الفصل الرابع

لاكان والأدب١

مالكولم بويي
vorrei e non vorrei

أودُّ ولا أود

Mozart and Da Ponte: Don Giovanni
في أبحاث لاكان العلمية تحقق الأعمال الأدبية — أعني تلك الأعمال التي يقتبسها ويحللها ويشيد بها — قناعات معقدة تشبه تلك التي حققتها في أعمال فرويد. وتحقق، بالطبع، بعض المهام البسيطة أيضًا: مثلما فعل فرويد، يصور لاكان نفسه في إشاراته إلى الأدب باعتباره شخصًا يتمتع بمكانة تعليمية جليلة وطموح ثقافي كبير، ويستدعي إلى الذهن التراث الفني عن الشاهد النبوي الأوروبي من أجل حقائق السيكولوجيا الجديدة. لكن كلًّا منهما كان يتوق إلى الأدب بصورة مثيرة تجعله لا يستخدمه لمجرد التوثيق أو التوضيح. كان الأدب في حقل العلم كما كان خارجه، كانت الخبرة بالأدب دافعًا إلى التنظير العلمي وهاجسًا بما قد تكون عليه النظرية المترابطة. ويبدو، في الحقيقة، أن بعض الأعمال الأدبية ليست مجرد دعوة إلى نظريات العقل، ولكنها نظريات العقل بالفعل. وبالرغم من تلك الدوافع المشتركة إلا أن كلًّا من فرويد ولاكان يتعامل مع المواد الأدبية بأسلوب مختلف ويتبنى مقولات نظرية مختلفة عن الطريقة التي يمكن بها لتلك المواد أن تساعد البحث العلمي أو تشكله. وبينما كان فرويد يرى ضرورة العثور على النموذج الأسمى لسيكولوجيا إكلينيكية خارج العلم، في التراجيديات الأوروبية، نرى أن النموذج الذي يستخدمه لاكان غالبًا، ويبدو من تكرار التقدير له أنه يحتل المكانة الأسمى، هو النص الأدبي ذاته، باعتباره ملتبسًا وجمعيًّا plural بصورة لا تنضب.

كان لاكان، في تأكيده على الأدب كنصٍّ متعدد الدلالة، صاخبًا بينما فرويد يكاد يكون صامتًا، وسأبدأ مناقشة هذا التأكيد بتقديم تلخيص موجز لبعض الجوانب من تعليق فرويد، تلك الجوانب التي فضَّل لاكان ألا يتعقبها، أو فضَّل أن يتعقبها بأساليب ملتفة، لا يهتم فرويد في اقتباساته العديدة من الشعر بالنسيج اللفظي للأبيات التي وقع عليها اختياره، ولكنه يهتم بشكل الصياغة ككلٍّ، أو بإيماءة العقل الذي تسعى إلى التعبير عنه، أو بطرق التداعي، في تاريخ الحالات وتحليل الأحلام، التي تعيد ربط الكلمات، والعبارات التي تكونها، بالحياة النفسية العامة للفرد. وفي تفسير الأحلام، ذلك النص المحتشد بالإشارات إلى الشعر، تياران قويان في مناقشة فرويد يختزلان خصوصية اللغة الشعرية والثقافة التي يقدمها الشعر لمفسر الأحلام. وأول هذين التيارين تعليق فرويد على اللغة الطبيعية بوصفها لغة يتأصل فيها الالتباس:

لا حاجة بنا للدهشة من الدور الذي تلعبه الكلمات في تكوين الحلم. وحيث إن الكلمات هي النقط العقدية [knotenpunkt(e)] للكثير من الأفكار، فقد يعتبر الالتباس قدرها، والعُصاب (مثل الأفكار الاستحواذية والرُّهاب)، ليس أقل من الأحلام في انتهاز المزايا التي تقدمها الكلمات في التكثيف والتقنع. ومن السهل أن نوضح أن تشويه الأحلام يستفيد من إزاحة التعبير أيضًا (GW, II/III, 346; V, 340-41).
إن الشعر يذوب من المشهد بطريقتين مختلفتين، ولكنهما، هنا، مرتبطتان ببعضهما. إن التباسه، ونقطه العقدية، وبنيته المحكمة، ليست سوى شواهد موضعية عما تُقدمه اللغة بصورة متأصلة عمومًا. وبلا هوادة يستمر التكثيف والتقنع والإزاحة في العقل اللاشعوري، بصرف النظر عما تُقدمه اللغة من تلميح وإغراء. لم يعد الشعر يتأثر باللغة بالضبط مثلما لم تعد اللغة، بدورها، تتأثر بآلية التفكير اللاشعوري التي تبدو خرساء wordless. وبالإضافة إلى ذلك لا تتحقق هذه الهزيمة التي يتعرض لها الشعر بمجرد تركيز الضوء على تلك الآليات العقلية التي تتفوق عليه عمومًا، ولكنها تتحقق أيضًا بتقديم نشاط الشاعر وتأثير ما يقدمه من أعمال على القراء في صورة طيعة ومخففة على نحو كاريكاتوري، لقد ناقش فرويد في الفقرة السابقة العمليات التحولية المميزة للأحلام، وضرب بكتابة القصيدة مثلًا على «الأسلوب الانتقائي المحدَّد» الذي قد يؤثر به تفكير أي شخص على من يخلفونه:
إذا كان على القصيدة أن تلتزم بالقافية، فإن البيت الثاني من الثنائية يُقيَّد بشرطين: عليه أن يعبر عن المعنى المناسب، وأن يكون التعبير عن ذلك المعنى متوافقًا مع قافية البيت الأول. وليس هناك أدنى شك في أن أفضل القصائد هي تلك التي لا نلحظ فيها تعمُّد البحث عن القافية، وهي تلك التي تأتي فيها الفكرتان منذ البداية، بالتأثير المتبادَل، في تعبير لفظي يسمح بانبثاق القافية بتعديل طفيف (GW, II/III, 345-6; V, 340).

لماذا يبدو تكرار التعبير عن رأي «كلاسيكي» مألوف عن التقفية معقولًا على نحو يثير الفضول إلى هذه الدرجة؟ اختار فرويد أن يقدم نشاط الشاعر بوصفه بحثًا عن المعاني والقوافي «المناسبة»، واستبعد كل أثر لتعمد التقفية. إن الشاعر مقاول حليم مقتصد: مهمته تنظيم الالتباس وليس استثماره، والحيلولة بين تلك النقط العقدية المفردة، التي تمثل كلمات القافية، واكتساب قيمة دلالية إضافية، وترك الأفكار التي تؤثر على بعضها منذ البداية تأثيرًا لطيفًا متبادلًا تستمتع بانسجام نهائي هادئ. والشاعر من هذا الطراز ليس لديه اهتمام خاص بالالتباس، ويفتقر إلى أعمال الإثارة التخيلية، ويترك المسرح خاليًا لمن يستطيع التعامل ببراعة مع الالتباس، ولمن يتمتع بالقدرة على الإثارة البارعة ليدخل من جديد: اللاشعوري ذاته. وهكذا تكون درامية فرويد في تفسير الأحلام.

