I
إننا نألف تمامًا رأي فيتجنشتاين الذي يقول إن الفلسفة تنشأ عن إساءة استخدام اللغة،
وتنشأ المشاكل الفلسفية حين تكون اللغة في عطلة.
٤ إننا نحرر الفلسفة من نفسها باستبدال السؤال الفلسفي في سياق استخدام لغة
تحل المشكلة، وتخفيها، بمجرد ترسيخ ذلك الاستخدام من جديد؛ الاستخدام الذي يحدد
فيتجنشتاين موضعه في لعبة اللغة. ولهذا النشاط ما يماثله في التحليل النفسي بوضوح وليس
ذلك بجديد: «إن علاج الفيلسوف للسؤال يشبه علاج العلة.»
٥
ونألف أيضًا بصورة تفوق المعتاد فكرة أن المحلِّل اختصاصي في المسائل اللغوية، على
المستويين النظري والعملي. وقد أمضي إلى أبعد من ذلك، وأزعم أن أسئلة فيتجنشتاين
الفلسفية عن اللغة جزء يومي، إن لم يكن جزءًا ممجَّدًا، من ممارسات المحلل أو، على
الأقل، من ممارسات فرويد. ولنأخذ مثالًا من تحليل رتمان
Ratman. منذ سن صغيرة للغاية سيطر عليه هُذاء
[delusion: فكرة ضلالية لا تتناسب مع ثقافة الشخص
أو معتقداته ويؤمن بها إيمانًا لا يتزحزح رغم كل الدلائل التي تنفي صحتها. المترجم]
فحواه أن والديه كانا على علم بأفكاره.
… في ذلك الوقت [وأنا في السادسة] اعتدتُ أن تراودني فكرةٌ مرَضية، فكرة أن والديَّ
كانا على علم بأفكاري؛ وفسرت ذلك لنفسي بأن افترضت أنني تفوَّهتُ بتلك الأفكار بصوت
مسموع، وبدون أن أسمع نفسي وأنا أتفوه بها.
٦
وقد بدأ الجلسة السادسة من التحليل بتذكير فرويد بأنه عانى من هذا الاعتقاد المستمر
في أن والديه كانا على علم بأفكاره، ثم حكى قصةً حدثتْ له حين كان في الثانية عشرة
أحبَّ فتاة صغيرة، لم تُظهر له من الود القدرَ الذي كان يصبو إليه.
ثم راودته فكرة أنها قد تتعاطف معه إذا وقع في محنة، وكمثال لهذه المحنة سيطرتْ فكرةُ
موت أبيه على عقله، وبقوةٍ رفض الفكرة في الحال. وهو حتى الآن لا يقبل احتمال أن فكرة
نشأت على هذا النحو يمكن أن تكون «أمنية»، وهي بوضوح ليست سوى «تسلسل للأفكار».
سألته معترضًا: إن لم تكن أمنية، فلماذا ينكرها؟
رد بأن السبب يرجع فقط إلى محتوى الفكرة، فكرة أن والده ربما مات.
لاحظت أنه كان يتعامل مع العبارة كما لو كانت تتضمن الطعن في الذات الملكية lèse-majesté: بالطبع، كان من
المعروف تمامًا أنه يتساوى في العقاب من يقول «الإمبراطور أحمق» مع من يُقنِّع الكلماتِ
المحرَّمةَ بالقول: «إذا قال أي شخص … إلخ، فإنه سيضطرني إلى وضع ذلك في الحسبان.»
وأضفت أنه كان من الممكن أن أغرس بسهولةٍ الفكرة التي كان ينكرها إنكارًا شديدًا في
سياق يستبعد أي احتمال للإنكار: مثلًا، «إذا مات أبي، فسوف أقتل نفسي على قبره.»
ارتعد، لكنه لم يتخل عن اعتراضه؛ ومن ثَم توقفت فجأة عن المناقشة …
٧ تشتمل الفقرة السابقة على عدد من النقاط المهمة. مثلًا، أود أن أشير ببساطة
إلى أن فرويد يحاول إقناع مريضه بأن «فكرته» كانت أمنية بالضرورة؛ لأنه تفاعل معها كما
لو كانت أمنية. وكانت وسيلة الإقناع توضيح أن عبارة «أبي ميت» لا تشبه في وقعها عبارة
«أتمنى أن يكون أبي ميتًا». إن فرويد الذي نصادفه هنا كان في بيته بكل معنى الكلمة
يطوِّع الاستخدامات المختلفة لعبارة «إني أعتذر
I
apologise»، كما نجدها في اللغة اليومية لأوستن فيلسوف أكسفورد، أو
كان يتأمل في الاستجابات المتنوعة المتاحة لعبارة «كيف حالك
How’re you
doing» التي فحصها حديثًا هارفي ساكس
Harvey
Sacks، وهو أحد أتباع ما بعد الإثنوميثودولوجيا
post-ethnomethodology.
٨
إلا أن من الواضح أن هدف فرويد لم يكن يقتصر على الكشف عن الاضطرابات النحوية
والفلسفية عند مريضه لمجرد الكشف عنها،
٩ كما لو كان المكافئ الفييني عند نقطة التحول في القرن العشرين لكاتب العمود
الإنجليزي في صحيفة من صحف الأحد.
١٠ إنه يحاول اكتشاف السبب وراء إنكار عبارة «إذا مات أبي …» بمثل هذه القوة،
وطبيعة ارتباطها بخوف المريض المستمر من فكرة أن والديه كانا على علم بأفكاره. إن
اكتشاف أن رتمان كان يعالج الفكرة
كما لو كانت أمنية
ليس إلا المرحلة الأولى في اكتشاف طبيعة الكارثة التي يفكر فيها رتمان إذا كان يتمنى
ذلك.
تأكَّد فرويد أن رتمان أدخل، بأسلوب استحواذي حقيقي، جملة شرطية: «ستكون عطوفة معي
إذا مات أبي». ثم أنكر الجملة برمتها، وتركزت استجابات فرويد كلها على الجمل التي نطق
بها رتمان واحتوت بنياتها المتنوعة على عبارة «مات أبي». تدخَّل فرويد لاستثارة مقدمة
الأمنية، وتوضيح علاقتها بالشخص الأول، وربما حتى افتراضه لها: «أتمنى أن يكون أبي
ميتًا حتى تكون عطوفة معي.» وكان يريد أن يعرف أين يختبئ الشخص الأول في هذه الجملة،
وعلاقته بالشخصين الثاني والثالث. كانت الفكرة الأصلية قبل الشعورية
preconscious: «أتمنى أن تكون عطوفة معي.» وكان
الإنكار الشديد مفتاحَ اللغز الذي دلَّ فرويد على اتجاه العنصر الذي يبدو أنه أدى إلى
ذلك الإنكار: /أبي مات/. وحتى يكشف بنية المقاومة، «حتى يجعل الصراع يتوغل في مجال
النشاط العقلي الشعوري»،
١١ حدَّد نوعًا آخر من بنية الجمل الواضحة أمام الناطق الذي أعاقه
الإنكار:
-
(١)
إذا /مات أبي/، فستكون عطوفة معي.
-
(٢)
إذا قال أي شخص /إن أبي ميت/، فسوف أُضطر إلى أن أتبارى معه.
-
(٣)
إذا /مات أبي/، فسوف أنتحر.
حدَّد فرويد، بإيضاح قواعد الاستطراد التي تحكم بنية الطعن في الذات الملكية، كيف
يمكن لمن يعاني من الأفكار الاستحواذية أن يمتص أولًا «ضمير المخاطَب
you» للأنا العليا العقابية في صيغة محايدة «إذا
قال أي شخص …»، «إذا …»؛ ومن ثَم في نفسه
his self،
بحيث يمكن أن تغطي الإشارات إلى «ضمير المتكلم
I» و«ياء
المتكلم
me» الوظائف التي يؤديها عادةً «ضمير المخاطَب
you» العقابي الذي يخاطبه الضمير
conscience.
١٢ إن معالجة فرويد لمختلف التكوينات المحتملة التي يمكن أن تنشأ عن هذا
الإنكار توضح أنه كان يبحث عن سبيل إلى عالم المريض الذي يعاني من الأفكار الاستحواذية،
وهو عالم مغلق مليء بالأشباح،
١٣ بمحاولة مساعدته على النطق بعبارة تُفصِح بصورة أوضح عن وظائف «ضمير
المتكلم» و«ضمير المخاطَب» والصيغ المحايدة، والجملة التي تأملها فرويد كانت «أتمنى لو
كان أبي ميتًا».
١٤
يعتقد رتمان أنه يتكلم ولا يسمع نفسه. وقد نقول إن علاقة رتمان بالآخر الذي يسمع
علاقةٌ مضطربة. وبالفعل، في سن السادسة، كان «ضمير المتكلم» بالنسبة لرتمان مغتربًا في
عملية الكلام على نحو يعوق احتمالية أن يقول للآخر شيئًا جوهريًّا، ألا يعرف [الآخر]
أفكاره بالفعل؟
١٥ ويمكن، بدايةً، أن يأتي الوصف الفجُّ لحالته على النحو التالي: بمجرد غياب
الآخر «الحقيقي»، يُنصِّب المتكلمُ مكانه آخرَ خياليًّا، آخر، على عكس الآخر الحقيقي،
تنفذ إليه كلمات المريض، ولكنه يمثل أيضًا الأب الخيالي الذي سمع كل شيء: أنا عُليا
عامة ومؤثرة. وبهذه الطريقة قدَّم فوكو، ربما مقتفيًا خُطى لاكان،
١٦ تأويلًا لهذا التحليل في كتابه
العلة العقلية وعلم
النفس Mental illness and
psychology، وهو كتاب لم يقرأ إلا على نطاق ضيق:
تنشأ العلة العقلية نتيجة للنكوص من الديالوج الواقعي إلى الحوار الخيالي.
ولا يمكن لنا أن نقيم واقعية الديالوج التحليلي إلا في ظل مفهوم الإحالة. يبدو الأمر،
في الإحالة، وكأن شخصًا ثانيًا، «ضمير المخاطَب»، يدخل بالفعل خطاب الجلسة، خطابها
المعلن. ثم يتخذ تحليل ضمائر المتكلم
I’s وضمائر المفرد
الغائب
he’s التي يستخدمها المريض بعدًا إضافيًّا، وهذا
حقيقي ومهم. ولكن قبل أن نشرع في مناقشة الإحالة، يتضح أن تحليل ذلك «الضمير» سيبدو
وكأنه تحليل آخر لأدوات المحلِّل. ويذهب هذا الرأي إلى أن المحلل شخص يملأ الفراغ الذي
تتركه الرقابة بحيث ينسج رواية مترابطة، ويذهب إلى أنه شخص يوضح ما يكمن في المفاتيح
الضمنية التي يتركها المريض، بالإضافة إلى أنه يذهب إلى أنه شخص يركز انتباهه على
الضمائر، ضمائر المتكلم
I’s وضمائر المخاطب
thou’s التي يستخدمها المريض.
١٧ وسأستنتج في النهاية أن هذا الرأي غير وافٍ، وآمُل الآن أن أتتبع هذه
الفكرة إلى ما هو أبعد من ذلك.
إن عملية الكلام في التحليل، وكما تشير الفقرة المقتبسة في تصدير هذا الفصل، تقتضي
ردًّا ضمنيًّا، طالما كان المحلِّل يؤدي دور المستمع، ومن الوظائف الرئيسية للمحلل
توضيح الشخص الذي نتوقع منه الرد، وعلى المحلِّل ألا يقصر انتباهه على ذات العبارة (أو
على موضوعها)، «ضمير المتكلم» في «أخاف أن يحدث شيء مروِّع لوالدي وخطيبتي»، وعليه أن
ينتبه إلى «ضمير المتكلم» الذي ينطق الجملة، إلى ذات المنطوق.
