الفصل الثاني

لاكان والعودة إلى فرويد١

مالكولم بويي

«إنه يفتقر تمامًا إلى وجودٍ مستقر، ويُسرع في زوال سرمدي …»

كيركيجارد: إما/أو
يُعَد الفهم الدقيق لأرسطو، باستثناء فهم الأنبياء، أسمى ما يمكن أن يحققه المرء.٢ ستبدو كلمات ابن ميمون، بما تبرزه ظاهريًّا من إعجاب سهل، مُنفرةً لكثير من المعاصرين. وربما ما زال التصور الرومانسي للعبقرية يجعلنا نتوقع أن تنبعث أفكار المفكر الأصيل على نحو رائع ومكتمل تمام الاكتمال من أعماقه، أو من الطبيعة، أو من حيث لا ندري. نتوقع من المبدع الحقيقي أن يحقق كل شيء، بينما تَعْثر العقول المحدودة على وظيفة حقيقية لها في قراءة نصوص تنتمي للماضي وفي دراسة تلك النصوص بالتفصيل. وإذا سلمنا بهذه الفرضية فقد نرتبك إزاء بعض المفكرين الذين يقدِّمون أنفسهم كقراء ومفسرين لصروح فكرية موجودة، مع وجود دليل قوي يجعلنا نعتقد في أن هذا التفكير الذي تتم ممارسته في ضوء السلف الجليل وفي ظلاله قد يكون على قدر عظيم من الأصالة والقوة. أفلوطين يقرأ أفلاطون، ابن ميمون يقرأ أرسطو، وابن رشد يقرأ الاثنين، ماركس الشاب يقرأ هيجل. قد يتطلب تقييم الأصالة في مثل هذه الحالات جهدًا يفوق المعتاد، ربما نفهم إنجاز المفكر اللاحق فهمًا جيدًا إذا كنا على استعداد للعودة إلى أعمال المفكر السابق واقتفاء كل ما أحدثته من تحولات وتحريفات خلاقة، إلا أن بحثًا من هذا القبيل قد يكون ممتعًا، إنه ينبهنا إلى طرق الأصالة التي تهملها الولاءات الحديثة بالإضافة إلى الدور الكبير الذي تلعبه إعادة التفكير وإعادة الكتابة حتى في أعمال من تلك التي لا تعترف بأية أسلاف وتقدِّم نفسها بوصفها استثناءً لكل القواعد إلا قواعدها الخاصة.

لاكان يقرأ فرويد. إن هذه الجملة أبسط وأهم ما يمكن أن يقال عنه، ولكن استكشافه لأعمال فرويد، ذلك الاستكشاف الذي استغرق خمسين عامًا، يختلف عن تلك القراءات التي ذكرتُها من حيث النقاء الكامل لدوافعه، بينما بحث الآخرون لمقابلة مجموعة من الأفكار بمجموعة أخرى (يلتقي أرسطو في أعمال ابن رشد بالفلسفة الإسلامية، وفي أعمال ابن ميمون باليهودية الربانية)، أو لتطوير تيار فكري من التيارات الأصلية لتفضيله على تيارات أخرى (يعكف أفلوطين على دراسة أفلاطون الميتافيزيقي والصوفي)، يقول لاكان إن هدفه الرئيسي قراءة فرويد قراءةً جيدة وفهمه بوضوح.

إن «العودة إلى فرويد»، التي يعلن أنها رسالته الشخصية وشعاره، تتبع مسارين مختلفين؛ العملية الأولى، وهي الأوضح: استخراج أفكار فرويد من ركام الشروح والتفسيرات المبتذلة التي أهالها عليها الكُتاب الذين جاءوا من بعده. وتشترك حركة التحليل النفسي الدولية في المجادلات المتَّقدة حول مسعى لاكان الرئيسي؛ إن أولئك الذين تمثِّل لهم مفاهيم فرويد مجرد سلعة — مثلًا، المتعالم الذي يؤلف الكتب الرخيصة أو المحافظ المتأنق — لا يستحقون حتى السخرية العابرة. إن معظم المحللين النفسيين المتأخرين ارتكبوا ما هو أسوأ من سوء فهم فرويد؛ فقدوا كل إحساس بأهمية أفكار فرويد وحيرتها وقدرتها الإبداعية حين صاغها للمرة الأولى، تعلموا تلك الأفكار وأعادوها كلها بصورة سطحية، وأظهروا الولاء لها بسذاجة وخداع للذات يمثلان عائقًا في وجه الفحص العلمي للعمليات العقلية بدلًا من دفعه إلى الأمام. إن إجراءات نشأة التحليل النفسي، التي بحث عنها فرويد ليضمن استمرارية تعاليمه، تنتج عنها غالبًا آثار جانبية خطيرة: «ألم ينتج عن هذه الأشكال شكلية متشائمة تثبط المبادرة بالمجازفة الحمقاء، وتحول سلطة الرأي الذي نتعلمه إلى مبدأ التعقل الانقيادي، حيث تتبلد مصداقية البحث قبل أن تضمحل في النهاية؟»٣ (٢٣٩). وكثيرًا ما يعود التحليل النفسي في كتابات لاكان إلى مصادره، ويعيد فحص تصوراته وطقوسه ومؤسساته من نقطة الأفضلية التي يقدمها مكتشفوه في حالتها الأصلية دون تصنيف.
أما العملية الثانية، فهي أكثر تعقيدًا، وتُعرِّض لاكان لما هو أخطر من خلق أعداء له بين زملاء المهنة. إنه يُصحح بعض المفاهيم الفرويدية بالرجوع إلى آخرين، والاكتشاف الذي يضعه لاكان في المركز من إنجازات فرويد، ويستخدمه في تصحيح فرويد من الداخل كأداة أساسية للتصور، هو اكتشاف اللاشعوري — اللاشعوري الذي يبدو كنسقٍ مستقل في مقابل نسق «ما قبل الشعوري» — الشعوري preconscious-conscious٤ في ثاني نماذج فرويد الكبرى عن الجهاز النفسي. في الأول، وهو عمل كُتِب في عام ١٨٩٥م ونُشر بعد وفاة فرويد بعنوان مشروع سيكولوجيا علمية (I, 283–397)، وفيه يظهر المفهوم بصورة غامضة. في الثالث، الثلاثي الذي يشمل الهو والأنا والأنا العليا، وقد نُشر في عام ١٩٢٣م (الأنا والهو The Ego and the Id, XIX, 3–66، حيث يكتسب المفهوم دورًا جديدًا ومعقدًا. مرة أخرى تظهر خصائص اللاشعوري، الخصائص الرئيسية في أوصاف الهو، وتُعزى بعض الأجزاء اللاشعورية إلى الأنا والأنا العليا، أيضًا.) وتسود هذه النسخة عن اللاشعوري في فكر فرويد في مرحلته الإبداعية العظيمة التي تمتد من تفسير الأحلام (١٩٠٠م) إلى الأبحاث الميتاسيكولوجية في عام ١٩١٥م. إنه مفهوم طوبوجرافي وديناميكي في الوقت ذاته، ويحتل، في بحثين عن «الكبت» و«اللاشعوري» (XIV, 143–158, 161–215)، مركز تعليقات فرويد الأكثر تعقيدًا، التعليقات التي تنصبُّ على الوظائف العقلية.
ويرى لاكان، شأنه في ذلك شأن عدد كبير من الكُتاب، أن بصيرة فرويد الأساسية لم تكن — لم تكن بكل وضوح — تكمن في اكتشاف وجود اللاشعوري، ولكن في اكتشاف أنَّ له بنيةً، وأن هذه البنية تؤثر بطرق لا حصر لها على أقوال البشر وأفعالهم، وتكشف عن نفسها بهذا التأثير، وتصبح قابلة للتحليل. إن اللاشعوري بالصورة التي يبدو عليها في تفسير الأحلام، وسيكوباثولوجيا الحياة اليومية (١٩٠١م)، والنكات وعلاقتها باللاشعوري (١٩٠٥م)، طَلِقٌ voluble ويفصح عن نفسه في صور لا تنتهي. إنه يلحُّ علينا لنسمعه في أحلامنا، وفيما ننساه، وفيما نتذكره بصورة مشوَّهة، وفي زلات اللسان أو القلم، وفي النكات، والرموز، وفي العادات اللفظية والجسدية. إن الطاقة النفسية التي تُسبب الكبت وتحافظ على استمراره، تواجهها وتتحداها طاقة أخرى تسعى، بالخداع والحيلة عمومًا، إلى دفع محتويات اللاشعوري المكبوتة إلى مجال ما قبل الشعوري-الشعوري. والجدل الدائم الذي ينتج عن هذا الصراع له سحره الخاص عند لاكان، ويأتي استخدامه اللغة البلاغية في أكثر الصور قوةً والتفافًا حين يصور اللاشعوري متكلمًا رغم الكبت والرقابة. إنه يوسع، مثلًا، في الفقرة التالية أليجوريا أفلاطون عن الكهف ويعدِّلها:٥
إن الموضع الذي نسأل عنه هو مدخل الكهف الحقيقي فيما يتعلق بما هو معروف من أن أفلاطون يرشدنا إلى المخرج، بينما يتخيل الناس أنهم يرون المحلل النفسي يتجول في الداخل، لكن المسألة أبسط من ذلك؛ لأنه مدخل لا تصل إليه إلا حين يغلقونه (إنه موضع لا يجتذب السياح على الإطلاق)؛ لأن الوسيلة الوحيدة لمواربته هي أن ننادي من الداخل.٦
حين نصل إلى كهف اللاشعوري، لا نصل أبدًا إلا حين يُغلَق، والطريقة الوحيدة للدخول تتمثل في أن نكون بالداخل، ولا يمكن أن يعرف بنيةَ اللاشعوري إلا من هو على استعداد للتسليم بقدرة اللاشعوري، القدرة الهائلة على الإزاحة، والإيمان بتلك القدرة.٧

ويشير لاكان، في محاولاته العديدة لإعادة تدريس التحليل النفسي واستثارة بصائره الخاصة، إلى قدرة الكبت اللحوح كما تمارس في كلٍّ من العملية التحليلية والاستنباط التجريدي من النظرية التحليلية. إن اكتشاف اللاشعوري نفسه مُعرَّض للكبت: يصاب اللاشعوري، وهو يمثل، طبقًا للتعريفات الأصلية التي يتأسس عليها التحليل النفسي، واقعَ الطاقة الغريزية النهمة، وهو لا يعرف الاستقرار أو الاحتواء أو التحديد، يصاب بالشلل ويتم تدجينه على أيدي دارسيه المحترفين، وتصبح قوة التبديد والافتراء، تلك القوة الاستثنائية، عملةً زائفة ومعتادة في لعبة التصور المعتادة.