ويستمر التيار الثاني من التيارين اللذين ذكرتهما منذ لحظة، ويكمل عملية تدجين الشعر. إن الأحلام التي يناقشها كتاب فرويد، والتداعيات المصاحبة، تتخللها — ودون أن يكون هناك أي مجال للدهشة — مادةٌ «أدبية»: «وفي ضوء الدور الذي تلعبه النكات والاقتباسات والأغاني والأمثال، نجد أن مما يتفق مع توقعاتنا أن ذلك النوع من الأقنعة قد استخدم بمعدل هائل لتمثيل أفكار الحلم» (V, 354).٢ ولكن ليس هذا، للأسف، تفسيرًا طبقيًّا ناشئًا عن عادات الأحلام في فيينا، وتقدم النتفُ النصيةُ التي تتأرجح في عقول نيام تلك المدينة من بين المتعلمين، تقدم الفرص لعمل الحلم المبدِع دائمًا وهي فرص تتاح أيضًا، في نمط معصوم يساوي بين الجميع، لكل من يتمتع بالقدرة على فهم اللغة. وقد تقدم الكلمات المقتبسة، ومن ثَم أية كلمة مهما تكن منزلتها في تراتبية الثقافة، جسورًا أو تحولات (V, 341) في تنظيم الأحلام، ذلك التنظيم الداخلي المعقد. وتنتهي المرحلة الثالثة والأخيرة من تحليل فرويد لحلمه الخاص Non vixit [لم يعش] (V، ٤٢١–٤٢٥، ٤٨٠–٤٨٧، ٣١٥) باقتباس عن هانيه Heine من قصيدة Die Heimkehr («العودة إلى الوطن» The Homecoming):
فهمْتَني نادرًا
ونادرًا فهمتُك، في كل ما مضى
فقط حين نسقط في البذاءة
يفهم كلٌّ منا الآخر.٣
ويخبرنا فرويد أنها كانت تشير إلى «فنتازيا الطفولة التي اتضح أنها تمثل النقطة العقدية المتوسطة في أفكار الحلم» (V, 513). إن أبيات هانيه التهكمية المليئة بالحيل الصوتية ليست مرشحة بذاتها للمناقشة، حيث لا يوجد لها دور «عقدي» تؤديه: إنها جسر يعيدنا إلى الفطنة والتعقيد فيما يدعوه مرتين «نموذجه الرفيع للحلم» his schne(n) Traum كما تذكر الطبعة المحققة (GW, II/III, 424, 484; V, 421, 480).٤ إنها تُنهي الخاتمة الطنانة بتفسير أتيحت له الفرصة من قبلُ أن يجعل الكتاب المقدس، ويوليوس قيصر وهنري الرابع لشكسبير، واللص لشيلر، وفاوست لجوته، تشارك في بعض الأدوار الثانوية المتنوعة.٥ إن بعض الأحداث السعيدة في التنشئة والتعليم جعلت من الممكن بالنسبة لفرويد أن يُثري أحلامه وتداعياتها بالأباطرة والأمراء وأبطال الأدب من قاطعي الطريق، وليس هناك أي خطأ في اللذة التي يشعر بها حين ينظر إليهم كرفاق. وبالرغم من نخبوية elitism الافتراضات الثقافية عند فرويد، والحركة إلى أعلى التي من المتوقع أن يؤثر بها الأدب على نصه الخاص، يُسمَع دائمًا صوتٌ ديمقراطي قوي في تعليقاته على العقل الحالم: يستطيع عمل الحلم استهلاك أي شيء في طريقه، الشعر والثرثرة، الصعاليك والملوك، ويستطيع ملء الفجوات بأية «نتف أو رقع» في متناول اليد.٦ واللاشعوري هو النموذج الذي يعمل في مجتمع تتلاشى فيه الطبقات ولا يتمتع الشعراء بأي امتياز في ذلك، إلا أن الشعر لا يتعرض للإهانة حين يصبح غير ملموس في سيكولوجيا اللاشعوري عند فرويد: إنه بالأحرى صنع، بتعبير ليونل تريلنج Lionel Trilling، «جزءًا فطريًّا من المكونات الحقيقية للعقل».٧ ولسنا في حاجة إلى أن نتذكر أن نظريات فرويد العامة عن الأداء العقلي كان لها، بالتركيز المستمر على إنتاج المعنى وتحولاته، تأثير استثنائي مثير على دراسة الأشكال الشعرية.
يقتبس فرويد من هاملت الأبيات التالية ويطري عليها: «لا أجنُّ إلا والريح تتجه شمالًا-شمالًا-غربًا، حين تتجه جنوبًا أعرف الصقر من المنشار» (V, 444).٨ لماذا لا تكون أكثر الأحلام جنونًا شبيهة إلى حد ما بالأمير ذاته في جنونه الزائف، وتكتفي بإخفاء معناها الحقيقي تحت «عباءة من الفطنة والغموض»؟ يعود بنا نصُّ شكسبير، كما هو الحال بالنسبة لنص هانيه والكثير من النصوص المقتبسة عن الآخرين في تفسير الأحلام، إلى الوراء، إلى العالم الدلالي الثابت الذي قد يبدو للوهلة الأولى وكأن سطحه اللفظي المتقلِّب volatile يسعى إلى التدمير. استمعْ بإمعان إلى الحديث الجنوني الذي نطق به هاملت تسمعْ صوتَ الحكمة الشاملة. وفي المقابل، يطمح لاكان إلى الجنون مع هاملت وإلى أن يكون جمعيًّا بوعي ككاتب، سواء أكان ذلك بتقليد نصوص الأدب التي يقتبسها أم بالاستخفاف بها. وبينما يتحكم فرويد تحكمًا تامًّا في القدرة النصية لاقتباساته، يناضل لاكان لتحرير تلك القدرة من جديد، استجابة لأكثر مبادئ التحليل النفسي صرامةً، وحين يكتب لاكان في أعقاب فرويد عن التباس اللغة الطبيعية، وعن الكلمات بوصفها «نقطًا عقدية»، تحتلُّ استعانته بالأدب في واحدة من تلميحاته العديدة، أو في عدد منها موقعًا بارزًا، وكان الأدب وحده كفيلًا بتقديم الاكتمال والقيمة الضروريين لهذه المناقشة:
إن الكلمة ليست علامة، ولكنها عقدة دالة. وحين أتفوَّه بكلمة «ستارة rideau»، مثلًا، فإنها تدل طبقًا للعرف على موضوع قد يتنوع بطرق لا تُحصى طبقًا للغاية التي يدركها العامل أو التاجر أو النقَّاش أو عالم النفس الجشتالتي، فهي عمل، أو قيمة تبادلية، أو مشهد ملون، أو بنية مكانية. بالإضافة إلى أنها على مستوى الاستعارة ستارة من الأشجار، وعلى مستوى الجناس خرير ماء [rides] وضحك [ris]، ويمكن لصديقي Leiris معالجة هذه الألعاب اللغوية الغامضة أفضل من معالجتي لها، وهي حدود واقعي المقدَّر لي، أو شاشة تأملي في الغرفة التي أنزل فيها مصادفة، وهي بمعجزةٍ فضاءٌ يُطل على اللانهائي، أو المجهول على العتبة، أو على شخص وحيد في الصباح. وهي بالأفكار الاستحواذية الحركةُ التي تدل على وجود أجريبين Agrippine في مجلس الإمبراطور أو تحديق مدام دي كاستيل Mme de Chasteller ولوسيان لوين Lucien Leuwen يتراجع، وهي خطأً بولونيس Polonius الذي اصطدم به: «فأر! فأر! فأر ضخم!» وهي على مستوى الدهشة صرخة تعبِّر عن نفاد صبري، أو كلمة تعبر عن ضجري في فاصل من اللهو. ستارة! وهي أخيرًا على مستوى المعنى صورة ذهنية لمعنًى، يجب إزاحة النقاب عنه حتى نستطيع اكتشافه.٩ (١٦٦-١٦٧)
وفي فقرة من «مقال عن أسباب الذهان Props sur la causalité psychique» (١٩٦٤م)، يصل الهجوم العنيف على بعض النظريات العضوية عن الذُّهان إلى ذروته الأولى، وفي مواجهة الذين سعوا إلى تهميش العمليات العقلية ﻟ «المجنون»، والذين استخدموا بعض المفاهيم الهزيلة عن «الحقيقة» لإدانة العقول الخاطئة، عقول المجانين، أكَّد لاكان من جديد على أهمية تلك العمليات كموضوع للبحث العلمي عمومًا؛ سواء أكانت عاقلة أم مجنونة، طبيعية أم مرضية. والمسألة الحاسمة تتمثل في أن أنصار النظريات العضوية يتجاهلون باختيارهم أن الجنون، مهما تكن مصادره، طريقة من طرق التعبير عن المعنى: «إن ظاهرة الجنون لا تنفصل عن مشكلة الدلالة بالنسبة للكائن عمومًا؛ أي عن اللغة بالنسبة للإنسان» (١٦٦). ويرى لاكان أن أفضل ما يمكن أن يقوم به دارسو العقل الإنساني ممن يسعون إلى السيطرة على «مشكلة المعنى» هو التدريب على دراسة الأدب؛ لأن الأدب يعرض الوسط اللغوي الصعب الذي يتم فيه إنتاج المعنى ويصوره. وبينما يسعى الإكلينيكيون الذين يهاجمهم لاكان إلى تقويض الخطاب الذهاني بالتقليل من شأنه، يسعى لاكان بالعودة إلى حقل المعنى الأدبي الخصب، إلى أن يعيد إلى هذا الخطاب التحديد المتعدد العوامل overdetermination كشرط لا مفر منه.
يبعث لاكان بولونيوس قرب نهاية الفقرة السابقة، ولكنه كان في البداية أمام هاملت الرديء؛ بمزاجه الكئيب، ودعابته اللفظية، وفيض خُطبته العنيفة،١٠ والعقدة الدالة التي تحلها هذه الخطبة وتعيد عقدها — كلمة «ستارة» — هي، كما نتوقع، مثال تم اختياره «عشوائيًّا»، وهو مثال معقد تعقيدًا خاصًّا مما أتاح للاكان أن يتجول في تداعيات سريعة بين الصناعة والتجارة والفن والجنس والسياسة والعلوم السيكولوجية.
يوجد «الأدب» في شكلين أساسيين، وهو في الشكل الأول سجل للاستعارات والصور والتأثيرات اللغوية المبهمة١١ والمشاهد المؤثرة التي قد يعتمد عليها الكتَّاب والمتحدثون إذا أرادوا. ومن بين هذه المواد تحظى المشاهد المؤثرة باهتمام خاص هنا؛ ليس لأن بعضها يتردد صداه مع كلٍّ من بريتانيكوس Britannicus ولوسيان لوين وهاملت، في تعقيدات العاطفة الجنسية والسياسية، ولكن لأن بحث لاكان يقدم عمومًا بعض التلميحات الأخرى الحافزة حين يستدعي أبيات أجريبين، تلك الأبيات الشهيرة:
كلا، كلا، ولى شباب نيرون،
انتقلت إلى عبادة البلاط
حين اعتمد عليَّ في إدارة الدولة
حين أمرت بانعقاد مجلس الشيوخ هنا،
وحين تواريت خلف الستار،
كانت الروح تقرر مصير الجسد الهائل.١٢
(I, I)
يواصل لاكان لعبة البدائل التي نشأت عن كلمة «ستارة rideau»، ويعرض أول الشعارات الثلاثة لتدريب زائف للقوة السياسية، ويتنبأ بذلك المفهوم الخاص بالمعنى الذي تنتهي به الفقرة السابقة بوصفه كشفًا مستمرًّا.١٣ لكن ممارسي الطب النفسي والتحليل النفسي لهم، مثلما يلحُّ لاكان على تذكيرنا في هذا البحث وفي كتابات، سياساتهم أيضًا، وأنماط الولاء المتغير، وصراعاتهم على التركة، ومكائدهم، ونزاعاتهم، وأحلافهم السرية. يقدم راسين في إمبراطور روما Imperial Rome محترفي العلاج في صورة ساخرة وجارحة. وبالمثل، تضيف فنتازيا لاكان عن بولونيوس القاتل، وأدائه المشحون لصرخة هاملت «فأر، فأر!» بُعدًا آخر للكوميديا السوداء من السياق السياسي المباشر للبحث ككلٍّ: وتمثل المناقشة في معظمها هجومًا ينصبُّ على مشاعر هنري إي Henri Ey، وهو معلم سابق للاكان، وأستاذ بارع في الطب النفسي الفرنسي، ورجل له الكثير من الكلمات المؤثرة. وتقدم فقرة ستاندال التي يشير إليها لاكان، بالإضافة إلى احتوائها على الستارة المطلوبة والشخصية السياسية الخفية (إن مدام دي كاستيل «شديدة الحنق»، كما قيل للوسيان المرتبك بعد صفحات قليلة)، إشارة متطورة واضحة إلى أسلوب لاكان، الأسلوب الأدبي والمهني:
أغلقت السيدة الشابة نافذتها، ونظرت نصف مختفيةً وراء ستارة من الموسلين المطرز على شباكها. ربما كانت في الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين من العمر. رأى لوسيان في عينيها تعبيرًا عن الوحدة، هل كان تعبيرًا عن السخرية والبغض، أم إنها كانت مجرد شابة تنزع إلى رؤية الأشياء بهدف التسلية؟١٤
وقد استطاع المتلقي الأصلي ﻟ «مقال حول أسباب الذُّهان» أن يطرح بيسرٍ سؤالَ لوسيان عن أسلوب لاكان، ذلك الأسلوب الغامض المثير للنقاش؛ لأنه كان أسلوبًا لعب فيه الحنق والطيش وما يدعوه هو نفسه «سخرية، لا شك أنها محفوفة بالمخاطر» (١٦٠)١٥ دورًا بدا لعدد كبير من معاصريه أنه غير مناسب وغير مهني.