١٨ ويمكن لنا أن نقول إن وظيفة المحلِّل لا تنحصر في الإصغاء (كما لو كان
«يسترق السمع»)، ولكنها تنحصر في الاستماع، حيث إن عملية الاستماع (على العكس من
الإصغاء) تورِّط المستمع فيما ينطقه المتكلم. إن المحلِّل يقف في مرمى نيران المتكلم،
إذا جاز التعبير، ويفترض أنه «ضمير المتكلم» الذي يتضمن في كل مرة أن ذات المنطوق تندفع
إلى الأمام سواء كمتكلمة أو كمتكلمة متوارية خلف ضمائر المتكلم (أو ضمائر المخاطَب) في
العبارة.
لكن المحلِّل يُخاطَب أيضًا كآخر على مستوى العبارة، تُقال له أشياء، يوصف بأنه دجَّال ومحتال وطاغية وبأنه مزعج، إلى نهاية
كل الصور التي تحتوي عليها جعبة مخيلة المريض. وستكون إحدى السمات الأساسية لتدخُّل
المحلل هي توضيح الشخصية الحقيقية ﻟ «ضمير المخاطَب» الذي يتوجه إليه المريض، وبواسطة
الإسقاط الهندسي، إذا جاز التعبير، أو حتى التقمص الإسقاطي، وتوضيح شخصية «ضمير
المتكلم» الملازم له والموجود أمامه، ملاحظًا كيف يعثر الدجَّال دائمًا على مغفله
الساذج، والساديُّ على ماسوشيه، والطاغيةُ على عبيده.
وقد لا يُعزى هذا إلا إلى التقنية التحليلية المألوفة للكشف عن تقمص الأنا.
١٩ إلا أن الانتباه إلى استخدام المرضى للضمائر قد تكون له مميزاته الخاصة.
ويمكن لنا أن نقول إن انهماك فرويد في التحليل الدقيق للأكروبات اللغوية المتضمنة في
الطعن في الذات الملكية لم يأتِ صدفةً. إن قواعد الرقابة في هذه الطريقة الملكية في
الكبت تنطبق بصورة أوضح على أية صورة من صور الكلام المباشر. ويمكننا أن نحدد بزوغ
الرواية السيكولوجية، ذلك الجنس الأدبي الذي يحتفل بالذات الفردية ويستنطقها، بوضعها
على محور تلك الأشكال: رواية الرسائل، القواعد التي تحكم تمثيل الديالوج، إلى آخره. كان
فرويد بتقديم مقولة الطعن في الذات الملكية، يستثير علاقة معينة بين الذوات الناطقة.
يطلب الملكُ المستبدُّ أن يخضع كل رعيته لرغبته، إذا سمح لواحد من الرعية أن يستشهد
بآخر قال «الإمبراطور أحمق»، فسيتم خلق منزلة مميزة للذات، وربما يكون لذلك أصداء على
مستوى المطلق، وستخلق احتمالية وجود جموع أخرى تقف بجانب ميدان العاهل، حيث سيجبر،
بقاعدة تمييز ذات عن أخرى، على الاعتراف باحتمالية أن يتحدثا [هو والذات الأخرى] معًا.
وهذه المنزلة — وأنا هنا أستخدم عن قصدٍ المصطلح الذي استخدمه فرويد في
سيكولوجيا الجماعة وتحليل الأنا Group psychology and the analysis of the
ego — هي الأنا العليا، العامل الذي يتيح احتمالية وجود
الكلام غير المباشر: الضمير، الذي يجعلنا نتوجه إلى الشخص الثاني الحميم؛ ومن ثَم تنشأ
الوظيفة السردية المحايدة.
٢٠ وبتعبير آخر، يُعزى تحريم الكلام غير المباشر إلى محاولة تحريم بعض
العلاقات الخيالية بين الذوات، مما يتطلب توجيه الكلام كله إلى الملك، ومن الضروري وجود
بنية مماثلة لتوضيح بعض المفاهيم عن علاقة المرء بالرب: وبدون قانون التجديف، لن يعرف
الرب ما إذا كان الكلام موجهًا إليه أم لا.
ومع ذلك، يتبنى المحلِّل النفسي صورة المرآة لتوضيح وضع الملك المستبد؛ أي إن القاعدة
الأساسية ترى فيه شخصًا يمكن لنا أن نوجِّه إليه كلَّ أشكال الكلام؛ أي إن المحلِّل،
بدايةً، لا يعرف فرقًا بين الكلام المباشر والكلام غير المباشر؛ إذا قال امرؤ: «ثم قالت
«إن مفتاح شخصيتك يكمن في حقيقة أنك تجيد الرقص».» فقد يتجاهل المحلِّل علامات التنصيص
تجاهلًا تامًّا، ويفهم العبارة باعتبارها صادرة عن «الذات» نفسها، وهذا هو حالها حقًّا
في تلك اللحظة نفسها. إن المحلل يسمع كل شيء كما لو كان موجهًا إليه
مباشرة، مثلما يفعل الملك تمامًا. إن هذا التعرف على القياس
التحليلي التقريبي أو على شفرته يجعلنا نفهم بصورة أوضح قوانين اللاشعوري كما صاغها
فرويد: في اللاشعوري لا توجد افتراضات
٢١ أو أزمنة نحوية
tenses،
٢٢ لا يوجد إنكار
٢٣ أو استشهاد. توضع «إذ» و«لكن» و«كما لو» في الخطاب اليومي على محور مختلف
عن محور بناء الجملة، كما بيَّن فرويد ذلك بأسلوب يقيني، في عبارة توضح أنه لم يكن
بمنأًى عن الفلسفة كما كان يزعم أحيانًا، وأنه كان يدرك حقًّا تعقُّد الموضوع الذي كان
يؤسسه تعليقه على اللاشعوري: «حتى فينومينولوجيا الأفكار الاستحواذية لم تكن قد لفتت
الأنظار بالقدر الكافي.»
٢٤ إن المحلل، من ناحية، يتجاهل الإنكار ويعالج علامات التنصيص «اللامرئية» في
أسلوب الكلام غير المباشر كما لو كان الكلام مسموعًا، ولكن المحلل قد يحاول، من الناحية
الأخرى وكما رأينا، أن يعيد بجدِّيةٍ علامات التنصيص أو الافتراضات التي سقطتْ في عملية
الحلم إلى كلام المريض. إن المحلل يتجاهل تركيب الجمل حتى يسمع اللاشعوري، ويعيد بناءه
حتى يفهمه. إن تدخلات المحلل لها هذان الجانبان دائمًا: إنه، من ناحية، حر في تشويش
الصورة الفنتازية لملك اللغة الذي يعاقب بصورة عشوائية بصرف النظر عما يقال، وبصرف
النظر عن أسلوب صياغته. وهذا المحور الفنتازي هو العلاقة الخيالية ﻟ «ضمير المتكلم» مع
الأب. ومن الناحية الأخرى، يسعى كل تدخل إلى إتاحة احتمالية لوجود اكتشاف نفهم من خلاله
ما يقال ﻟ «ضمير المتكلم» — سواء أكان من لاشعوره أم كان من فم المحلل — من موضع الآخر،
من مصادر اللغة.
II
في كتاب
اللغة وأصول التحليل
النفسي Language and the
origins of psychoanalysis، ابتكرتُ تعبير الأسلوب
«الافتراضي» أو «النحوي» للتحليل، لأصف الانشغال بالنحو، والتحولات الأساسية للافتراضات
التي توجد في بحث فرويد عن حالة شريبر
Schreber وفي
نصوصه الأخرى. يبين فرويد في حالة شريبر أن الافتراض الأساسي للذهان الذي يعاني منه
يكمن في التحول المشوَّه الذي طرأ على جملة: «أنا أحبه.»
٢٥ ومن الواضح أنها طريقة نصية، إننا نرى غالبًا أن فرويد يستخدم استعارات
مستمدة من الكتب حين يتكلم عن نصِّ العُصاب. ومن أبرز هذه الأمثلة، في الحقيقة، حين
شبَّه الإحالة في التاريخ المرضي لحالة دورا، بطبعة جديدة لنص قديم.
٢٦
يمكن النظر إلى تلك العملية التي ناقشتُها كثيرًا، حيث تتم رؤية عمل المحلل باعتباره
شكلًا من أشكال تحليل الضمائر النحوية يقترن بتحليل تركيب الجمل، أو باعتباره تأرجحًا
بين اختزال تركيب الجملة والتوسع في تركيب الجملة، يمكن النظر إليها باعتبارها امتدادًا
لهذه الطريقة، وتعميقًا للتحليل الذي قدمته. إلا أن ثَمة شيئًا مضلِّلًا في هذه النماذج
التحليلية. ويوجد، بالمثل، شيء مُضلِّل في بعض طرق قراءة أعمال لاكان وتفسيرها. اشتهر
جاك لاكان بالتأكيد على أهمية اللغة بالنسبة للتحليل النفسي. ومن عباراته المشهورة
نتوقف عند: «يُبنى اللاشعوري كلغة»، أو «اللاشعوري خطاب الآخر». وإذا توغَّلنا أبعد من
ذلك في النظرية اللاكانية، فسوف تواجهنا تعقيدات نظرية الدال، وقد صِرنا بفضل بعض
النصوص التفسيرية على اطِّلاع، إلى حد ما، على قراءته اللسانية لبعض المفاهيم التحليلية
الأخرى، كمقولة إن الكبت استعارة والرغبة كناية.
٢٧ وبرهن لاكان أحيانًا على أنه كان يعود إلى فرويد، مزوِّدًا إياه بنسخة
منهجية واضحة من اللسانيات — اللسانيات البنيوية عند سوسير وياكبسون — ليردَّ إلى فرويد
ما كان فرويديًّا حقًّا. وبعد ذلك يأتي الدال وعلاقته بالمدلول ونظرية المعنى الرمزي
والواقعي. وقد حظيت هذه الجوانب من نظرية لاكان ببعض الاهتمام، واكتسبت بعضًا من سوء
السمعة نتيجة الصعوبة الفائقة في كتابات لاكان وفي نظريته.
٢٨ وأعطت أيضًا انطباعًا — انطباعًا نتيجة السمعة الأوسع التي اكتسبها لاكان
في البلاد الناطقة بالإنجليزية في الدوائر غير التحليلية أكثر مما في الدوائر التحليلية
أو العلاجية — بأن لاكان مُنظِّر بالأساس، وأن لكتاباته في معظمها نتائج غير مباشرة
بالنسبة للممارسات الفعلية للتحليل النفسي. ونسعى في هذا الفصل إلى توضيح العكس. لم يكن
اهتمام لاكان الرئيسي بنظرية التحليل النفسي كنسق معقد، سواء أكان نسقًا للأنا أم كان
نسقًا للدال، ولكنه كان يرتكز بالأحرى على كيف يصبح المرء محلِّلًا.