لكن إفساد الرسالة اللاشعورية على أيدي المحللين بعد الفرويديين له ما يناظره في أعمال فرويد. كان اكتشاف فرويد اكتشافًا مفزعًا؛ ومن ثَم دفعته رؤيته للعقل بوصفه منقسمًا انقسامًا ذاتيًّا self-divided، ورؤيته للنمو الذي لا يمكن التحكم فيه ولخاصية الاصطياد الذاتي لجانبه اللاشعوري إلى البحث عن سلوى في عالم وثير من التأمل الأسطوري والميتافيزيقي. ومع أن فرويد انحرف عن اكتشافه بطرق تجعل اكتشافه يتيح له أن يتنبأ، إلا أن مغامرته الفكرية تُعتبر نموذجية من حيث المخاطر التي تعرَّض لها: يقدمه لاكان بوصفه أكتيون [Actaeon: صياد في الأساطير الإغريقية تحوَّل إلى أيِّل وقتلته كلابه؛ لأنه رأى أرتيمس إلهة الصيد وهي تغتسل. راجع الفصل الأخير من هذا الكتاب. (المترجم)] الجديد، أكتيون الذي تهاجمه أفكاره وتفترسه لأنه كشف النقاب عن إلهة اللاشعوري (٤١٢، ٤٣٦).٨ إن الهدف الذي حدَّده لاكان لنفسه هو استمرار التفكير في التفكير الفرويدي الهائل، ولو كان بتقطيع الأوصال، والسماح للتعاليم المكبوتة بأن تعود إلى التحليل النفسي عودتها المفكَّكة بحيث تتحقق ونمعن النظر فيها. ويمكن الآن أن نرى أبعاد المفارقة في «عودة» لاكان «إلى فرويد»، وما قد يستلزمه هذا الرأي، وهو رأي ينمُّ عن إخلاص حقيقي، من عصيان.
وحين يعيد لاكان التفكير في نصوص فرويد «من الداخل»، يرفض إغواءات الموافقة الكاملة والمعارضة الكاملة في اتساق متساوٍ. وتتضح بدايات هذا التوتر في أول عمل كبير نشره لاكان: عن ذهان البارانويا وعلاقته بالشخصية De la psychose paranoïaque dans ses rapports avec la personnalité (١٩٣٢م). دخل لاكان التحليل النفسي مرورًا بالطب والطب النفسي، ويمثل هذا العمل، وهو الأطروحة التي تقدَّم بها لنيل درجة الدكتوراه، نقطةَ تحوُّل حاسمة في مسيرته الفكرية. إنه يُصعِّد، وهو يلاحظ كل التفاصيل الأكاديمية التي يتطلبها الشكل عادة، يُصعِّد من هجومه العنيف على الكثير من نماذج التفسير السائدة في التحليل النفسي. وقد أعاقتْ دراسةَ البارانويا قدرةُ الطب النفسي الراسخ على تقديس فرضيات لم تُختبر إلا بصورة واهية وهزيلة، وتحويلها إلى مبادئ. إن الذين يفسرون البارانويا بالرجوع إلى أساس عضوي مفترَض لها، أو إلى ميل وراثي، أو إلى «نوع من التكوين الجسدي» للمريض، يلوذون بحيلة تفسيرية يستخدمونها دائمًا وتتيح لهم ألا يعترفوا بتعقد الذوات الإنسانية الفردية.
ويوفر التحليلُ النفسي للاكان آليةً دقيقة التناغم لإعادة النظر إلى المصاب بالبارانويا بوصفه شخصًا. وقد توصف البارانويا، بصورة لا تقلُّ في أهميتها عن العصاب الذي تطوَّرت حوله في الأصل نظرية التحليل النفسي، ويتم تحليلها تحليلًا مترابطًا بالرجوع إلى شخصية المصاب وإلى نشاطه الجنسي وخبرات طفولته وتطوره العاطفي وعلاقاته العائلية وقدراته العقلية وأمنياته الخاصة. وبمجرد تجميع هذه المادة وتنظيمها، لا يمكن أن نجني شيئًا من وراء غرس المريض في دراسة إكلينيكية مُعَدة سلفًا، سواء أكانت دراسة للنموذج typology أم كانت دراسة للشخصية characterology. وبإلهام من التحليل النفسي، يتمتع لاكان بالقدرة على تصور علم للشخصية تحتفظ فيه الذات بماضيها وأهدافها وذكائها الإبداعي، ولكن حتى حين يحرِّر لاكان هذا الدرس ويهلِّل ﻟ «العبقرية الفذة لأستاذ التحليل» (عن ذهان البارانويا De la psychose paranoïaque، ٣٢٤)،٩ يؤكد حدود ما يدين به، ويلفت الأنظار إلى التشويش confusions في نظرية فرويد. ويعتمد لاكان، بالإضافة إلى ذلك وبصورة متميزة مرة أخرى، على أعمال مفكرين آخرين، منها أعمال اسبينوزا ووليم جيمس وبيرجسون وراسل، ليُبقيَ على نموذجه النظري قابلًا للاختراق من قِبل أنساق التفكير الأخرى. وقد ابتكر أسلوبًا فكريًّا مدهشًا في المناقشة المتقدة في عن ذهان البارانويا وفي ترتيبها السلس ومفاهيم التصحيح المتبادل.
حين قرأ لاكان بحثه عن مفهوم «مرحلة المرآة» في المؤتمر الدولي للتحليل النفسي الذي دارت أحداثه في عام ١٩٣٦م في مارينباد Marienbad — وقد دخل الحركة رسميًّا بهذا البحث — كان قد بدأ استكشاف طريقة في التعبير بالكلمات، وظلت هذه الطريقة طريقته المميزة، وجاءت معظم أعماله النظرية، بعد ذلك التاريخ، على هيئة أبحاث وتقارير في المؤتمرات التي تخاطب المحترفين، كانت تُرتجل من مذكرات ثم تُنقَّح للنشر، وقد حُررت في طبعاتها التالية مصحوبة بالحواشي غالبًا. وفي عام ١٩٦٦م ظهر عددٌ كبير من هذه الأبحاث في كتابات، وتحمل بعض الخصائص من كلٍّ من «التداعي الحر»، الذي يفرضه التحليل النفسي على المريض أثناء الكلام، ومن «الانتباه المركز دائمًا»، الذي نتوقع من المحلل النفسي أن يتحلى به وهو يستمع إلى كلام المريض؛١٠ مما يعني أن لاكان يقدم إلى القارئ عن قصدٍ أفكارَه الرئيسية ومواقفه الخلافية المهمة في صورةٍ رثَّة ragged وغير مترابطة desultory. ويأخذنا السيمينار الأسبوعي، سواء المنشور منه أو ما هو قيد النشر، السيمينار الذي عقده لاكان في باريس على مدى ما يزيد عن عقدين، إلى ما يفوق ذلك في ورشته التأملية.١١ تقوم بعض أقسام السيمينار Séminaire بتوضيح الأفكار الرئيسية في كتابات، وتُنقحها أقسام أخرى بإتقان، وتبقى أقسام أخرى مجرد تسجيل لهمهمات موَّارة يسقط العقل النقدي إزاءها في الصمت ساخطًا أو معجبًا. يطمح نثر لاكان باستمرار في الوصول إلى منزلة الكلام، وأهدافه واضحة من الكتابة بهذا الأسلوب: أن يتم الإحساس بطاقات اللاشعوري في الإيقاع المتقلِّب في الجمل التي يكتبها، وإعاقة القارئ عن تشييد بنايات نظرية مبتسَرة على النص وإرغامه على المشاركة الكاملة في العمل الخلاق للغة.
وهذه السمة التي تميز كتابات لاكان تجعل تلخيص مساهماته في المعجم التقني للتحليل النفسي عملية بالغة الصعوبة. إننا لا نعثر ببساطة، في المصطلحات والمفاهيم التي توسع فيها أو أعاد صياغتها، على مصطلحات فرويد ومفاهيمه في شكل مستقر ومحدد. إن كل مصطلح ومفهوم من تلك المصطلحات والمفاهيم يعرِّف الآخر أثناء القيام بالعمل التحليلي، ويتعرض لتغيرات حادة في المضمون مع تبدل السياق الفكري. إن لاكان بنَّاء مفاهيم متحركة واهية الترابط، بحيث يكون من الأفضل أن نسأل، ونحن إزاء مصطلح معين، «ماذا يفعل؟» أو «ما المسارات التي يتجول فيها؟» بدل أن نسأل «ماذا يعني؟» وبالإضافة إلى ذلك، تعمل مفاهيم لاكان كلها، بصرف النظر عما إذا كان الدور الذي تلعبه في النماذج النفسية psychical models (أو topologies كما يُطلِق عليها غالبًا) دورًا أساسيًّا أو ثانويًّا، تعمل وكأنها أسلحة تتصارع: لا يكتمل تعليق عليها بدون أن يقول شيئًا عن الطرق القابلة للتكيف مع الاحتياجات المتغيرة للمناقشة في مهنة يتأصل فيها الشقاق.
تأمل، مثلًا، مفهوم «مرحلة المرآة» الذي أشرنا إليه من قبل. تقع هذه المرحلة من عمر الإنسان بين الشهر السادس والشهر الثامن عشر، وهي فترة يتمتع فيها (الإنسان الصغير le petit homme) بالقدرة للمرة الأولى، بالرغم من افتقاره للقدرة على السيطرة على نشاطات جسمه، على أن يتخيل نفسه كيانًا مترابطًا يهيمن على نفسه، وتتعين له هذه الصورة حين يرى صورته في المرآة:
يبدو أن هذه الفرضية المتهللة عن صورة الطفل المرآوية التي يراها في مرحلة الطفولة infans، ما تزال غارقة في ضعف جهازه الحركي والاعتماد على من يرعاه، وتعرض بصورة نموذجية المنشأ الرمزي الذي يترسب فيه ضمير المتكلم I في شكل بدائي، قبل أن يتشيأ في جدل تقمص الآخر، وقبل أن تعيد إليه اللغة، عمومًا، وظيفته كذات.١٢ (٩٤).
إلا أن تلك اللحظة التي يحدث فيها التقمص الذاتي self-identification، مهما تكن، لحظةٌ حاسمة، ليس لأنها تمثل مرحلة على الطريق إلى «البلوغ» أو «النضوج الجنسي» — وتتعرض مثل هذه النماذج التطورية عن الذات الإنسانية المتبدلة لهجوم دائم من لاكان — ولكن لأنها تمثل نزوعًا دائمًا لدى الفرد: نزوعًا يقوده في حياته إلى البحث عن اكتمال خيالي ﻟ «أنا مثالية» ideal ego وتعزيزها. إن الوحدة المبتكرة في هذه اللحظات، والأنا التي تمثل نتاجًا للابتكارات المتتالية زائفتان؛ إنهما محاولتان للالتفاف حول بعض العوامل التي لا مفر منها في الحياة الإنسانية: العوَز والغياب والنقص. ويتضح، حتى من السطور القليلة التي اقتبستها ولخصتها، أن مفهوم لاكان عن مرحلة المرآة يتجاوز إلى حدٍّ بعيد تخومَ سيكولوجيا الأطفال في أكمل صورها. في نهاية الفقرة تتشكل نظرية في اللغة ونظرية في الإدراك المتبادل بين الأشخاص interpersonal، وينبثق نظام آخر من الخبرة في مواجهة نظام التقمص الخيالي الذي تدشنه اللحظة «المرآوية»؛ وقد نلمح اعتراضًا من اعتراضات لاكان الأثيرة ضد التحليل النفسي في ممارساته التقليدية: إذا لم تكن الأنا سوى ترسُّب خيالي، فيا له من عبث أن يجند أنصار «سيكولوجيا الأنا» أنفسهم لإنماء ذلك الوجود الشبحي وترسيخه.
إن كل الأنساق التصورية المعقدة تعمل، بمعنًى من المعاني، وفقًا لهذه الطريقة، حيث يساعد كل عنصر على التعريف بالعناصر الأخرى وتنشيطها، وحيث إن الذين يؤلفون هذه الأنساق يقومون بتقسيمها، طبقًا للأعراف المتبعة، إلى وحدات فرعية يمكن اقتفاؤها منفصلة، فإن عدم حدوث مثل هذا التقسيم يمثل في رأي لاكان حيرةً فكرية. يعمل كل مفهوم كنقطة عقدية nodal point في شبكة من الاختيار والرفض، ويُقدَّم إلى القارئ في لغة تبقى فيها المهمة العملية، مهمة الاختيار والرفض، تبقى ملموسة كاضطراب في تركيب الجملة. وأعود الآن إلى سلسلة من البصائر والحدوس الأساسية عن بنية اللاشعوري، البنية التي تتأسس عليها نظرية لاكان الكاملة عن العملية النفسية. إن النحت والكتابة لا يفهمان فهمًا كاملًا، طبقًا لأشهر الطرق التي تمثل تفكيره، ولا يمثلان أمام القضاء المسئول إلا حين نتأملهما في سياق هذه النظرية.
يدمج فرويد في تعليقه الأساسي على اللاشعوري سلسلة من النماذج الطوبوجرافية والديناميكية والاقتصادية.١٣ ولم يكن اكتشافه من الاكتشافات التي يمكن إعلانها وتطويرها في لغة نظرية أحادية مُعَدة سلفًا. وحين كان يسرد، بعد سنوات طويلة من ممارسة التحليل والتأمل فيه، خصائص اللاشعوري كنسق، في بحث عن «اللاشعوري» (١٩١٥م)، كان لا يزال يستخدم معجمًا تقنيًّا يساهم فيه مساهمةً متميزة كلٌّ من البيولوجيا والميكانيكا والمنطق والدراسات اللغوية. وأعلن أن اللاشعوري يتمتع في جوهره بمجموعة من الدوافع الغريزية تملك القدرة على التعايش بدون أن تتعارض أو تتبادل التأثير. إنه لا يعرف الإنكار أو الشك أو أية درجة من درجات اليقين، إنه يمثل واقع العملية الأولية، التي تتنقل فيها الطاقة النفسية بحرية بين الأفكار بواسطة الإزاحة والتكثيف،١٤ إنه سرمدي timeless، لا يبالي بالواقع الخارجي، ولكنه يبالي بتحقيق المتعة واجتناب ما يعكر الصفو (XIV, 186–189).
كان لاكان يرى بحدسه الرئيسي أن تعليق فرويد على اللاشعوري وعلاقته بنسق ما قبل الشعوري-الشعوري يمكن إعادة تنظيمه حول بعض المفاهيم اللسانية ليصبح أكثر إقناعًا وأكثر مرونة. وقد ألمح فرويد نفسه إلى هذا التجديد، وتكتسب أعماله عن «حقائق اللغة» شهرة استثنائية فيما يتعلق بذلك الأمر. إنه يُبدي براعة ودقة فائقتين كناقدٍ نصِّي في تحليل الحكايات اللفظية. وهو تحليل قدَّم، لتواريخ حالاته المرضية ولكتبه عن الأحلام وزلات اللسان والنكات، الذخيرةَ الأساسية كدليل. وتمثل الوظائف التي تتطور في اللغة الإنسانية موضوعًا قريبًا من نفسه بصورة خاصة. ويستشهد، غالبًا، في كتاباته السيكولوجية بالعلوم اللسانية لتقديم التناظرات والدليل الذي يعززها، ويرى لاكان أن موضوع عدم اعتماد فرويد بأية صورة على اللسانيات يمثل مسألة فرصة تاريخية (٤٤٦-٤٤٧، ٧٩٩): كان سوسير وآخرون يضعون أسس هذا الفرع المعرفي حين كان فرويد يشيد نظريته، ولا نتوقع منه أن تكون له القدرة على الحصول على معرفة تفصيلية من علم متاخم له ولا يزال في طور النشأة in statu nascendi، أو الحصول على استنتاجات مفيدة منه.
إن الدروس التي كانت مصادفة الميلاد سببًا في أن يكون فرويد غير قادر على تعلمها، بينما يكون لاكان قادرًا على ذلك، هي في الأساس تلك الدروس التي تهتم بالتحليل التزامني synchronic لأنساق الدالة المعقدة. إن فقه اللغة المقارن، وكان لا يزال ملك العلوم اللغوية في السنوات التي كان يتشكل فيها عقل فرويد، كان يفتقر إلى ما يعلمه لنا عن هذا التحليل، بالإضافة إلى أنه كان في بعض الأحيان يدفع السيكولوجي إلى الوقوع في الخطأ. إن مراجعة فرويد في عام ١٩١٠م لعمل كارل أبل Karl Abel، مثلًا، وعنوانه The Antithetical Meaning of Primary Words (١٨٨٤م)، وهو عمل يعتمد على الحدس ولا يصح الآن عمومًا، جعلته تلك المراجعة يوازي بين العقل الحالم، الذي لا يعرف التناقضات، وحالة اللغة الإنسانية الأولية التي افترضها أبل، وتحمل فيها بعض الكلمات معاني متضادة في وقت واحد (XI, 155–61). (من المفترض أن الكلمة الإنجليزية القديمة bat [جيد good] وكلمة badde [رديء bad] مشتقتان من جذر مشترك يعني «جيد-رديء».) وكان عمل أبل بمثابة الدعامة الوحيدة التي بنى عليها رأيه بأن «تكافؤ الأضداد سمة حفرية عامة في تفكير الإنسان» (تعليق موجز على التحليل النفسي A Short Account of Psychoanalysis (١٩٢٤م)، XIX، ٣٠٦). ويمكن لنا أن نقول إنه، بعبارة أخرى، أسَّس فنتازيا متميزة ومأمولة عن «أصل الأشياء» على فقرة من فقه اللغة التلفيقي.١٥
وعلى الجانب الآخر، تكبح اللسانيات هذا النوع من التأمل، وتقترح نموذجًا أكثر خصوبة للمقارنة بين اللغة والعقل. إنها بقدر ما تدرس أصغر الوحدات المتميزة التي تشكل اللغة وطرق استيعاب هذه الوحدات وتداخلها في أنساق شاملة، تقدم للجهاز النفسي psychical apparatus سلسلة من النماذج التي يمكن اختبارها. وبينما دفع فقه اللغة بفرويد إلى أرضٍ مشاعٍ مليئة بالتقلبات، استطاعت اللسانيات، كما تناولها لاكان، إعادة التحليل النفسي إلى المهام التي كان فرويد منوطًا بها في أفضل الأحوال: استنباط البنية النفسية والإفصاح المترابط عنها.
«يُبنى اللاشعوري كلغة» [L’inconscient est structuré comme un langage بالفرنسية، ونظرًا للأهمية البالغة لهذه العبارة وللشهرة التي كانت من نصيبها، نورد هنا ترجمتها الإنجليزية أيضًا the unconscious is structured like a language].١٦ تبين هذه العبارة، وهي من أشهر ما نطق به لاكان، أهمية ما يدين به للسانيات، وتذكرنا، بصياغتها في صورة تشبيه، بالمشاكل التي تُطرح على التحليل النفسي ويستعين فيها بالمفاهيم اللسانية. وهناك بعض الأسئلة التي نودُّ طرحها، في البداية، على عبارة لاكان: إلى أي مدًى يكون هذا النوع من التماثلات دقيقًا ومفيدًا؟ هل للمصطلح الأول أسبقية منطقية على المصطلح الثاني؟ وإذا عكسنا ترتيب المصطلحين، فهل يقال الشيء نفسه، أم يقال شيء مختلف ولكنه على الدرجة نفسها من الأهمية، أم يقال شيء أقل أهمية؟ تأتي أعمال لاكان في هذه المنطقة نتاجًا لتخطيطات ذات اتجاهين — تأثير اللاشعوري على اللغة، واللغة على اللاشعوري — وقد تم إنجازها في تحدٍّ دائم لرغبة قارئه في العثور على معالم ثابتة لن تتم إطلاقًا الإجابة عنها في الأسئلة السابقة. وكان نزوعه للتفكير في هذه القضية الجوهرية، في الحقيقة، لوضع منطق الأسئلة التي تثار على هذا النحو موضع التساؤل.
وعمومًا، يمكن النظر إلى علاقة اللغة واللاشعوري بطريقتين؛ أولًا: من المحتمل أن تكون التوترات والصراعات التي تدور داخل النفس قد استطاعت أن تلعب في البداية دورًا في تحديد لغة الإنسان؛ إن فكرة أن اللغة خُلقت في الصورة الجزئية partial image للاشعوري، الموجود من قبل، تُقدم على الأقل تفسيرًا شِعريًّا مُغريًا لمعنى التواشج «الطبيعي» بين النسقين، وهو معنًى يُقرُّه دارسو اللاشعوري. ثانيًا: اللغة هي الأداة الوحيدة للتحليل النفسي؛ لا يتاح اللاشعوري، سواء للمريض وهو يحكي أحلامه وخيالاته أو للمحلِّل وهو يدقِّق خطاب المريض ويفسره، إلا في صورة لغوية وسيطة. ولا يمكن لنا أن نتأمل حالة لا شعورية «محضة pure» قبل-لغوية pre-linguistic، أو السعي إلى وصف الطرق التي تؤثر بها أدوات اللغة الراصدة على المواد اللاشعورية المرصودة. وحيث إن اللغة هي، أيضًا، وسيط هذه الفحوص الثانوية، فإنها تكون قد «خدعتنا» مرة بانكساراتها، وسوف تخدعنا مرة أخرى بانحرافاتها.
يضيق لاكان ذرعًا بالمقاربة الأولى، ويميل إلى تفسير المسألة برمتها بالطريقة الثانية: اللغة تخلق اللاشعور language creates the unconscious [التأكيد للمترجم]. ويرى أن التوسط اللغوي يمتد أبعد بكثير من الديالوج التحليلي، ويشير إلى أن الإنسان نفسه ينغرس، وهو يكتسب اللغة، في نظام رمزي سابق الوجود؛ ومن ثَم تخضع رغبته للضغوط النسقية لذلك النظام: إن الإنسان يتيح للغة وهو يتبناها أن تؤثر على طاقاته الغريزية الحرة وأن تنظمها (٤٤٥). إنه امتياز خاص بالإنسان، مستخدم اللغة، أن يبقى غافلًا وهو يصنع الأشياء بالكلمات عن المدى الذي ساهمت، وما زالت تساهم، به الكلمات في صناعته.
إن الأعمال التفصيلية عن المكونات البنيوية الأولية لكلٍّ من اللغة واللاشعوري تدعم مقارنة لاكان بينهما كنسقين كاملين، وتدعم تعليقه على مختلف التبادلات المحتملة بينهما. يعتمد لاكان اعتمادًا خاصًّا على تعريف سوسير للعلامة اللغوية linguistic sign، وهو تعريف مزدوج الاسم binomial — الدال والمدلول وتجمع بينهما رابطة اعتباطية — ويعتمد أيضًا على القطب الاستعاري والقطب الكنائي في النظام اللفظي الذي افترضه رومان ياكبسون.١٧ (سأتناول هذه المصطلحات بالشرح بعد لحظات.) وهذه المفاهيم مفيدة لعدة أسباب: لأنها تناظر تناظرًا تامًّا بعض الأزواج المتضادة antithetical pairs في فكر فرويد، ولأنها قابلة للاتحاد والتبديل في التصويرات الجبرية الزائفة للعملية الذهنية التي فضَّلها لاكان باستمرار، ولأن هناك قيدًا صارمًا مفروضًا على القيام بمقارنة على نطاق أوسع. ويتمثل القيد ببساطة في أن ما يناظر الجملة، أو البنية التركيبية عمومًا، بالغ الضآلة فيما يقدمه فرويد عن اللاشعوري.١٨ إن القدر الأكبر من الأصالة المدهشة التي يعزوها فرويد إلى اللاشعوري ينجم عن رفضه الولاء لأشكال التنظيم التراتبي hierarchical، التي يقدمها التركيب اللغوي؛ ومن ثَم قد يكون لنسقِ لغةٍ معينة، كما يتضح في نحوها، دورٌ ضئيل للغاية في تعليقات التحليل النفسي على الوظائف الذهنية. واختار لاكان أن يؤسس نماذجه على بعض البنى التحتية المزدوجة التي تتمتع بقدرة فائقة على الاتحاد المتجدد بدلًا من الاعتماد على مجموعة من المقولات النحوية التي لا تقبل التكيف.
وقد حظي هذا الاستخدام لمبادئ سوسير في التحليل النفسي بأول تعبير كامل عنه في بحثين، جاء البحث الأول بعنوان «وظيفة الكلام واللغة ومجالهما في التحليل النفسي Fonction et champ de la parole et du langage en psychanalyse» (٢٣٧–٣٢٢)، وكان البحث الثاني بعنوان «تأثير الأدب في اللاشعوري أو التبرير منذ فرويد L’instance de la lettre dans l’inconscient ou la raison depuis Freud» (٤٩٣–٥٢٨)، وقد نُشر البحث الأول في عام ١٩٥٣م، ونُشر الثاني في عام ١٩٥٧م.١٩ لكن لاكان لا يستدعي نظرية لغوية مستقرة إلى التحليل النفسي بهدف تنظيم مجموعة من التعاليم التي لا تزال جامحة: إن تلاقي فرويد وسوسير يخلق إمكانية للتفكير في كلٍّ منهما على ضوء الآخر.
تمثل العلامة في رأي سوسير صدامًا وارتباطًا على نحو فجائي بين واقعين محددين، كلٌّ منهما، في حد ذاته، مائع وغير متميز: التفكير من ناحية، والصور السمعية acoustic images من الناحية الأخرى. ولكن بمجرد ارتباط جزء من واقع التفكير (المدلول) بجزء من واقع الصوت (الدال)، تنشأ بينهما علاقة حميمة إلى درجة اعتماد كلٍّ منهما على الآخر اعتمادًا كاملًا:
مرة أخرى يمكن مقارنة اللغة بقطعة من الورق؛ وجهها التفكير وظهرها الصوت، لا يمكن أن نمزِّق الوجه بدون أن نمزق الظهر في الوقت ذاته، وبالمثل لا يمكن في اللغة أن نعزل الصوت عن التفكير أو التفكير عن الصوت، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بعملية تجريد تؤدي إلى خلق سيكولوجيا محضة أو فونولوجيا محضة.٢٠
إن ما يتساءل عنه لاكان، حتى حين يستعير المصطلحات السوسيرية [نسبة إلى سوسير]، حالة التناسق والتوازن بين الدال والمدلول مثلما يصفها في الفقرة السابقة. إنه يستخدم الصيغة S/s (الدال على المدلول signifier over signified) كشكل من أشكال التلخيص الشديد لنظرية سوسير، وأيضًا كوسيلة لتسليط الضوء على المشكلة المستعصية فيها: حالة المدلول ودوره الدقيق. وإلى هنا يعالج لاكان هذه القاعدة الحسابية S/s، التي يبدو للوهلة الأولى أنها لا تعدو أن تكون عملية إجرائية في حساب للتفاضل والتكامل من ابتكاره، يعالجها وكأنها قصيدة عيانية وشعار شخصي. إن الخط الفاصل بين الرمزين يمثل أكثر من مجرد رمز، إنه تمثيل تصويري لشِقٍّ ضروري بينهما، شقٍّ لا يمكن إزالته. وبالمثل، يمثِّل وضع المدلول أسفل الخط أكثر من مجرد مسألة خضوع للتقاليد الحسابية. إن المدلول، في تعليق لاكان، «ينزلق»، في الواقع، «أسفل» الدال، وينجح في مقاومة المحاولات التي تحاول تحديد وضعه وتثبيت حدوده. إننا نرى بأبصارنا تفوق الدال (الحرف الكبير، البنط الروماني، الوضع الأعلى) على المدلول (الحرف الصغير، البنط الإيطالي، الوضع الأسفل). والفكرة الرئيسية التي يثيرها لاكان في المناقشة تتمثل في أن البحث عن المدلول في صورته «المحضة» — وبتعبير آخر، البحث عن بنى التفكير الأصلية خارج الكلمات — بحث طائش، إن اللغة لها دور تكويني في تفكير الإنسان، وليس ثَمة وجود ﻟ «سيكولوجيا محضة» من النوع الذي استشهد به سوسير. إن السلسلة الدالة ذاتها هي موضوع الاهتمام الحقيقي عند المحلل النفسي واللساني، والعلاقات التي يمكن ملاحظتها في تلك السلسلة هي أوثق الشواهد على البنية النفسية وبنية الذات الإنسانية.
ويستطيع لاكان توظيف نواة تفكير سوسير، بمجرد تصويرها على هذا النحو، كوسيلة لتنظيم نظرية التحليل النفسي وزعزعتها. ويبدو، للوهلة الأولى، وكأن مشروعه محدود بصورة خطيرة، حيث إن التمييز بين الدال والمدلول يكون، طالما تعلق الأمر بمقابلة الظاهر بالمستتر، قابلًا للتكيف إلى أقصى الحدود مع بعض التمييزات المتنوعة التي قدَّمها فرويد نفسه وتناولها منفصلة، وربما يكون من الممكن استيعابه ضمنها؛ على سبيل المثال، تلك التمييزات بين الشعوري واللاشعوري، بين صور الحلم و«أفكار الحلم المستترة»، بين الأعراض العصابية والرغبات المكبوتة. ولم يكن لاكان، وهو يُقلِّص هذه الأزواج من المقولات المتضادة إلى شفرة تتكون من مصطلحين وتلائم كل الأغراض، لم يكن شخصًا كسولًا ينسق تفكير فرويد بصورة غير مشروعة. إن إجراءاتِ التحليل البنيوي التي يتبعها لفحص مجموعة من الدوال signifiers التي ترتبط بارتباطات متنوعة إجراءاتٌ صاغها فرويد في تعليقاته على عمل الحلم. يقدم فرويد، مثلًا، في الفقرة التالية من النكات وعلاقتها باللاشعوري Jokes and their Relation to the Unconscious، وهو يلخص مفهوم الإزاحة displacement، صورةً واضحة للدال وهو يؤدي دوره:
إن عمل الحلم … يضخم هذا الأسلوب من أساليب التعبير غير المباشر بما يتجاوز كل الروابط. ويكفي، تحت ضغط الرقابة، أن يعمل أي ارتباط بالتلميح كبديل، لتحدث الإزاحة من أي عنصر إلى أي عنصر آخر. واستبدال التداعيات الداخلية (التشابه، الارتباط السببي … إلخ.) بما يُعرَف بالتداعيات الخارجية (التزامن، التجاور، التشابه في الصوت) أمر لافت للنظر كخاصية تميز عمل الحلم بصورة خاصة (VIII, 172).