يظهر عدد كبير من المؤلفين في مواضع أخرى من بحث لاكان، منهم فونتيه وفولبير وشيلر وموليير ومونتيني وأفلاطون، وكلٌّ منهم، بمفرده، يضاعف المعاني الموضعية في خطاب لاكان ويمده بالعُقَد. ويتحرك موكب من المؤلفين حركة سريعة في النص، وتنشأ بينهم في حركتهم علاقات لا تاريخية، تخلق في المناقشة تيارات من التداعي، تيارات قوية ومتداخلة وجديرة بأن نتعلم منها. إن لعبة الربط بين مؤلفين سابقين وفقرات مقتبسة من نصوص قديمة، تدل، ضمن أشياء أخرى، على مسئولية أخلاقية شاقة يفترضها المنظِّر التحليلي ويتحملها: صار وصيًّا على ما دعاه لاكان فيما بعدُ «النظام الرمزي»، وداعمًا للتعقيد والإدراك الذاتي الحرج في علم سيكولوجي. وفي خدمة هذه الأهداف، صار التراث الأدبي — واستمرَّ في أبحاث لاكان في الخمسينيات — مخزنًا لا ينضب للنوى النصية أو «النقط العقدية».

ذكرتُ فيما سبق أن هناك دورين للأدب، ويتمثل الدور الثاني في أن كتابات لاكان تسعى إلى أن تصبح ما تشاهده، وأن تنبثق مزهرةً وتتأمَّل زهور البلاغة عند الآخرين. ويركز هنا «كتابيا» تركيزًا استثنائيًّا على بعض الصور البلاغية في تنظيم أفكاره قبل أن يبدأ في استخدام المصطلحات التقنية الكلاسيكية بفترة طويلة في تعليقاته على «بلاغة اللاشعوري»، وقبل أن يعلن أن كوينتليانوس Quintilian [ماركوس فابيوس كوينتليانوس: بلاغي روماني عاش في القرن الأول الميلادي، وألَّف رسالة عن البلاغة. المترجم] سلفُه الفكري وعرَّابُه.١٦ يبدع لاكان ضد المبادئ الفظة، مبادئ الالتزام والتسلسل enchaînement. ومن المتوقع أن ينظر إليها المنظِّر التحليلي نظرة عادية، وكأنها لازمة استهلالية (C’est par… C’est par) تنأى بنصه عن البعد الزماني للمناقشة المترابطة، ولكنه لا يلغي إحدى النتائج المنطقية المتوقعة لمجرد أن يُضفي على نصه حركة خاصة تدفعه إلى الأمام. والتكرار الاستهلالي anaphora، وهو أبسط الأنساق اللغوية، وربما كان من أكثرها شيوعًا، يطور هنا جوهره الخاص وطاقته المنطقية المضادة، بالإضافة إلى أنه يدفع القارئ برفق بعيدًا عن افتتاحية الجملة إلى جوهر الافتراض. ويلعب لاكان بحرف الجر par بأسلوب يشبه إلى حدٍّ ما أسلوب رامبو في اللعب بحرف الجر à في قصيدة ‘Dévotion’ (‘A ma sœur Ce… soir à Circeto… A tout prix’…). ومن الكلمات التي تعقب par: مثال exemple وعرف convention واستعارة métaphore ونكتة calembour ومرسوم décret وفرصة occasion ومعجزة miracle ومخالطة hantise ونداء interjection. وتخضع هذه الكلمات لسمة تركيبية متكررة من النوع الذي يُستخدم غالبًا ليخلق مظهرًا من مظاهر التكافؤ بين مصطلحات قد تبدو متباينة بدون ذلك، لكن الوثبات والانحرافات بين المقولات المنطقية تأتي في هذه السلسلة مفاجئة بدرجة تجعل تركيب الجملة لا يستطيع أن يتحكم فيها بمفرده. ومرة أخرى تلفت عبارات لاكان الأنظار، تلك العبارات المتضاربة، إلى الأجزاء الأكثر ارتباطًا بالعرف في فرضياته. وهكذا يتماس هنا تماسًّا لحظيًّا، في اللعب بين الافتتاحيات، النظام الاجتماعي والنظام الإلهي («عرف» – «معجزة»)، والبنيات اللغوية مع الأفعال الذهنية («الاستعارة méprise» – «السهو»)، والفوضى مع الالتزام بالقانون («نكتة» – «مرسوم»)، والإدراك المشتت مع الإفصاح الدقيق («مخالطة» – «نداء»)، والضرورة مع الظروف («مرسوم» – «صدفة»). وهنا تكتسب القدرة الدلالية لتلك العبارات الجاهزة («صدفة» par occasion، ﺑ «معجزة» par miracle) اندفاعًا جديدًا عن طريق العدوى. وباستخدام مصطلحات للتعبير عن تمييز مألوف في علم البلاغة، يمكن أن نصف هذه العملية — وكانت في عام ١٩٤٦م جديدة على التحليل النفسي، ولم تكن جديدة على الأدب — ونقول: صارت الأنساق اللغوية schemata verborum موضعًا متميزًا لصور الحكمة figrae sententiarum. وقد تم تطويع النمط التركيبي الذي يهيئ القارئ لانبثاق فكرة جديدة بحيث يصبح جديرًا بأن يكون منبعًا للأفكار.
إن إطلاق لاكان لكلمة «ستارة rideau» ينتهي بأسلوب واعٍ وبارع و[متعذر الفهم] en abyme: وهل هناك طريقة لإزالة هذا الكتالوج المكتظ بالستائر من المشهد أفضل من أن نسدل عليه … الستارة؟ ويبدو أن مثل هذه التأثيرات «الأدبية» التي تتراكم بكثافة تشغل، بالإضافة إلى التلميح الذي ناقشته منذ برهة، مناطق كاملة في أعمال لاكان تحت كلمة الأدب تقدم لكل من يدرس تلك الأعمال إحساسًا خاصًّا بالتميز المهني إذا كان يتمتع بخلفية أدبية بالإضافة إلى الخلفية التحليلية أو الفلسفية. وسوف أبرهن على أن مبرر «الأدب» اللاكاني محدَّد بصرام، وقبل ذلك سأقدم بإيجاز بعض الطرق الأخرى التي يطري لاكان بها الأديب ويسعى إلى كسب إطرائه وتجعله يبدو، وهو يستنبط نظريته، أنه يمجد التحليل النفسي والأدب تمجيدًا مشتركًا.
إن «دارس الأدب» — لو سُمح لي باختصار العدد الهائل من المشتغلين بالدراسة النظامية للأدب — سيجد أنه في حاجة إلى سنوات إذا اختار أن يقرأ كتابات قراءةً دقيقة، وستكون هناك مهام عديدة أمام صائد المصادر ودارس أنساب الأفكار وعالم الأصالة الشرعي the forensic scientist of originality. وبالإضافة إلى العدد الهائل من أسلاف لاكان المشهورين، يوجد عدد لا يُحصى من اللاكانيين قبل لاكان؛ الكتَّاب الذين توقعوا بطريقة من الطرق جانبًا من جوانب النسق الذي قدمه. وربما نكتشف، مثلًا إذا تأملنا مرة أخرى «مقال حول أسباب الذُّهان»، أن أحد الآراء الأساسية التي كافح لاكان من أجلها؛ الجنون متأصل في تفكير الإنسان، والعلماء العقلاء الذين ينكرون هذه الحقيقة يتصرفون بمعنًى (آخر) ﺑ «شكل جنوني»، عبَّر عنه باسكال بدقة لا مثيل لها في أفكار Pensées: «إن البشر مجانين بالضرورة بدرجة تجعلهم يدَّعون جنونًا من نوع آخر ينفي عنهم الجنون.»١٧ ويمكن، أيضًا، العثور على مفهوم لاكان (وفرويد) عن الكلمة باعتبارها «عقدة» دالة في رسالة جرسيان Gracián التي عنوانها الدقة وفن الإبداع Agudeza y arte de ingenio (١٦٤٨م): «الكلمة تشبه الهيدرا الصاخبة لأنها، بالإضافة إلى دلالتها الخاصة والمباشرة، ينبثق منها، إذا قطعها المرء أو بعثرها، معنًى دقيقٌ واضح لكل مقطع، وتصورٌ لكل نبرة.»١٨ ويظهر الكاتبان بالاسم في بعض الأبحاث التالية: اقتبس لاكان الفكرة pensée ذاتها في «الوظيفة والمجال [وظيفة اللغة والكلام ومجالهما في التحليل النفسي. المترجم] Fonction et champ» (٢٨٣). وأثنى على باسكال في «سؤال أولي عن علاج ناجع محتمل للذهان D’une question préliminaire à tout traitement possible de la psychose (576)؛ لأنه عزل مفهوم «الذهان الاجتماعي»، ويلخص حدثًا من El criticòn (الناقد The Critic) في «دور التحليل النفسي في علم الجريمة» Fonction de la psychanalyse en criminologie (١٤٧)، بينما رحَّب في «الشيء الفرويدي La Chose freudienne» بجرسيان ولاروشفوكو ونيتشه وفرويد بوصفهم كيانًا سماويًّا في تراث الأخلاقيين الأوربيين. (٤٠٧)
لا نعرف مقدار ما كان يدين به لاكان لجرسيان وباسكال في عام ١٩٤٦م، ولا يوجد لدينا أساس معقول يمكن أن نعرف به تأثيرهما، إن كان لهما تأثير، على أبحاثه. وإجابة مثل تلك الأسئلة المفردة لا تُلقي، بحال من الأحوال، ضوءًا على أصول النظرية التحليلية، أو على تماسكها، أو على قدرتها التفسيرية، ولا يَعني هذا أن دارس الأدب لا ينجز سوى المهام الحقيرة، وتأخذنا الأسئلة العامة عن العلاقة النصية بين المفكرين الأحدث وأسلافهم، حتى لو تم التعبير عنها في لغة التناقض الساذج بين التشابه العرَضي والانتحال المتعمَّد، يأخذنا إلى ما يمكن أن ندعوه دراما المديونية the drama of indebtedness. والتحليل النفسي بالطبع، هو بكل دقةٍ نظرية المديونية، أو «الإبطاء belatedness». إنها حتى اليوم النظرية الوحيدة عن الذات التي تتمتع بالقدرة على التحليق. وهو في الوقت نفسه، في تاريخه السياسي الخاص، يؤدي تلك الدراما في سلسلة من الأحداث الرهيبة. وتنتشر في نص كتابات، مثلما هو الحال في نص تفسير الأحلام، تساؤلات قلقة من قبيل «كم عدد الأسلاف المسموح لي أن أنسب نفسي إليهم؟» و«إلى أي حد يمكن أن أوفر لهم وجودًا طيبًا؟» عدد هائل (أو بصورة رائعة) وتصبح قصتي مجرد حكاية قديمة؛ أو عدد ضئيل، وهنا تبدو القضايا المثارة وكأنها لا تتمتع بقداسة القِدَم بحيث تكون جديرة بأن ننظر إليها باهتمام كبير. إن دارس الأدب، كما توضِّح أعمال هارولد بلوم، في إسهاب رائع، في وضع يجعله يستطيع تحديد صوت منافسي فرويد تحت الكتالوج السخي لمبادئ الأحلام، المبادئ القديمة والحديثة، التي يستهلُّ بها تفسير الأحلام، وفهم الآلام الخاصة لمفكر يأمل في أن يصبح نقطة الالتقاء بين أفكار فرويد وسوسير وهيجل، ويأمل مع ذلك أن يبقى حرًّا إلى الأبد وينأى بنفسه عن وصمة الاشتقاقية أو الانتقائية.
وثَمة مهمة أخرى طويلة الأمد تنتظر دارس الأدب الذي يتمتع بالكفاءة كمؤرِّخ للفكر ويتمتع بالمهارة في تحليل النصوص تحليلًا نقديًّا. وهذه المهمة، التي لم تقع حتى الآن عمومًا إلا في أيدٍ تفتقر إلى المهارة، تتمثل في وصف أسلوب لاكان النثري وتحليل ذلك الأسلوب، وقد نُظِر غالبًا إلى أسلوبه، «المثير للوهلة الأولى» بالنسبة لمعظم القراء، طبقًا لرأي جورج موني Georges Mounin،١٩ باعتباره إساءة لبعض مبادئ اللياقة في العلوم الإنسانية، المبادئ غير المدونة، وتم تكريس معظم المناقشات، التي دارت حول كتابات لاكان ويُفترَض أنها أسلوبية، لتعزيز تلك المبادئ ضد أي هجوم آخر، غير أن انعدام اللياقة indecorousness من منظور لاكان له أسلاف، ويصبح قابلًا للتحليل بمجرد إدراكه من المنظور الذي يقدِّمه تاريخ النثر الأوروبي، وما زال اللاتناسق والغموض والغرور في كتابات لاكان يصدم بقوة بعض المعلقين الذين بحثوا فيها وفشلوا في العثور على النثرية اللطيفة التي اعتادوا عليها في الدوريات العالمية للتحليل النفسي، وتبدو في الحقيقة وكأنها ناجية من العالم المفقود، عالم التأنق الغزير. وتحتوي الفقرة التالية من «تدمير الذات وجدل الرغبة في اللاشعوري الفرويدي» Subversion du sujet et dialetique du désir dans l’inconscient freudien (١٩٦٠م) على صورة دقيقة لعبارة فرويد «حيث كانت الهو، تكون الأنا» Wo Es war, soll Ich werden:٢٠