ومن ثَم، قد أُسأل: لماذا تنأى كتابات لاكان إلى هذا الحد عن معظم الكتابات
التحليلية، حيث يتم تقسيم المرضى بين الأنا egos والهو
ids، أو بين اللاشعوري
unconsciousness والشعوري
consciousness في النظرية التحليلية الكلاسيكية (أو
إلى مختلف أنفس selves تلك الأخيرة)، أو هل موضوعات
تاريخ الحالات الإكلينيكية تمثل حكايات عن الحياة والعلاج؟
وتكمن الإجابة في إدراك لاكان أن الكلام هو مادة عمل المحلل، وأن وظيفة المحلل أن
يسمع ويتدخل. على المرء، وهو يعلم المحللين، أن يتعلم، مثلما فعل لاكان منذ أواخر
الأربعينيات في سيميناره الأسبوعي، أن يتعلم كيف يسمع
وكيف يتدخل: كيف يتفوه بالكلام المناسب في اللحظة
المناسبة، وسوف تحاول مختلف نماذج المواجهة التحليلية تقديم فكرة عن كيفية تحقيق هذا
الهدف. ومن الواضح أن معرفة ما يعتقد المحلل أنه مرجع التدخل ومعرفة لمن يُوجَّه التدخل
من العوامل الحاسمة في اكتشاف المحلل للطريقة المناسبة للتدخل.
إن كلام الجلسة التحليلية هو ما تتجاهله قراءتي المنهجية لفرويد وما تتجاهله قراءات
لاكان المفرطة في نظريتها. لقد اهتم لاكان، وهو في ذلك لا يشبه المخلصين من أتباع
سوسير، اهتم بالكلام (
parole) واللغة
(
langue) على حد سواء.
٢٩ وسوف أبرهن الآن على أن مفهوم لاكان للكلام كما يوجد في
تقرير روما، وهو بحث واعدٌ عنوانه: «وظيفة الكلام واللغة
[
langage]
ومجالهما في التحليل النفسي». وفي مواضع كثيرة من سيميناره يرتبط هذا المفهوم ارتباطًا
قويًّا بفكر هايدجر، وهي حقيقة ذكرها آخرون،
٣٠ بالإضافة إلى أنه ذو صلة قوية بمفهوم أفعال الكلام كما صاغه أوستن في الوقت
نفسه تقريبًا.
٣١
في «تقرير روما» فهم لاكان نقطة البداية المطلوبة في فكر المحلل في كلام الجلسة على
النحو التالي:
حتى إذا لم يوصل الخطاب شيئًا فإنه يمثل وجود التواصل. وحتى لو أنكر الدليل، فهو
يؤكد
أن الكلام يمثل الحقيقة. وحتى لو كان بهدف الخداع، فالخطاب يتأمل الصدق في العبارة.
٣٢
ثم نظم لاكان مناقشته لوظيفة الكلام في التحليل حول ما أطلق عليه المفارقات الثلاث
في
علاقة الكلام باللغة.
٣٣ وأولى هذه المفارقات حين «قام» كلام الشخص «بمحاولة للإعلان عن نفسه»، ذهان
ما يطلق عليه لاكان تشيؤ
objectification الذات في لغة
بدون جدل.
٣٤
والمفارقة الثانية في العلاقة بين الكلام واللغة تتمثل في دراسة العُصاب، الحقل
المتميز للممارسات التحليلية، حيث يتم انتزاع الكلام من الخطاب العياني الذي ينظم شعور
الذات، ويجد دعامته في الوظائف الطبيعية للذات أو في الصور الذهنية، إلا أن لاكان يؤكد
أن هذا الكلام، على العكس مما يحدث في الذهان، «يوظَّف توظيفًا كاملًا؛ لأنه يتضمن خطاب
الآخر وغموض شفرته». ثالثًا، قد تفقد الذات معناها في تشيؤ
objectifications الخطاب. «وهنا تكمن أعمق أشكال
اغتراب الذات في حضارتنا العلمية».
إن مفهوم اضطراب الآخر هو السمة المشتركة للخصائص الثلاث التي تميز الاضطراب في علاقة
الكلام باللغة، ومفهوم لاكان عن اللاشعوري هو بالضبط: اللاشعوري خطاب الآخر.
٣٥ ولكن لهذا المفهوم هنا معنًى قريبًا ملموسًا — ثَمة خطأ يحدث حين نخاطب
الآخر، وهذه الاعتبارات — الوظيفة التواصلية للكلام، بعض مفاهيم اللغة المقيدة بشدة،
وكون الخطاب غير مناسب ويخطئ الهدف — وهي اعتبارات نظرية أفعال الكلام أيضًا، كما
تُستهَلُّ بسؤال أوستن:
كيف تصنع أشياء
بالكلمات؟
إن أعمال أوستن تمثل بداية لنقد تجسيد
reification
الخطاب الموجود في الكثير من نظريات اللغة المتأثرة بالوضعية المنطقية والأعمال الأولى
لفيتجنشتاين، التي يرى فيها أن اللغة وصفية، في المقام الأول، أو تجسيدية
constative. وبهذا المعنى تشير مناقشته إلى ثالث
اضطرابات اللغة والكلام عند لاكان: اغتراب الذات في العلم. يسعى أوستن إلى وضع حد
للنزاعات المسيطرة على الادعاءات الوضعية التي تقصر تقسيم العبارات إلى عبارات صائبة
وأخرى خاطئة. وبدلًا من إدراك الكلام باعتباره عبارات نختبر صوابها أو خطأها، بيَّن
أوستن أن معظم الكلام ليس له علاقة بالصواب أو الخطأ.
٣٦ وكانت لمناقشاته أحيانًا وظيفة حاسمة: كالوظيفة العلاجية التي يعزوها
فيتجنستاين للفلسفة، وظيفة تسعى إلى شفائنا من بعض العادات اللغوية الرديئة، وتحقق ذلك
بفطنة مميزة.
٣٧
اعتاد الفلاسفة، بالطبع، أن يتحدثوا كما لو كنا، أنت أو أنا أو أي شخص،
نستطيع إعلان أي شيء عن أي شيء، وسوف يكون ذلك في موضعه الدقيق، إلا أن ثَمة
سؤالًا بسيطًا: هل هو صواب أم خطأ؟ وبجانب السؤال البسيط، هل هو صواب أم خطأ،
توجد بالتأكيد أسئلة من قبيل: هل هو في موضعه المناسب؟ هل تستطيع أن تعبر عن أي
شيء؟ افترض مثلًا أنك تقول لي «أشعر ببعض الفتور هذا الصباح»، حسن، سوف أقول لك
«لستَ فاترًا»، وسوف تردُّ «أي هراء تقصد؟ ألستُ فاترًا؟» وسوف أقول «أوه لا
شيء، لم أقل إلا أنك لستَ فاترًا، هل هذا صواب أم خطأ؟» وسوف ترد «انتظر لحظةً
سواء أكان ذلك صوابًا أم خطأً، فإن السؤال هو ماذا كنتَ تقصد بالتعبير عن مشاعر
شخص آخر؟ قلتُ لك أشعر ببعض الفتور. ولستَ في وضع يجعلك تقول أو تعلن أنني لست
كذلك.» وهذا يعني أنك لا تستطيع التعبير عن مشاعر الآخرين (إلا أنك تستطيع أن
تخمن شيئًا بشأن مشاعرهم إذا كنت ترغب في ذلك) …
٣٨
لكن أوستن طوَّر أيضًا نظرية أصيلة عن الكيفية التي يعمل بها الكلام. وبدلًا من
العبارات التي تنقسم إلى صواب وخطأ، برهن على أن معظم ما نتفوه به فعل، إنه ينجز؛ ومن
ثَم أطلق على ما نتفوه به «المنجِزات
performatives».
واختار أمثلة لتوضيح كيف تكون أفعال الكلام تعليمية: إن عبارة «أَقبل
I
do» تمثل عملية الزواج حين تنطق في حفل الزواج، وتمثل كلمة
Done! خلاصة لقبول الرهان، وعبارة «أسمي هذه
السفينة مستر ستالين»، هي عملية تسمية للسفينة وليست وصفًا لها. والوعد هو الفعل الأكثر
نموذجية وبروزًا، ليس الوعد تعبيرًا عن العالم، إن التفوه بالوعد هو بكل وضوح عملية
الوعد نفسها.
٣٩
وهكذا لا يمكن ترجمةُ مثل هذا الكلام أو نَسخُه في شكل يجعله يبدو وكأنه وصف، لا توجد
كلمات أخرى تؤدي الدور الذي تقوم به في مثل هذه الظروف. ولا يستطيع المرء أن يقول:
«أعلن أنني أقبل»، أو «أعتقد أنني على صواب في تسمية هذه السفينة مستر ستالين». إن هذا
الكلام ما عاد يشبه فعل الكلام الذي كان يسعى إلى نسخه، إنه لا يعادل عملية الزواج أو
التسمية، إنه الآن شاهد على فعل الكلام الذي يخطئ الهدف.
ويمكن القول عمومًا، إن التوءم الذي كان ينتقده أوستن في هذه النظرية هو، أولًا،
الفكرة الوضعية عن اللغة بوصفها متوقفة على تقريب هزيل للعبارات العلمية، وثانيًا،
مفهوم أن الكلام تمثيل للحالات النفسية الداخلية. وقد ساهم لاكان في هذا النقد المزدوج:
وقد دمجهما معًا، في الحقيقة، في نقده لمفهوم الحالات النفسية الداخلية، المفهوم الذي
ظهر في سيكولوجيا الأنا العلمية في أمريكا بعد الحرب، الذي جسَّد الحركة الجدلية التي
فجَّرها الديالوج التحليلي. وهكذا حين ينتقد أوستن الرأي القائل بأن عبارة «أقبل
I do» حين تقال في حفل الزواج تمثل تقريرًا عن
الحالة الداخلية للذهن، وهذا التقرير إما أن يكون صائبًا أو خاطئًا، يعرف أن هذا الرأي
تتبناه، ضمنيًّا، الوضعية الأخلاقية، وهو رأي لا يمكن أن يقبل أن تكون اللغة كفيله
الخاص. ويوضح أوستن ببراعته المعتادة كيف أن مثل هذا الرأي الروحاني اللاأخلاقي قد يتيح
لشخص يتزوج أن يتخلص من عبء المضارة بأن يقول: «إن حالتي الروحية الداخلية لم تكن تمثل
التأكيد الصادق الذي ربما يكون تفوُّهي بالكلمات جعلك تؤمن به.» وقد بيَّن أوستن
منسجمًا في ذلك مع الفكر القانوني، كما هو الحال غالبًا، بيَّن الأسباب الكامنة وراء
عدم كفاية هذا الدفاع. إن كلمتنا في حفل الزواج، وفي كل أفعال الكلام في الحقيقة، هي
الرباط الذي يربطنا.
٤٠ وهكذا، تتفوق كلمتنا على كل التأملات حول الحالات الباطنية.