ويبدو فرويد، وهو يقوم بتحليل الحالات في عدد لا يحصى من المواضع، كراصد يبتهج بملاحظة اللاشعوري الذي يشبع رغباته بمعالجة بارعة للمواد الدخيلة التي لا يرغب فيها. والفرق بين ما يؤكد عليه فرويد وما يؤكد عليه لاكان يتمثل في أن فرويد يُقرُّ بقوة «التداعيات الخارجية»، ويرى أنها لا تُفهَم فهمًا كاملًا إلا بالقياس إلى «التداعيات الداخلية» التي تُقنِّعها أو تحل مكانها، ويرى أن صور الحلم تحتاج إلى «أفكار الحلم الكامنة» الحدسية حتى تتضح، ويرى أن المدلول يغري بالمطاردة حتى وهو ينأى عن المشهد، لكن لاكان يرى أن هذا التأرجح بين الدال والمدلول قد يحوِّل الأنظار بسهولة عن الأول إلى منطقة مائعة لفنتازيا تشبع الرغبة، ويرى أن العلاقة بين الدوال أحد المصادر المهملة مع أنها تقدم للمحلل قدرًا هائلًا من المعلومات.

إن تأكيد لاكان على الدال وفصل المكونات البنيوية عن المكونات التأويلية في نظرية فرويد يستلزم جولة إضافية في مجال اللسانيات. ومرة أخرى يدين لاكان لياكبسون الذي رأى في قطبَي التنظيم اللفظي مفتاحًا لنموذجَي الارتباط في السلسلة الدالة، وهما نموذجان تحتيَّان ولا يمكن اختزالهما. ويرى ياكبسون أن القطبين، الاستعاري والكنائي، يتنافسان في أية عملية رمزية، وقد لفت الأنظار إلى التداخل المحتمل بين مقولاته والمقولات التي يستخدمها فرويد في تحديد خصائص اللاشعوري، وقد تأسس كلٌّ من «الإزاحة displacement» و«التكثيف condensation» على مبدأ التماس contiguit، إن أحدهما ينتمي إلى الكنائي metonymic، وينتمي الآخر إلى المجاز المرسل synecdochic،٢١ وتم تأسيس «التقمص» و«الرمزية» على التشابه؛ ومن ثَم فهما استعاريان.٢٢ ولا يهتم لاكان أدنى اهتمام بما يقدمه مفهوم ياكبسون، ويقدم زوجًا من التكافؤات الأبسط والأبرع: التكثيف (Verdichtung) يناظر الاستعارة، والإزاحة (Verschiebung) تناظر الكناية (٥١١). إنها من المفاهيم الأساسية في أعمال فرويد، ويمكن بسهولة أن ينقلب تقمص فرويد ورمزيته إلى أيٍّ منهما.
لكن لاكان لا يقنع بترك الأمور على هذا النحو، حيث يتم وضع كل مصطلح من المصطلحات اللسانية على خط مستقيم مع شكل من أشكال الوظائف الذهنية اللاشعورية. إن مصطلحات ياكبسون، شأنها في ذلك شأن مصطلحات سوسير، في حاجة إلى اختبار إضافي حتى يتم قبولها: إذا كان من الممكن بالنسبة لها أن تكون ما تصفه، أي أن تصبح دوالَّ بحكم خصائصها، فعليها أن تبدو متعددة، ومحددة بعوامل كثيرة،٢٣ وقابلة دائمًا لاستخدامات جديدة. وعند هذه النهاية، وهي نهاية لبدء جديد مستمر، يتم خلق زوج آخر من العلاقات المتقاطعة (٥١٧-٥١٨): تتضمن الآلية النفسية التي تؤدي إلى ظهور الأعراض العصابية اقتران دالَّين — الرَّض الجنسي sexual trauma اللاشعوري والتغيرات التي تحدث في الجسم أو الأفعال التي يقوم بها — وهي من ثَم استعارية، بينما تتضمن الرغبة اللاشعورية النهمة غير القابلة للتدمير، تتضمن إزاحة دائمة من موضوع إلى موضوع؛ ومن ثَم فهي كنائية (لا ينتج أي عرض عن توقف الوظيفة الكنائية، ولكنه يؤدي إلى ظهور فتش fetish).
إن مصطلحَي «الاستعارة» و«الكناية» يقدمان، نتيجةً لهذا التعديل المزدوج في قطبية ياكبسون، تقسيمات فرعية subdivisions واضحة ومفيدة لمفهوم الدال، ويلعبان لعبة خاصة مبهمة الدلالة، وهي عملية مألوفة في أعمال لاكان كلها. وتصبح الميتالغة metalanguage النظرية عند لاكان لغة نقية وبسيطة؛ مما يعني أنها تصبح لغة مختلفة الخواص ومعقدة: «لا توجد ميتالغة … لا توجد لغة يمكن أن تقول الحقيقة عن الحقيقة، حيث إن الحقيقة تتأسس على أساس أنها تتكلم فقط ولا تملك أية وسيلة أخرى» (٨٦٧-٨٦٨).٢٤
أشرتُ من قبل إلى أن الشكل الحقيقي الذي تطرح فيه فرضية «يُبنى اللاشعوري كلغة» يلفت الأنظار إلى حدوده المحتملة كمبدأ نظري، ولكن آن أن تتضح الوسائل التي يستخدمها لاكان ليتجنب هذه الحدود. وتتلاشى الأسبقية المنطقية أو التعاقبية chronological بين اللاشعوري واللغة بمجرد أن نتخيل «نظامًا رمزيًّا» يشملهما. ويحافظ لاكان بكل دقة، بالاقتصار على مبادئ اللغة كما يصفها سوسير وياكبسون بدلًا من استكشاف أشكال التنظيم التركيبية الأعلى، على اتصاله بالمكونات الأساسية الفارقة في كل الأنساق الرمزية. إن اللاشعوري، بقدر ما نراه ونسمعه في الكلام والأعراض والأحلام والإهمال أو الخطأ اللاإرادي، تحكمه القواعد التي تحكم الأنساق الأخرى كلها: القواعد التي عبَّر عنها لاكان في إيجاز ﺑ «منطق الدال logic of the Signifier». إن لاكان، بقدر ما يثق في أنه توصَّل هنا إلى شيء أساسي وعام، يلفت الأنظار إلى عنصر من عناصر الإسهاب في جملة «يُبنى كلغة»: «إن كلمة «يُبنى» وكلمة «كلغة» تعنيان بالنسبة لي الشيء نفسه.»٢٥ «لا توجد بنية بدون لغة» (التلفزيون، ١٨).٢٦ وفي مثل هذه المواضع يبدو اللاشعوري اللاكاني أبعد ما يكون عن سلفه الفرويدي الذي يحفِّزه ظاهريًّا. لم يكتفِ فرويد بالتمييز بين Wortvorstellungen (حضور الكلمة) وSachvorstellungen (حضور الشيء)، ولكنه صاغ اللاشعوري كحقلِ عمل يخص حضور الشيء منفصلًا عن الكلمة المناظرة (“The Unconscious” (1915), XIV, 201-2; GW, X, 300).٢٧ ولا يكتفي لاكان، في تعريفاته للاشعوري، بمنح الأسبقية لحضور الكلمة، ولكنه يقدم تعريفاته الخاصة، أحيانًا، باعتبارها تستبعد تعريفات فرويد وتحلُّ محلها: «اللاشعوري ليس فرويديًّا؛ إنه لاكاني.»٢٨
إن الدور الخاص — ويُدعى بأسماء متنوعة: أسبقية، أولية، أفضلية، تفوق، إلحاح، سمو — الذي يعزوه لاكان للدال في الحياة النفسية تصاحبه عملية هائلة لإعادة تعريف المصطلحات وحملة من المناظرات المستمرة. وأشير هنا إلى مصطلحَي sujet (الذات subject) وmoi (الأنا ego). وبينما تمثل الأنا، وقد لُمحت في مرحلة المرآة للمرة الأولى، نتاجًا عيانيًّا للتقمصات الخيالية المتعاقبة وقد عَلِقت في الذهن كقاعدة راسخة، أو كقاعدة تسعى إلى الرسوخ، كقاعدة ﻟ «الهوية» الشخصية، فإن الذات ليست شيئًا على الإطلاق، ولا يمكن القبض عليها إلا كمجموعة من التوترات، أو التحولات، أو الجيشان الجدلي في عملية مستمرة ومقصودة باتجاه المستقبل. ويرى لاكان الأنا، بوصفها نقطة التوتر في طوبوجرافيا فرويد عن الهو — الأنا — الأنا العليا، يراها مُكوِّنًا أساسيًّا في نموذج جدلي حقيقي للذات الإنسانية. لكن الأنا، التي تُرى كنهاية في ذاتها وكمقرٍّ للفردية، مقرٍّ مُعرَّض للتهديد ويحتاج دائمًا إلى التحصين ضد الغزوات العدائية من الهو والأنا العليا، تعالج بازدراء: تتصرف هذه الأنا الراسخة الهادئة بغباء على أيدي «مديري الأرواح» والمهندسين الاجتماعيين. ومفهوم الذات هو الذي يحتل المركز في تعليقات لاكان على الجهاز النفسي النشط، وليس مفهوم الأنا. والذات لا تختفي في يدَي لاكان، كما يحدث في عبارة نمطية، ولكنها تسلك مسارات متشعبة يحبكها ويعيد حبكها.
إن السلسلة الدالة تدعِّم قاعدة حركية الذات. ولا يقتصر دور الدال على تكوين الذات والسيطرة عليها فقط — يتكلم لاكان عن «سيادة الدال في الذات»، (٢٠) وعن «تفوق الدال على الذات» (٣٩) — ولكنه، أيضًا، يحتاج إلى الذات احتياجًا إيجابيًّا كمصطلح وسيط «الدال هو الذي يعبر عن الذات لدالٍّ آخر» (٨١٩).٢٩ إن الذات والدال، بعيدًا عن كون الذات نتيجةً ثانوية للدال أو ظاهرة مصاحبة له، بينهما علاقة اعتماد متبادل، حتى إن ما قد يُنسَب لأحدهما من الضروري أن يُنسَب للآخر، مع تعديل أو «انحراف» مناسب. إن كلًّا منهما يتَّسم بالقدرة على الإزاحة البنيوية اللامحدودة، وهي قدرة لها بالضرورة أسبقية على كل السمات الفطرية أو المكتسبة:
إن إزاحة الدال تحدد الذوات في أفعالها، في قدَرها، في رفضها، في عماها، في نهايتها، وفي مآلها، في مواهبها الفطرية وفي مكتسباتها الاجتماعية، بصرف النظر عن الشخصية أو الجنس و… كل ما يمكن اعتباره مادةً لعلم النفس، الأدوات والأمتعة، سيتبع طريق الدال شئنا أم أبينا.٣٠

تميل لغة علم النفس التقليدي ميلًا راسخًا إلى وصف العقل كما لو كان تجمعًا ثابتًا لعدد من الأشياء، أو القوى، أو الملكات، وقد يبدو تصوير لاكان للذات قيد التكوين في نظر من ترتبط توقعاتهم للترابط في بناء النموذج النفسي ارتباطًا شرطيًّا بتلك اللغة، قد يبدو مهلهلًا وتافهًا بصورة مستحيلة، ومما هو جدير بالملاحظة أن رأيه في الذات بوصفها فارغة «تمامًا» ومتقلبة وتفتقر إلى مركز، يجب أن ينبثق هذا الرأي، في مروره من هدف تحليلي إلى آخر خلال لغة تتعرَّى فيها بإلحاحٍ كل توقعات الترابط المنتظر، مقنِعًا ودقيقًا.

