنها تحتاج إلى تفسير، وهنا
يردِّد لاكان، بوعي، الانتقادات التي وجَّهها علماء الرياضيات البحتة من أمثال
d’Alembert إلى نظرية الاحتمالات التي كانت جديدة
في القرن الثامن عشر. إن حقيقة أن القواعد ضرورية لتوليد الحقائق الرياضية، وهي من ثَم
ضرورية لتفسير العالم القابل للقياس، توضح أيضًا للاكان كيف يجعل مفهوم التكرار
الفرويدي — الذي تتأسس عليه في النهاية فكرة الإحالة بصورتها الحقيقة — شبيهًا بتأثير
مجموعة الدوال التي تشكل اللاشعوري.
ومن ثَم يرى لاكان أن مشروع فرويد في السيكولوجيا العلمية هو المحاولة التحليلية
الأولى لإخضاع ظواهر الوعي لقاعدة، ولكن ذلك لم يكتمل بالاختزال المزعوم إلى مادة
وحركة، وهو الاختزال الذي يمثل حلم القرن التاسع عشر بعالم الآلة، عالم المحرك البخاري،
ولكنه يكتمل بالعودة إلى مفهوم أقدم للآلة، مفهوم بسكال والاحتماليين في القرن الثامن
عشر، وهو مفهوم يطابق أيضًا، على نحو فجائي، في عام ١٩٥٤م واليوم، المفهوم السبرنطيقي
والرياضي للآلة كنسقٍ محدود من التوجيهات لإنجاز عمليات بسيطة بالاعتماد على خواص
الرموز التي تكوِّن «الداخل input».
وهكذا، فإن مفهوم لاكان للتكرار في التحليل النفسي يجعله بمعنًى ما أكثر شبهًا بنظرية
المعلومات وما يُدعى الآن «الذكاء الاصطناعي»، أكثر من الشبه بينه وبين الخاصية شبه
البيولوجية quasi-biological للكائنات الحية، ولم تكتمل
الأعمال الأساسية لإعادة توجيه تاريخ العلم، تلك التي يستلزمها تفسير من هذا النوع
للتكرار وعلاقته بالعلوم بعد-الفرويدية، لم تكتمل إلا في السنوات العشر الأخيرة على
أيدي المؤرخين المحترفين، أثناء العمل في تاريخ نظرية الاحتمالات والديناميكا الحرارية.
مثلًا، في كتاب إيان هكنج Ian Hacking انبثاق الاحتمالية The emergence of probability، وهو عمل يمثل بداية
لعهد جديد، والتفسيرات الثورية لسيكولوجيا القرن الثامن عشر ورياضيات داستون
Daston ولإحصاء بورتر
Porter وآخرين.
ومع مثل هذه الإطلالة على خريطة العلوم، لم يكن أمام لاكان إلا أن يتفاعل مع الحركة
ذات القاعدة العريضة في تاريخ الأفكار، تلك الحركة المرتبطة بنظرية المعلومات وعلم
السبرنطيقا (وهو الاسم الذي أطلقه واينر، في كتاب بهذا العنوان نُشر في عام ١٩٤٨م). إلا
أنه، في أي استخدام لمفاهيم جديدة عن الرسالة
message
والاتصال والمعلومات، ينبغي أن يُبقيَ النسقُ على الحساسية السائدة في الفروق اللغوية
الدقيقة وحدود المحادثة كما وضَّحها فرويد في تاريخ الحالات وتحليل الأحلام، وكانت
السمة الخاصة بأسلوب لاكان، وقد لاحظها واينر بصورةٍ رائعة في كتابه
استغلال البشر للبشر The human use of human beings
(١٩٥٠م)، وكانت حاسمة بالنسبة للسبرنطيقا في أطوارها الأولى. إن البراعة في مناقشة