إن فلسفة أوستن القانونية عمومًا، حيث تكون كلمتنا هي رباطنا، وحيث تتطلب الحياة
الاجتماعية نوعًا من التوقع بأن ما نقوله إذا لم يكن يمثل الحقيقة كلها فإنه سيكون على
الأقل شبيهًا بها، تتناغم هذه الفلسفة مع سلوكية فيتجنشتاين (إن معنى الكلمة هو
استخدامها)، وهكذا تقترب من مفهوم التعاقد بين الأشخاص، ومن الرأي شبه الديني عن تفوق
الكلمة. ويكرر لاكان هذه الموضوعات وينقحها في مفهومه للخطاب التحليلي. يتحدث لاكان عن
القانون الرمزي الذي تجسده اللغة، وعن الدور الحقيقي للشهادة، وعن الوظيفة الاجتماعية
لكلمة السر. ولا توجد وظيفة من هذه الوظائف ضمن التعليقات البنيوية على اللغة، وهي
تعليقات تزعم أنها تحلل قوانين
اللغة langue (على نحو يكفي غالبًا لتبدو كما لو كانت
لغة langage): يشترك كلٌّ من أوستن ولاكان في إدراك أن
التفوه الفردي باللغة، أي
الكلام parole، ليس مجرد شواهد، كما جعل سوسير البعض يعتقد في
ذلك، لكن الكلام يمثل القلب من دراسة اللغة، ويتضح أيضًا أن لاكان وأوستن لم يختارا
السير في المسار الذي اتبعه علماء اللغة الاجتماعيون بعد تشومسكي،
٤١ أو الإثنوميثودولوجيين [الإثنوميثودولوجيا
ethnomethodology: فرع من علم الاجتماع يسعى لفهم
الحس العام لبنية المجتمع وتنظيمه. المترجم]: ورفض كلٌّ من أوستن ولاكان اعتبار التعليق
الوظيفي على «التواصل» مفهومًا أساسيًّا يشبه المفهوم الكانتي بالنسبة لتحليل المنطوق.
٤٢ إن لاكان، المحلِّل النفسي، لا يمكن أن يفترض في لحظة أن اللغة تنجح في
التواصل، مثلما قد يفترض ذلك أي تعليق وظيفي:
٤٣ إن الوجود الحقيقي للتحليل النفسي دليل دائم على فشل التواصل. إن تحليل
أوستن، ذلك التحليل البارع لا يدعنا ننسى أبدًا أن أفعال الكلام تُخطئ الهدف، وهي أفعال
باطلة ومزعومة وجوفاء وزائفة وفارغة، وأن إساءة الفهم قاعدة بقدر ما هي استثناء، والهدف
في معظم الأحيان يتمثل في فحص قاعدة الفهم وتبسيطها. حين يتوغل شخص في طقوس احتفال
الزواج، ويكون قد تزوج من قبل، نقول، طبقًا لمفاهيم أوستن، إن الاحتفال فارغ أو إنه
بدون فعالية.
وهذا لا يعني بالطبع أن نقول إننا لن نفعل شيئًا: سيتم فعل أشياء جمة — سنرتكب فعل
المضارة بشغف أكبر — لكننا لن نرتكب الفعل المزعوم، أي الزواج. لأنك برغم الاسم لا
تتزوج مرتين حين تكون متزوجًا من امرأتين في وقت واحد [من الواضح أن المسألة تتعلق
بسياق اجتماعي وثقافي محدد. المترجم] (باختصار، إن جبر الزواج جبرٌ
بوليٌّ BOOLEAN [نظام
جبري طوَّره عالم الرياضيات الإنجليزي جورج بول في القرن التاسع عشر ويُنسب إليه. المترجم].)
٤٤
ويتضح أن هذه التصويبات الخاطئة، والاستخدامات الخاطئة، والإنجازات الخاطئة، والتنفيذ
الخاطئ أبناء عمومة من الدرجة الأولى لمجموعة أخرى من الظواهر اللسانية عزلها فرويد
وأعاد تعميدها: الأخطاء، أخطاء التسمية، نسيان المواضع، أخطاء الطباعة، أخطاء القراءة؛
أو ما يعرف بالزلَّات الفرويدية.
إن تركيز أوستن على المنجِز غير الناجح، وهو نتيجة طبيعية لرأيه بأن هذه المنطوقات
أفعال
acts، وهي من ثَم، شأنها في ذلك شأن كل الأفعال
التقليدية، معرَّضة للفشل، هذا التركيز يمنعه من تبني مفهوم خادع عن الكلام يرى أنه
ينجح دائمًا، ومثل كل ما يذيب الفوارق، يبطل هذا التفسير الوظيفي دوره، حيث إن مفهوم
النجاح الحقيقي يتحطم إذا لم يكن هناك فشل.
٤٥ ولكن ثَمة مفهومًا آخر عن اللغة، وهو مفهوم شائع للغاية يتعرى حين تسلب
قوته، ألا وهو أن المتكلم والمستمع في موضعين متماثلين، إذا كان التحدث يعمل، بدلًا من
أن يكون التفوه نطقًا لعبارة عن العالم تغرس في عقل الآخر أو تنقل إليه بعد ذلك، فإن
طرفًا واحدًا يستطيع أن ينجز هذا الدور، بصرف النظر عن الشق الذي يكون على الآخر أن
يلعبه، ولن يكون [هو أو هي] أداة. إن بعض أفعال الكلام تُحِدُّ، في الواقع، من الحرية
المفترضة للمستمع في عملية النطق بها: يحدد أوستن مفهومًا لأفعال الكلام التعبيرية سمته
البارزة هي قدرته على تحويل الآخر أثناء عملية النطق.
٤٦ إن نقد أوستن، ذلك النقد المزدوج للعلم والميثولوجيا المرتبطين بالحالة
العقلية الداخلية، يستفيد مرة أخرى من هذا الاستنتاج. إن قابلية أي موضوع معرفي محدَّد،
قابليته للإحلال المتبادل على نحو كامل، تمثل أحد الأسس الإبستمولوجية للمعاهد وللمناهج
العلمية، ويمثل الاحتياج المثالي الدقيق للتجارب القابلة للتكرار، ومفهوم الوسط
الديمقراطي للعلماء، جزءًا من الأداة التي تُحقق هذا الشرط الإبستمولوجي. ويكشف تعليق
أوستن عن أفعال الكلام مدى غرابة مثل هذا المفهوم عن الإنسان في الاستخدام اليومي
للكلام، وتحتاج تأويلات الوضع التحليلي المرتبطة بهذا المثال العلمي عن التماثل، تحتاج
إلى مثال يصور تلك الحالات الذهنية الداخلية التي يتم تقليدها، بطريقة شاحبة أو بغيرها
من الطرق، في عقل من يسمع المنطوق. وهو، بالضبط، مثال التحليل النفسي كتواصل بين أنا
ego وأنا
ego، أو
بين اللاشعوري واللاشعوري. وهو المثال الذي هاجمه لاكان.
٤٧ وقد ركزت مقاربة لاكان لهذه المسألة على مستويات معينة من فعل الكلام حيث
تسلك الضمائر النحوية سلوكًا غامضًا بعض الشيء.
٤٨
إن سلوك الضمائر، ذلك السلوك الخاص الذي أكد عليه لاكان، كان شيئًا ما دعاه «الكلام
المؤسِّس
founding speech»، وهو كطراز بدائي شكل من
أشكال تسمية الآخر، وهو أيضًا تحول للذات.
٤٩ إن الكلام المؤسِّس يحوِّل كلًّا من الطرفين في عملية القول.
إن الشكل الذي تفصح به اللغة عن نفسها يحدد الذاتية … إنه ينتسب إلى خطاب الآخر،
وحيث
إنه على هذا النحو فإنه يتوارى في الوظيفة الأعلى للكلام، وبقدر ما يورط الكلام مؤلفَه
في محاصرة الشخص الذي يتم توجيه الكلام إليه بواقع جديد، وعلى سبيل المثال، حين تسم
الذات نفسها بشارة الزوجية بعبارة «أنتِ زوجتي». وهذا الشكل هو بالأحرى الشكل الجوهري
الذي ينبثق عنه الكلام الإنساني كله وليس الشكل الذي يصل إليه.
٥٠
ويلقي التعليق التالي الضوء على تلك الفقرة من تقرير
روما للاكان، وهو التعليق الذي كتبه مولر
Muller وريتشاردسون
Richardson:
ما
الشكل la forme،
الشكل
الجوهري la forme
essentielle الذي يمثل القضية التي نحن بصددها؟
يبدو أنه سيكون، طبقًا لأمثلة لاكان، ضمير الشخص الثاني المفرد [أنتَ، أنتِ]، حيث يتطلب
ذلك فتح مجال يتضمن الآخر بأسلوب جذري، بحيث تعني مخاطبة الآخر (ليس فقط بالتصريحات
الجليلة) حصاره بواقع جديد، بدور جديد، دور المستجيب على الأقل.
٥١
يتم تحويل الآخر، لكن الوجه الحاسم للكلام المؤسِّس في رأي لاكان هو أن الذات، أيضًا،
يتم تحويلها. وتستدعي مثل هذه القضايا بالضرورة قضيةً أخرى، تتعلق ﺑ «ضمير المتكلم»:
«أنا زوجكِ». وهذه المنطوقات بكل تأكيد أفعالٌ تتم بواسطة الكلام بالمعنى الذي يقصده
أوستن، حتى لو لم تشتمل على أفعال نحوية منجِزة، وهي في الواقع تتجاوز تلك الأفعال
acts التي درسها على نحو أدق، تتجاوزها في تضمينها
بالضرورة لكلٍّ من الذات والآخر في الفعل
act.
٥٢
وبالطبع، لن يعتقد شخص سليم العقل أن السؤال عما إذا كنت أقول الحقيقة حين أقول
«أحبك» يقتضي مني تأكيدًا من نوع التأكيدات التي أقدمها حين يوجَّه إليَّ سؤال عن قولي
«ستبقى هذه الصخور خضراء حتى عام ٢٠٠٠م». إن إدراك هذا يؤكد وصف لاكان للتناقض بين
الكلام واللغة:
حين تصبح اللغة أكثر وظيفية، تصبح غير ملائمة للكلام، وحين تصبح أكثر خصوصية بالنسبة
لنا، تفقد وظيفتها كلغة.
٥٣
يشير التحليل النفسي إلى تحول الذات، ويشير أحيانًا إلى «الكلام التام»، يناظر الكلام
المؤسِّس في نصوص لاكان:
إن الكلام التام
full speech هو الكلام الذي يشير إلى
الحقيقة ويشكلها بالصورة التي يرسخها الآخر في عقل شخص ما. الكلام التام هو الكلام
المنجِز (
qui fait acte)، ثم تصير الذات ذاتًا أخرى غير
التي كانت من قبل؛ ولذا لا يمكن تجاهل هذا البعد في الخبرة التحليلية.
٥٤
يشير التحليل إلى تحول من هذا القبيل، إلا أنه يقع فريسة للصورة الجانبية كنوع من
المباريات، كشكل من أشكال اللعب، كتجربة، أو
كتقليد
وهمي للواقع.
٥٥ إلا أن وسائله، بصورة تنطوي على مفارقة، هي وسائل غير الموثوق به وغير
المسئول:
إذا كان المنهج التحليلي يشير إلى تحقيق الكلام التام، فإنه يبدأ على مسار يقود إلى
اتجاه مضاد تمامًا، طالما كان يرشد الشخص إلى تخطيط كلام يخلو بقدر الإمكان من أي
احتمال للمسئولية ويحرره حتى من أي توقع لأن يكون موضع ثقة. إنه يدعوه إلى قول كل ما
يرد إلى ذهنه. وهو بهذه الوسيلة الأصيلة يُيسِّر، وهو أقل ما يمكن أن يقال، العودة إلى
المسار الذي يكون، في الكلام، تحت مستوى الإدراك، ويخصُّ الطرف الثالث، الموضوع.