ويدعو لاكان حقل الدال، الذي يشهد الإعادة الأبدية لبناء الذات، بالنظام الرمزي the Symbolic order. وهو النظام السائد في ثلاثية الرمزي-الخيالي-الواقعي التي كان لها دور خلاق في تفكير لاكان يقارن بدور ثلاثية الهو-الأنا-الأنا العليا في المرحلة الأخيرة من فكر فرويد. (ومع أن أنظمة لاكان الثلاثة وأقسام فرويد الثلاثة تستخدم للقيام بالدور ذاته في العمل التحليلي، إلا أنه من المستحيل وضع مصطلح مقابل آخر بصورة قاطعة.) ومن الأفضل أن نفكر في كل نظام من أنظمة لاكان كمركزِ جاذبيةٍ يتغير باستمرار في مناقشاته بدلًا من التفكير فيه كنظام ثابت، ويمكن استخدامه في كل لحظة لإعادة تعريف النظامَين الآخرين. وقد اقترحتُ من قبلُ نوعًا من التقابل بين الرمزي والخيالي في التعليق على الذات والأنا. بينما يتميز أحدهما بالاختلاف والانفصال والإزاحة، يبحث الآخر عن الهوية أو التشابه. ينمو الخيالي من خبرة الرضيع ﺑ «الأنا المرآوية»، ويمتد بعيدًا إلى خبرة الراشد بالآخرين وبالعالم الخارجي: حيثما يوجد تقمص زائف — سواء أكان في الذات، أم كان بين الذات والآخر، أم بين الذات وشيء من الأشياء — يسود الخيالي. ومع أن النظامين فارقان ومتضادان، إلا أن الرمزي يقتحم الخيالي وينظمه ويوجهه، تكشف السلسلةُ الدالةُ زيفَ استقرار الخيالي وتجبره على الحركة.
والواقعي هو النظام الأكثر إثارة للارتباك، ويحظى في كتابات باهتمام أقل بكثير مما يحظى به النظامان الآخران، ويحتوي سيمينار لاكان على أكثر التعليقات عليه اكتمالًا وإثارة للتساؤل. ويمكن إدراك اتجاهين عامين متباعدَين ظاهريًّا فيما يقدمه لاكان عن هذا المفهوم؛ الأول: يتمثل في أن الواقعي هو ذلك الذي هناك، هناك من قبل، بعيدًا عن متناول الذات، سواء أكان موضوعًا فيزيقيًّا أم كان صدمة جنسية، وحين نظهر في المشهد كذوات تكون قد لُعبت ألعابٌ معينة، وتم الإلقاء بزهر النرد. وتكمن المسألة في: «إن الواقعي هو ذلك الذي يعود دائمًا إلى المكان نفسه» (XI, 43).٣١ ولكن إدراك هذا الأمر لا يعني إرغامنا على الإذعان في صمت: «ألا تشعر بوجود شيء ساخر أو مضحك في حقيقة أن زهر النرد قد تم إلقاؤه بالفعل؟» (II, 256).٣٢ والطريق التي وراء هذا الواقعي «المضحك» هي الطريق الإنسانية الفريدة التي يقدمها النظام الرمزي: وعلينا أن نوجه الشكر لهذا النظام الذي قد يسمح بإلقاء زهر النرد من جديد. ويتمثل الثاني في أن الواقعي، مع ذلك، هو الهيولى الأصلية التي تعمل عليها اللغة: «إن عالم الكلمات هو الذي يخلق عالم الأشياء، ويتم تشويش الأشياء فورًا hic et nunc في عملية التكوين» (٢٧٦).٣٣ إن الواقعي يكتسب بنيته بقدرة الإنسان على إطلاق اسم عليه. ولا يوجد بين هذه المفاهيم مفهومٌ أصيل بصورة خاصة، إن اللغة العامة تلعب دورًا بارزًا في تقديم كل مفهوم؛ والتباعد بينهما ليس سوى تباعدٍ ظاهري. إنها مفاهيم تؤكد حدود القدرة اللغوية: الواقعي هو ذلك الخارجي بصورة جذرية بالنسبة لسلسلة الدوال، والذات قد تَبني الواقعي — أو حتى «تخلقه» — لنفسها، ولكنها لا تستطيع أن تطلق عليه اسمًا (II, 252). إنه «خارج» اللغة، خارجها العضال العنيد، الهدف المتقهقر بصورة غير محدودة، الهدف الذي تميل السلسلة الدالة باتجاهه؛ نقطة تلاشي الرمزي والخيالي. ونتيجةً لهذا الرأي، يقترب الواقعي في فكر لاكان من معنى «الفائق الوصف» أو «المستحيل». إن دوره في الثلاثية كمصطلحٍ أقلُّ من دور المصطلحين الآخرين. ولكنه يعيد، ببراعة، تقديم المشاكل واللاتناسق فيما قد يصبح بسهولةٍ ثنائية رائعة بين الرمزي والخيالي، وتذكير الذات الكلية المأمولة عند لاكان بأن البناءين الرمزي والخيالي يحدثان في عالم يفوقها.
إن تعليق لاكان على الذات بوصفها «مُهمَّشة» decentred وجدلية قد تم تنقيحه بطرق عديدة، وتم تحصينه نسقيًّا من خطر التعزيز، أو ما يبدو أنه تعزيز، من مجموعة من المفاهيم الثابتة الجاهزة للاستخدام باستمرار. وبالرغم من عدم توفر طريقة مضمونة أمام لاكان، أو أي شخص آخر، ليحول بين معتقد مبعثر بعناية وبين أن يصبح معتقدًا مركزيًّا، أو يحول بين المقاومة وبين انحرافها عن الانحراف الناشئ عن مقاومتها الخاصة، إلا أن التدابير التي اتخذها أدَّت دورها، عمومًا، على نحو طيب. وبالنسبة للمرادفات المتقاربة التي يستخدمها في رسم تطواف الذات، تطوافها المتقطع (refente, division, Spaltug, fading, and so forth)، فإنها تبقى نشطة بواسطة المصطلح السائد ذي المعاني المتعددة، L’Autre (الآخر). يأبى مصطلح الآخر بإصرار، أكثر مما يأبى أي مصطلح آخر من مصطلحات لاكان، أن يقتصر دوره على تقديم معنًى واحد، ويقدم في تجلياته كلها «نقصًا» أو «فجوة» للعمليات التي تقوم بها الذات، ويُفقِد الذاتَ قدرتَها على التفرد أو الاستبطان أو الإدراك أو الاكتمال أو التبادلية، ويضمن عدم تدمير الرغبة بالحفاظ على أهدافها محلقةً تحليقًا أبديًّا.
والآخر الأوَّلي primal عند لاكان وفرويد هو الأب في المثلث الأوديبي؛ الأب الذي يحرِّم زنا المحارم ويهدِّد بالإخصاء ويصبح، بوضعِ حظرٍ مطلق على رغبة الطفل في أمه، القوة المدشِّنة للقانون. لا يهتم لاكان بالأب الواقعي أو الأب الخيالي لشخص معين، ولكنه يهتم بالأب الرمزي الذي يستهل اسمُه السلسلةَ الدالة ويسيِّرها: «علينا أن نتعرف على دعامة الوظيفة الرمزية في اسم الأب الذي تقمصَت شخصيتُه صورةَ القانون منذ فجر التاريخ» (٢٧٨).٣٤ وتؤدي المواجهة الأصلية مع اسم الأب nom-du-pere المشرِّع، والنقص الدائم؛ ومن ثَم عدم الإشباع الذي تتعرض له الذات، إلى نمط معقد من العدوانية والخنوع المتعاقبين أو المتداخلين، وهو نمط يميز الذات في تعاملها مع الآخرين بصورة لا يمكن محوُها (مرةً أخرى يستخدم لاكان جدلية السيد والعبد عند هيجل كنموذج لهذه العملية، وهو نموذج قابل لإعادة البناء باستمرار).٣٥ وهذه المعاملات، سواء أكانت في صورة مواجهة يومية بين الناس أم كانت في صورة ديالوج بين المريض والمحلِّل، تمثل الاهتمام الرئيسي للاكان، ويقوم بدقة فائقة بشرح دورها المحدد في تكوين الذات.
إن الذات تتشكل ويعاد تشكيلها في المواجهة مع الآخر:
إن استجابة الآخر هي ما أبحث عنه في الكلام. وسؤالي هو ما يكوِّنني كذاتٍ. وحتى أتعرَّف على الآخر مرة أخرى، فإنني لا أنطق بما كان إلا من زاوية ما سوف يكون. وحتى يتمكن من الرد أدعوه باسم قد يقبله وقد يرفضه.٣٦ (٢٩٩)
حتى الرسالة التي تبثها الذات تستقبلها من الآخر.٣٧ (٨٠٧)
ومن ثَم يكون الآخر هو الموضع الذي يتكون فيه «ضمير المتكلم» I الذي يكلمه بما يسمع، وما ينطق به المرء هو الرد، الذي يقرر الآخر أن يسمعه سواء نطق به المرء أم لم ينطق.٣٨ (٤٣١)
وتتميز العلاقة بين الذات والآخر بوجود الرغبة:
تعثر رغبة الإنسان على معناها في رغبة الآخر، ليس لأن الآخر يمسك بمفتاح الموضوع المرغوب، ولكن لأن الموضوع الأول للرغبة يتمثل في معرفة الآخر بها.٣٩ (٢٦٨)
وهذا تبسيط شديد في الحقيقة … حيث إن رغبة الآخر تكمن في عثور رغبة المرء على شكل.٤٠ (٨١٣)
إن رغبة المرء هي رغبة الآخر the desire of the Other حيث تمثل of ما يسميه النحاة «تحديد التابع»؛ أي بوصف الآخر أنه الذي يرغب (وهذا يقدم النطاق الحقيقي للشهوة الإنسانية).٤١ (٨١٤)
نلاحظ في الإشارات، وبينها الكثير من التناوب الدقيق في المعنى: الآخر، مثلًا، طرف في ثنائية الذات-الآخر الجدلية، ويمثل في وقت آخر الموضع الحقيقي أو الحالة الحقيقية ﻟ «الآخرية otherness» (alterite, heteronomie)، وهو مصطلح يحمل معنى المصطلحين. وتزيد الصورة تعقيدًا حين يستخدم المصطلح نفسه للربط بين العالم الداخلي للشخص وعالمه مع الآخرين.
ويرى لاكان أن الاكتشاف الأساسي لفرويد يتمثل في اكتشاف أن الإنسان يحمل الآخرية في داخله، والانفصام بين نسق اللاشعوري ونسق ما قبل الشعوري-الشعوري يجعل الإنسان وجهًا لوجهٍ أمام «الهامشية الجذرية للمرء بالنسبة لنفسه» (٥٤٢).٤٢ حين نرى اللاشعوري - السلسلة الدالة التي تمر خلالها الرغبات كلها - من نقطة التفضيل عما قبل الشعوري - الشعوري نراه في مكان آخر ولغة أخرى: «اللاشعوري خطاب الآخر» (٣٧٩).٤٣ والرسالة التي تمرُّ عبر الهوة بين الذات والآخر الخارجي تمر في الداخل أيضًا، بالنسبة للفرد الأسمى، وتنصِّب العالم الاجتماعي في عقل الفرد بواسطة اللغة: «اللاشعوري خطاب الآخر الذي تُستقبل فيه الذات، في شكل مقلوب يتلاءم مع الوعد، رسالتها المنسية» (٤٩٣).٤٤ وأضاف لاكان في مرحلة تالية من مراحل تفكيره مفهومين آخرين هما الآخر الصغير petit autre والموضوع أ objet a، ويشار إليه أحيانًا بالحرف a. ومع أن كلًّا من المفهومين يوفق في نموذج لاكان النظري بين حركة الرغبة وتعدد موضوعاتها بصورة غير محدودة، إلا أنهما يفترقان في نقطة مهمة. بينما يحتل الآخر الصغير دورًا وسطًا بين الأنا والآخر وينتمي بالتالي إلى الواقع الخيالي للتقمص المرآوي («الآخر ليس آخر على الإطلاق، حيث إنه يقترن بالأنا اقترانًا جوهريًّا»، ٢، ٣٧٠)،٤٥ يمثل الموضوع أ موضوع الرغبة التي تُخترق وتُعَبَّأ بالنقص: إنه اللاأدري je ne sais quoi بالإشارة إلى ما يوحي بالرغبة التي تتضح في الإزاحة وعدم الاكتمال و«غير المرآوي»: «الموضوع أ ليس كينونة على الإطلاق. الموضوع أ هو ما يفترضه الاحتياج بطريقة التفريغ …» (XX, 114).٤٦ والموضوع أ في عدد هائل من الأوصاف المتداخلة عند لاكان هو موضوع الرغبة، وهو في الطريق أيضًا ليصبح سبب الرغبة وشرطها.
ربما يجد قارئ لاكان نفسه متحيرًا بشأن أوراق اعتماد مصطلح يتجول مشوَّشًا بين المناقشات: ما هذا الآخر Other الذي يجب تبجيله بحرف كبير، ويقبل التحول بحرية إلى هذه الدرجة؟ كيف يظل المصطلح مفيدًا كأداة إجرائية حين يمكن أن يُعرَّف بتعريفات متنوعة: أب، موضع، نقطة، أي رفيق جدلي، أفق داخل الذات، أفق وراء الذات، اللاشعوري، لغة، الدال؟ هل يمكن أن يكون الحرف الكبير مستخدمًا ليضفي هالة زائفة من السلطة على خليط ominum gatherum مشوَّش؟ إن تهمة اللامسئولية الفكرية التي يبدو أن مثل هذه الأسئلة تثيرها ضد لاكان، يمكن إسقاطها إذا نظرنا إلى تفكيره ككلٍّ، وكنسق شامل يتكون من أجزاء تتبادل العمل فيما بينها.٤٧ إن اسم الأب nom-du-pere، الآخر الأصلي، يضع فجوة بين الرغبة وموضوعها (أو موضوعاتها)، الآخر الذي تُقيَّد به الذات، وترتبط به، على كل مستويات الخبرة طول الحياة، ومن المقدَّر أن يتكرر هذا التغريب البدائي بطبيعته الحقيقية، ويتبدل تمامًا، إنه مصدر اللغة، وهو بالمثل مصدر الذات، ويقدم شرطًا جوهريًّا من شروط إنسانية الإنسان، ومثلما تتنقل هذه الآخرية بحرية بين كل الأماكن والأحداث الإنسانية، يتنقل مصطلح «الآخر» ويتبدل في نثر لاكان. ولا يودُّ لاكان أن يعزو أية مسئولية لتعدُّد الدلالة في مصطلحه؛ ولا يمكن لشيء من الأشياء أن يطلب منه أن يكون مسئولًا عن حقيقة من حقائق الحياة …
ويتضح من كل ما قلتُ إلى أي مدًى منح لاكان اللغة دورًا مهمًّا بصورة غير مسبوقة في مجال البحث في التحليل النفسي. لقد أكد فرويد في كتاب صغير بعنوان The Question of Lay Analysis (١٩٢٦م) أن «كلية التحليل النفسي» في المستقبل لن تكتفي بتدريس العلوم المألوفة في كليات الطب، ولكنها «ستقوم بتدريس بعض الفروع المعرفية البعيدة عن الطب ولا تصادف الطبيب في عمله: تاريخ الحضارة، والميثولوجيا، وسيكولوجيا الدين، وعلم الأدب. وإذا لم يطَّلع المحلل اطلاعًا واسعًا على هذه المواد، فلن يتمكن من فهم معظم المواد التي يتعامل معها» (XX, 246). ويضيف لاكان اللسانيات إلى هذه القائمة، بالإضافة إلى «البلاغة، والجدل بالمعنى التقني لهذه الكلمة كما وردت في طوبقيا Topics أرسطو، وأعلى قمم إستاطيقا اللغة: البويطيقا، وتشمل تقنية النكتة، تلك التقنية المهمَلة» (٢٨٨).٤٨ والمحلل الذي يحشد هذه الفروع المعرفية لخدمة عمله لا ينفصل عن تقاليد التفكير التحليلي، ولكنه يعود إلى مصادره الخصبة. كان فرويد وتابعوه الأوائل يعرفون الأدب وعلوم اللغة ويتفاعلون معها تفاعلًا نموذجيًّا.