الصدفة والرقم والعلامة هي السر وراء النجاح الكبير لتحليل لاكان لقصة إدجار ألان بو،
الرسالة المسروقة، في
السيمينار الثاني، بصورة جعلت من الممكن ابتكار مقاربة جديدة تمامًا
لمفهوم التكرار الذي يتأسس عليه
وراء مبدأ اللذة. إن
التكرار ليس مجرد حقيقة إمبيريقية، وليس مجرد شيء اكتشفه المحلِّل النفسي وهو يلاحظ
مرضى العصاب وهم يكررون صدماتهم المنسية، ويكررون (في الإحالة) علاقاتهم المنسية
بآبائهم، لكن التكرار قاعدة تفسيرية أساسية أيضًا، شبيهة بمفهومٍ كانطيٍّ يلائم التحليل
النفسي. إنها قاعدة مرشدة، حين يأتي المريض بفعل أو يتفوه بشيء غير مفهوم، حيث يكون
الفعل أو الكلام تكرارًا لشيء لم يُكتشف بعد. وقد صاغها فرويد في جملة، ألحَّ كثيرًا
على المفارقة والعمق الأصليين فيها: «قبل كل شيء، سوف
يبدأ
المريض علاجه بالتكرار …»
٦٠ وحيث إن المحلِّل يتخذ
بالضرورة وضع من
لا يفهم (يأتي المريض، يطلب من المحلل أن يفهمه، ويخلق بالتالي حالة من عدم الفهم، وهي
حالة يتطلبها العمل التحليلي ليصبح ممكنًا)، فإن ما يتم البحث عنه دائمًا هو المشهد
المجهول الذي يتكرر، أو القاعدة التي تتوافق مع الفعل، أو الكلام الذي تضطلع به خاصية
التكرار بالنسبة للذات. يدخل المريض إلى عرين المحلل وفي يده مسجل صغير
walkman. ماذا يتكرر هنا؟
وحين افترض لاكان هذا المفهوم الجديد للتكرار كمقولةٍ يتأسس عليها الفهم التحليلي،
وهو يناقش قصة بو، قدم في الوقت ذاته قراءة أدبية لذلك النص القصير ما زالت نموذجية
وثورية في تضمينها للنقد الأدبي، سواء أكان تحليليًّا أم لم يكن.
٦١ وقد درس لاكان هذه المسائل عن طريق «الآلة»، وهو طريق لا يبشر ظاهريًّا
بالنجاح.
إن استخدام لاكان لمصطلح «الآلة»، المصطلح الذي يتحدث عنه في معظم السيمينار الثاني،
كان سيتضح أكثر لو استخدم مصطلح «آلة تورنج» [كمبيوتر افتراضي له قدرة غير محدودة على
تخزين المعلومات، وتورنج
Turing عالم رياضيات إنجليزي
توفي عام ١٩٥٤م. (المترجم)]، أو كان هذا المصطلح متاحًا له. وقد عرَّف دينيت
Dennett آلة تورنج بأنها «ليست سوى نظام محدود من
الإرشادات لإنجاز عمليات بسيطة على مجموعات الرموز التي تشكل «الداخل»».
٦٢ إلا أن بعض تأملات لاكان ما كان لها أن تكون حاثةً على هذا النحو إذا اقتصر
مصطلح «الآلة» على ذلك التعريف المعترَف به في الوقت الحالي. يربط لاكان بين آلتين،
ويُشركهما في محادثة، ليوضح أن على مفهوم الخيالي، الذي يمثل الارتباط الأساسي بين
الإنسان والصورة، أن عليه أن يلتحم بعالم الآلات المتحدثة. وكان يأمل أيضًا في تحديد
الصعوبات التاريخية في تطور التفكير بشأن الآلة، من ديكارت إلى هيجل ومن ثَم إلى فرويد.