٥٦
يمكن توجيه الكلام إلى طرف ثالث، إلى الموضوع، أو يمكن له توضيح البعد الذي يحقق
فيه
المتكلم والمستمع الإدراك المتبادل الذي يمثل شرطًا مسبقًا للكلام نفسه، أو يكونان ما
زالا في عملية تحقيق هذا الإدراك، أو يفشلان في تحقيقه. إن عملية التسمية نموذج للشرط
الضمني الذي يتحقق في عملية الكلام ذاتها، حين أقول «أسمِّي هذه السفينة سفينة التحليل
النفسي الرائعة»، فإن ذلك يتضمن أن هذا هو الاسم الذي تطلقه عليها
أنت أيضًا، وإذا لم تَدعُها
أنت به، فإنني لا أكون قد سميتها، ولكن ليس عليَّ أن آخذ الإذن منك حين
أطلق عليها ذلك الاسم، ما أقوم به هو أن أتوقع موافقتك.
٥٧
وبصورة عامة، يمكن أن نقول إن المحور الذي تدور حوله وظيفتا الكلام اللتان نحن
بصددهما هو «ضمير المخاطَب
you»: كمخاطَب، كمرآة ﻟ
«ضمير المتكلم»، كنقطة للتوقف المنتظم باتجاه الطرف الثالث، الشخص الثالث، موضوع
الكلام، ما يتكلم عنه المرء.
٥٨ إنها حركة الكلام، حركته المزدوجة التي يركز عليها لاكان هنا:
تقدم الوظيفةُ الرمزية نفسَها كحركةٍ مزدوجة داخل الذات: يصنع الإنسان موضوعًا للفعل
الذي يقوم به، وهو لا يفعل ذلك إلا ليعيد لهذا الفعل، في الوقت المناسب، موضعَه كفعل
مؤسِّس.
٥٩
إن ابتكار الموضوع، أو الانتباه المناسب له، يشغل الذات المتكلمة، في معظم الأحيان،
لدرجة إقصاء الفعل المؤسس، وهو الفعل الذي يتم خلاله تحول كل من المتكلم
والمستمع.
وقد يظن المرء، من الأمثلة التي اختارها لاكان، أننا في الكلام المؤسس نتعامل مع
المصطلحات الثنائية كما حددها القاموس: السيد/التابع، الزوج/الزوجة. ولكن لاكان يقدم
مثالًا آخر في السيمينار الثالث يشير إلى أن تلك
التأثيرات، مع أن تلك الأمثلة تقدم أبرز الشواهد على تحوُّل الذات بسلطة الآخر، لا
تقتصر على تلك الثنائيات، وأن للتفوه بجملة مؤسسة من هذا القبيل تأثيرات بالغة الدقة.
ويقترح الجملتين التاليتين:
تعتمد الجملة الأولى على بناء لا يتوفر في الإنجليزية (وهو باروكي ونادر في
الفرنسية): لا يتفق الفعل مع اسم الإشارة ﻟ «الشخص الثالث» المجهول في العبارة، ولكنه
يتفق مع ضمير المفرد للشخص الثاني في العبارة الأساسية main
clause، وحتى يصف لاكان الجملة الثانية، فإنه يستخدم المصطلح الذي
استخدمه أوستن: مصطلح تجسيدي constative. تتحدث الجملة
الثانية عن وضع مستقبلي لأمر من الأمور، وتبدو وكأنها تصف هذا الوضع. «أنت» من سوف
يتبعني، ويكاد الأمر يبدو وكأن الشخص الأول كان يعطي وعدًا بالنيابة عن الثاني، وهكذا
يتوقع قيام الشخص الثاني بهذا الأمر. إن التحدث عن وضع الأمور قناع لاغتصاب فعل الآخر؛
مما يجعل فحوى التعبير يتحول بسهولة إلى اضطهاد: ذاك الشخص يتبعني، وتعني حقيقة أن
الفعل يعود إلى الشخص الثالث، تعني أن المسافة بين «ضمير المخاطب
Tu» الموجود والشخص (الثالث) التابع [للفعل]
محذوفة، ويتطلب هذا الحذف وجود «ضمير المتكلم» المتضمَّن في الجملة ليتبنى وضعًا
مناظرًا.
تدل الجملة الأولى، التي تحتوي على «تتبع»، الفعل الذي يعود إلى الشخص الثاني على
إيمان المتكلم بأن «المخاطَب Tu» سوف يتبعه، بينما تنم
الجملة الثانية عن يقين المتكلم بدلًا من الثقة. وقد نقول إن «ضمير المتكلم» متورط في
دعوى خاصة ضد الآخر، «أنت»، أو في احتياج إليه. ويبدو هذا بصورة أكثر وضوحًا في المثال
الآخر الذي يقدمه لاكان: «أنتِ المرأة التي لن تهجرني Tu es la femme
qui ne m’abandonnera(s) pas»، وحين يعود الفعل، «تهجر
abandonnera، إلى الشخص الثالث، فإن التأكيد في
«أنت المرأة التي لن تهجرني» يكاد يكون نوعًا من التهديد. ومع الفعل الذي يعود إلى
الشخص الثاني، يتم إعلان رغبة المتكلم، رغبته في ألا يُهجَر، إنه بدقة يعزو للآخر قدرًا
أكبر من الحرية.
يدعو لاكان هذه الوظيفة اللغوية «توسل invocation»،
بكل ما يحمله المصطلح من دلالات دينية. ويضيف:
إن التوسل ليس صيغة خاملة. إنه الطريقة التي آتي بها إلى الوجود
[
je fais
passer] في إيمان الآخر الذي هو إيماني.
٦٠
إنه، بمصطلحات أوستن، إيمان تعبيري
a perlocutionary
faith. ولكن لاكان يلمح إلى بُعْد العرف، بعد التعاقد، إلى ميثاق
اللغة. لا شيء وراء الكلام الذي يؤسسه، إلا أنه يبدو وكأنه يتأسس على ميثاق، وتجلب كل
ممارسة للكلام معها احتمالية تحطيم الميثاق، واحتمالية أن الآخر ينوي خداعي، حتى وهو
يقول الحقيقة. إن كلام أوستن واضح تمامًا فيما يتعلق بالأساس التعاقدي لأفعال الكلام،
ويتضمنه كلام سيرل
Searle حين يشير إلى نظريات تقريرية
للتواصل وإلى ضرورة مفهوم القاعدة لتحليل الأفعال الكلامية.
٦١ وفيما يتعلق بذلك يمثل الوعد مثالًا نموذجيًّا بالنسبة لسيرل وأوستن
ولاكان:
إن اللاشعوريَّ خطابُ
الآخر Other، الذي تستقبل فيه الذات، في شكل مقلوب يلائم
الوعد، رسالتَها الخاصة المفقودة.
٦٢
لماذا في شكل مقلوب؟ إذا اعتبرنا الوعد تنظيمًا اجتماعيًّا للحاضر، تنظيمًا لتأكيد
يتعلق بالمستقبل،
٦٣ فإن ما يبرز هو قلب لعلاقات المستقبل والحاضر. لنأخذ وعدًا معروفًا
وأساسيًّا بكل ما تحمله الكلمة: «أعد بأن أدفع لحامله عند الطلب ما قيمته …» وإذا وُجد
أيُّ شخص في أي وقت في وضع يكون مضطرًّا فيه إلى هذا الطلب، فإننا نعرف، وكما يقال، أن
هذا الوعد لن يساوي قيمة الورقة التي كُتب عليها. إن هذا الوعد المتعلق بالمستقبل فعلٌ
كلامي محض، ولا يكفل علاقة التبادل المحض سوى واقع (مالي)،
٦٤ بقدر انحراف الطلب إلى موضع آخر (عمومًا، أو تعلقه بتنفيذ ما قدمه الوعد)،
في دائرة لا تنتهي تستمر بالوعد ويستمر بها، ووعد من هذا القبيل، وعلينا أن نصدقه حتى
يعتبر نموذجًا للوعود، وهو الأكثر نموذجية بين كل الأفعال الكلامية، يحدد كيف تكون
عملية الكلام كفيله الخاص. ولا يمكن إلا لمخيلة البخيل، جذر الواقعية الميتافيزيقية
والواقعية الاجتماعية، أن تتخيل أن قدرة البنك على أن «يفي» بمثل هذا الوعد ستضعف إذا
أصبح كل الذهب الذي في قبائه مُشعًّا. والثقة هنا نفسية في الواقع، نتيجة اليقين بأن
ذلك الوعد لن يتم التخلي عنه أبدًا.
٦٥
وقد عبَّر لاكان عن ذلك بأسلوب آخر، وربما يكون أبسط:
إنك تعرف تلك الرسائل
messages التي ترسلها الذات في
شكل يبنيها ويضبطها نحويًّا، بمجرد أن تصل من الآخر، في صورة مقلوبة. حين تقول ذات
لأخرى
أنتَ سيدي أو
أنتِ
زوجتي، فإن ذلك يعني العكس تمامًا. إنها تمرُّ عن طريق
الآخر Other وعن طريق
الأنا
ego، ثم تؤثر في الذات، التي تُتوَّج فجأة في وضع
الزوجة أو التابع، وهو وضعٌ خطر ومثير للمشاكل.
٦٦
إن الثقة، الميثاق، العقد الاجتماعي، مؤسسة الزواج، «الحقائق المؤسسية»
٦٧ تجعل لاكان يستدعي إيماني باعتباري متكلمًا، في علاقتي بهذا
الآخر، وهو ليس «سوى الكفيل
لحسن
النية التي تستدعى بالضرورة، حتى بواسطة المخادع، بمجرد أن يصبح ميثاق
الكلام، وليس مسارات
paths [passes] الصراع أو الرغبة، هو موضوع المناقشة».
٦٨ ومن المؤكد أيضًا أنه لا يتطابق مع نقد سارتر للتحليل النفسي، وقد اطَّلع
عليه لاكان اطلاعًا كافيًا إلى أبعد الحدود، وهو نقد موجه إلى عدم كفاية التفسير الذي
قدَّمه التحليل النفسي لسوء النية، باعتباره مشروطًا باعتراف الجميع بقراءته
الميكانيكية للتحليل النفسي.
٦٩ وهنا، مرة أخرى، تتضمن ممارسة التحليل النفسي قلبًا غريبًا بالصورة التي
وضحتُها من قبل، نطلب من الذات في التحليل أن تتخلى عن أي عزم على الإخلاص، وأن تتخلى
عن كل كفاح من أجل الثقة.
في التحليل يُبعد المرء عن ذهنه أي وسيلة للأمان في علاقة التحدث، يتحاشى المرء
الكياسة والاحترام والإحساس بالواجب تجاه الآخر.
التداعي الحر
free
association. ويا له من مصطلح شديد الفقر فيما يتعلق بتوضيح ما يتم
تضمينه. إننا نحاول استبعاد وسائل الأمان في المحادثة مع الآخر. وبعد ذلك، تتحرك الذات
في هذا العالم اللغوي الذي نُورطها فيه.
٧٠
إن القاعدة الأساسية تحضُّ على التصرف بدون مسئولية، مع أنها لا تتطلب ذلك. إلا أنها
في هذا «الكلام الحر»، المتحرر من وسائله الآمنة، تستبعد، ربما بطريقة يمكن تأكيدها،
فقدان الذات لروابطها، وهكذا تتضح روابط الذات،
نقط
تماسكها points de capitons: في الكلام
الموثوق به الذي تقدمه للمحلل ويحتاج إليه. وإذا بدا أن الذي يعاني من الأفكار
الاستحواذية يعتقد أن اللغة اكتُشفَت لتحول بينه وبين معرفة أي شيء، حتى رغبته، فإن
الهستيري يجد في الكلام وسيلة فريدة لاختبار سذاجة الآخر، وقاحته في الواقع، واختبار
تحديد ما إذا كان يمكنه أن يعثر على شخص يعطيه إجابة تختبر وجود حسن النية.