ناقشنا، من قبل، ما يدين به لاكان للسانيات. ولكن ثَمة ثلاثة أمور أخرى يدين بها، في هذا المجال، وهي أمور جديرة بالذكر: البلاغة والأسلوبية، والتأويل النقدي، والإنتاج الأدبي عمومًا. وقد تركت هذه المجالات بصمتَها على أعمال لاكان، مما جعلها في متناول اليد ومثيرة للمشاكل خاصة بالنسبة للمغامرين في عالم الأدب، وتقدِّم لنا سلسلة من المفاتيح الأساسية في أية محاولة لفهم الدور التحفيزي الاستثنائي الذي طوره تفكيره في «العلوم الإنسانية» في فرنسا المعاصرة.

يلتزم لاكان، في إشاراته إلى الاستعارة والمجاز في البلاغة الكلاسيكية، بطريقة المقارنة التأملية التي يفضلها فرويد كثيرًا. على سبيل المثال، يناقش فرويد، في The Claims of Psychoanalysis to Scientific Interest، ببعض الإسهاب الأحلامَ ﮐ «لغة»، وينتقل إلى تشابه آخر خصب ومتميز:
إذا كنا نرى أن التصوير في الأحلام يتم أساسًا، بالخيالات البصرية وليس بالكلمات، تكون مقارنة الأحلام بنسق من أنساق الكتابة مناسبةً أكثر من مقارنتها بلغة. إن تفسير الأحلام، في الواقع، يشبه تمام الشبه حلَّ الشفرة في كتابة تصويرية قديمة كالكتابة الهيروغليفية المصرية، حيث توجد في الحالتين بعض العناصر التي لا نسعى إلى تفسيرها (أو قراءتها، حسب الحالة)، ولكنها مصمَّمة فقط للقيام بوظيفتها بوصفها «محدِّدات»؛ أي لترسيخ معنى عنصر آخر. إن غموض عناصر الأحلام له ما يوازيه في أنساق الكتابة القديمة، وينطبق هذا أيضًا على حذف العلاقات المختلفة التي يمكن فهمها من السياق في الحالتين. وإذا لم يكن هذا المفهوم لطريقة التصوير في الأحلام يُتَّبع حتى الآن، فإن ذلك يعود، كما يمكن أن نفهم بسهولة، إلى حقيقة أن المحللين النفسيين جهلة تمامًا بوضع المعرفة التي يبحث بها عالم اللغة مشكلة من قبيل تلك المشاكل التي تعرضها الأحلام (XIII, 177).

إن العلاقة بين الأحلام والكتابة الهيروغليفية عند فرويد تشبه العلاقة بين آليات اللاشعوري والبلاغة عند لاكان:

تتمثل الصورُ البلاغية في الإطناب، والتقديم والتأخير، والحذف، والإرجاء، والتوقع، والضم، والإنكار، والاستطراد، والسخرية (Quintilian’s figure sententiarum)، كما أن المجاز يتمثل في الإثبات بالنفي، والتلقيب، والوصف البليغ، وهي مصطلحات توحي بأنها مناسبة أكثر من سواها في توصيف هذه الآليات. هل يمكن لنا أن نراها مجرد صور بلاغية في الكلام حين تكون الصور البلاغية هي المبدأ الفعال في بلاغة الخطاب الذي يتفوه به المحلل بالفعل؟٤٩ (٥٢١)

توحي خصوبة هذه المقارنات — مع أنها تربو كثيرًا على الاحتياجات الموضعية لأية مناقشة من مناقشات الكاتب — بفتنةٍ غير معلنة تعمل في كل حالة. وقد يظنُّ المرء أن مصدر الفتنة عند فرويد ولاكان لا يكمن في أن هذه المقارنات تقوم بدور المرشد، ولكنه يكمن في أن هذه المصطلحات تبدو شديدة التناقض بدرجة تجعل المقارنة بينها مستحيلة، إن الهيروغليفية والبلاغة تمثلان انتصار الفكر الدقيق والحيلة المتحضرة على مواد الخبرة الوحشية. ومن ثَم كم يبدو اللاشعوري شديد الغرابة، مع سهولة التفكير فيه كوحشٍ فوضوي، سيكشف عن أنه يملك حيلًا «متحضرة» لعلاج بنياته، وخلف هذه الغرابة يبرز على الساحة علم جديد يتناول اللاشعوري.

يمنح لاكان في كتاباته، كما رأينا، بعض المهام والامتيازات لمصطلحين بلاغيين هما الاستعارة والكناية. ومع أنه يستخدم عددًا آخر من المصطلحات كما رأينا في القائمة التي اقتبسناها من قبل، إلا أنها حين تتَّحدُ في الدرس الذي تقدمه تكون أهمَّ بكثير مما لو استُخدمَت مفردةً كأدواتٍ تحليلية.٥٠ ويكون المحلِّل الملمُّ بالبلاغة أقدر من زميله على ملاحظة كل انعطافات الاستخدام العادي التي تُشكِّل «الأسلوب»، وإلى تفرُّد خطاب المريض كفرد، وإلى خصائص خطاب اللاشعوري الذي تتيح الكلمةُ المنطوقة للمحلِّل أن يعيد بناءه من جديد. والإغراء الدائم الذي تحمله مثل هذه المقارنات، مقارنات كلٍّ من فرويد ولاكان، ينشأ عن القدرات التعميمية والتخصيصية المتحدة التي تتمتع بها: إنها تدعم حقيقة عامة عن اللاشعوري — حقيقة أن له بنيةً أو أنه، في رأي لاكان، بنية — وتتيح في الوقت نفسه للدارس المطَّلع أن يركز تركيزًا شديدًا على طريقة معاناة بعض الأفراد.
وتتضح في كتابات لاكان مهارته وبراعته كمفسِّر. ويتمثل تمكنه من الأفكار الفرويدية وقدرته على مناقشة المسائل، على عدة مستويات ومن مختلف الجوانب، في قدر هائل من الشرح والتعليق على ما بين السطور: تنبثق في تتابع سريع لمعانٍ جديدة لنصوص فرويد أثناء القراءة، وقد نلمح، في تدفق الكلام الاعتراضي، تحفظاتٍ مهمةً حول بعض أفكار فرويد، سواء أكان ذلك في شكلها الأصلي أم في شكلها الاشتقاقي، سواء أكانت كلمات مفردة أم كانت جُملًا تتمتع بالشرعية. (افترض لاكان أن جمهوره الأصلي، سواء أكان من بين زملائه أم من بين تلاميذه، على معرفة دقيقة بفرويد، والقارئ العام الذي لم يتم إعداده بصورة مناسبة يحتاج إلى قوًى استثنائية من التخيل أو خداع الذات، ليتمكن من مواصلة القراءة في كتابات ، أو إلى افتراض أنه يستعين بهذه القوى.) وبرغم ذلك ثَمة مواضع كثيرة في كتابات وفي السيمينار يمكن قراءة نصوصها وإعادة القراءة دون أن تتضح إلا بصورة ضئيلة، ومن بين هذه النصوص يبرهن نصَّان على قدرتهما على كشف هذا الأمر بصورة خاصة: جملة لفرويد، وقصة قصيرة لإدجار ألان بو.
يتحدث فرويد في آخر المحاضرة الثالثة من كتابه محاضرات تمهيدية جديدة New Introductory Lectures عن العمل المتواصل للتحليل: «حيث كانت الهو، ستكون الأنا. إنه دور الثقافة. وهو لا يختلف عن تفريغ المدخل السابق لبحر الشمال» Zuider Zee. (XXII, 80) وتظهر الجملة قبل الأخيرة وهي في الأصل [الألماني] Wo Es war, soll Ich werden على النحو التالي في الترجمة الفرنسية Le Moi doit déloger le Ça [على الأنا أن تعزل الهو]. يرفض لاكان هذه الجملة الفرنسية رفضًا قاطعًا؛ لأنها تستبعد المستويات التي يحملها المعنى في الأصل. تمثل جملة فرويد قولًا من الأقوال المأثورة الجديرة بالفلاسفة قبل سقراط Presocratics (585, 801, XI, 45). ويشير لاكان إلى أن فرويد، على عكس المعتاد، لا يستخدم الصيغتين das Es [الهو] وdas Ich [الأنا]، وهكذا تحول عاملان نفسيان، بإسقاط أداة التعريف، إلى مبدأين عامين، الجملة أمرية أخلاقية؛ اسماها ليسا متضادين تمامًا (٤١٧)؛٥١ وتحمل مفارقة مذهلة: «حيث إن الجملة أمرية؛ فهي تدفعني إلى افتراض التعليل الخاص بي» (٨٦٥).٥٢ ونقدِّم هنا عددًا من الصياغات الجديدة والترجمات «المنقحة»:
  • Là où fut ça, il me faut advenir (524).
  • Là où c’était, là comme sujet dois-je advenir (864).
  • Là où c’était, peut-on dire, là où s’était, voudrions-nous faire qu’on entendit, c’est mon evoir que je vienne à être (417-18).
  • Ici, dans le champ du rêve, tu es chez toi (XI, 45).
  • Ainsi se ferme la voie imaginaire, par où je dois dans l’analyse advenir, là où s’était l’inconscient ٥٣ (819).

يؤكد لاكان في كل هذه الصيغ الجديدة أن واقع الطاقة اللاشعورية، بعيدًا عن الحاجة إلى حراسة الأنا وسيطرتها المشددتين دائمًا، سخي سخاء يفوق التوقع: إنه المكان الحقيقي للذات، مستودع الحقيقة. إن «ضمير المتكلم» لا يقيم هناك كقوة احتلال قسرية، ولكن كقوة تهجر الزيف إراديًّا وتعود إلى موطنها؛ ويصبح «ضمير المتكلم» السخي ذاتًا بقدر عودته إلى اللاشعوري وتَبنِّي بنياته الجمعية.

إذا تأملنا الجملة وحدها في سياق محاضرة فرويد، تبدو قراءة لاكان لها مستحيلة: إن حاجة الأنا إلى التفوق على الهو تمثل إحدى تيمات فرويد في كتاباته الأولى، وقد قدم لنا المترجم الفرنسي المخطئ جوهر الإشارة التي تلخص هذه التيمة ببراعة. ولكن ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن على هذه الإشارة أن تؤكد، ببساطة، ما قيل قبلها: أبدى فرويد دهشته وحزنه من ولعه مما اعتبره إلحاحًا لا مبرر له على الكبت في الأنا، وبحث عن وسائل لإقناعها، في الممارسة العلاجية، بإرخاء قبضتها التي تضغط على الهو ضغطًا مدمِّرًا. ومن المحتمل أنه كان يتيح للتأكيد الأخلاقي السابق في محاضرته أن يردد صدى هذه الشكوك.٥٤ وما قام به لاكان بشأن هذه الجملة، في كل ما قال عن الصدى المأثور، هو إزالة التباسها بطريقة مضادة لما قام به المترجم. وبرغم التغير في التأكيد والتضمين من جملة لأخرى، إلا أنه ردَّ على كل المعاني المحتملة بمعنًى آخر يعتمد على التأكيد المتبادل. وقد انقلب تردد فرويد «قبل السقراطي» بين أقداره البديلة بالنسبة للحياة النفسية إلى دفاع هادئ في يدَيْ لاكان، وكان أحد تلك الأقدار أفضل بصورة لا تنضب.
بينما تتردد جملة فرويد Wo Es war, soll Ich werden كلازمة في كل أعمال لاكان اللاحقة، إلا أن قصة بو الرسالة المسروقة تبرز بصورة أوضح: في بداية كتابات يشرح لاكان الحكاية بإسهاب بوصفها قصة خرافية عن العملية التحليلية والوظيفة التكوينية للدال؛ في قصة بو وزير يدبر مؤامرة ويسرق الرسالة موضوع القصة، وهي رسالة موجهة إلى «شخصية مرموقة» (يُفترَض أنها ملكة)، وتحدث عملية السرقة في وجود الملك والملكة. ترى الملكة كل شيء، ولا يرى الملك أي شيء. تلتزم الملكة بالصمت أثناء حدوث السرقة، ونتأكد أنها متورطة. يتم تكليف رئيس الشرطة باسترداد الرسالة، وتبوء مهمته بالفشل، ويتشاور مع المخبر السري دوبين Dupin. تكدح الشرطة في البحث بحسن نية، لكن المخبر السري يبحث بدهاء شديد. بينما تفتش الشرطة جناح الوزير بوصةً بوصةً ولا تعثر على شيء، يرى دوبين الذي يعرف حقيقة الوزير أن آمنَ وسيلةٍ لإخفاء الرسالة تركُها في مكان ظاهر أمام الزائر، ويجد الرسالة ويسرقها مرة أخرى. ولم تكشف القصة أبدًا عن محتويات الرسالة.
يتضح، حتى من هذا التلخيص المبسَّط، جزء من إعجاب لاكان بالقصة. ليست الرسالة المسروقة سوى دال متنقل، تكتسب معانيَ مختلفة وهي تنتقل من يد إلى أخرى وتتحرك من نقطة إلى أخرى في شبكة معقدة من مدارك البشر (يتحدث بو عن «معرفة السارق بمعرفة المسروق بالسارق»)، وتتوسط أنواعًا متباينة من علاقات القوى وتحدد الذوات فيما تفعله وتكونه:
بُنيتْ هذه الحكاية بهذا الأسلوب لتبين أن الرسالة وتحولاتها تحكم مداخل الشخصيات وأدوارهم. إذا كانت «في شقاء» فسوف يتحملون الألم. وإذا قُدر لهم أن يمروا تحت ظلالها، فسوف يصبحون انعكاسًا لها، وإذا أصبحت الرسالة — إبهام اللغة، الإبهام الرائع — في حوزتهم فسوف يصبحون في حوزة معناها.٥٥ (٣٠)
ويشكل عمل لاكان «سيمينار عن «الرسالة المسروقة»» Le séminaire sur “La Lettre volée” والكثير من الوثائق المتعلقة به (٩–٦١)، بالإضافة إلى النسخة المبكرة المنشورة في السيمينار الثاني (١١–٤٤)، إنجازًا تأويليًّا لا يصدر إلا عن براعة نادرة. ولكن أليس تفسير لاكان تفسيرًا إليجوريًّا بالأساس؟ ورغم كل شيء، فقد تم استنباط الدال المتنقل، الرسالة المسروقة، وهي أيضًا a feuille volante (صحيفة طائرة fly sheet)، بقراءة دقيقة، واكتسب مدلولًا ثابتًا في العملية: كُتبَت قصة بو «عن» تنقل الدال، وهو ما «تعنيه».٥٦ أليس من الغريب أن يكتب أليجوريا، وهي ميتالغة رائعة in excelsis، ويلقي الضوء عليها من يؤمن باستحالة وجود الميتالغة؟ بلى، إنه غريب، وغير متسق، ومخيب للآمال مثلما هو الحال في الإلحاح المحدَّد، إلحاح لاكان في فهم جملة فرويد Wo Es war… ولكن هذا الأمر لا يصح إلا إذا اكتفينا بالنظر إلى الكشف التصويري الواضح في مناقشة لاكان. وإذا تأملنا البنية الدقيقة لكتاباته، ولعبة الإبهام اللحوح التي تتخللها، يتضح لنا أن نماذج التحليل النفسي الأساسية، وعادة التفسير التحليلي ذاتها، ربما تكون موضع شك من داخلها.
إن الدَّين العملي الذي يدين به لاكان للأدب والحالة «الكتابية» writerly الشعورية لكتاباته واضحان حتى للقارئ العابر. ويمنح المعجبون به ومنتقدوه هذه الكتابات، وخاصةً الوجود الخصب للعب بالكلمات، والمفارقة، والفكر المنطقي المعاكس، مكانًا بارزًا في مناقشاتهم لمدى صلاحية تلك الأعمال، سواء أكانوا معها أم ضدها. ومع أن تأكيدًا من هذا القبيل مضلِّل بطرق عديدة، وقد أدى إلى الوقوع في بعض الأخطاء الخطيرة في تصوير إنجاز لاكان، إلا أنه ليس من الصعب أن نرى الأهمية النادرة، الأهمية التي اكتسبتها في نظرية العقل أسئلة، مجرد أسئلة عن الأسلوب. وحيث إن الأدب لا يكتفي بالاعتراف بمصادره اللاشعورية أكثر مما تفعل الأشكال اللغوية الأخرى، ولكنه يتمتع أيضًا بغزارة الفهم الذي يمكن أن نتوصل إليه، وهو بذلك يقدم للمحلل النفسي نموذجًا من نماذج عمل اللاشعوري يعتبر سلسلة دالة لا تتوقف وتتضاعف ذاتيًّا.٥٧ ويقوم الشعر خاصةً بهذا الدور بصورة نموذجية:

ولكن على المرء أن يستمع إلى الشعر فقط … ليسمع التعدد الصوتي، ويرى الخطاب برمته منظومًا بطول المقاطع الشعرية في القصيدة.