وهكذا يتأرجح بين مناقشة الآلات وعلاقتها بالطاقة (كما هو الحال أيضًا في السبرنطيقا
والأعمال المرتبطة بعامل الأنتروبيا وعلاقته بنظرية المعلومات) [الأنتروبيا
entropy: عامل رياضي لقياس الطاقة غير المستفادة في
نظام ديناميكي حراري. (المترجم، عن المورد)] والآلات وعلاقتها ﺑ «التفكير» (كما في حالة
الأبحاث الكلاسيكية عن آلة تورنج التي أجراها تورنج ولوكاس
Lucas وتشارش
Church، وغيرهم): الآلة التي صارت ممكنة بفضل مناهج
جودل
Gödel في الإثبات وما أضافه تورنج لهذه المناهج.
٦٣
ناقش لاكان ما يفترضه الآن أنصار الذكاء الاصطناعي: تدعم نظريةُ الآلة المجردة،
المؤسسة على مفهوم المعلومات، وليس على مفهوم «الميكانيكا» بالصورة التي كان عليها في
القرن الثامن عشر، أو على مفهوم «الكائن المتوحد»
unified
organism في العلوم في القرن التاسع عشر، تدعم تلك النظرية بوضوح
نموذجًا غير اختزالي، مفعمًا بالقوة. وتقوم بذلك لأن رياضياتها ونماذجها تتعامل أساسًا
مع قوانين الرمز، وكان على لاكان أن يعود في أعماله التالية إلى صف جودل في هذا الحقل
من حقول البحث، وهو يناقش نظرية العدد وعلاقتها بمفهوم التقمص.
٦٤ ومع ذلك علَّق الجانب السبرنطيقي فيما بعد تعليقًا مؤقتًا في
السيمينار.
وقد قاده توضيح نتائج مقاربته الجديدة للآلة ولوازمها الفلسفية إلى التركيز على
«بيولوجيا»
وراء مبدأ اللذة ونظرية الليبيدو عند فرويد.
٦٥ ويخلص إلى أن أيًّا منهما لا يمثل بيولوجيا حقيقية، وإلى أنهما يشكلان
«بيولوجيا» غير بيولوجية
non-biological ‘biology’.
ويخلص، في الحقيقة، في الجملة الختامية لسيمينار ذلك العام إلى «أن غريزة الموت ليست
سوى قناع النظام الرمزي … النظام الرمزي لا كينونة له، ويلحُّ في الوقت ذاته على أن
تكون له كينونة، وهو ما فكر فيه فرويد حين تكلم عن غريزة الموت باعتبارها الغريزة
الأساسية أكثر من سواها …»
٦٦ إن استمرار المناقشة يربط مفهوم فرويد للتكرار بنظرية الآلة، بتقديم تفسير
جديد لعلم الطاقة [
energetics: فرع من فروع الميكانيكا
في الطاقة وتحولاتها. (المترجم، عن المورد)] في القرنين التاسع عشر والعشرين ولنظرية
المعلومات التي تُعتبر متولدة عنه، وفقد هذا التفسير بعض خصوصيته منذ إعادة تفسير
مفاهيم الفيزياء بصورة شاملة على أيدي كلٍّ من بريجوجاين
Prigogine وستينجرز
Stengers بوصفها تتمركز حول الديناميكا الحرارية،
ومنذ وصف الأنساق اللاعكسية
non-reversible.
٦٧ وحتى يفهم لاكان كيف أساء فرويد بناء ظواهر برزت بواسطة الذات التي يتم
تحليلها (وخاصةً ظواهر التكرار، وبصورة أكثر شمولًا، تلك الظواهر التي تجمعت تحت مفهوم
«دائرة الخطاب» الذي أدخله لاكان إلى السيمينار) فيما يبدو أنه تربة بيولوجية؛ ليفهم
ذلك يعود إلى النموذج الذي تأسَّس عليه
وراء مبدأ
اللذة: ميتا سيكولوجيا
المشروع [مشروع
سيكولوجيا علمية (١٨٩٤م)
Project for a
scientific psychology. (المترجم)] والفصل السابع
من
تفسير الأحلام.