٧١
ما المصطلح الأكثر ملاءمة للاستخدام في هذه النقطة المفصلية؟ يؤيد سيرل بقوةٍ مصطلح
«الاقتراف
commitment»؛
٧٢ ويستخدم لاكان، غالبًا، الفعل «
يجند engager». إننا هنا نتعامل مع منطقة تتضمن روابط
وارتباطات اجتماعية، مع الأسمنت الحقيقي للاجتماعي والمؤسسي؛ مع
الرمزي. ويوضح لاكان ذلك ببراعة فائقة فيما يتعلق بمريضة من مرضى بلنت
لم تستطع الاستمرار في التحليل لأنها كانت تدرك، وهي صائبة في ذلك، أن الحديث المسئول
سيكون مؤلمًا. وذات يوم، ثرثرت أثناء التحليل أكثر من المعتاد، واكتشف المحلل ما كانت
تتملص منه: التسليم بأن معها في حقيبتها رسالة، مرجعًا شخصيًّا يقول إنها شخصية جديرة
بالثقة، وهو ما لا تستطيع أن تجاهر به. ويستمر التحليل من تلك اللحظة. ويكتب لاكان
معلقًا على ذلك:
وهكذا حتى لا تتورط، وهي في عالم الراشدين، حيث يمكن أن نقول إن المرء يجبر دائمًا
على الكدح، تثرثر بحيث لا تقول شيئًا، وبحيث تملأ الجلسات بكلام فارغ. ويمكن أن نتوقف
لحظة للتفكير في حقيقة أن الطفل أيضًا لديه ما يقوله. إن كلامه ليس فارغًا. إنه مليء
بالمعنى مثل كلام كل الراشدين. إنه مليء بالمعنى الذي يدهش الراشدين في الكثير من
الأحيان.
انظر، يا له من طفل رائع، ذلك الصغير الحلو! ألم تسمع
ما قال في ذلك اليوم؟ … وربما يكون الكلام المدهش الذي يتفوه به الطفل
كلامًا متعاليًا
transcendental، وحيًا من السماء، جواب
الإله الصغير، ومن الواضح أنه لا يورطه في أي شيء … في موقف الإحالة … القضية هي قيمة
الكلام، ولم تعد تقاس بقدر ما يخلق من التباس أساسي، ولكن بقدر ما يؤدي وظيفة الرمزي،
وظيفة الميثاق الذي يربط الذوات معًا في فعل واحد.
٧٣
وتتشعب هذه الشبكة من «الكلام» في نص لاكان، حتى نتمكن من رؤية تاريخ الذات، تاريخها
الكامل كسلالة من الاقترافات والمواثيق، حيث تدخل الذات، إلى حد بعيد وبدون أن تعرف كيف
حدث ذلك:
ليس على كل ذات أن تدرك العالم، وكأنه يحدث برمته على المستوى الفكري، ما عليها هو
أن
تعثر على طريقها فيه. وإذا كان التحليل النفسي يعني شيئًا، فهو يعني أنها تنهمك في شيء
له علاقة باللغة لكنه لا يشبهها، وعليها أن تعثر على طريقها فيه. إنه الخطاب العام،
وغالبًا ما أكدت أن الذات قبل ميلادها، يُنظَر إليها ليس باعتبارها مرسلة، ولكن
باعتبارها أصغر جزء في الخطاب العياني. إنها برمتها تكمن في هذا الخطاب، وإن شئتَ، فهي
رسالة.
٧٤
ولا يستطيع المحلل أن يُبقي على مثل هذا الوضع الأوليمبي في الصراع المباشر في
الجلسة. لغط الخطاب العام، وانغماس الذات فيه، بمعنى أن تكون فيه حاملة لرسائل أسلافها،
نتيجة «لكل فسوق آبائنا وأجدادنا، وغير ذلك من الحكايات المخزية التي منحت التحليل
النفسي إثارته».
٧٥ إن هذا كله يشبه تكسُّر أمواج البحر الذي نسمعه ونحن نواصل السير بطول
الطرق الساحلية التي تُشكل خطاب الذات التحليلية المتحدثة وحياتها اليومية. وسوف يُضطر
المحلل إلى التقاط صدى حياة أفسدها رباط الزواج المحطَّم في اللامبالاة التي تصل إليها
الذات متأخرة حين تسنح لها الفرصة. وقد عرف فرويد، بالطبع، كيف يسمع هذا اللغط. وحتى
في
دراسات عن الهستيريا، يمكن أن نقرأ، بين السطور
بصورة لا يمكن إنكارها، وبدون جهد كبير، كيف أن مس لوسي
Miss Lucy
R. المربية التي وقعتْ في حب مستخدمها الأرمل، تَشكَّل عُصابُها
نتيجة الوضع شديد الوطأة الذي وضعها فيه حفاظًا على وعدها أو تحطيمًا له، ويمكن أن نسمع
وراء ذلك لغط التقمص الشاق مع أمها:
– «هل كان هناك شيء خاص، بعيدًا عن ولع الأطفال بك، وراء ارتباطك بهم؟»
– «نعم، كانت أمهم قريبة لأمي من بعيد، وقد وعدتها وهي على سرير الموت أنني سوف
أكرِّس نفسي للأطفال بكل ما أملك من قوة، ولن أتركهم وسأكون في مكان أمهم، وقد حطمتُ
بهذا الإعلان ذلك الوعد.»
٧٦
إن مقولة لاكان عن «الكلام المؤسِّس» تمضي خطوةً أبعد من وصف أوستن لأفعال الكلام
عمومًا، ولكنها خطوة في الاتجاه نفسه: إن الكلام المؤسس توسُّل يتم فيه تعديل ضمير المتكلم وضمير
المخاطب في الوقت ذاته. ويمكن أن ندرك المدى الذي تبعده هذه الخطوة عن
أوستن بتأمل أحد أمثلة أوستن: حفل الزواج. إنه يقول كل شيء عن الزواج، وعن احتمالية
المضارة والظروف الاحتفالية التي تكفل إتمام الزواج. وكل هذا منير ومُلْهٍ وعميق، لكنه
يستوعب سمة من أبرز سمات الزواج في مقولة عن العُرْف لم تختبر: إنك حقًّا تحتاج إلى
شخصين يقول كلٌّ منهما «أقبَل I do» ليتم الزواج، أو
كما يقال، لينعقد الزواج.
ومهما يكن، فإننا ندرك هذه الفكرة عن العرف وكأن كل ما تحتاج إليه لتتم هو أن تقف
كل
ذات بمفردها في الوضع نفسه وجهًا لوجه مع القاعدة التي تحكمها ثم تتبع هذه القاعدة،
وتمحو الاعتماد المتبادل على نحو خاص، حيث لا يتبع الطرفان القاعدةَ نفسَها بصورة
دقيقة. ومع ذلك، يتزوج كلٌّ منهما الآخر، ويرتبطان في مؤسسة الزواج، تخيل أن أحد
الشخصين يقول «أقبل
I do»، بينما الطرف الآخر يفرُّ من
المذبح في اللحظة الأخيرة، ما الوضع الذي تحتله «أقبل
I
do» الأولى حين تستعاد؟ ومن الواضح أنها تستقبل الاعتراف كعهد مقدس
من «أقبل» الأخرى، وليس من الحالة الداخلية، حالة الإخلاص أو العزم. إن «أقبل» الأولى
تتضمن، بتعبير آخر، شيئًا من قبيل بشرط أن «تقبل أنت الآخر». وبالطبع لا يمكن لأحد أن
يقول ذلك؛ لأن هذا القول يغير من طبيعة الفعل الكلامي، تخيل أن الطرف الأول قال «أقبل
بشرط أن تقبل» سوف تدبُّ الريبة بين الطرفين، ويتم إيذاء بعض المشاعر العميقة.
٧٧
إن الشاهد الخيالي يبين مدى قرب مثال أوستن، المثال الأثير عن الزواج والرهان
والتسمية، من النقطة الأثيرة عند لاكان: أعني الرابطة الحميمة المتبادلة بين «ضمير
المتكلم» و«ضمير المخاطَب» في الكلام المؤسس.
III
إن الخطوة التالية التي أود أن أخطوها خطوة بسيطة، لكنها أخطر خطوة، إنها ستعود بنا
إلى فرويد.
٧٨ وتتمثل في أن هذا الاستخدام البارز للضمائر، تحول المتكلم والمستمع، في
الوضع التحليلي يُدْعى «إحالة [أو طرحًا أو تحويلًا]»
transference. والشيء الحاسم هو أن المحلل يتفاعل
مع هذا الانبثاق للكلام المؤسس، ومع هذه الضمائر المحوَّلة، على حد سواء بطريقة لافتة
للنظر. والتحول، في رأي لاكان، يتم مباشرة من الكلام المؤسس إلى الإحالة. وكان يلمح إلى
أن المحللين النفسيين كانوا (ومن المحتمل تمامًا أن يكونوا) وحدهم ذوي حساسية مفرطة
لبُعْد الكلام المؤسس، الذي تتحول فيه علاقة المتكلم والمستمع؛ لأن ذلك هو ما تمثله
الإحالة.
إن الإحالة الفعالة التي نضعها في اعتبارنا هي بكل بساطة، في جوهرها، فعل الكلام.
وفي
كل مرة يتحدث فيها إنسان إلى إنسان بصورة مكتملة تدعو للثقة، توجد، بالمعنى الحقيقي،
إحالة، إحالة رمزية؛ شيء ما يتم ويبدِّل طبيعة الاثنين الحاضرين.
٧٩
وأحد التعريفات المناسبة للإحالة، رغم بساطته، هو: الإحالة هي أية إشارة من المحلَّل
إلى شخص المحلِّل، أو إلى الموقف الحالي الذي يدور فيه الديالوج.
٨٠ ولنأخذ مثالًا بسيطًا:
٨١ حين ذكر فرويد في كتاباته، للمرة الأولى، شيئًا يسميه الإحالة.
في مريضة من مرضاي يكمن أصل أحد الأعراض الهستيرية الخاصة في أمنية كانت تتمناها
منذ
سنوات طويلة واستقرَّت في اللاشعوري، كانت تتمنى أن يبادر الرجل الذي كانت تحدثه في ذلك
الوقت بتقبيلها في جرأة. وذات مرة، في نهاية إحدى الجلسات، وردت إلى ذهنها فكرة مماثلة
تتعلق بي، وأصيبتْ بالهلع نتيجة لهذه الفكرة، وقضت الليلة مؤرقة، وفي الجلسة التالية،
كانت غير متعاونة على الإطلاق مع أنها لم ترفض العلاج. وبعد أن اكتشفتُ العقبة
وأزلتُها، تقدم العمل معها بصورة ملحوظة؛ يا لها من أمنية أصابت المريضة بالرعب إلى هذا
الحد، أمنية ظهرت وكأنها تالية لحالتها المرضية، وهي الأمنية التي تطلَّبها السياق
المنطقي المباشر.