وليس هناك في الواقع سلسلة دالة ليس لها تمفصل كامل، كما لو كانت كل وحدة من وحداتها تتصل بعلامة من علامات الترقيم، مع سياقات مناسبة معلَّقة «عموديًّا»، إذا جاز التعبير، من تلك النقطة.٥٨ (٥٠٣)
ويبدو أن نظرية لاكان في حاجة إلى نوع معين من التعبير الأدبي. إذا كان اللاشعوري «يشبه الشعر» في بنياته المحدَّدة بالعديد من العناصر والمتعددة الأصوات، فإن الكاتب الذي يختار تناول اللاشعوري، ويأمل في اتباع قوانينه في الكتابة، سيحتاج بالضرورة إلى أن يصبح أكثر «شبهًا بالشاعر» ليكون أقرب إلى جوهر ذاته. وسوف يوضح تداخل الدوال وترابطها معًا في السلسلة المكتوبة للقارئ ماهيةَ اللاشعوري، بتمثيل دوره بدلًا من وصفه. وهنا يقدم لنا لاكان تعريفين يعتمد أحدهما على الآخر. يدعم الشعر واللاشعوري أحدهما الآخر دعمًا متبادلًا: إذا أردت أن تفهم «أ»، فافهم «ب» أولًا؛ وإذا أردت أن تفهم «ب»، فافهم «أ» أولًا. وفي هذه الحالة لا يطفو البناء التام للمفهوم بحرية، ولكنه ينغرس بقوة في نثر لاكان، النثر الفاتن والمزهو: وهنا تتجسد النظريات وتتأكد التعريفات التوءَمية عند لاكان في الكتابة.
ويمثل نثر لاكان آلية دقيقة تضاعف الروابط بين الدوال وتلقي الضوء عليها. وتزخر لعبة الكلمات بقدر عظيم من العمل الفكري وتقدم قدرًا هائلًا منه. ونورد هنا بعض الأمثلة مع تعليق موجز على ما يتضمنه كل مثال la politique de l’autruiche (١٥): السياسة التي تنتمي في الوقت نفسه إلى النعامة (autruche) وإلى الآخرين (autrui) وإلى النمسا (Autriche) البلد الذي وُلد فيه التحليل النفسي؛ fau filosophe (٢٣٣): فيلسوف (philosophe) زائف (faux) يشق طريقه في (se fau filelettre-l’être-l’autre (٥٢٣): تتضمن الرسالةُ الآخرَ فيما تتضمنه؛ dansilé (٨٠٧): الكثافة التي ترقص، «في الداخل»؛ A casser l’œuf se fait l’homme, mais assui l’Hommelette (٨٤٥): إنسان يأتي من انكسار بيضة، هكذا يفعل الإنسان الصغير، الإنسان المؤنث، الإنسان الزاحف؛ La loi en effect commanderait-elle: Jouis, que le sujet ne pourrait y répondre que par un J’ouïs (٨٢١): حين يتم الترتيب للمتعة أو الأورجازم، لا يستطيع المرء أن يرد إلا بكلمة «نعم»؛ poubellication” (XX, 29): إن نشر أي شيء عمل طيب كإلقائه في صندوق القمامة (poubelleamour (XX, 73): الحب الروح (âme-amour). وبهذه الوسائل قد تنقلب اللغة على نفسها، ومثلما يبدع جويس كلمة tautaulogically في Finnegans Wake. وهكذا يصبح كلمة «حشويًّا» tautologically ما تصفه، يغرس لاكان بكتابة كلمة la langue على النحو التالي lalangue (التلفزيون، ٢١، ٧٢؛ XX، ١٢٦) كثيرًا من حقائق اللغة في الاسم الذي تحمله: إنها تكرارية، وتتعلق باللسان langue، وحين ننطقها تضرب ألسنتنا أحناكنا)؛ وتميل إلى الموسيقى (تمثل la نغمة في القرار صول – فا)؛ ولها القدرة على الصدم أو إثارة الدهشة (Oh là là!) (لاحظ أن الكلمة λαλαγεω اليونانية المقابلة تعني «يثرثر، يلغو»). وحيثما تتصادم الكلمات وتنصهر بهذه الطريقة يسود جوٌّ من اللعب، ولكن قد يأتي أحيانًا من الخلفية صوت مذهبي واضح: إذا كان الدال يلعب والمدلول «ينزلق تحته»، فإن اللاشعوري يتكلم باللسان الفطري.
يتكلم لاكان بإطراء عن شخصية Humpty-Dumpty بوصفها «سيدة الدال» (٢٩٣)،٥٩ وتبرهن حين تتناول الكلمات المنحوتة على أنها الوريث الكفؤ لبيضة كارول [Humpty-Dumpty شخصية من شخصيات كارول تشبه البيضة. المترجم] التي تتحدث بعدوانية، ولكنه يتكلم أيضًا بإطراء عن شهرته الخاصة باعتباره «جنجورا» [لويس جنجورا: شاعر إسباني (١٥٦١–١٦٢٧م) يتميز شعره بالغموض والأسلوب المنمق. المترجم] التحليل النفسي (٤٦٧)، والصورة الثانية عن نفسه — باعتباره مبتكر الأسلوب البويطيقي المعقد — موحية تمامًا كالصورة الأولى. لقد قدم لاكان تركيبات لغوية فرنسية طاردة وجديدة، وقدم، بالمثل، سيمنطيقا جديدة. إنه يستمتع، مثلًا، بالتباس حروف الجر، ويلعب بقسوة على المعاني المختلفة للحرفين à وde. وقد رأيناه من قبل معجبًا باستخدام en passession de بمعنى «مملوك» و«مالك» في الوقت ذاته.٦٠ ويوجد ازدواج مماثل في المعنى في الجملة التالية: «لأن الدال وحدة في التفرد الطبيعي، فهو لا يغيب إلا بالرمز الطبيعي» (٢٤).٦١ الدال رمز الغياب، ويصير رمزًا بالغياب، والوميض السريع للعلاقات البديلة يضبِّب رؤية أي قارئ يبحث عن معنًى أساسي وحيد في فقرة تزخر بحروف الجر كالفقرة التالية:
La liberté de l’homme s’inscrit toute dans le triangle costituant de la renonciation qu’il impose au désir de l’autre par la menace de la mort pour la jouissance des fruits de son servage-du sacrifice consenti de sa vie pour les raisons qui donnent à la vie humaine sa mesure-et du vaincu frustrant de sa victoire le maître qu’il abandonne à son inhumaine solitude (320).٦٢
[يتم نقش حرية الإنسان بالكامل في المثلث الذي يكون نكران الذات الذي يفرضه [الإنسان] على رغبة الآخر بالتهديد بموت الاستمتاع بفاكهة العبودية — وقبول التضحية بحياته للأسباب التي تضفي على الحياة الإنسانية قيمتها — والنكران الانتحاري لقهر الرفيق، بحرمان انتصاره من السيد الذي يتخلى عن عزلته اللإنسانية.]٦٣ (٣٢٠)
يمثل كل حرف من حروف الجر عقدة في السلسلة الدالة، إنها لحظات التحول من علاقة محتملة إلى أخرى، لحظات يصبح فيها التكثيف والإزاحة حدَثين نصِّيين ملموسين، ويتضمن أي تعليق كامل٦٤ على السمات التركيبية أو غير التركيبية، المميزة لأسلوب لاكان، تعليقًا على حرف qui المبهم، اضطراب الترتيب التقليدي للكلمات، المزج بين الفهم الحرفي والفهم الاستعاري، الإسهاب، الحذف، المفاهيم التي يلمح إليها بدلًا من التصريح بها، شخصنة الأفكار التجريدية، تجريد الأشخاص، ترادف الكلمات المختلفة اختلافًا تامًّا، واكتساب المرادفات معانيَ مختلفةً اختلافًا تامًّا … ويحافظ كل ذلك على المدلول كوجود يرفرف شاحبًا خلف الدال الفتيِّ.
ومن الواضح أن كاتبًا يستخدم هذه الأدوات بهذا المعدل وبمثل هذا الاقتران الحميم لا يعدو فقط باتجاه خطر كتابة تفتقر إلى المعنى، ولكنه يتخيل أيضًا أن اللامعنى هدفٌ أدبي إيجابي. يرى لاكان أن السخرية والتضاد متأصلان في اللغة، وأن علم النفس، طالما يدرس الخطاب، هو «مجال ما لا معنى له» (١٦٧).٦٥ وحين تشخصن الحقيقة اللاكانية — حقيقة اللاشعوري — ويتاح لها أن تتحدث بصوتها الخاص، كما في محاضرة «الشيء الفرويدي» La Chose Freudienne، نصل إلى هذه النقطة:
أتجول فيما تعتبره أقل الحقائق جوهرية: في الحلم، في طريق أكثر التصورات فتنة، هراء النكتة الأكثر غرابة، في الصدفة، ليس في قانونها ولكن في مصادفتها، ولن أفعل أبدًا أي شيء لأغير وجه العالم أكثر مما أفعل حين أمنحه بروفيل لأنف كليوباترا.٦٦
ومن المؤكد أن لاكان تأثَّر بالسريالية في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات: كان له أصدقاء بين السرياليين، وساهم ببعض المقالات عن البارانويا في مجلة Minotaur، وتأثر بتجارب السرياليين في الكتابة الآلية، وتأكد من كلٍّ من كرفل Crevel وإيلوار Éluard وجوي بوسكيه Joë Bousquet من صحة رأيه عن القدرة الشعرية الكبيرة في كتابات «أيميه» Aimée، المريض الذي شكَّل تاريخه المرضي أساس بحثه عن البارانويا، وهو البحث الذي تقدَّم به لنيل درجة الدكتوراه (١٦٨). وفي كتابات إشارات وتلميحات لا تُحصى إلى الحركة، ولا شك أن الوافد الجديد إلى لاكان سوف يسمع الكثير من الملاحظات المألوفة يتردد صداها في أعماله إذا كانت له خبرة بالكتابة السريالية، وسيكون هذا القارئ على استعداد لفهم كيف يمكن التفكير في هذا الكلام الخالي من المعنى بوصفه ثراءً للمعنى وليس غيابًا له، ومنحه دورًا خاصًّا في استكشاف حقائق اللاشعوري والإفصاح عنها.
ولكن لاكان تعلم في شبابه كثيرًا من الدروس غير تلك التي تعلمها من السرياليين، وسعى في السنوات التالية وراء اللاشعوري بإغواءات وحيل أبرع من إغواءاتهم وحيلهم. ويبدو الآن ذلك «الكلام الخالي من المعنى» في نص لاكان وكأنه مناخ ذكيٌّ من المعاني يعد ولا يفي، ويبدو الآن وكأنه مقتحِمٌ وحشيٌّ لعالم المناقشات العقلانية أو الإقناع الخطابي: تنتمي مسألة «أنف كليوباترا» في نهاية الفقرة التي اقتبستها منذ قليل انتماءً واضحًا إلى النوع الثاني. والكلام الخالي من المعنى في الحالتين وسيلة للإثارة الفكرية بدلًا من عرض البنية النفسية عرضًا استاتيكيًّا أو عن طريق المدهش السريالي، إن خطابه الخاص يذكرنا بأن مسئوليته تتمثل في «أن يقول شيئًا آخر دائمًا» (٨٣٧).٦٧ ويرى لاكان أن من يتحدث ويرضى عن حديثه ليس مجرد إنسان مضلَّل، إنه إنسان مخطئ، وأية عبارة لا تثير تغيرًا وغرابة في ذاتها عبارة خاطئة، والحقيقة التي تسعى إلى انتزاع نفسها من عملية التناقض في اللغة ليست إلا زيفًا.
يا لها من حيرة حين نقرأ للمرة الأولى أعمال هذا الموالي لفرويد الذي يعلن ولاءه صراحةً، ونجدها لا تشبه أعمال الأستاذ في أية خاصية أسلوبية، أو في طريقة التقديم، أو في التقاليد المنهجية. إن فرويد، أينما يُذكَر، وحتى حين يذكره الذين يرفضون أفكاره أو يودون وصفها وصفًا قاسيًا، صبورٌ وصافي الذهن فيما يقدمه، وقادر على إضفاء القيمة المناسبة على آراء غير آرائه في صياغة مناقشاته، إنه دقيق في تحديد مجالات التفكير التي لا تستطيع نظريته أن تساهم فيها الآن أو في أي وقت آخر، لكن لاكان غضوب، ومتعجرف، ويحتقر الآراء المضادة، ويفرط في الحماس أحيانًا، ويجزم في أسلوبه النثري، ويقتنع اقتناعًا تامًّا بأن نظريته لا حدود لها في أي مجال من المجالات.٦٨ إن لاكان يفعل ما يفعله بطريقة تختلف اختلافًا كبيرًا عن طريقة فرويد لدرجة أنه يمكن بسهولة اعتبار مشروعه، في المواجهة الأولى، عملًا تخريبيًّا يبحث عن الشهرة على حساب الأسس الأصلية للتحليل النفسي. إن اختلافه عن فرويد، خاصة في الهزل الرفيع الذي يصبغ كثيرًا من كتاباته، يُنظَر إليه بطربٍ في الكثير من الاستجابات العدائية التي يثيرها تفكيره، إلا أن هذه الاستجابات كتبها متفرجون لهم دوافع أخلاقية، وقد حاولوا قراءة ما يكتبه لاكان وفشلوا، أو أنهم ببساطة فشلوا في قراءة أعماله. ولكن ليس كل منتقديه من هذا النوع، فقد اتهمه، مثلًا، بالغموض المتعمَّد مؤلفون نابغون لهم مكانتهم ولا يمكن تجاهلهم.
يكتب سيبستيانو تيمبانارو Sebastiano Timpanaro مثلًا في كتابه الزلة الفرويدية The Freudian Slip (١٩٧٤م)، وهو كتاب يقدم نقدًا رائعًا لكتاب فرويد سيكوباثولوجيا الحياة اليومية، منطلقًا من آراء تمزج بين الماركسية والنقد النصي:
يجب الاعتراف بصورة لا مفر منها بأن في كتابات لاكان شعوذة واستعراضية تغطي على أية أفكار قابلة للفهم أو حتى للمناقشة، يبدو لي أنه لا يوجد شيء مهم وراء الستار الدخاني، ومن الصعب التفكير في رائد، سواء أكان بنيويًّا أم لم يكن، رائد في مجال الالتقاء بين التحليل النفسي واللسانيات، برهن في العديد من المواقف على أن معرفته بالأخيرة معرفة خاطئة ومشوشة.٦٩

تنمُّ ملاحظات تيمبانارو عن معرفة محدودة بلاكان وعن حكم مبتسر عليه، ولكن حقيقة أن هذه الملاحظات يمكن أن تصدر عن شخص يعرف أكثر ويحكم بشكل أفضل على قضايا أخرى سيجعلنا نتساءل بوضوح عما إذا كانت تمثل السطح الهجومي لحالة جوهرية من حالات الهجوم ضد لاكان. ومن الممكن، رغم كل شيء، أن النقاد من أمثال تيمبانارو يودون، وقد كشفوا عن نواياهم تمامًا، ألا يتركوا الهجوم في أحكامهم منقوصًا.

أذكر الآن بعضًا من أبسط العوامل التي قد يركز عليها نقدٌ موجه إلى لاكان ومن أقلها تخصصًا. اتخذ لاكان في أعقاب فرويد احتياطاتٍ صارمةً للحيلولة بين أعماله والابتذال والسهولة، وغالبًا ما يبدو هذا الكفاح لإعاقة نقل أفكاره نقلًا سطحيًّا وكأنه مجهود متعمَّد لتأتي بصورة غير مفهومة.٧٠ ويبدو وكأنه يقول مثلما لا يمكن أن تصل إلى كهف اللاشعوري إلا بأن تكون داخله بالفعل، كذلك لا يمكن أن تفهم أعمالي تدريجيًّا إلا بأن تكون قد فهمتها من قبل [التأكيد للمترجم]. يقدم لنا لاكان مفهومًا جديدًا لكلٍّ من العلم والحقيقة، وفي علم الكلام بين الذوات intersubjective الذي ينادي بأن على التحليل النفسي أن يلتزم به، ويطالبنا بالتخلي عن الكثير من الإجراءات التي تبرهن على صحة العلم أو زيفه، وهي إجراءات تقوم عليها تقليديًّا مصداقية التساؤل العلمي. إن حقيقة اللاشعوري هي الحقيقة الوحيدة الجديرة بهذا الاسم. إن اللاشعوري الذي يرغب، واللغة التي هي بنيته، جمعيَّان، ومكونان من طبقات وملتفان، ولا يقبلان التصنيف أو التوقف، والمناقشات التي تعالج النهاية مناقشات زائفة، وفي هذا كله تكمن بدقة المفارقة في أن اللغة كلها ليست سوى إزاحة كنائية للرغبة. وليس هناك، كما أكد لاكان كثيرًا، ميتالغة، أو آخر بالنسبة للآخر، أو حقيقة عن الحقيقة (٨١٣). لماذا إذن يتم تفضيل لغة ذات تكافؤات متعددة بسخاء على لغات تعبر عن شيء واحد في كل مرة، أي على لغة المنطق، أو تحليل المفاهيم، أو الوصف الإمبيريقي، أو نظرية التحليل النفسي التقليدية؟ هل يمكن ببساطة أن يرجع استخدام هذه اللغة، التي تمنح أهدافًا أكثر للرغبة التي تتضح في الحركة داخلها، إلى الاعتقاد بأنها تحافظ على اتصال أقرب وأقوى مع منبت الرغبة؟ ولكن ذلك المنبت يوجد في كل المواضع ولا مفر منه. وقد رأينا لاكان ذاته يشير إلى نسخة من المفارقة ذاتها في شرحه لعبارة فرويد Wo Es war, soll Ich werden: بأي حق، وبأية غاية أخلاقية لأي رأي، يمكن للمرء أن يدفع إنسانًا بالضرورة وبلا كلل إلى أن يصبح ما هو عليه؟ لماذا نُقحم في الحركة آليةً دقيقة للإقناع حين يكون من المؤكد أنه لا يوجد من يقتنع؟ يمكن أن نشعر ونحن نقرأ لاكان بميول شخصية تتخلل مناقشاته، ميول مهمة لم تُناقَش. وهي في هذه الحالة ميول قوية تماثل الميل الذي جعل إنجلز في Anti-Dühring يرى أن الحرية الحقيقية تكمن في التعرف على الضرورة.