مع
المشروع، يكتشف لاكان الآلة من جديد، الآلة التي
«دارت بنفسها تقريبًا» بتعبير فرويد. ويرى لاكان بوضوح أن الآلة ليست غريبة على العلوم
الإنسانية، كما افترض ذلك المفكرون «ذوو النزعة الإنسانية». «الآلة تجسيد لأكثر نشاطات
الإنسان راديكالية.»
٦٨ وتُمدُّ السبرنطيقا لاكان بالمواد اللازمة لتجسيد هذه الأطروحة. ويحدد
لاكان، واضعًا في الاعتبار ما قد ندعوه قراءة
مشروع
فرويد طبقًا لنظرية المعلومات، كيف أن النسخة السيكولوجية لهذا النموذج، وهي النسخ
الموجودة في
تفسير الأحلام، تمثل محاولة لاتخاذ خطوة
أخرى إلى الأمام بإدخال بعد الزمنية (الذي تنشأ عنه كل تناقضاتها الداخلية). وبعد ذلك
ينكبُّ لاكان على دعواه (ذات التوجه السبرنطيقي): إن اهتمام نظرية الأحلام لفرويد
بسيكولوجية الحلم أقل من اهتمامها برسالة الحلم (ومن ثَم «الحالم»)؛ لقد اهتم فرويد
بالرسالة
كما هي، بالرسالة كجزء من «خطاب متقطع ولكنه لحوح».
٦٩
إن الموضوع المتواتر في هذا السيمينار وفي غيره هو مناقشة ما يعتقد أنه «سيكولوجيا»
متجانسة — حينًا في أعمال فرويد، وحينًا في أعمال أولئك المحللين النفسيين الذين
يعتبرون أنفسهم بناة سيكولوجيا — وهو في الحقيقة أشبه ما يكون بوصف للعملية التحليلية،
للعلاقة بين المحلِّل والمحلَّل. وهكذا يبين لاكان كيف أن مفهوم فرويد للرقابة لا يشير
إلى حدث سيكولوجي أو عملية سيكولوجية داخلية، لكنه بالأحرى ذو علاقة بمفهوم المقاومة
في
تفسير الأحلام والممارسات التحليلية، إلا أنه يختلف عنه، وهو أكثر شبهًا ﺑ «قانون
الخطاب» و«القانون» الذي ينصُّ على أن المرء لا يستطيع فهم القانون برُمَّته. وتمَّت،
بالمثل، مناقشةُ أن المقاومة ليست حالة سيكولوجية داخلية، «تُعزَى»، وكأنها قضية
مسئولية (بصرف النظر عن إمكانية التسامح بشأنها)، إلى المريض (أو، بصورة لا تُصدَّق،
إلى العَرَض)، لكنها تتعلق بضغط المحلل وعمله (ثَمة مقاومة واحدة فقط، إنها مقاومة المحلِّل).
٧٠ وحين يتناول لاكان نظرية فيربرن عن الحافز المضاد
Fairbairn’s anti-drive theory، وهي نسخة من
التحليل النفسي عن علاقات الموضوع، يتحد مفهوم «الموضوع الباطني»
the
internal object أو «الموضوع المبطن»
the
internalised object مع تقنية تكون فيها أنا المحلِّل هي المقياس
الوحيد لعالم المريض، عالمه الخيالي. وبالإضافة إلى ذلك، يمثل مفهوم «الأنا الملاحِظة»
اسمًا آخر للمحلل الذي «يراقب» المريض.
٧١ وكل انتقاد من هذه الانتقادات يمثل هجومًا على سيكولوجيا التحليل النفسي،
وهو انتقاد مرتبط بإصدار توصية لجعل نظرية التحليل النفسي أقوى ارتباطًا بممارسة
التحليل. «بالمثل، حين يتعلق الأمر بمرضانا، من فضلك اهتم بالنص أكثر مما تهتم
بسيكولوجية المؤلف، وهذا هو التوجه التام لتعليمي.»