بيانٌ يتَّهم نفسه، عبارة تتبرَّأ من نفسها، جهلٌ يبدِّد نفسه، فرصةٌ تضيِّع نفسها، ماذا يتبقى هنا سوى الآثار اللازمة لهجر الكينونة؟

يقدم لنا حلم يصفه فرويد في «تأملات في مبدأي الوظيفة العقلية Formulations on the Two Principles of Mental Functioning»، بكل الشفقة التي يمكن أن تستثيرها صورة أب ميت يعود شبحًا محاصرًا، كما يبدو في الجملة التالية: «لم يكن يعرف أنه ميت.»
تناولت من قبلُ الذريعة التي تقدمها هذه الجملة لتوضيح علاقة الذات بالدال، وهي علاقة تتجسد في بيان (énonciation) يهتز بالتردد الذي يرتد إليه من عبارته (énoncé) الخاصة.

إذا كانت صورة الأب الميت لا تنجو إلا لأن أحدًا لم يخبره بالحقيقة التي لا يدركها، إذن فماذا يمكن أن نقول عن ضمير المتكلم الذي يعتمد عليه هذا الناجي؟

لم يكن يعرف … أكثر وكان عليه أن يعرف. أوه! نأمل ألا يحدث هذا أبدًا! بدل أن أعرِّفه، أموت. وهكذا أكون هناك، هناك حيث كان: من عرف، إذن، أنني كنتُ ميتًا؟

كينونة اللاكينونة؛ أي كيف آتي كذات إلى المشهد، مقترنًا بالتشوش الهائل لناجٍ حقيقي، تشوش ينتهي بمعرفة الذات، وخطاب يعزز فيه الموتُ وجودَه.٢١ (٨٠١-٨٠٢)
إن عبارة «حيث كانت الهو …» يتم تخصيبها هنا بالتهجين بفرضية «مات أبوه حقًّا، ودون أن يعرف» في مقال فرويد «تأملات في مبدأي الوظيفة العقلية» (١٩١١م) (XII, 22٢٢ وتكتسب الأشكال الهجينية المنبثقة عنها بعض الآثار الهيجلية المكملة.
وقد يبدو في البداية أنه يمكن أن تتحقق صفقة آمنة على أساس هذه الفقرات بمجرد فحص «المصادر» الفرويدية والهيجلية، وخاصة إذا كان البحث، عمومًا، يطور مفهومًا عن رغبة تدمج اشتهاء Begierde هيجل ورغبة Wunsch فرويد وتضعهما في المواجهة. وبينما يقتبس لاكان من فرويد بدقة، فإن فينومينولوجيا هيجل يؤثر تأثيرًا خفيًّا ومستمرًّا على نصه. ويمكن أن ننظر، مثلًا إلى جملته الأخيرة — «خطاب يعزز فيه الموت وجوده» — باعتبارها تذكيرًا قويًّا بالفينومينولوجيا، تذكرنا بكلام هيجل عن الموت، كما في الفقرة التالية:
إن حياة الروح ليست الحياة التي تجفل من الموت وتحافظ على نفسها بعيدًا عن الدمار، ولكنها بالأحرى الحياة التي تتحمله وتبقى فيه. إنها لا تكتسب حقيقتها إلا حين تجد نفسها في التمزق التام.٢٣

وتذكرنا بكلام هيجل عن حتمية القوة العامة في اللغة الإنسانية:

إنهم يعنون «هذه» الورقة الصغيرة التي أكتب — أو بالأحرى التي كتبتُ — عليها «هذه»، لكن ما يعنونه غير ما يقولونه. إذا أرادوا بالفعل أن يقولوا «هذه» الورقة الصغيرة التي يعنونها، إذا أرادوا أن يقولوها، يكون الأمر مستحيلًا؛ لأن هذه الحسية التي يعنونها لا يمكن الوصول إليها باللغة، اللغة التي تنتمي إلى الشعور؛ أي إلى ذلك العالم الأصيل.٢٤

وقد كُثِّفتْ واكتسبتْ طرازًا جديدًا في التصوير اللاكاني المميز للذات الإنسانية المنقسمة: الذات (أشبه ذاتًا) التي هي أثر من آثار اللغة، أو حدث فيها، وهي بتلك الصفة تشبه شبح الموت بقدر ما تشبه «الروح» في تعليق هيجل، ويتم استدعاء هيجل بصورة رائعة لتذكير التحليل النفسي بدقةِ اكتشافاته التراجيدية الأولى وكثافتها.

إن لاكان، بالتناوب، سيدُ خادمين وخادمُ سيدين في الديالوج الذي يرسِّخه بين فرويد وهيجل، ويمكن النظر عمومًا إلى إلحاحه في اللعب على «ضمير المتكلم» Je في الفقرة باعتباره مراوغة بين الأنا الفرويدية (Das Ich) و«أنا Ich» الناطقة التي يصور بها هيجل غالبًا أوصاف الوعي الذاتي. وهنا تبدو الأنا الفرويدية في دورها المألوف كخصم مجادل: الأنا ميتة وتأبى الاعتراف بموتها، ويجب إقناعها بموتها (que Je meure) وبالتفكير الضلالي الذي ازدهرتْ عليه، وربما لا يتم بعثها إلا بشروط الإذعان، تلك الشروط المحفوفة بالمخاطر.٢٥ وفي عملية الإقناع تصبح الأداة المتحركة جدليًّا؛ أي «الأنا Ich» الهيجلية حليفة لاكان ضد الأنا الخاملة والمغتربة في تراث التحليل النفسي، ويرى هيجل أن «ضمير المتكلم» الناطق لا يستطيع الهروب من قَدَر «قطعة الورق» المنطوقة:
يُسمَع «ضمير المتكلم» الذي يعبر عن نفسه أو يُدرَك، إنها عدوى مر منها مباشرة إلى الانسجام مع أولئك الذين يمثل وجودًا حقيقيًّا بالنسبة لهم، وهو وعي ذاتي عام. إن إدراكه أو الاستماع إليه يعني أن وجوده الحقيقي يضمحلُّ، يرد أو آخريته its otherness إلى ذاتها، وهذا هو وجوده الحقيقي: أي بوصفه الآن وعيًا ذاتيًّا، وبوصفه وجودًا حقيقيًّا، إنه ليس وجودًا حقيقيًّا، ولكنه يصبح وجودًا حقيقيًّا في هذا التلاشي.
[und eben diB ist sein Daseyn, als selbsbewuBtes Jetzt, wie es da ist, nicht da zu seyn, und durch diB Verschwinden da zu sryn.] ٢٦

وقد نظنُّ أن الجدل بين التلاشي والظهور مرة أخرى، وبين الوجود الحقيقي والوجود الزائف، في مثل هذه الفقرات أثَّر على لاكان ليس فقط لأنه كان يتماس معه فلسفيًّا، ولكن لأنه، أيضًا، حُفِظ في أنماط تركيبية «جدلية» لاذعة. وقد يبدو باقتفاء ما خلفته صدمات الإنجاز الأسلوبي لهيجل في كتابات لاكان، أننا نقبض بقوة على هذه الفقرة من «تدمير الذات». لنتأمل، مثلًا كلمات هيجل الختامية، والنصَّ الأصلي الذي اقتُبستْ عنه أيضًا. إن مراحل الجدل التي قُسِّمتْ بسهولة بين جمل منفصلة، في موضع آخر من الفينومينولوجيا، تُقدَّم هنا، غالبًا، كأعضاء في فرضية واحدة معقدة، أعضاء يعتمدون على بعض بشكل متبادَل. وبمجرد قراءة الجملة، تستعير، على الأقل، الأمورُ التي قد يُظَن أنها تقتصر على التبادل — بصرف النظر عن وجودها أو عدم وجودها، حضورها أو غيابها — من نحوها مظهرًا من مظاهر ضرورة التبادل. وهنا لا تقدم البنية التركيبية دفاعًا منطقيًّا، ولكنها تقدم دفاعًا دراميًّا عن عملية المناقشة التي يقوم بها الجدلي. ويوجد تكيف مماثل بين المناقشة وتركيب الجملة في سؤال لاكان: «ماذا يتبقى هنا سوى الآثار اللازمة لهجر الكينونة؟» وبالطبع، ليس علينا إلا أن ننظر إلى الكلام اليومي لنجد أمثلة تركيبية شبيهة تؤدي بعض أغراض الإقناع من ذلك النوع. ويزخر الأدب الخيالي بجمل، كما هو الحال بالنسبة لجمل لاكان، يستحيل فيها الفصل بين الحي والميت:

دائمًا، في كل ساعة، هكذا بلا انقطاع
على حياتي أن تنتهي، وتبدأ
في هذا الموت العائش سُدًى.٢٧
(Scéve: Délie, 267)
عالمُ موتٍ، باللعنة
خلق الربُّ الشرَّ؛ لأن الشر حسن بمفرده
حيث تموت الحياة كلها، يعيش الموت، وتنسل الطبيعة
ضالة كل الأشياء المهولة والمذهلة.
(ميلتون: الفردوس المفقود، II, 622–25)
كانت البسمة على فمك أموَتَ شيء
حية بما يكفي لأن يكون لها القدرة على الموت.
(هاردي، «أنغام محايدة»)
إلا أنه بالرغم من حقيقة أن مثل هذه التأثيرات التركيبية — التي أتاحت للاكينونة أن تضع بصماتٍ متنوعةً على الكينونة لتُرى وتُسمع في الخطاب — كانت متوفرةً أمام لاكان بدون اللجوء إلى هيجل، إلا أن الدرس الأسلوبي في الفينومينولوجيا كان شيقًا للغاية. كان، هنا، كتابًا صوَّر الموت الحي والحياة الميتة كموضوعين أصيلين بالنسبة للوعي الإنساني، وكان تركيب الجملة يمثل فنًّا تصويريًّا متحركًا لشعور يمكن القبض عليه بسهولة، إنه كتاب لم ينأَ بنفسه عن الغموض والتعويذ في السعي وراء أهدافه الفلسفية، وقد بدا وكأنه يتنبأ في وضوح استثنائي بدرس أساسي من دروس التحليل النفسي: إن الحس الإنساني بالنفس تلفيق مضطرب نشأ تحت ضغط الآخرين والآخرية التي لا يمكن اقتلاعها؛ أي إنه نشأ تحت ضغط الشفرة الاجتماعية والعرف المجسَّد.
إلى أين يأخذنا هيجل، كمصدر للمفاهيم أو كتأثير أسلوبي، في فهم كيفية قراءة كتابات؟ أظنُّه يأخذنا إلى أبعد مدًى، بشرط أن نتأمَّل مقاومة لاكان بصورة متوازية مع حماسه. يستخدم لاكان مجموعة من الحيل البلاغية لعزل «تأثير هيجل» في كتاباته، وكسر ذلك التأثير، والتبرؤ من اللولبية الجدلية العليا التي تقترب بها الروح، في الفينومينولوجيا، من واقع المعرفة المطلقة.٢٨ وتتضمن الفقرة التي ناقشتها أقوالًا مأثورة وشبه توراتية بينها القليل من الروابط السببية الواهية. إن الحذف والإضافة واللعب بالكلمات والمفارقة والالتباس تجعل الأنظار تركز على كل فقرة من هذه الفقرات كوحدة مفردة، وحدة معنًى، وقد تخلق بعض الكلمات المتكررة (أو أشباهها ومرادفاتها) نمطًا مضطربًا من الروابط الجانبية بين الوحدات: سقوط الكينونة choir de l’être – فقيد défunt – موت mort – ليتني أموت que Je meure – كنتُ ميتًا J’étais mort – الموت la mort … إلخ. وتضيف علامات التعجب وعلامات الاستفهام والتركيب غير المتسق للجمل و«الأسئلة» التي تصدر عن عوامل ذهنية مجسدة ولا تنتهي بعلامات الاستفهام تضيف تشويشًا في سير المناقشة، وفي الحركة إلى أعلى وهي حركة محبطة تمامًا. وتظهر العبارات المأثورة ظهورًا مفاجئًا، وتبدو وكأنها بدون دافع، وتُستخدم هنا بعض الحيل؛ أعني تلك الحيل التي نتوقع ألا يكون لها أكثر من وظيفة توضيحية طارئة في الخطاب النظري، تُستخدَم بكثافة لدرجة أنها تسود افتتاحية النص وتعرِّض عملية السعي وراء المعنى لمنعطفات ومعوقات لا تنتهي. وهذه الحيل هي الأدوات المتاحة أمامنا لمواكبة التفكير في غياب المناقشة المدعمة والجمل المنمقة المسهبة في الأسلوب الهيجلي (أو في أي أسلوب آخر). يجري تفكيرنا على نحو متقطع، في وسط لفظي مشوش وثاقب وحافل بالحكم. وربما يوصف نثر من هذا القبيل بأنه «باروكي» baroque. ويبدو مصطلح «الباروكي»، بتعريف أدق بكثير مما يستخدمه المعلقون على أعمال لاكان، أولئك المعلقون الذين يكثرون من استخدامه، يبدو جديرًا بالاهتمام.
تحدث موريس كرول Morris Croll، في مقاله الريادي الرائع عن «الأسلوب الباروكي في النثر» Baroque Style in Prose، تحدَّث، بتمجيد له ما يبرره، عن حركة جديدة في النثر الأدبي في أوروبا، ويرى أن تلك الحركة بلغت ذروتها حوالي عام ١٦٣٠م:
ازدرتْ [تلك الحركة] الرضا والدماثة والوفرة والخواء والسهولة، وتعرضت أحيانًا لتأثير التحريف والالتباس حتى تتجنب تلك الصفات، التي لم تكن ترى أنها تمثل أخطاءً بشكل دائم، وفضلت تلك الأشكال التي تعبِّر عن طاقة العقل وجهده في السعي إلى الحقيقة على الأشكال التي تعبر عن الإحساس القانع بامتلاك المتعة، ولم يحدث ذلك بدون رماد وبدون حرارة. وباختصار، صار موضوع الفن هو تحركات الأرواح لا سكونها.٢٩
ومن الفقرات التي اختيرت لتوضيح «الأسلوب المقتضب curt style أو stile coupé»، كتب كرول:
إنهم لا يتحركون حركة منطقية، يقولون في النهاية ما كانوا عليه في البداية. إن تطورهم كله باتجاه تحقق خيالي أكثر حيوية، استعارة تدور، إذا جاز التعبير، لتعرض مختلف جوانبها، تبرق أضواء سلسلة من الاستعارات، أو تكشف حلقة من «النقط» طاقة الاستيعاب الفردي في عقل الكاتب.٣٠
ومع أنه ليس من الدقة أن نتكلم عن «استيعاب فردي» يشق طريقه في الفقرات الأخيرة التي اقتبستها من لاكان، إلا أن الملاحظات الاستعارية الثاقبة لكرول عن الاهتمام ﺑ «النقطة» والاستعارة اللتين تميزان بصورة واضحة طبيعةَ التفكير في الكتابة «الباروكية» التي تشجع لاكان على الإنجاز. إنه يتخلى عن لغة اليقين الهادئ التي يختارها غالبًا زملاؤه ومعاصروه في التحليل النفسي ليكتبوا بها (حتى حين يعبرون عن شكوكهم) ويستخدم بدلًا منها لغةً تنزع للشك، لغةً ساخطةً وخطرة. إن كتاباته لا يدفعها أيُّ حافز إلى الصعوبة وعدم الترابط، ولكن يدفعها حافز، صار أمرًا أخلاقيًّا، إلى أن تكون مدهشة.٣١
وإذا نظرنا إلى الكُتاب الباروكيين الذين ذكرهم لاكان بالاسم كأسلاف له، فسوف نجد أن حماسه لجرسيان يماثل حماسه لجونجورا ويعادله إلى حد ما: إن تقاليد الكونسبتزمو conceptismo والكلترنيزمو culternismo التي تصادمت بقوة هائلة في إسبانيا في أوائل القرن السابع عشر، تتصادم من جديد في كتابات لاكان.٣٢ ويرجع تقدير لاكان لتقاليد الاتجاهين إلى الصعوبة التي يحضان عليها وإلى عدائهما الواضح لرذيلة التفكير في «الحس السليم». وتتأرجح الصعوبة في يدَيْ لاكان بين تركيب الجملة والصوت، بين المجاز والنسق، بين فكر مصاب بالغرور ونسيج لفظي يحتشد بالتلميح. إنه ينتمي بالمزاج إلى سنيكا حين يتعامل مع تركيب الجملة، ويتحول إلى جملة شيشرون حين تتطلبها الوصية التي تقول «قلْ دائمًا شيئًا آخر». (٨٣٧)٣٣ ولا ينبغي لنا أن نبالغ في التركيز على هذه المقارنات، خاصًّا حين تضخم تقمص لاكان نفسه لعباقرة أوروبا الراحلين تضخيمًا سطحيًّا، لم تمسَسْه سخريته الشاملة. وكتابات لاكان ليست جيدة في كل الأحيان حتى بمعاييره الخاصة غير المعتادة. إن وسائله المتأنقة تتأثر أحيانًا بمجلات الأدب المدرسية وبتصوراته عن مجتمع طُلابي مجادل، وتقترب توريته ومواربته من التفاهة أحيانًا. يُطل كوينتليانوس عبر الزمن، ونصادفه في كتابات في عدد من القوائم الحماسية لصوره البلاغية، وربما يأمُل في تحذير لاكان بقائمة من الرذائل التي قد تختفي في تلك الحيل: ويمكن مقابلة كلٍّ من accismus، والكناية metonymy، والاستعارة المدهشة catachresis، والتهكم antiphrasis، والمجاز المرسل hypallage، والإثبات بالنفي litotes عند لاكان (٤٦٦)، بعد تأمل كتاباته، بالمصطلحات التالية:
anoiconometon, cacosyntheto, cumulatio, nugatio, periergia, scurra.٣٤
وأقل ما يمكن أن يضطلع به دارس الأدب الذي كنتُ أُعدُّ له برنامجًا هو تحليل الطرق التي تضل بها كتابات لاكان، وتسيء إلى أفكاره، وتفشل في الوصول إلى المفهوم التحليلي المعقد الذي تطرحه تعاليمه عن الحقيقة vérite.٣٥ ولكن المهمة الأكبر التي تقع على عاتق هذا الدارس، وخاصة إذا كان أسلوبيًّا، هي تحديد نوع الكتابة التي يكتبها لاكان والقيام بتحليل تفصيلي لعمليات صناعة المعنى. ولا يمكن لهذا التحليل بمفرده أن يقدم وسيلة لاختبار الترابط في نظرية لاكان، لكن فهم تلك العمليات — والقدرة على إدراك الفرق بين أساليب المناقشة المترابطة منطقيًّا والمضادة ببراعة للترابط المنطقي — مطلبٌ أساسي لكل من يريد ابتكار مجال لوضع اختبارات مناسبة لتلك النظرية.