٨٢
يوجد، دائمًا، شيء موحش إلى حد ما في هذه الفقرة، يتجاهل فرويد، في صمت، الوسيلةَ
الدقيقة التي أزال بها العقبة، ويأخذنا بعد ذلك إلى فخامة الخطابة «يا لها»، مع أن
عليَّ أن أقول إنها إضافة إلى الترجمة الإنجليزية، إضافة لا مبرر لها مع أنها لا تشذُّ
عن النغمة الأصلية: ربما أضافها ستراشي Strachey ليؤكد
شعور فرويد بالراحة بمجرد التغلب على تلك العقبة. ماذا كانت العقبة؟
كانت المريضة تفكر: «لماذا لا يبادر ويقبِّلني؟» ثَمة شيء فريد في هذا النوع من
التفكير: هل تتحقق الأمنية بأن يبادر شخص آخر بتحقيقها، ويكون بريئًا من المسئولية؟
وبتعبير آخر، ألم يكن شقُّ المنجِز إلى المنتصف، بحيث يبدو الآخر كآلة أتوماتيكية
عنيدة، يعمل بمفهوم أوستن، ويعمل في الواقع منطلقًا من أمنيات الآخر؟ لأتركْ هذا السؤال
جانبًا: إن المفارقة متأصلة في المنطق الحقيقي للإغواء، إنه اغتصاب (راجع الفصل الرابع
[من الأصل الإنجليزي، وهو بعنوان «الاغتصاب والإغواء والتحليل النفسي». المترجم]). إنه
كالزواج تمامًا — إن لم يكن أكثر — لا يمكن أن تفعله وحدك.
ولكن لنعدْ مرة أخرى إلى العقبة وأمنية المريضة في قُبْلة. لاحظ أن ما يجعله فرويد
يتذبذب في الأمنية هو «ضمير المفرد الغائب
he»،
مستعيرًا دافعه من الحقيقة اللغوية التي ترى أن عملية التحدث هي التي تعطي هذا المحوِّل
shifter مرجعيته. وهكذا، تتمنى أن يعطيها «هو»
قبلة، وهذه الأمنية هي السر وراء عذابها في ليلتها المؤرقة. كيف تغلَّب فرويد على هذه
العقبة؟ من الواضح أنه قادها، بصورة غير محددة، إلى التصريح بأنها تمنتْ أن يقبلها،
وربما جعلها تنطق جملة من قبيل: «أريد منك أن تقبلني.» والأرجح أن فرويد، ولأنه فرويد،
أعطاها محاضرة من محاضراته البسيطة في السيكولوجيا (مثلما فعل مع رتمان، في الجلسات
التي ناقشناها في بداية هذا الفصل)، لكن جوهر تلك المحاضرة لا بد أن يكون شيئًا على
النحو التالي: لستُ «أنا» من تتمنين تقبيله. ثَمة خطأ في الضمير الذي تستخدمينه هنا،
وينشأ الخطأ عن شيء لا تدركينه، عن شيء لا شعوري. إن «ضمير المتكلم» في جملتك لا يريد
الاعتراف.
٨٣
حدث شيء معقد، وقع «خطأ» (لأنه، رغم كل شيء، من سيقول له إنه يشير حقًّا؟) مع
الضميرين، «ضمير المتكلم» و«ضمير المخاطب»؛ أي مع ما يُعزى إليه تأويل الإحالة. إن وراء
ما يبدو أنه «ضمير المخاطب» المحدد يوجد «ضمير الغائب» غير المحدد، ويحدده الخطاب
باعتبار أنه «ضمير المخاطب»، ويوضحه المحلِّل بأنه «ليس أنا» ثم يسمح لمشهد الذاكرة
بالانبثاق: إن «ضمير الغائب» يصبح ذلك الرجل الآخر، باسمه، باسمه الحقيقي، وبوصفه.
ويعبر فرويد عن هذا كله بوضوح وبراعة، حين يلخص طبيعة العقبة على النحو التالي:
إنها تكمن في حثِّ المريضة على التفوه ببعض المعلومات حين يبدو الأمر وكأن العلاقات
الشخصية كانت موضع الاهتمام، وحين كان الشخص الثالث يأخذ صورة الطبيب.
٨٤
هنا يبدأ الشخص الثالث حياته التحليلية باعتباره شخصًا ثالثًا على المستوى النحوي،
وعملية تصنيف ضمائر المتكلم
I’s وضمائر المخاطَب
you’s وضمائر المفرد الغائب
he’s هي عملية تحليل نحوي. إلا أنها أيضًا عملية
تصنيف لأفعال الكلام التي على علاقة بالموضوع، ولا يكتفي فرويد بتفكيك الضمائر التي تمت
إزاحتها وإحالتها، إنه يجدِّد بُعْد «الأمنية» في الصورة المضطربة في ذهن المريضة عن
الرجل الذي يقبلها. وعملية التجديد تلك هي التي تشير إلى أن التفسير يتضمن بُعْد القوة
مرتبطًا بأفعال الكلام.
٨٥ بينما كان فرويد يتأمل «فينومينولوجيا التفكير الاستحواذي»، وهو تأمل ضروري
لفهم مرضى الوسواس القهري وعلاجهم، كتب:
… سيكون من الصواب أن نتكلم عن «تفكير المريض بالوسواس القهري» [بدلًا من الكلام
عن
أفكار الوسواس القهري]، وأن نوضح أن البنيات الاستحواذية يمكن أن تتماثل مع كل أنواع
الأفعال النفسية، ويمكن أن تُصنَّف باعتبارها أمنيات أو إغراءً أو اندفاعًا أو انعكاسات
أو شكوكًا أو أوامر أو نواهي. ويسعى المرضى عمومًا إلى تقليل الفوارق، وإلى اعتبار ما
يتبقى من هذه الأفعال النفسية بعد تجريدها من المؤشِّر العاطفي
affective index «أفكار الوسواس القهري». وقدم
مريضنا الحالي مثالًا لهذا النوع من السلوك في إحدى الجلسات الأولى، حين حاول تقليص
الأمنية إلى مجرد شكل من أشكال «تسلسل التفكير».
٨٦
ويمكن لنا أن نقول إن هذه الصياغة تتيح لنا أن نتعرف على البعد العاطفي، وعلى بعد
الطاقة، أو ما يدعوه فرويد في هذه الفقرة
Affekt index [المؤشر العاطفي]،
٨٧ في العلاقات بين الطرفين. ويرجع ذلك إلى أن مقولة الكلام تغطي المجال نفسه
الذي تغطيه مقولة العاطفة: مجال التمني والخوف والوعد والشعور باللذة والارتياب، إلى
آخره.
٨٨
وأودُّ الآن أن أنتقل إلى فقرة أخرى من تعليق فرويد على جلساته مع رتمان
Ratman، لأجمع كل هذه الموضوعات معًا. والفقرة
مقتبسة من الجلسة الثانية مع المريض. كان يحاول وصف الخبرة التي جعلته يبحث عن مساعدة
فرويد. أثناء المناورات العسكرية، التقى بكابتن كان مغرمًا بالوحشية غرامًا شديدًا،
وحكى له قصةً عن شكل مروِّع للغاية من أشكال التعذيب المعتاد في الشرق:
هنا توقف المريض فجأة، وغادر الأريكة، والتمس مني أن أعفيه من سرد التفاصيل. وطمأنتُه
بأن أعلنت له أنني لا أستسيغ الوحشية، ومن المؤكد أنني لا أرغب في تعذيبه، ومن الطبيعي
أنني لا أستطيع أن أعرِّضه لشيء يفوق قدرتي. وربما كان يبدو، بالضبط، وكأنه يطلب مني
القمر. وكان التغلب على المقاومة هو قانون العلاج، ولا يمكن الاستغناء عنه تحت أي
اعتبار … واصلتُ القول إنني سأفعل كل ما أستطيع، رغم كل شيء، لأخمن المعنى الكامل لأية
تلميحات قدمها لي، هل كان يفكر في الخازوق؟ «لا، ليس الأمر كذلك …»
٨٩
وبعد أن حكى المريض قصته، بما اعتبره فرويد نوعًا من الشعور «بالهلع من لذته الخاصة
التي كان هو نفسه لا يدركها»، واستمر في وصف حكاية مشوشة ومعقدة عن دَين كان عليه أن
يسدده، وكان قد طمرها في شبكة من التحريم والقهر، وأنهى الحكاية في حالة تشوش تثير
الهلع، وبعد أن حكى تلك القصة المشوشة، تفاقم التشوش في ذهنه، ويكتب فرويد معلقًا على
ذلك:
سأضيف فقط أن المريض في نهاية الجلسة الثانية تصرف وكأنه دائخ ومرتبك، وكرر
مخاطبتي بكلمة «كابتن»، ربما لأنني أخبرته في بداية الجلسة أنني لست مغرمًا
بالوحشية مثل الكابتن
N، ولا أنوي تعذيبه بدون داعٍ.
٩٠
ومن ثَم نجد في هذه الجلسة الثانية مثالًا واضحًا وضوحًا تامًّا عن الإحالة، وقريبًا
تمامًا من صيغة «الضمير» pronoun التي تناولتها في
الجزء الأول من هذا الفصل: إن رتمان في نهاية الجلسة يخاطب فرويد بكلمة كابتن (أي إنه
قال ما يعادل قوله «أنت الكابتن»)، وهكذا يشير إلى تشوش نسقي
systematic بين الشخص الثالث والمحلِّل (الشخص
«الثاني»). لكن النقطة الحقيقية في المحادثة، النقطة التي أودُّ التقاطها، تقع في بداية
الفقرة الأولى الطويلة التي اقتبستها: «التمس مني أن أعفيه من سرد التفاصيل.» التمس
المريض. إن هذا الفعل «يلتمس»، بكل دقة، أحد الأفعال المنجِزة عند أوستن، وتلك اللحظة
هي أيضًا اللحظة الأولى في العلاج التي خاطب فيها المريضُ فرويد خطابًا مباشرًا؛ أي
مستخدمًا ضمير الشخص الثاني. ربما جاءت كلماته على النحو التالي: «من فضلك اعفني من
تقديم كل التفاصيل.» إنها عبارة تمثل شيئًا بين الرجاء والأمر، وربما قال «سيكون عليك
أن تعفيني من أن أقدم لك التفاصيل.» والعبارة الألمانية التي يستخدمها فرويد هي:
er bitter mich, ihm die Schilderungder Details zu
erlassen.
وإذا كنتُ مصيبًا في افتراض أن معالجة الإحالة تكمن
بكل دقة في الاستجابة التحليلية التي تميز المخاطبة بضمير الشخص الثاني، والأهم في
الاستجابة المميزة للمنجِز الذي يتم فيه تضمين هذا الشخص الثاني، يكون من الممكن وصف
النتيجة بأنها تأويل للإحالة: يوضح فرويد أنه لا يستسيغ الوحشية، ولا يرغب في تعذيبه،
لكنه عاجز أمام قانون العلاج. ويُعزَى ذلك إلى انقسام في «ضمير المخاطب» الذي خاطبه
رتمان: من ناحية، يوجد التعاطف، ويتعلق بفرويد، ويوجد في الناحية الأخرى خادم العقد
التحليلي، وهو خادم عنيد وصلب ومجهول الاسم، والعقد هو ما اتفق عليه رتمان نفسه. إن
«العهد» منجِزٌ قوي، مثل «الوعد».