٧٢
وحتى يرسم لاكان نسخة من هذا الإصدار، فإنه ينكبُّ على نظرية فرويد عن الأحلام؛ ليبين
أن اهتمام فرويد بسيكولوجية الأحلام (بالرغم من كتابة فصل ختامي في تفسير الأحلام بعنوان «سيكولوجيا عمليات الحلم») كان أقل من
اهتمامه بمعانيها ومناهج تفسيرها؛ أي إن اهتمام فرويد بخصوصيات النص كان يفوق اهتمامه
بالعمليات الذهنية. وهنا ينهمك لاكان في أحد استطراداته الظاهرية، في عمل من الأعمال
التي تدل على ألمعية غير متوقعة، تلك الأعمال التي
تمثل سرَّ شهرته: إعادة النظر في حلم حقنة إرما، موضحًا أن السؤال الذي طرحه فرويد على
نفسه كان: «ما معنى الحلم؟» وعليه رد حلمه: «معنًى.» ويتم تخصيص جزء كبير مما تبقى من
السيمينار الثاني لاستكشاف الرمزي واستكشاف مقدمة
المصطلح الذي صار مصطلحًا مركزيًّا في جزء كبير من أعمال لاكان التالية: ألا وهو مصطلح
الآخر the
Other.
ويمضي لاكان، بعد أن وضَّح أن ممارسة التحليل تتطلب معرفةً بأن العلاقات موجودة «منذ
البداية»، يمضي متعقبًا خُطى فرويد، إلى أبعد «من» ذلك. والسبيل الذي يسلكه إلى هذا
«الأبعد» هو طريق الرمزي: وعن طريق الآلة مثلما هو الحال في معظم أجزاء هذا السيمينار.
وخلال الاهتمام بلعبة زوجي أم فردي [جوز ولا فرد] — التي يرى لاكان أنها تعكس أكثر
الآلات الحديثة بدائية، وهي الآلة التي تعمل في التدوين الثنائي، أي الآلة الحاسبة
الرقمية، وتقدم اللعبة ذاتها توقعًا لتحليل قصة بو، حيث إنها مأخوذة عن تلك القصة —
وفيه يوضح لاكان خطاب اللاشعوري وعلاقات الرمز والواقع. وهنا تبرز قيمة الرمزي، حيث نرى
الذات مستقرة في علاقة سلبية مع تلك الذوات الموجودة ضمن سلسلة الخطابات، وتحتاج إلى
استجابة تلك الذات (مثلًا، كانت الحكايات التي تحكيها عائلة فرويد تمثل عنصرًا كبير
الأهمية في مفهومه عن عقدة أوديب)،
٧٣ حيث يتحول لاكان بصورة متعرجة، منتقلًا إلى تحليل
الرسالة المسروقة. وكانت حقًّا اكتشافًا ملائمًا بالنسبة له، حيث إنها
تكمل تكرار المشاهد المألوفة للمحلِّل بدقة رياضية لسلسلة تتحدد بواسطة بنية (القواعد
التي يتم بواسطتها إنتاج السلسلة)، وينبثق عنها شيء غير متوقع.
٧٤ وتقدم حركة الرسالة في حكاية بو مجازًا تصويريًّا للعملية التحليلية، وتوضح
أيضًا أن البنية التي توضع فيها الرسالة هي التي تحدد تأثيرات المعنى واحتمالية الفهم
بالنسبة للمشاركين في نقل الرسالة. إن الرسالة هي وحدة آلة اللغة، وأفعال المشاركين
هي
كلام هذه الرسالة، هذه الآلة، والرسالة في الحقيقة هي ما يحدثهم أو يخاطبهم. وعند هذه
النقطة، يقدِّم لاكان، بواسطة مسألة علاقة الكلام باللغة وعلاقة اللعب
play والألعاب
(le jeu) games، يقدِّم
الآخر the Other، ومعه
التخطيط
L (أو تخطيط على شكل حرف
Z)، وبه يواصل وصف تقلبات عملية التحليل وعلاقتها
بمفاهيمه عن الأنا والآخر
other، عن الذات و
الآخر Other، والخيالي
والرمزي والواقعي.