يثير أسلوب لاكان التوضيحي مجموعةً من الأسئلة المرتبطة به، وتنكر نظريته أي فارق بين الكتابة الوصفية والكتابة الإرشادية، أو بين التحليل العملي للحالات واستنباط آراء نظرية مناسبة، ويعتمد اعتمادًا كبيرًا على الإقناع ببعض القواعد العامة المتكررة مدَّخِرًا النقطَ الحاسمة من مبادئه. وتُستهَلُّ هذه الصيغ المأثورة ويتم تكرارها وتعديلها بدون أية برهان يدعمها. وقد تصاغ كأنها جيوب فجائية من الوضوح النسبي داخل التشوش المربك، التشوش الناتج عن اللعب بالكلمات وعن الصور الشعرية، وقد تظهر مع الهجمات العنيفة ضد المتهمين بتزييف الفكر التحليلي (يرى لاكان أن كل القضايا قضايا مبدأ، وأن كل التعارضات الموضعية تكشف عن قوى الظلام والنور في صراعهما الجبار). ويأتي، بالطبع، التدعيم البرهاني لهذه الجمل من مكان آخر، والقارئ الذي يتمتع بالقدرة على التفكير في عدة اتجاهات في وقت واحد سيوائم بين هذه المواد بصورة أفضل من غيره، وقد تُرضيه كل نبوءات الكاتب إرضاءً تامًّا حين يتم تقديم أفكاره إلينا بهذا الشكل، ويمكن محاكاة العملية بصورة ساخرة على النحو التالي: «إذا كان ما أقوله — عن اللغة واللاشعوري وإزاحة الرغبة والآخر — صحيحًا، فعلى المرء أن يتوقع حشدَ نوعٍ معين من الكتابة، كتابتي موجودة وهي من النوع المتوقَّع؛ ومن ثَم يكون ما أقوله صحيحًا.» أو بأسلوب آخر: «الحذف هو الطريقة التي تميز الوظيفة العقلية للاشعوري؛ ومن ثَم فأنا أتَّبع قواعد اللاشعوري، وأقول الحقيقة حين أحذف الأجزاء الأساسية من الدليل وأنا أعبِّر عن حالتي.» إن الاستدارة واستجداء الأسئلة لم يظهرا أبدًا بمثل هذا العُرْي في فكر لاكان، لكن المخاطر التي يثيرها فكره ظهرت بجلاء. إنه يختبر فكره باستمرار اختبارات من ابتكاره، ويجتاز فكره هذه الاختبارات دائمًا. ومع أنه يستدعي إلى الذهن الكثير من أنساق المفاهيم المهمة وهو يعمل — أنساق افلاطون وهيجل وهايدجر على سبيل المثال — إلا أن هذه الأنساق لا تقدم أي نوع من الاختبار الخارجي لنسقه الخاص، ولكنها، بالعكس، تمدُّ ذلك النسق بمزيد من الارتياب الجدلي وبمزيد من الآخرية؛ مما يعني بالطبع أنها تمده بمزيد من الزخم والدعم. وحيث إن التناقض والسخرية متأصلان في اللغة، ومن ثَم تصبح اللغة كلها ناقدة لنفسها بمعنًى ما، فإن الاختبارات الخارجية لا ضرورة لها. وعلى أية حال، يمثل الفشل في أحد الاختبارات اجتيازًا له أيضًا.