وربما نظنُّ أن عملًا من هذا القبيل يقدِّم لدارس الأدب ذروة الأدوار التي يمكن أن يقوم بها في ميدان التحليل النفسي، ولكن ربما كان لاكان أكثر إغواءً. وربما نرى أفكاره عن الأدب والمشتغلين به في أكثر أشكالها خداعًا في الفقرة التالية من «الوظيفة والمجال»، وقد نوقشت كثيرًا وتنعم الآن بما يشبه الاعتراف:

اللاشعوري هو ذلك الفصل من تاريخي الذي يتميز بالبياض أو الاستغراق في الزيف: إنه الفصل الخاضع للرقابة، ولكن من الممكن إعادة اكتشاف الحقيقة، إلا أن قدرها ينتقص عادةً في مكان آخر. وبالتحديد:

  • في الآثار: هذا جسدي؛ أي النواة الهستيرية للعصاب، تلك النواة التي تكشف فيها الأعراضُ الهستيرية بنيةَ اللغة، وتحل شفرتها كنقش يمكن تحطيمه بمجرد اكتشافه دون خسارة تُذكَر.

  • في الوثائق الأرشيفية: إنها ذكريات طفولتي، مستغلقة كتلك الوثائق حين لا أعرف مصدرها.

  • في التطور الدلالي: إنه يناظر عائلة الكلمات وقبول المعجم الخاص بي، كما أنه يناظر أسلوبي في الحياة ويناظر شخصيتي.

  • في التراث أيضًا، وحتى في الخرافات التي تحمل تاريخي بشكل بُطولي.

  • وأخيرًا في البقايا التي تُبقي عليها التشوهات اللازمة لربط الفصل الزائف بالفصول المحيطة به، وسوف يرسخ تأويلي معناها من جديد.٣٦ (٢٥٩)
وقد يبدو أسلوب لاكان هنا، للوهلة الأولى، تعليميًّا ساذجًا، وكأن السؤال هو «أين اللاشعوري وأين أعثر عليه؟» تأخر طويلًا بصورة تبعث على الغيظ، ويمكن الإجابة عليه من الآن بمجموعة من الفرضيات المذهبية البسيطة، لكن الفقرة في الحقيقة تمثل تلخيصًا بارعًا لبعض الاستعارات الفرويدية الأساسية عن اللاشعوري، وقد أُنجزتْ بطريقة تجعل لاكان قادرًا على إبراز تردد متواتر في تفكير فرويد. وقد شكَّل كلٌّ من نظامَي الاستعارة، النظامين اللذين يضعهما لاكان مقابل بعضهما، تقريبًا؛ أي النظام «الحفري» والنظام «الدلالي»، مظهرًا دقيقًا نضج مبكرًا في كتابات فرويد السابقة على كتاباته في التحليل النفسي، وقد اعتمد عليها وعدَّلها في مسار تنظيره.٣٧
تحدَّث فرويد كثيرًا عن بعض النشاطات الذهنية كالإدراك والكبت والتذكر مستخدمًا مصطلحات تميزه ككاتب. ويمكن تصوير الانتقال من نظام أو مستوًى نفسي إلى آخر بسهولة باعتباره عمليات تنتج بواسطة خواص الكتابة — الترجمة، النسخ، الطبع، إعادة الطبع، تدوين اسم الناشر، إعادة الصياغة — ويسود الاعتقاد بأن المعاني التي تحملها هذه الخواص معرضة للتشويه أثناء عملية النقل. وبينما كانت المستويات النفسية «الأدنى» تتمتع بقدرة كبيرة على التذكر بدرجات متنوعة، كان المستوى الأعلى، الوعي ذاته، سطحًا للكتابة لا يمكن أن تتشكل عليه أية آثار دائمة (XIX, 230). وقد قدم علم الحفريات بعض الآثار الراسخة والقوية كنظام بديل للمعنى إلى جانب تلك الرسائل وضدها، الرسائل المكتوبة والقابلة للنسخ من جديد بصورة لا تنتهي: برغم أخطار الدفن والحفر، إلا أن ما وُضِع في العقل ذات يوم ما زال موجودًا ويمكن استعادته سليمًا. والفن الكتابي الوحيد الذي احتفظ بقدرته ضمن هذا البعد الحفري كان فن شامبليون ورفاقه من محللي الشفرة، الذين يكتشفون كل المعاني أو كل الأنظمة المنتجة للمعنى من المواد المتبقية.٣٨ وتبدو مناورةُ لاكان في هذه الفقرة، إذا تأملنا تلك الخلفية الفرويدية، واضحةً بما يكفي. وحيث إنه أعاد تفسير موضوعات فرويد الحفرية، «آثاره»، بوصفها كائنات لغوية متحركة — بالصورة التي قد نتوقعها — فإن أعمال التفسير التي تتحرك بالقدر نفسه يمكن أن تتلاعب بها بلا حدود. ألا نشهد أحد تصويبات فرويد التي تمت على يدَي فرويد وقد صار لاكان خبيرًا بارعًا فيها؟ ألا يتم الكلام عن النزعة السيموطيقية في التحليل النفسي للانتصار على النزعة الحفرية؟
لا أظن ذلك؛ لأن المحاولة المترفة التي قام بها لاكان لتغطية العمليات الذهنية بغطاء من المجاز اللغوي تؤدي في الإيقاع الختامي للفقرة الختامية إلى درس تأويلي شديد البساطة: ربما بملء بعض فجوات التفسير الواضحة في المادة، ووضع بعض المعابر للوصول إلى فهم محدَّد، وإعادة ترسيخ الغزارة الأصيلة في المعنى. إن الطريقة الحفرية التي تم إنكارها على السطح الاستعاري لهذا الابتهال، سلكت سلوكًا مناسبًا: غاصت تحت السطح وعبرت في سلام. وطبقًا لذلك يحمل تعليق لاكان على الرقابة إيحاءً خاصًّا، ويلمِّح بالطبع إلى مقارنة فرويد، تلك المقارنة الرائعة بين بعض القوى الذهنية الكابحة و«الرقابة الروسية» التي تغلبتْ عليها بعضُ الصحف الأجنبية ونجحت في عبور الحدود (V, 529; I, 273)، ولا يؤثر ذلك على قوة تعليق فرويد تأثيرًا جوهريًّا. كان «الفصل» اللاشعوري مكتملًا ومترابطًا قبل أن تُطبِق عليه أداة الرقيب، تلك الأداة الجوفاء، وسيعود من جديد مكتملًا ومترابطًا، بمجرد رفع الرقابة عنه. وقد بيَّن دريدا الصعوبات التي ربما تنشأ إذا تم تعقُّب الاستعارات «السيموطيقية» في التحليل النفسي بصورة ناقصة. إنه يكتب عن الطبقات في «ثنايا الكتابة السرية» لفرويد (XIX, 227–32) وفي نماذجه الذهنية المكونة من طبقات عمومًا:
لا يمكن التفكير في الكتابة بدون العودة إلى الوراء؛ ومن ثَم لا يمكن إقامة اتصال دائم أو انفصال مطلق بين الطبقات. حذر الرقيب وفشله، وكم نرى استعارة الرقيب، في السياسة، فيما تقوم الكتابة بشطبه، وفي الفجوات والتقنع، ولا يأتي ذلك صدفةً، ولو كان لفرويد ذاته، في بداية تفسير الأحلام، كما يبدو في إبداع مرجع تعليمي مكتمل. ويذكرنا المظهر الخارجي للرقيب السياسي برقيب أساسي يقيد الكاتب في كتاباته الأصيلة.٣٩

تتمثل عدة الرقيب السياسي في الحذف والمحو والتقنع، وهي أيضًا سمات الكتابة الحقيقية التي يمارس نفوذه عليها … وسمات الكتابة الأخرى أيضًا. وما فعله لاكان باستعاراته اللغوية الدقيقة يُعَد تجديدًا للمواد اللاشعورية التي يَبتكر فيها التحليل النفسي استمرارًا واكتمالًا بصورة رائعة يتناقضان تمامًا مع بعض العناصر الأخرى في المناقشة التي قدَّمها في «الوظيفة والمجال»، وعزل الكتابة واللاشعوري كليهما معتبرًا أنهما كتابة فراغهما المتوطن، ولم يلمح إلى ديالوج التحليل النفسي أو إلى مواضع الصمت التي تعوقه أو تدفعه. وقد أصبح التحليل النفسي، في فاصلة قصيرة من نصف صفحة، فنًّا بسيطًا، فنَّ الذاكرة، أداةً تساعد الذات على استحضار ماضي المرء، الماضي الشخصي، بالمعرفة الاستبطانية، وتلك هي اللعبة التي يُدْعى دارس الأدب للاشتراك فيها، والإغراء العاطفي المرافق للدعوة إغراء قوي.

وسوف يعرف هذا الدارس مدى ما يحتوي عليه «الفرع» الذي اختاره من العناصر المتباينة ومدى جموحه في معظم الأحيان. وسوف يعرف أن عليه اكتساب عدد من المهارات المهنية المتباينة حتى يتمكن من تناول نصوصه تناولًا صحيحًا، أو حتى يقترب باحتراس مناسب من الصعوبة التي تتسم بها تلك النصوص أو من افتقارها إلى الحسم. وسيكون عليه قبل أن يفسر النص الذي يتناوله — إذا كان يطمح إلى ذلك — أن يكتشفه، ويعزله، ويمعن النظر فيه. وربما تتطلب هذه الأنشطة الأولية عددًا من القدرات المتنوعة، القدرات التحريرية أو الببلوجرافية أو التاريخية أو المعجمية. ويحتاج التفسير الحقيقي إلى ما يفوق ذلك بكثير، وسوف يعزز جاليري لاكان الذي يعرض فيه صور أصحاب المهن الأكاديمية المؤثرة احترام هذا الدارس لذاته بقدر كبير، والمفسر الذي تقع على عاتقه في النهاية مسئولية «ترسيخ المعنى من جديد» هو بالفعل دارس للنقوش والسجلات والأسلوب والثقافة الشفهية، ومستكشف، وعليه الاستعداد دائمًا لاستثمار خبرته المتشعبة بطرق جديدة. ويقدم كلٌّ من المحلل النفسي ودارس الأدب للآخر مرآة تُرضي كبرياءه، وتبدو فيها خصائص إنجازه، الخصائص التي قد تبدو سطحية بدون ذلك، تبدو توجهًا خُلقيًّا يعبر عن هالة من القيم الخُلقية. إن كلًّا منهما يقود حملة ضد عدم الدقة وضد الكذب، ويجمع بينهما الفهم القوي للاستقامة المهنية. ولا تضبب أفقَهما الخُلقي بواعثُ دنيئةٌ، ولا يعوق الجهل أو البصيرة الجزئية نشاطهما التأويلي. والثمن الذي يُدفَع مقابل هذا الشعور الذي ترافقه البهجة، بمصطلحات التحليل النفسي المحض، ثمن باهظ للغاية: وفي مطاردة هذه اللحظات، يجب الانغماس في التحليل النفسي كطريقة مميزة للتذكر أو كمنهج لدراسة الجدل بين البشر في الكلام الإنساني.