لا يمكن أن نُفرِط هنا في التأكيد على أهمية مفهوم الآخر في فكر لاكان، أو تعدد التكافؤ الأساسي لهذا المفهوم، حيث إن
خلفيات مفهوم الآخر موضوع أكبر من أن نناقشه هنا
بصورة كافية، ونكتفي هنا ببعض الإشارات الموجزة.
إن بُعد الخداع والكذب، وهو موضوع حظِيَ بقدر عظيم من الأهمية في
السيمينار الأول، ويتكرر في أعمال لاكان ويميزها، يكفل هنا
ضرورة وجود مفهوم
الآخر. وتضطرنا حقيقة أن الذات قد
تكذب، تضطرنا إلى التفكير في أن ثَمة شيئًا وراء تبادل العلاقات بين الذوات
intersubjectivity.
٧٥ إنه يضع، غالبًا، خبرة الخداع والكذب، وهي خبرة مألوفة تمامًا في الحياة
اليومية، ومألوفة أضعاف ذلك في الحياة اليومية للتحليل النفسي، يضعها جنبًا إلى جنب مع
أهمية تلك الخبرة في تاريخ الفلسفة والعلم. وينكبُّ مرة أخرى على مناقشة موضوع الروح
الحارسة
demon عند ديكارت (التي قد تخدعه وتجعله يصدق
ما هو غير حقيقي)، وضرورة الرب الذي ينطق بالحقيقة ويستحضره ديكارت ليضع عالم العلم على
الأرض، وعلى مناقشة تكرار
reprise أينشتاين، وإشارته
إلى رب العالِم، وإلى أنه ليس خبيثًا. ودخل واينر، أيضًا، إلى المقاطعة ذاتها، موضحًا
أن أينشتاين يفترض أن الرب لا يخدع وهو يلعب البوكر مع عالم الفيزياء، وقد استوعب لاكان
في شغف أعماله وأعمال غيره من السبرنطيقيين.
٧٦ لكن ما يمنح القوة لتأملات لاكان عن الخداع هو أن كذب المريض يخدع المحلل
بقدر ما تخدعه حيلة الرب. وفي
السيمينار الثالث، يصوغ
لاكان السبب وراء تقديم
الآخر على النحو
التالي:
ولماذا بحرف
A كبير [في كلمة
Autre، بالفرنسية؛ أي الآخر]؟ إنه دون شك، سببٌ
مجنون، مثلما هو مجنون في كل مرة نُضطر إلى أن نأتي بعلامات مكملة لتلك العلامات التي
تقدمها اللغة. السبب المجنون هنا هو التالي.
أنتِ زوجتي. ومع ذلك، ماذا تعرفين عن ذلك الشيء؟
أنتَ سيدي. في الواقع، هل أنت على يقين من ذلك؟ إن ما يخلق القيمة التي تؤسس تلك
الكلمات هو هدف الرسالة، كما أن ما يَبرُز من هذا الادعاء، هو أن الآخر
other يوجد باعتباره
آخر Other مطلقًا. ومطلق هنا، بمعنى
أننا نتعرف عليه لكننا لا نعرفه. وبالمثل، إن الذي يشكِّل الادعاء، في النهاية، هو أنك
لا تعرف ما إن كان ادعاءً أم لا، إن ذلك العنصر المجهول الذي يمثل تبدل الآخر هو بصورة
جوهرية ما يميز علاقة الكلام على مستوى توجيه الكلام إلى الآخر.