إن فنتازيا القدرة الكلية تُفقِد تأثير المساهمات الأساسية التي قدمها لاكان في التحليل النفسي، مع أنها قد تجعل من الصعب على الكثير من القراء أن يعزلوها في البداية. إن حقيقة أن أعماله المنشورة تكتسي بمظهر صريح من التفاخر النرجسي ساعدتها على اكتساب هيبة هائلة في الثقافة الفرنسية المعاصرة. إنك حين تشتري كتابات لاكان تشتري حدثًا وشارة، وحيث إن شعارات كتابات تمثل جزءًا من لغو العاصمة، فلستَ في حاجة إلى قراءة أية كلمة منه لتنتحل سحره. ومما لا شك فيه أن علماء اجتماع المعرفة في المستقبل سيدرسون الآليات التي جاءت بها «لاكانيه» Lacanism واهية، تشبه the ‘fofreudism التي يشوهها لاكان تشويهًا شديدًا (٥٢٧)، لتبدو في الحياة الفكرية لمجتمع من المجتمعات أكبر من الأفكار والنصوص الأصلية.٧١
إلا أنه يتضح في غضون ذلك أن أفكار لاكان، حين توضع وتقيم في سياقها الحقيقي، تكون قوية بما يكفي للإبقاء على التأليه الزائف الذي رفعها إليه رأي مطابق للموضة. لقد وُضعَت لتعمل وتُختبَر بصرامة في السياق التحليلي، وهو سياق عملي مشترك. وقد وسَّع بعض أتباع لاكان الذين يميلون إلى الاستقلال من أمثال جين لبلانش Jean Laplanche وج. ب. بونتالي J.-B. Pontalis وسيرج لكلير Serge Leclaire ومود مانوني Maud Mannoni وأوكتاف مانوني Octave Mannoni مفاهيمه، وعدَّلوها بدون أية محاولة لتقليد أسلوبه الأدبي، ومن أعمالهم يتضح أن لاكان أنشأ تقليدًا مترابطًا ومستمرًّا في البحث التحليلي.
لقد جعل لاكان من فرويد شخصًا مفهومًا للمرة الأولى في فرنسا. وكان لالتفاته إلى حقائق اللغة كما تبدو في فكر فرويد وإلى الطريقة التي يمكن بها استخدام اللسانيات البنيوية لإعادة تنظيم تعليقات التحليل النفسي على اللاشعوري، كان لهذا الالتفات أصداء عديدة على المستوى التطبيقي والمستوى النظري داخل مراكز الحركة في فرنسا.٧٢ وأذكر هنا اثنين من أكثرها تأثيرًا؛ أولًا: تم استدعاء التحليل النفسي لإدراك مسئولياته الفكرية:
إنه لن يدعم الأسس العلمية لنظريته أو تقنيته إلا بصياغة الأبعاد الأساسية لخبرته في أسلوب مناسب، خبرته التي تمثل مع النظرية التاريخية عن الرمز المنطقَ الموضوعي وزمنية الذات.٧٣
وهذا النوع من الطموح ينأى بلاكان عن أولئك الأطباء النفسيين الراديكاليين المشهورين من أمثال لانج R. D. Laing وديفيد كوبر David Cooper وتوماس زاس Thomas Szas. إن الأفكار في رأي أولئك الكتَّاب لها مبرر محدد: إنها تستخدم أساسًا كوسيلة لكشف المقدمات الخاطئة التي تتأسس عليها المفاهيم القمعية حول العقل والجنون، ولا تساهم، إذا كان لها أن تساهم، إلا مساهمة واهية في التعليقات الوصفية أو التحليلية على العملية النفسية. ومن الناحية الأخرى، لا يمثل كشف المقدمات الخاطئة، في رأي لاكان، سوى جزء من عملية مستمرة لبناء نموذج نفسي تلعب فيه الأفكار، التي تتجمع من مختلف المصادر وتتحد بصورة غير مستقرة، دورًا حيويًا، ولا تزال محاولات صياغة هذه المناطق الخطرة من البحث من قبيل «المنطق الموضوعي» و«زمنية الذات» في المراحل الأولى. ويتمثل دور لاكان، معتمدًا بصورة أساسية على اللسانيات والمنطق الشكلي والحساب أيضًا، في اقتراح طرق قد تصبح بها الصرامة الفكرية ممكنة في فروع علم النفس، حيث ما زال الإبهام والغموض سائدين حتى الآن.
ثانيًا: في محاولة لجذب الأنظار إلى الأهمية المركزية للتأمل اللساني في الذات الإنسانية، أعاد لاكان صياغة أهداف التحليل النفسي بوصفه أسلوبًا للعلاج وبوصفه خطابًا أخلاقيًّا: «لا يمكن أن يكون للتحليل غاية إلا بالحلول في كلام حقيقي والتحقق بواسطة ذات تاريخية في علاقتها بالمستقبل» (٣٠٢).٧٤ و«الكلام الحقيقي» الذي يسعى التحليل النفسي إلى تعزيزه هو الكلام الذي تكون فيه الذات على اتصال تام باللغة البدائية، لغة الرغبة التي نستمع إليها في تعليق الذات على أحلامها وأعراضها. وهذا الكلام مستحيل إلا حين تكون الذات قادرة على الاعتراف بالنقص وعدم الاكتمال في داخلها، وهما حقيقتان واضحتان. إن النظام الرمزي يتأسس على هذه الحقائق، والدخول في هذا النظام يعني القبول بأنَّ قدَر المرء كذاتٍ إزاحةٌ غير محدَّدة وموتٌ.٧٥
والبديل الخيالي مُغوٍ، ويبدو أنه يَعِدُ بسلسلة كاملة من الإنجازات: الهوية، التكامل، التناغم، الهدوء، النضج، الفردية، التبادلية … ويعالج لاكان الخيالي أحيانًا، مع ما يرتبط به من أهداف تبدو جديرة بالتقدير، باستهجان عابر: «ابحث عن هذه الأشياء إذا كانت لديك الرغبة في ذلك، وإذا كنت على استعداد للتسليم بالتافه والكاذب، لكن الحقيقة، بالطبع، في مكان آخر.» ولكنه، عمومًا، يتناول العلاقة بين الرمزي والخيالي بمستوًى أسمى من الأهمية والتعقيد. وقد أعاد تعليقه على الجدل المستمر بينهما والمتأصل في الحياة الإنسانية، أعاد إلى التحليل النفسي كثيرًا من الأصداء الأخلاقية الكئيبة التي نجدها في كتابَيْ فرويد وراء مبدأ اللذة وقلق الحضارة Civilization and its discontents. وفي مقال من مقالاته الأخيرة عن «تحليل المحدود واللامتناهي» (XXIII, 211–53). وحتى هنا لا تتشابه نغمة لاكان مع نغمة فرويد تشابهًا تامًّا، ولكنه رفض اللاستسلام إلى راحة التفاؤل أو التشاؤم، وثبت في وجه المشاكل العضال، وكان الرفض والثبات على المستوى نفسه من السمو.
وقد أثَّر لاكان تأثيرًا كبيرًا خارج التحليل النفسي. ويكمن أحد الأسباب الأساسية وراء هذا التأثير في أن كتاباته تسعى بوعي إلى نقد الخطاب والأيديولوجيا. إنه يمد المشتغلين في المجالات الأخرى ببورتريه حذر للتفكير أثناء حدوثه، ولعناصر فنتازيا اليوتوبيا والطفولة التي قد تجد طريقها حتى في أبسط عمليات العقل وأنقاها. إن شعار «يا بناة المفاهيم الخالدة، احذروا» يمثل رسالة كتابات للذين يسمعون. لقد دفع لاكان التحليل النفسي إلى إدراك النزعات البلاغية بصورة لم يسبق لها مثيل مما جعله يكتسب بالنسبة لبعض المنظرين من ذوي القناعات الأخرى انعكاسية ذاتية رائعة.٧٦
كانت ثورة فرويد، في رأي لاكان، «غير ملموسة، ولكنها كانت ثورة راديكالية» (٥٢٧).٧٧ وكانت ثورته من النوع نفسه. إنه يضع أمامنا، وهو يكشف قوى الكبت التي تعمل في أنساق التحليل النفسي ومؤسساته ويسمح للمكبوت بالعودة في كتاباته، رأيًا أصيلًا واستثنائيًّا عما قد يكون عليه التفكير. إنه قارئ لفرويد، لكن إخلاصه لفرويد من نوع مختلف عن إخلاص أفلوطين لأفلاطون أو ابن ميمون لأرسطو. يقدم له فرويد ضمانًا بأن التفكير كله «تفكير آخر»: لا يوجد ثبات، أو موضع للوقوف، أو نسق أسمى. إن اللاشعوري الناطق يمثل نموذجًا للحياة الفكرية. يكتب لاكان أعمالًا تتم إزاحتها وتفكيكها أثناء إنتاجها بدل أن يبدع أثرًا خالدًا ويتركه للزمن أو التاريخ أو الآراء. والتفكير الذي يوضحه لنا تفكير يسكن الزمن، ويبدو بوصفه عملية، ويجد حقيقته في رفض الاكتمال.
١  العنوان الأصلي: Lacan.
وهو الفصل الرابع من Malcolm Bowie: Freud, Proust and Lacan: Theory as fiction; Cambridge University Press, 1987; pp. 99–133; 198–204.
المتن من ص٩٩ إلى ص١٣٣، والهوامش من ص١٩٨ إلى ص٢٠٤.
٢  للاطلاع على ترجمة إنجليزية دقيقة للترجمة العبرية لرسالة ابن ميمون (إلى صموئيل بن تيبون)، وهي مكتوبة بالعربية في الأصل. راجع مقدمة شلومو بنس للترجمة التي قام بها لكتاب دليل المحتار The Guide of the Preplexed.
٣  وردت العبارة بالفرنسية في المتن، ويمثل الهامش ترجمة إنجليزية للعبارة، وقد آثرت تدوين الترجمة العربية في المتن بدون تدوين الأصل الفرنسي — إلا في حالات الضرورة، كأن يكون التعليق، مثلًا، على السمات اللغوية للعبارة — وسأكتفي فيما يلي من الهوامش المماثلة بعبارة «بالفرنسية في المتن». (المترجم)
٤  «بوصفه اسمًا substantive، يدل [ما قبل الشعوري] على نسق للجهاز النفسي يتميز تمامًا عن نسق اللاشعوري. وبوصفه صفة adjective، يحدد عمليات نسق ما قبل الشعوري ويحدد محتوياته. وحيث إنها لا توجد دائمًا في مجال الشعور، تكون لاشعورية بالمعنى «الوصفي» للمصطلح، ولكنها تختلف عن محتويات نسق اللاشعوري من حيث إنها لا تزال تخضع لمبدأ في متناول الشعور (مثلًا، المعرفة والذكريات التي ليست شعورية الآن) (لبلانش وبونتالي، لغة التحليل النفسي، ٣٢٥). وفي كثير من الأحيان يعتبر ما قبل الشعوري والشعوري نسقًا واحدًا متصلًا ومتميزًا تميزًا تامًّا عن نسق اللاشعوري (راجع كتاب لبلانش وبونتالي، وهو مرجع نفيس ظهرَ للمرة الأولى في عام ١٩٦٧م بعنوان معجم التحليل النفسي Vocabulaire de la psychanalyse، والتعريفات التي نقتبسها هنا وفي الهوامش التالية نقدمها في صورة موجزة).
٥  يشبه أفلاطون في الكتاب السابع من الجمهورية الإنسان المخدوع بعالم الظواهر بسجين في كهف تحت الأرض، ويرى أن محاولة السجين للهروب من الكهف تناظر بحث الإنسان عن التنوير والحكمة.
٦  بالفرنسية في المتن.
٧  الإزاحة displacement: «حقيقة أن تأكيد الفكرة أو اهتمامها أو كثافتها عرضة للانفصال عنها والانتقال إلى أفكار أخرى، كانت قليلة الكثافة أصلًا، ولكنها تتصل بالفكرة الأولى بسلسلة من التداعيات» (لبلانش وبونتالي، ١٢١).
٨  عن أكتيون لاكان Lacan’s Actaeon، راجع ص١٦٧–١٧٣، ١٧٨ [من الأصل الإنجليزي، والفصل بعنوان لاكان والأدب، وهو ضمن الفصول المترجمة في هذا الكتاب].
٩  بالفرنسية في المتن.
١٠  للاطلاع على بعض التعليقات الموجزة على هذه المفاهيم، راجع لبلانش وبونتالي، ١٦٩-١٧٠، ٤٣–٤٥.
١١  يصف جاك ألِن ميلر Jacques-Alain Miller في Entretien sur la Seminaire مسئوليته كمحرر في إعداد نسخ السيمينار للنشر، ويعلق ببراعة على بعض الأمور الأخرى: المعاني التي ربما تؤدي إلى اعتباره «مؤلفًا مشاركًا» co-author في المجلدات المتتابعة، العلاقة بين الغموض والوضوح في كتابات لاكان وفي كلامه، العلاقة بين كتابات والسيمينار كأدوات للتعبير عن نظرية لاكان التي تتحول تحولًا ذاتيًّا باستمرار، اللعب بين الطبيعة الارتجالية لنص لاكان «الأصلي» المنطوق والنظرة المنطقية لعقل ميلر كمحرر. وللاطلاع على محتويات كل مجلد من مجلدات السيمينار (سواء أكان منشورًا أم لا) والتاريخ الكامل لنشر أعمال لاكان حتى الآن، راجع Joel Dor’s Bibliographie des travaux de Jacques Lacan.
١٢  بالفرنسية في المتن.
١٣  للتمييز بين هذه النماذج الثلاثة، راجع لبلانش وبونتالي، ٤٤٩–٤٥٣، ١٢٦، ١٢٧–١٣٠.
١٤  التكثيف condensation: إحدى الوسائل الأساسية الفعالة في العمليات اللاشعورية، تمثل الفكرة المفردة عددًا من السلاسل المترابطة التي توضع فيها نقطة التقاطع» (لبلانش وبونتالي، ٨٢).
١٥  للاطلاع على تعليق فرويد على أبل Abel بالتفصيل، راجع إميل بنفنست Emile Benvensite في قضايا اللسانيات العامة Problemes de liguistic generale, [I], 75–87. وقد برهن Giulio Lepschy بطريقة مقنعة في Freud, Abel et gli opposti، على أن «سؤال أبل» معقد بصورة تفوق ما قد توحي به تلك الكتابات التي جاءت في أعقاب بنفنست، وقد جذب اعتناق لاكان وريكور وآخرين لنقد بنفنست الأنظار بعيدًا عن حقيقة أن أبل لم يكن أبدًا صاحب التأملات الوحيد في تاريخ فقه اللغة حول «المعاني المتناقضة» لبعض الكلمات. وبرهان Lespschy الذي نتحدث عنه ملخص بالإنجليزية في كتابه Linguistic Historiography.
١٦  بالفرنسية في المتن.
١٧  راجع Roman Jakobson and Merris Halle, Fundamentals of Language, 90–6.
١٨  يبدو لي أن هذه الجملة والجملتين التاليتين تُسيء التعبير عن «التحديد» المقصود في السؤال. ومع أن ما يوجد من الأوصاف أو النماذج التركيبية الحقيقية قليل في تعليقات لاكان الميتاسيكولوجية على اللاشعوري، إلا أن بعض كتاباته الأخرى — وخاصةً شروحه لمواد الحالات — تقترب مما يدعوه جون فورستر «البنية الافتراضية للعصاب». وللاطلاع على تحليل دقيق لهذه البنى، راجع جون فورستر في كتابه الرائع اللغة وأصول التحليل النفسي Language and the Origins of Psychoanalysis (وخاصةً ص١٣١–١٦٥).
١٩  تمت ترجمة البحثين إلى الإنجليزية؛ الأول بعنوان The function and field of speech and language in psychoanalysis، والثاني بعنوان The agency of the letter in the unconscios or reason since Freud. راجع المختار من كتابات Ecrits. A Selection.
٢٠  بالفرنسية في المتن، عن محاضرات في اللسانيات العامة Cours de linguistique generale، ص١٥٧.
٢١  الكناية metonymy: «صورة بلاغية يحل فيها مكان الشيء المقصود صفة من صفاته أو شيء يرتبط به.» المجاز المرسل synecdoche: «صورة بلاغية يُستخدم فيها مصطلح أشمل للتعبير عن مصطلح أقل شمولًا أو العكس، من قبيل استخدام الكل للتعبير عن الجزء أو الجزء للتعبير عن الكل … إلخ.» راجع Shorter OED.
٢٢  راجع Fundamentals of Language, 94-5.
٢٣  فرط التحديد [أو التحديد بعوامل عديدة] overdetermination: «حقيقة أن صياغات اللاشعوري (الأعراض، الأحلام … إلخ) قد تُعزى إلى عدد كبير من العوامل المحدِّدة» (لبلانش وبونتالي، ٢٩٢).
٢٤  بالفرنسية في المتن.
٢٥  راجع “Of Structure as an Inmixing of an Otherness Prerequisite to Any Subject Whatever”, The Structuralist Controversy (eds. Macksey and Donato), 188.
وهو بحثٌ كُتِب في مزيج من الإنجليزية والفرنسية، ونُشر بالإنجليزية في صياغة جديدة.
٢٦  بالفرنسية في المتن. وللاطلاع على نقد دقيق عن «الإفراط اللغوي» في البنيوية ودور لاكان في تعزيز «جنون عظمة megalomania الدال»، انظر بيري أندروسون في In the Tracks of Historical Materalism، [في دروب المادية التاريخية] (٤٠–٥٥). وأكثر المحاولات جدية في التحليل النفسي لكتابة تعليق فلسفي غير مبالغ فيه توجد في تعليق بول ريكور بعنوان De l’interpretation [عن التأويل].
٢٧  عن مفهوم حضور الكلمة Wortvorstellung ومفهوم حضور الأشياء Sachvorstellung (أو Dingvorstellung)، راجع ملاحظة المحرر في XIV، ٢٠١؛ وراجع لبلانش وبونتالي، ٤٤٧–٤٤٩. وما زال الشرح الأساسي لهذه المنطقة المهمة المليئة بالتعقيد والافتقار إلى اليقين الاصطلاحي في ميتاسيكولوجيا فرويد هو شرح جين لبلانش وسيرج لكلير في L’Inconscient. Un etude psychanalytique (وقد ترجمه باتريك كوليمان إلى الإنجليزية في French Freud ١١٨–١٧٥).
٢٨  اقتبسها أنتوني فيرجوت في Interpreting Lacan (eds. Smith and Kerrigan), 193.
٢٩  بالفرنسية في المتن. وعن الميتافيزيقا المتمركزة حول اللغة والديكارتية «المعكوسة» في العبارة الأخيرة من العبارات الثلاث، راجع Antony Wilden, System and Structure, 460-1.
٣٠  بالفرنسية في المتن.
٣١  بالفرنسية في المتن.
٣٢  بالفرنسية في المتن.
٣٣  بالفرنسية في المتن.
٣٤  بالفرنسية في المتن. وقد تمَّت إعادة طبع مقال لاكان عن الأسرة، وهو مقال موسوعي يعارض النظرية البيولوجية عداءً عنيفًا (١٩٣٨م)، ويحتوي على أكثر تعليقاته اكتمالًا عن القوة المحدِّدة التي تمارسها الأسرة على الفرد، بالإضافة إلى تخطيط الكثير من المواقف النظرية التي لم تظهر إلا في أواخر مسيرته، وهو بعنوان Les complexes familiaux dans la formation de l’individu, (1984).
٣٥  الوسيطان الرئيسيان بين لاكان وهيجل (مثلما هو الحال بالنسبة لعدد كبير من الأعضاء البارزين من جيله في فرنسا) هما ألكسندر كوجيف وجين هيبوليت، المترجم الفرنسي لكتاب هيجل Phanomenologie des Geistes. ويقدم الفصل الذي كتبه هيجل عن السيد والعبد كما ترجمه وشرحه كوجيف في Introduction a la lecture de Hegel (١١–٣٤)، خلفية أساسية لنغمة لاكان وأسلوبه الفلسفي في الكثير من الشروح التي يقدمها عن الآخر (وهذه الفقرة تقع في ص١١١–١١٩ من الترجمة الإنجليزية التي قام بها A. V. Miller لكتاب الفينومنولوجيا). وبعد عام ١٩٤٣م، شجَّع كتاب سارتر، الوجود والعدم، من جديد النزعةَ الهيجلية في فكر لاكان عن الآخر وعن السيد والعبد وبعض المفاهيم المرتبطة بهما (للاطلاع على عدد هائل من التوازيات الأخاذة. راجع الوجود والعدم، ٢٨٨–٣٦٤). ويعترف لاكان بأنه مدين لهيجل عن طريق كوجيف وهيبوليت في Propos sur la causalite (١٧٢). ولمزيد من الإشارات عن لاكان وهيجل، راجع ١٤٦–١٤٩، ١٥٥–١٥٧ [من الأصل الإنجليزي، وهذه الصفحات ضمن الفصل المترجم هنا بعنوان «لاكان والأدب»].
٣٦  بالفرنسية في المتن.
٣٧  بالفرنسية في المتن.
٣٨  بالفرنسية في المتن.
٣٩  بالفرنسية في المتن.
٤٠  بالفرنسية في المتن.
٤١  بالفرنسية في المتن.
٤٢  بالفرنسية في المتن. وقد كتب فرويد نفسه كثيرًا من العبارات الحادة في هذا الموضوع. وقال في عام ١٩١٧م، إن مكتشفي التحليل النفسي، المكتشفين الأساسيين «يضيفون إلى عبارة إن الأنا ليست سيدة في بيتها الخاص» (XVII، ١٤٣).
٤٣  بالفرنسية في المتن. وتظهر هذه العبارة بصور متنوعة في كتابات. والمقال الذي اقتبست عنه هذه العبارة ليس ضمن الترجمة الإنجليزية المتداولة، ولكن توجد نسخة تختلف عنه بعض الاختلاف في ص١٧٢ من المختار من كتابات.
٤٤  بالفرنسية في المتن.
٤٥  بالفرنسية في المتن.
٤٦  بالفرنسية في المتن. ويعلق لاكان على الموضوع أ كنقطة اتصال بين الجسد وثياب اللغة skirts of language، ولكنه لم يردد أبدًا الوصف الشهير الذي وصف به بوسيه جسد الإنسان بعد الموت: ‘il devient un je ne sais quoi qui n’a plys de nom dans aucune langue’ (Oraisons funebres, 173-4). وللاطلاع على الإشارات إلى الموضوع أ في كتابات راجع جاك ألن ميلر في Index raisonne de concepts majeurs (٩٠٠). ويقدم تعليق لاكان على ذلك المفهوم — في Remarque sur le rapport de Daniel Lagache (٦٨٢) — نقطة انطلاق مهمة لمزيد من الفحص، وهذا ما تفعله إشارات من هذا القبيل في المناقشة، ومنها تلك التي توجد في أربعة مفاهيم أساسية في التحليل النفسي Les quatre concepts fondamentaux de la psychanalyse (XI, 95-6) (Four Fundamental concepts, 103-4).
٤٧  توجد أكثر المحاولات طموحًا في النظر إلى أعمال لاكان بهذه الطريقة في لاكان والفلسفة Lacan et la philsophie من تأليف ألين جورنفيه Alain Juranville، وهو دليل أساسي عن الخلفية الفلسفية لكتابات لاكان وما تحتويه. وعن الآخر راجع خاصةً ١٢٨–١٤٠.
٤٨  بالفرنسية في المتن.
٤٩  بالفرنسية في المتن.
٥٠  سوف أعود إلى موضوع لاكان والبلاغة في ص١٤٢، ١٤٣، ١٤٨–١٥٠، ١٥٩–١٦٢ [من الأصل الإنجليزي، والفصل بعنوان «لاكان والأدب»، وقد سبقت الإشارة إليه. المترجم].
٥١  بالفرنسية في المتن.
٥٢  بالفرنسية في المتن.
٥٣  بالفرنسية في المتن. تمت ترجمة العبارة الأولى والثالثة والخامسة مرات ومرات، وتوجد في المختار من كتابات ص١٧١، ١٢٩، ٣١٤، وتُرجمت الرابعة في أربعة مفاهيم أساسية ص٤٤. ويمكن ترجمة الثانية على النحو التالي: «هناك حيث كانت، وهناك عليَّ أن أصل كذات» There where it was, there as subject must I arrive.
٥٤  يلفت ليونيل تريلنج Lionel Trilling الأنظار في Freud: Within and Beyond Culture — وهو مقال يشيد بالتأكيد المحافظ في نقد فرويد للثقافة — إلى النغمة الختامية في محاضرة فرويد كنقطة محتملة لخلق التباس أخلاقي: «إن الهدف من الجهد الذي يبذله هو خدمة الثقافة. إنه يتحدث عن عمل التحليل النفسي بوصفه «تفريغ المدخل السابق لبحر الشمال»، وحفر خندق، وحيث كانت الهو يجب أن تكون الأنا. إلا أن موقفه المناوئ للثقافة بالغ القوة، ونغمته شديدة في الوقت نفسه» (Beyond Culture, 101).
٥٥  بالفرنسية في المتن.
٥٦  بدأ دريدا مناظرة رائعة (حين وجَّه هذا الاتهام إلى لاكان) في Le facteur de la verite, (La Carte Postale, 441–524)، وراجع بشكل خاص بربارا جونسون في The Frame of Reference: Poe, Lacan and Derrida (The Critical Difference, 110–146)، ومريان هوبسن في Deconstruction, Empiricism and Postal Service (خاصة ص٣٠٣–٣٠٧).
٥٧  للاطلاع على المزيد من المناقشات التفصيلية للأدب كنموذج للاشعوري، راجع ص١٣٦–١٤٣، ١٥٨-١٥٩ [من الأصل الإنجليزي، «لاكان والأدب»، وهو الفصل الرابع من هذه الترجمة].
٥٨  بالفرنسية في المتن. سوف أعود إلى هذه الفقرة فيما بعد، ص١٥٨ [من الأصل الإنجليزي، «لاكان والأدب»].
٥٩  بالفرنسية في المتن.
٦٠  انظر ص١٢٤ [من الأصل الإنجليزي، وتقع هذه الصفحة ضمن الفصل الحالي].
٦١  بالفرنسية في المتن.
٦٢  بالفرنسية في المتن.
٦٣  بالفرنسية في المتن.
٦٤  يوجد تعليق تمهيدي موجز ومفيد في Geoges Mounin’s Introduction a la semiologie، ١٨١–١٨٨.
٦٥  بالفرنسية في المتن.
٦٦  بالفرنسية في المتن.
٦٧  بالفرنسية في المتن. انظر أيضًا ص١٥٠ والهامش ٢٧ ص٢٠٧-٢٠٨ [«لاكان والأدب»].
٦٨  يصف باتريك ماهوني Patrick Mahony الاختلافات الأساسية بين أسلوب فرويد وأسلوب لاكان في Freud as a Writer، ٧٤–٧٧.
٦٩  راجع The Freudian Slip، ص٥٨.
٧٠  وجد لاكان، خاصة في الولايات المتحدة، عددًا من القراء والشراح المخلصين الذين نجحوا في الحفاظ على معنًى ملموس لهذه «اللاقابلية للقراءة» حتى وهم يشرحون تفاصيل نصوصه. ومن هذه الأعمال المهمة والمميزة: Anthony Wilden, The Language of the Self and Jeffrey Mehlman, A Structural Study of Autobiography.
[وتأتي الصفحات من ٢٢٩ إلى ٢٣٨ بمثابة دليل للقارئ إلى عمل لاكان Radiophonie, Scilicet, 2/3, 55–99].
بالإضافة إلى: John P. Muller and William J. Richardson, Lacan and Language and Jane Gallop, Reading Lacan.
وقد ظهر العملان الأخيران بعد ترجمة ألن شريدان Alan Sheridan للمختار من كتابات، ويقدمان تعليقات مهمة على هذا العمل.
٧١  بدأت شيري توركل Sherry Turkle بداية نشطة في كتابها Psychoanalytic Politics (١٩٧٨م). ومن التعليقات الرائعة عن تأثير لاكان على الثقافة الفرنسية يبرز تعليق Catherine Clement’s Vies et legendes de Jacque Lacan وتعليق Bernard Sichere’s Le moment Lacanien، والعملان نتيجة لوعيهما على المستوى النظري بصورة لاكان كأستاذ في الفكر له فتنته ولوعيهما بصورة التحول الفرنسي الحديث في نظرية التحليل النفسي إلى الأهواء الشعبية.
٧٢  إن معظم التعليقات المنشورة عن الأصداء المؤسسية institutional لم يكتبها أعضاء في الجمعية الفرنسية للتحليل النفسي، ولكن، لسوء الحظ، كتبها دارسون غير متخصصين وبعض كتَّاب المذكرات. والاستثناء المهم هو العمل الذي كتبه مصطفى صفوان بعنوان Jacques Lacan et la question de la formation des analystes، ويصور بوضوحٍ الخلفية النظرية لعدد من تجديدات لاكان الأساسية في تقنية التحليل النفسي. ولستُ أهلًا لوصف إنجاز لاكان أو تقييمه كإكلينيكي، وأدرك أن أية «مقدمة عن لاكان» لا يمكن أن تكتمل بدون أن تضع هذه المنطقة من نشاطه المهني في الاعتبار. وتبدأ الأعمال التي تسعى إلى استكشاف مواد الحالات من منظور لاكاني بعمل ستوارت شينيدرمان Stuart Schneiderman’s Returning to Freud وعمل روزين لفورت Rosine Lefort’s Naissance de l’Autre.
٧٣  بالفرنسية في المتن.
٧٤  بالفرنسية في المتن.
٧٥  يرى ستوارت شينيدرمان في Jacques Lacan. The Death of an Intelectual Hero (وخاصة الورقة ٥٢) أن لاكان كان رائعًا، في تقاليد التحليل النفسي التي كانت تهتم اهتمامًا بارزًا بالجنس والعلاقات الجنسية، نتيجة استعداده لمواجهة الموت وترميزه، في كلٍّ من كتاباته النظرية وممارساته الإكلينيكية.
٧٦  لا يعني هذا بالطبع أن بلاغة الحديث البلاغي عند لاكان ليست هي ذاتها في حاجة ماسة إلى التحليل. إن بلاغة هذا الحديث تغير مجال التحليل النفسي بطرق جديدة مثيرة للخلاف. وربما نأمل في أن يكتسب التحليل النفسي اللاكاني بعدًا «ميتًا تاريخيًّا» كما حدث مع هايد وايت، الذي حلل في عمله الرائع بعنوان Metahistory ما يطلق عليه القدرة «قبل المجازية» للأساليب البلاغية في تأريخ القرن التاسع عشر.
٧٧  بالفرنسية في المتن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