ويمكن لنا أن نعترض على اعتراضات من قبيل أنهم ذوو عقول حرفية خرقاء للغاية، وأن لاكان يسعى ببساطة إلى إعداد زملائه بتذكيرهم بالفنون الإنسانية التي تقترب من فنونهم الخاصة، وأنه يرسم خطوط «كلية التحليل النفسي» التي تشمل مناهج خارج الطب، وكان فرويد قد تنبَّأ بذلك ذات مرة (XX, 246٤٠ ويوجد تعليق على التواصل الإنساني يلتزم التزامًا صارمًا بالتحليل النفسي في موضع آخر من «الوظيفة والمجال»، ولا حاجة بنا لوجوده هنا أيضًا. وفي الحقيقة لن يكون لهذه الاعتراضات أهمية كبيرة إلا إذا كنا نتساءل عن الترابط في بحث لاكان ككلٍّ؛ لأن البحث يكتسب، وهو في سبيله إلى الاكتمال، قدرةً فائقة في الإجابة على الأسئلة التي يطرحها وفي إعادة توزيع تأكيداته. ولكن البحث شديد التعقيد والغموض فيما يستنبطه بالتفصيل من المناقشة التي تميل فقراتها التي تحمل وعظًا مباشرًا، حين توجد، إلى الانفصال عن تلك المناقشة، وتبدو كأجزاء منفصلة عن البنية الأساسية للنص، تبدو وكأنها قوالب لمعنًى آمن ومفيد. وربما تكون تلك القوالب، وقد قمنا بفحص مثال منها وربما يكون أوضحها، خادعةً على نحو خطير، قد تخدع إلى درجة توحي بأن نسخة لاكان من التحليل النفسي ليست سوى دراسة أدبية تقليدية أُعيد وصفُها بصورة خيالية. ومع أن لاكان مسئول بدرجة كبيرة عن المبالغة في قيمة الأدب، وبدت أعماله غالبًا وكأنها تشجع على ذلك (استطاع، في بعض لحظات الكشف في أبحاثه، أن يكتب عن الأدب بشكل مختلف؛ أقل إثارة للاشمئزاز، وأقل كرمًا)، إلا أنه احتج أيضًا بعنف على التضخيم الأدبي inflation littéraire٤١ الذي خضع له التحليل النفسي عمومًا. ويرى لاكان أن أوراق اعتماد الأدب، كصرحٍ ثقافي ومصدرٍ توجيهي للتحليل النفسي، مؤثرة بصورة لا تقبل الشك.
ومن المناسب أن نرى العلاقة بين النظرية اللاكانية والدراسات الأدبية بوصفها علاقة يتم فيها تبادل الدعم والتعزيز بين الطرفين. وفي ظلال تلك النظرية، اكتسبتْ كتابات عدد كبير من النقاد بعض المزايا: تحولوا مرة أخرى إلى ما يميز الكثير من المعاني الأدبية، تحولوا إلى التضمين والحركة والالتباس. لقد قدَّم لهم لاكان — في سيمينار عن الرسالة المسروقة (١١-٦٦) وفي الكثير من الكتابات اللاكانية — وسائل جديدة للنظر إلى الحبكة والتصوير والإحكام في الحكاية النثرية، ووضح لهم مجرى فتشية السلعة commodity fetishism الذي يتخلل المفهوم الحديث ﻟ «النص» وضرره الذي يعادل ما أحدثه من ضرر حين تخلل المفاهيم القديمة، مفاهيم «التحفة الرائعة» و«العمل العظيم»، ودعاهم إلى الشك في النقد الأدبي ذاته بوصفه طقسًا للانحناء أمام موضوعات لفظية مقدسة، وقدَّم لهم أدوات للتفكير الحاسم في الأعمال الأدبية بوصفها من منتجات الرغبة، وفي تشبعهم بالرغبة في التعامل مع الأعمال التي يكتبون عنها ومع القراء الذين يتوجهون إليهم بالخطاب. ورفضت نظرية لاكان وعد النقد الاشتراكي المادي بأسلوب جديد؛ أسلوب قادر على إقامة ارتباطات متماسكة بين بنية اللاشعوري والممارسات الدالة المتفاعلة معها وتكون ثقافة من الثقافات.٤٢ ويميل النقاد الذين يدينون بمثل تلك الأمور إلى تصديق أن التحليل النفسي في أعمال لاكان يدين للأدب بقدر مساوٍ ومضاد من الديون، ولكن العلاقة في الحقيقة غير متماثلة لأسباب سأقوم بشرحها الآن.
رأينا من قبلُ أن الأدب، في منظور لاكان، موضوع من موضوعات الرغبة، يتقلب في أشكال عديدة، ورأينا أحيانًا أن نصوصه النظرية تُفْرط في التنميق في محاولاتها لاصطياده وافتراسه، وقد تستثير نصوص الأدب، حتى حين تُستخدم لأغراض تعليمية بسيطة، سلسلةً من المناورات القلقة في كتابات لاكان، وكأن الحسد والشك جعلا من المستحيل بقاء أية نقطة محورية. ويناقش لاكان، مثلًا، في «مقال حول أسباب الذُّهان» شخصية السيست Alceste، وهي شخصية من شخصيات موليير، بوصفها شاهدًا نبويًّا «على الروح الجميلة» (schöne Seele, belle âme)٤٣ عند هيجل، تتقمص بصورةٍ زائفة قانونَ الفؤاد وقانون الطبيعة، ويقودها مشهد الرفاق المتصدعين إلى وضعين لا ينالان رضاها بالقدر ذاته؛ تصور مسعور أو استغراق ذاتي واهٍ.٤٤ والوضعان، في رأي هيجل، ينذران بالخبل أو الجنون.٤٥ ويتلاءم هذا التعليق الهيجلي عن الجنون الكامن في ادعاء المرء لعقل لا مثيل له، يتلاءم تمامًا مع مناقشة لاكان للموضوع: تتنبأ قيود هيجل على «الروح الجميلة» بنقد لاكان لإجراءات التشخيص الضلالية التي ما زالت أساسًا لقسم كبير من الطب النفسي المعاصر، ولكنها لا تصادر على هذا النقد، وتشبه علاقة الروح الجميلة برفاقها علاقة البارانويا بين شخص و«آخر»، وهي علاقة يصف بحث لاكان خصائصها بالتفصيل الشديد، ولكن التشابه ليس تامًّا. وببساطة يستبدل لاكان بشاهد هيجل الأدبي المفضَّل (كارل مور في اللصوص لشيلر) شخصيةً أكثر قبولًا لدى الجمهور الفرنسي وأكثر تناغمًا مع ذوقه الشخصي (١٧٣)، ويردد رأي هيجل: «يبتكر موليير السيست و… يخلقه على تلك الصورة. إنه مصيب تمامًا في ذلك: إنه لا يتعرف في روحه الجميلة على اقترابه هو ذاته من خلل حقيقي بينما كان ثائرًا ضده». (١٧٣)٤٦
وينشأ تحليل مسرحية عدو البشر Le Misanthrope حين يحدث التداخل بين أسلوب التحليل النفسي والأسلوب الفينومينولوجي، وفي كلٍّ منهما تتلاشى القيمة البارزة للأدب، يكتشف السيست العالم الاجتماعي المحيط به، ويزدري الآخرية otherness الجائرة التي تعوق الاستقلال المزعوم لعقله، ويزدري أيضًا سلسلة من الانعكاسات النرجسية التي تنعكس عليها نرجسيته:
إنه، إذا توخيتُ الدقة، مجنون؛ ليس لأنه يعشق امرأة تعبث به أو تخونه، وهو سبب يعود، بدون أدنى شك من وجهة نظر جيل جديد من الرفاق المتعلمين، إلى نقص في قدرته الحيوية على التكيف، ولكنه مجنون لأنه وقع، تحت راية العشق، في شعور حقيقي يُفضي به إلى رقصة من الفن الوهمي التي تبتهج فيها Céliméne الجميلة: أعني نرجسية العاطل التي تدعم البنية النفسية ﻟ «المجتمع» في كل العصور، وتتضاعف هنا بالنرجسية التي تفصح عن نفسها، خاصة في بعض العصور، في المثالية الجماعية للعشق.٤٧ (١٧٣)
وبرغم التوبيخ الذي يوجهه السيست للمجتمع، إلا أن المجتمع ليس إلا سطحًا للمقاومة ترتدُّ عليه عدوانيته إلى ترسه المجهز ذاته. ويقدم لاكان تفسيرًا لدافع السيست إلى تدمير ذاته — «الهجوم الانتحاري للنرجسية» (١٧٤)٤٨ — من خلال الدراسات الحديثة عن البارانويا في الطب النفسي، بما في ذلك أطروحته التي تقدم بها للدكتوراه، ولكن هذا اللجوء إلى موليير ليس مجرد محاولة لانتزاع حالة جاهزة من مجال الأدب العام، ولا يقتصر تحليل لاكان على السعي إلى اختبار القوة التفسيرية لمفهومه الحديث لمرحلة المرآة. وتنتهي مناقشته بانعطاف ميلودرامي في المناظرة التي تسبقها:
أستطيع، بدلًا من السيست، أن أسعى إلى المباراة التي يلعبها قانون الفؤاد في المصير النهائي الذي يؤدي بالثوري القديم في عام ١٩١٧م إلى القفص في محاكمات موسكو، ولكن ما يتضح في فضاء مخيلة الشاعر يعادل على المستوى الميتافيزيقي أكثر الأشياء دمويةً في العالم؛ إذ إنها تصنع تيار الدم في العالم.٤٩ (١٧٥)
وقد عبَّر هيجل عن تقديره للثقافة المتشعبة في شخصية كارل مور التي أبدعها شيلر بالإحجام عن ذكر اسم المؤلف أو الشخصية أو المسرحية في الفينومينولوجيا، وتجنب الاقتباس المباشر منها: إن كارل مور متأصل في النص ولا يمكن إدراكه إلا عبر ستار من التلميحات.٥٠ ويعبر لاكان، من ناحية أخرى، عن تقديره لشاهده الأدبي المناظر في تحول حاد في البؤرة: كان يستطيع الكتابة عن المحاكمات المثيرة في عهد ستالين، أو عن مشهد المذابح البشرية المروِّعة، ولكنه خضوعًا لحيرة غير محددة اختار مناقشة المعادل «الميتافيزيقي» لتلك الأحداث، واختار عملًا أدبيًّا تشهد على صحته بنيةٌ أساسية في إدراك الإنسان، يُهدَّد السيست بالطرد — ماذا نتوقع من حكاية عن عدوانية البارانويا حين تحدثنا عن حقائق التاريخ بهذه الفصاحة الصارخة؟ — وبعد ذلك يُرَد له اعتباره بغرور.