٧٧
وكما سبق أن ذكرتُ، علينا ألا ننسى تأثير
نظرية
اللعب The theory of
games لكلود شانون
Claude
Shannon وجون فون نيومان
John von
Neumann وأوسكار مورجنسترن
Oskar
Morgenstern، وأعمال نوربرت واينر على فكر لاكان في
السيمينار الثاني، ومن ثَم على توليد مفهوم الآخر. وإذا كان
مفهوم «الآخر»
other أو «
الآخر» Other قد وجد صداه المباشر بعد
الحرب في اهتمام سارتر من جديد بمشكلة «الآخر»، تلك المشكلة الكانطية، في
الوجود والعدم (وأيضًا، بالمسألة الكانطية المرتبطة
بالعلاقة بين الأنا المتعالية والأنا الإمبيريقية)، إلا أن الهيكل التفصيلي لمفهوم
لاكان يدين أكثر بتفسيراته
لفينومينولوجيا هيجل، مع
سياق اللغة والاستبدال والبنية عند ليفي شتراوس وموس. ويأخذ لاكان من هيجل، دون تعديل،
خاصية من جدل «الروح الجميلة»، خاصية التبادل بين الذوات، تلك الخاصية الضرورية لكل
الحالات الإنسانية، المعرفية والوجدانية والأخلاقية. ومن هنا تأتي فكرة لاكان عن أن
الرغبة الأساسية التي تبحث عن تعبير في التحليل النفسي هي الرغبة في التعرف. وأية رغبة
في التعرف تستدعي على نحو مباشر المفهومَ الذي قد تكون عليه رغبة الآخر التي تقودها إلى
التعرف على الذات؛ ومن ثَم تأتي عبارة لاكان المشهورة «الرغبة هي رغبة الآخر». إنه يأخذ
عن موس
Mauss وليفي شتراوس فرضية أن علاقات الاستبدال،
بين النساء، بين الكلمات، بين «هبات» موس — مع ما تجلبه من الإلزام المرآوي
mirroring — أساسية في العلاقات الاجتماعية التي
يمارسها الإنسان. ووراء تلك العناصر، توجد تأملات لاكان في تحولات الكلام الخاصة،
والطرق الخاصة لمخاطبة الآخر، وهي تأملات تتضمن وجود
آخر
Other وراء الآخر
other: خاصةً، حين أكذب على الآخر
other، أستدعي
الآخر Other كمستودع للحقيقة التي
أحجبها. وأيضًا، حين أخاطب آخر بكلام بهدف توقيع ميثاق أو عقد، يكون المثالان المفضلان
عند لاكان هما «أنتِ زوجتي»، و«أنتَ سيدي».
٧٨ وبعيدًا عن هذه الإشارات الثقافية، يكون من الواضح أن تأملات لاكان في تخوم
نسخته الخاصة عن «آخر» (بحرف
o صغير) مرحلةِ المرآة
ونتائجها وفي علاقة الخيالي بالرمزي، تأملاتٌ عظيمة الأهمية. إنَّ تميُّز لاكان، تميزه
الكبير على سارتر وميرلو بونتي وعلى نظرائه الآخرين، يكمن في التزامه بمواجهة خاصة
تتعلق بممارسة خاصة: «أي «آخر» يكون المحلِّل النفسي؟» «أية نظرية عن «الآخرية»
otherness تلزم للتعليق على وجود الخطاب التحليلي
وتوجيه فعل المحلل؟»
وما ينتقده لاكان في أعمال فيربرن هو إهمال ما يدور بين الذوات، وهو إهمال يبرز في
إهمال بُعد الكلام واللغة، وهو ما فعله لاكان مع بلنت في العام السابق على ذلك العام.