٩١
دعني أوضح نقطة من النقط التي ذكرتها هنا. إن هذا التعليق على تعذيب الفأر
the rat من أشهر الفقرات، ومن أكثرها إثارة للجدل
في تاريخ حالات فرويد. إن تعذيب الفأر أعطى المريض لقبه التحليلي [
the
Ratman]، وليس هناك أدنى شك في أنه منح القوة الخالصة لمخيلة
المريض، إن كانت إعادة انتشارها في المشهد المناخي في عام
١٩٨٤م مسألة يُعتدُّ بها. ولكن المحللين رأوا أن ما
قام به فرويد كان محيِّرًا إلى حد ما، إن لم يكن مضلِّلًا
على نحو صريح، أو حتى جامحًا. إنهم يتساءلون كيف يتدخَّل فرويد في لحظةٍ حاسمة من لحظات
التحليل، كيف يمكن لفرويد أن يسير فرحًا إلى هذا الحد في مشهد خيالي سبق إعداده، سيكون
طرفًا فعالًا يشارك في السيناريو السادي الماسوشي
sado-masochistic الذي أعده المريض، وسيكون فرويد
معذِّبًا في هذا السيناريو بإرغام المريض على سرد القصة، وسيصبح المريض معذِّبًا هو
الآخر بأن يبتلي فرويد بما سبق أن ابتلاه به الكابتن ذو الميول الوحشية! لكنني أرى أن
فرويد كان يعرف ما يقوم به معرفة كاملة، لم يستجب لإغواء خيالي، لإغواء جنسي سردي،
ولكنه كان يستجيب لبوح اللاشعوري، لما يدعوه لاكان «تشريع
enactment واقع اللاشعوري»: الإحالة. استجاب فرويد
للفعل المنجِز وضمير الشخص الثاني المصاحب له، وكان يعرف أن على المحلل أن يعمل على ذاك
النحو، وعليه، على نحو خاص أن يحافظ على استمرار التحليل بهذا الأسلوب: بحثِّ عُصاب
الإحالة، بحثِّ إعادة تنظيم الخطاب العام حول شخصية المحلِّل. ولم يعرف، بالطبع، ما
يتوقف عليه هذا الخطاب. لكنه، في الواقع، بيَّن للمريض ببراعةٍ مدى جهله بالمضمون
الدقيق لهذا الخطاب: «هل كان يفكر في الخازوق؟» «لا، ليس الأمر كذلك … تم ربط المجرم
بإحكام …» في شرج المجرم، وقد ساعدتُه حتى النهاية.»
٩٢ حسن، ربما كان فرويد جاهلًا، لكنه يعرف بالتأكيد الكلمة التي تطلق على
الفتحة التي على الفئران أن تحفر الطريق إليها.
كان فرويد يعرف حين يقول إنه لا يستسيغ الوحشية، وإنه كان عاجزًا عن إبطال العهد
الذي
قدمه الرتمان
the Ratman، كان يعرف أنه سيلعب لعبة
مدمرة مع «ضمير المخاطب» المشار إليه في خطاب المريض. بدأ الرتمان الجلسة بالتوسل
لفرويد، وكأن المحلِّل شخص خارج الجلسة يستطيع إيقافها، وكأنه شخص يتمتع بالقدرة على
هزيمة الزمن وارتباطات الكلام، وقد أنهى الجلسة بمخاطبته بالكابتن الوحشي.
٩٣
وسوف أوضح هنا أحد المفاهيم الخاطئة المحتملة توضيحًا كاملًا، يمكن للمرء أن يَرى
(كما كان فرويد يميل إلى ذلك) أن الرتمان كان يرى أن المحلِّل يتقمص شخصية الكابتن لأن
فرويد استخدم كلمتَي «وحشية» و«تعذيب». إن مجرد استدعاء هذين الدالين، في هذه الحالة،
يشجع على الاعتقاد في فكرة التقمص، حتى لو صدَّر فرويد كل كلمة بأداة نفي: لا أستسيغ الوحشية، لا
أرغب في تعذيبك. وهذا التفسير الفرويدي البديل يتم ببساطة: إن اللاشعوري لا يعرف شيئًا
عن الإنكار؛ ومن ثَم يسمع الرتمان فرويد يقول: أنا وحشي، أودُّ أن أعذبك، مثل الكابتن
الوحشي تمامًا، ومن هنا تأتي فكرة التقمص.
يبدو هذا التعليق معقولًا، وإحدى نتائجه المهمة هي رؤية تدخل فرويد باعتباره خطأً،
وباعتباره تدخلًا مبالغًا فيه.
٩٤ إلا أن هذا الاستنتاج مضلل حيث إنه يتجاهل حقيقة أن ما قاله فرويد كان إلى
حدٍّ بعيد استجابةً مباشرة للحظة الإحالة الأصلية في الديالوج التحليلي؛ اللحظة التي
توسل فيها المريض لفرويد. ولا يقتصر الأمر على
ذلك فقط: إنه يفشل أيضًا في فهم أن الاستجابة
المفرطة
التي قدمها فرويد للمريض كان لها ما يبررها. «لا أستطيع أن أفعل أي شيء، إنني عاجز،
لستُ كما تظن، ولكنني سأفعل كل ما أستطيع لأساعدك، بافتراض أن بعض الوسائل الهزيلة تحت
تصرفي». إن هذا «الدور»
٩٥ الذي يلعبه فرويد يشير إلى أن فرويد رأى فرصته الملائمة وقام بالحركة
المناسبة. وقد أتت الفرصة حين خاطبه المريض على نحو مباشر، مستخدمًا ضمير الشخص الثاني،
وكانت النتيجة هي قول الرتمان: «ألزمتني أمس بقول كل شيء. الآن أطلب منك أن تحلني من
هذا العهد الذي قطعته على نفسي بأن أقول لك كل شيء.» وهكذا، كان رد فرويد يعني: «إن
قدرة الآخر على سماع كل شيء، وهي شرط العلاج التحليلي، لا يمكن إنكارها بأن أحلك من هذا
العهد. إنني عاجز أمام هذه الوظيفة للأذن العامة التي ابتكرناها مع التزامك. فكر كيفما
شئت في هذه الأذن العامة، لكنني أؤكِّد لك أنني لا أستسيغ الوحشية، وقد وصلت الأمور إلى
درجة أنني لم أعدْ أسمع صراخك. عليك أن تقول ما شئت لهذا الآخر.» ومن الواضح تمامًا أن
هذا الآخر
other هو ما يدعوه لاكان
الآخر Other، واستجاب
الرتمان بطريقته الخاصة، بمخاطبة هذا
الآخر الذي يبدأ
بحرف كبير باعتباره الكابتن.
ويمكن أن أوجز الأمر على النحو التالي: اقتفيتُ سلسلة من أفعال الكلام، التي تتنقل
بينها العملية التحليلية؛ الأول: العهد. الثاني: التوسل. الثالث: التنصل. وكل منها يعدل
في العلاقة بين «ضمير المتكلم» و«ضمير المخاطب» في الكلام المباشر، في المنطوق الذي
يظهر فيه «ضمير المتكلم» و«ضمير المخاطب». ومن الخطأ، وهو خطأ يقع فيه غالبًا أحد كُتاب
التحليل النفسي، ويتمثل في النظر إلى الإحالة، أو فنتازيا الإحالة، باعتبارها تقريرًا
عن العالم الداخلي للمريض موضوعًا أمام ملاحظ محايد.
٩٦ وهذا هو المفهوم التجسيدي للغة، ويرى كل من لاكان وأوستن أنه قاصر على لعبة
اللغة التي ابتكرها العلم الحديث (إن وُجدتْ حقًّا، وهو أمر يدعو للارتياب بدرجة
كبيرة). إن المحادثة التحليلية لها قوانين أخرى، قواعد أخرى.
٩٧
وآمل أن أكون قد وضحت أن المعالجة السهلة لأفعال الكلام المحرَّف، وللكلام المؤسس
الذي يقضي عطلته، هي ما يفعله المحلل النفسي في التعامل مع الإحالة. وقد رأينا في
البداية كيف ناقش فرويد بطلاقة طريقته بشأن مختلف الوظائف الكلامية المتعلقة بالأمنية
والتفكير. ورأينا في مثال آخر من تاريخ الرتمان إدراكه الكامل للتضمين الخطير لاستجابته
المتنصلة من مناشدة الرتمان له بتقديم العون، ثم وقعتْ بعد ذلك، في تحليل الرتمان،
حادثةٌ أخرى على علاقة بالعهد الاستهلالي، بالمنجز الاستهلالي الذي قدَّمه الرتمان
لفرويد. وفي الواقع، يمكن أن تكون هذه الحادثة التي يمكن فيها، أخيرًا، حل عقدة
knot عُصاب المريض، عقدة قصته، كما يوضح لاكان في
Le mythe individuel du néverosé.
٩٨ وكانت هذه الحادثة فنتازيا الإحالة، حيث كان فرويد عطوفًا، ولم يكن المريض
مستمرًّا معه إلا لأنه كان يريد أن يتزوج من ابنته. وقد تم تدوين التاريخ الكامل لأسرة
المريض، قصة عائلته، في هذه الفنتازيا، وجاء الحل لفهم هذا التاريخ، هذه القصة، أثناء
تأويل حلم، رأى فيه بنت فرويد وفي وجهها قطعتان من الروث بدلًا من العينين. ما معنى هذا
الحلم؟ لم يكن يرغب في الزواج من بنت فرويد من أجل
عينيها
الجميلتين beaux
yeux، أو من أجل الحب، ولكن من أجل المال.
٩٩ المال؟ حسن، هذا هو الجانب الآخر من العقد التحليلي. لقد اغتنى فرويد بكل
تلك الفلورينات
florins [عملة مستخدمة في فلورنسا
وهولندا وإنجلترا. المترجم]، تلك الفئران، التي كان المريض يقدمها له: حين سمع المريض
مقدار ما يتقاضاه فرويد من أتعاب في الجلسة، «قال لنفسه»: «كل هذه الفلورينات، كل هذه
الفئران».
١٠٠ وهكذا يكرر الحلمُ، في شكل عرَضي
symptomatic مكثف، أمنيةَ المريض بالتحرر من
الالتزام باتباع قواعد العلاج: إذا تزوَّج من بنت فرويد، يبطل العهد الذي قطعه على نفسه
في لقائه الأول بفرويد، باسترداد كل تلك الأموال التي دفعها، كما لو كان يلغي كلماته
الخاصة. وبالنسبة للرتمان، تود حقيقته، كلامه المؤسس، أن تقول لفرويد: «أنت الرجل الذي
يقدم أحبَّ شيء إلى نفسه، ابنته، لتنقذ نفسك مني وأنا أعذبك بفئراني.» ويود أن «يسمع»
هذه الرسالة المقلوبة، هذا «التفسير» في خطاب الآخر، الذي ربما كان فرويد يقول له، إن
لم يكن قاله بالفعل: «أنت الرجل الذي يقدم أحب شيء إلى نفسه، خطيبته (وبالتالي
الإمكانية الحقيقة لأن تكون له بنات،)
١٠١ لمجرد أن تستردَّ الأموال التي دفعتها لي.» ومن ثَم يكون هناك ما يغرينا
بأن نسأل: هل علينا أن نرسي كل أفعال الكلام، الأفعال الأخرى المحرَّفة التي يبدأ بها
العلاج عملية الدفع، وقطع العهد، والموافقة؟
١٠٢ هل «ضمير المتكلم» و«ضمير المخاطب» في العقد التحليلي عنصران أساسيان؟ هل
هما الضميران المؤسسان للتحليل النفسي؟
قلت في مكان ما إن على المحلل أن يدفع ليحافظ على وظيفته، يدفع بكلماته؛ تفسيراته،
يدفع بشخصيته، بمعنى أنه في الإحالة يكون متخلصًا منها تمامًا. والتطور الكامل للتحليل
المعاصر يمثل نوعًا من إساءة الفهم لهذه النقطة، ولكن مهما يظن المرء ومهما يكن اللجوء
إلى الإحالة المضادة مثيرًا للذعر،
١٠٣ فإن عليه، في الحقيقة، أن يسلك هذا المسار. وهو ليس الوحيد مع شخص في موضعه
اقترف بحقه خطأً معينًا.
١٠٤