وليست الحاجة هي موضع الخلاف في التحليل، كما ذكر ذلك عدد كبير من المحللين البريطانيين
متصورين الحاجة طبقًا لنموذج الحالات الفسيولوجية الحاسمة، لكن الرغبة هي موضع الخلاف:
الرغبة في التعرف. ومن ثَم فإن الذات لا تواجه مجرد موضوع، إن الخبرات التحليلية تشير
كلها إلى أن العلاقة مع ذات أخرى هي التي «تضع» العلاقة بالموضوع في موضعها، إن علاقات
الموضوع ثلاثية دائمًا (وربما قال آخرون إنها أوديبية)، مثلما يصف فرويد النكات بأنها
جميعًا تشتمل على ثلاثة أشخاص: الراوي والمستمع (الشخص الثالث في النكتة)،
٧٩ والشخص الثاني الغائب هو موضوع النكتة.
٨٠
وهذا هو التخطيط الذي يستخدمه لاكان لتحليل كوميديا
أمفتريون Amphitryon: «في النهاية، تكون دائمًا، مسألة أنا
وأنت والآخر.»
٨١ إن الأنا في كل مسرحيات موليير وبلوتس تظهر في صورة هزلية أكثر قدرة على
إثارة إيعاز الغريب وإثارة الرغبة في إلغاء الآخر: القرين. إلا أن تحليل لاكان يجدل
المصير المخزي للأنا وقرينها (البعد الخيالي) ببحث عن بنية الزواج ومثاليتها: المرأة
والزوج والرب (رب الرمزي). وهنا يقترب السيمينار من النهاية، بمحاضرة شاملة عن
السبرنطيقا، وجولة أخيرة عن المخطط
L، ويلخص فيها لاكان
تمفصل النظرية والممارسة، ووعد أن يقوم في العام التالي باستكشاف بنية البارانويا ونسق
شريبر
Schreber’s system. وقد وفى بوعده في
السيمينار الثالث الذي خصَّصه
للذهان Les
Psychoses . إلا أن ثَمة اتجاهًا قد يتم فيه تطوير
الأبحاث عن الآلة في
السيمينار الثاني بصورة أكثر
اكتمالًا، وإعادة اقتفاء الخطوات التي لم يحد عنها لاكان إطلاقًا، سواء أكان قد تأملها
أم لا.
ومن المؤكد أن المناخ الفكري في عام ١٩٥٤م كان على وشك التحول الجذري. وفي الواقع،
كان قد تحوَّل في تلك اللحظة، بطريقة لم تخطر على بال لاكان: ثورة في البيولوجيا ترتبط
بحل شفرة الجينات الوراثية. كيف بدا له تنظيم البيولوجيا والتحليل النفسي من جديد،
خاصةً إذا وضعنا في الاعتبار أن البيولوجيا نفسها كانت تجسد الرمز وتشفيره في اتحاد
جديد، يتكون من أربعة حروف [لعله يقصد كلمة gene.
(المترجم)]؟ ومن المؤكد أن البيولوجيا التي استخدمها أولئك المحللون الذين انتقدهم
لاكان قد أزيحت جانبًا منذ تلك اللحظة، بحيث ربما كان لاكان، في إحلال اللسانيات مكان
البيولوجيا، والإلحاح الدال مكان وظيفة التكيف في السيمينار
الثاني، قد انهمك في هجوم وقائي غير ضروري، إذا وضعنا في الاعتبار ما
تستلزمه المفاهيم (دونكيرك Dunkirk العلمي أو حصان
طروادة) التي تم فرضها على العلوم الإنسانية بمجرد أن تحولت البيولوجيا إلى بيولوجيا
جزيئية molecular؛ ومن ثَم صارت القسم الأكثر سطوعًا
والأحدث والأفضل ذخيرة بين علوم الشفرات، والقراءة والكتابة، ونقل الرسائل. إنني أتخيل
أن التشاؤم الحماسي للاكان وسخريته ربما كانا سيتأثران بمعرفة أن الأقدار الجنسية
للرجال والنساء — مثلما هو الحال بالنسبة للحياة والموت — ترتبط الآن في عصر الإيدز
AIDS، ارتباطًا لا تنفصم عراه، بكينونة مبهمة اسمها
إنزيم المسخ العكسي reverse transcriptase.