ولا يتضح لماذا تَفُوق قيمةُ شخصية عدو البشر، الشخصية التي أبدعها موليير، كنموذج، قيمةَ البلشفي الذي يعلن اتهامه لنفسه. إن الأعمال الثقافية الوسيطة المعقدة تعقيدًا ساحقًا، تلك التي مرَّت خلالها الآلية النفسية الضمنية في كل حالة من تلك الحالات التوضيحية، تجعل إمكانية اقتفاء كلٍّ منها أقل بكثير من إمكانية اقتفاء مادة الحالة الإكلينيكية التي يذكرها لاكان في موضع آخر من البحث. وهكذا يؤكد الادعاءات المعرفية للأدب الخيالي، ثم ينكرها، ويؤكدها من جديد تأكيدًا قويًّا، وبالقوة نفسها ينكرها من جديد على مدار البحث. ويجب أن يكون المثال التحليلي الواضح في النص الأدبي بالتعريف واضحًا في موضع آخر، وعلى الأدب أن يتذكر أنه لا يتمتع بامتيازات ثابتة، لا يكتسب المثالُ السلطةَ من أي عرف متنقل ولا من أي تدوين سابق على مشاهدته، ولكنه يكتسبها من قدرته على التنقل بين عدد متنوع من الخطابات المترابطة — إكلينيكية، تاريخية، فلسفية، درامية، شعرية — واجتذاب مواد مناسبة للمشاهدة طوال عملية التنقل. وقد يساهم الأدب في تقديم توضيح عام لحقيقة أن المفاهيم التحليلية محدَّدة بعوامل عديدة، ولكن ذلك التوضيح لن يكون مقنعًا إلا إذا تابع الأدب أقدار كل حيل التشكيل الأخرى وحل محلها بدوره.

لا يمكن هنا أن نسرد القصة الكاملة لاستياء لاكان من الأدب ومن النماذج الأدبية في نظرية التحليل النفسي، لكنَّ إيقاع الإعجاب والحسد والعدوانية الذي يميز أسلوبه في تناول المواد الأدبية ينتج عنه درس مضطرب، ويكاد يكون من المستحيل على دارس الأدب الذي يقرأ لاكان بحثًا عن الثقافة أن يستوعبه. إن لاكان، كما رأينا، يختلف من ناحية اختلافًا حقيقيًّا عن فرويد في تقديره الدقيق للنص الأدبي: إنه مبهم ومعقد وذو مرجعية ذاتية، ومثقل بالوعد بالمعنى. وهو لا يقدم فقط نموذجًا نظريًّا عن اللاشعوري، ولكنه يقدم أيضًا نموذجًا عمليًّا للمحلِّل النفسي باعتباره صانعًا للكلمات verbal performer. وأحيانًا يكون الأدب الطريقَ الملكية لفهم التحليل النفسي، ويكون دارس الأدب رفيقَ سفر أمينًا، وزميلًا مغامرًا على بحور متعددة المعاني، وباحثًا عن نظام مغمور و«أصلي» للمعنى. ومن الناحية الأخرى، لا يتعدى الأدب في أحيان أخرى، أن يكون أكثر من شاهد عابر لبنية ملتفة على ذاتها في عالم لا تخرج كل منتجاته العقلية الأخرى على تلك البنية. ويتضمن تقدير لاكان للشعر، التقدير الذي يفوق تقديره للأجناس الأخرى، يتضمن في «الشاهد الأدبي في اللاشعوري» L’instance de la lettre dans l’inconscient تأرجحًا مميزًا:

ولكن على المرء أن يستمع فقط إلى الشعر … ليسمع التعدد الصوتي، ويتضح له أن الخطاب كله يتم تنظيمه بطول المقاطع الشعرية في المقطوعة.

وليس هناك في الواقع سلسلةٌ دالة ليس لها، وكأن كل وحدة من وحداتها متصلة بإحدى علامات الترقيم، ارتباط كامل مع سياقات ملائمة معلقة «عموديًّا»، إذا جاز التعبير، من تلك النقطة.٥١ (٥٠٣)
إذا أردتَ أن تفهم اللاشعوري كسلسلة دالة، فسوف يساعدك الشعر على تصوره. وإذا أردتَ أن تفهم القدرة الدالة في الشعر، فسوف تساعدك الموسيقى متعددة الأصوات على تصورها … إن لعبة الإبدال بين الأنساق البنيوية المختلفة التي يمكن ملاحظتها في المنمنمات تمثل إحدى السمات الأساسية في تفكير لاكان في المراحل الأخيرة. إن النقط العقدية knotenpunkte في النص الأدبي تفسح المجال أمام عقد بروميو Borromean knots، وأشكال موبيوس Moebius strips، والحساب والرياضيات. وقد نتخلى عن أنساق شكلية أعلى رتبة للإفصاح عن منطق الدال بطرق تتفوق على حرفة الأدب أو تفشل في تحقيق ما تحققه. وقد قال لاكان بفخر في مؤتمر في جامعة جونز هوبكنز Johns Hopkins في أواخر الستينيات: «إن أفضل الصور التي تلخص اللاشعوري هي صورة بلتيمور Baltimore [ميناء بحري في شمال ميريلاند. المترجم] في الصباح الباكر.»٥٢ ومثل هذه الإيماءات التي تكثر في أعمال لاكان لا تقدم لحرفة الأدب سوى أمل أو تشجيع ضئيل، حتى في بلتيمور.

وأفضل ما يمكن أن نأمل في الحصول عليه من كتابات لاكان عن العلاقة بين التحليل النفسي والدراسات الأدبية هو: قد يجد علم البلاغة، الذي يستعيد دوره من جديد في التطبيق على نصوص الأدب، في النهاية نظرية في التحليل النفسي تتناسب معه في التعقيد والتفسير. وحتى هذا الأمل، وهو أمل مشروع بالضرورة، علينا أن نعمل للوصول إليه، وتخليصه من الوعود الزائفة والحلول المبتسرة التي قدمها لاكان بأسلوبه الأدبي للنقد. ويرى لاكان أن أحد الأشياء الأساسية التي نتعلمها من التحليل النفسي تتمثل في أن اللاشعوري له «أسلوب» خاص به، وربما يوحي بسهولة للمتهور في عدد من عباراته المبرمجة عن تنقل مبادئ التحليل أنه من الممكن «القبض» على هذا الأسلوب بمجرد التعرض لعدواه الحميدة:

إن أية عودة إلى فرويد تُقدم موضوعًا جديرًا بالمعرفة لن تكون إلا بواسطة الوسيلة التي تكشف بها عن نفسها أكثر الحقائق اختفاءً في ثورات الثقافة. وتلك الوسيلة هي الصيغة الوحيدة التي يمكن لنا أن ندعي أنها تنتقل إلى أتباعنا، هذه الوسيلة تُدْعى الأسلوب.٥٣ (٤٨٥)
توجد بالطبع وسائل فضفاضة وأخرى محكمة لقراءات تعبيرات من هذا القبيل. وربما تكون أكثر القراءات الفضفاضة على الإطلاق هي تلك التي تستنتج أن أسلوب اللاشعوري، وهو أسلوب مفضَّل للتنظير التحليلي، وأسلوب لاكان الأدبي الخاص، كانت لهما حدود مشتركة بصورة مبهمة، ويمكن فهم اللاشعوري فهمًا يسيرًا بالتكريس للتأنق اللفظي في كتابات لاكان. ويبدو أن لاكان لم يُفهَم غالبًا إلا على هذا النحو، إذا جاز لنا تخمين ذلك من خلال العدد الهائل من التدريبات في الثرثرة اللاكانية Lacanobabble التي وجدت طريقًا بالفعل إلى المطبعة. ثَمة تورية هنا ومعجزة هناك، ولا يخلو الأمر من المفارقة بشكل دائم، ويوجد وثبٌ سارٌّ لموسيقى الدال، تلك الموسيقى الخادعة، في كل موضع … إنني متردد في إفساد هذه اللعبة، أو التوصية بالروية ومراعاة ظروف دارسي الأدب الذين شعروا برعشة التحرر تجري في كتاباتهم بعد التعرض للمسة فاتنة من لمسات لاكان، ولكن لا يكتسب ذلك سوى أهمية ضئيلة بالنسبة لدارس الأدب المزوَّد عادةً بإدراك نظري يتسم بالفقر، والقانع بالمراوغات والنزوات والألغاز ليمسك في يده بنظرية جديدة عن الأدب، بنظرية مفعمة بالحيوية.
والنظرية الجديدة التي أشير إليها هنا ليست التحليل النفسي عمومًا كما ورد في التعليقات التحليلية لخطاب فرويد في تفسير الأحلام، وسيكوباثولوجيا الحياة اليومية والنكات وعلاقتها باللاشعوري، وقد عبَّر عنه لاكان من جديد، وهو تعليق بارع براعةً استثنائية حين يقدم علاقة مترابطة ومتحركة بين لحظات الخطاب ومستوياته التي تخضع غالبًا للتقسيم — بدعوى «الملاءمة» — على أيدي محلِّلي نصوص الأدب. وهو يسمح بالتعبيرات الفردية، ويسمح في ذات الوقت بصيغ تواصلها التركيبية وبالصيغ التركيبية المضادة، وبتوجُّهها إلى هدف افتراضي، وبما تحمله من التداعيات المتراكمة، وقد يسمح باقتفاء المعاني المضمرة سواء في التعبيرات التي تصاغ في كلام مباشر أم في تلك التعبيرات التي ترفض التصريح المباشر، وربما كان الجزء الأكثر إثارة في التحليل النفسي هو الإلحاح على منح ماضٍ معين ومستقبل معين للتعبيرات التي تأتي بوصفها الحاضر الخالد، حاضر التعبير الذاتي الصائب. ويرى فرويد أن الحياة النفسية للإنسان قد تم تنظيمها، بين التأرجح الساذج في الوهن الرومانسي، بين ما لا يعود وما لا يتحقق، بحيث تقع كل لحظة من لحظاتها الحاضرة تحت ضغط مزدوج: كان الفرد في كلامه ينقح ماضيه بنشاط ويعيد بناءه وهو ينظر بنشاط إلى مستقبل يتطلع إليه في رغبة، وأي فهم لما كان يقصده الأفراد حين نطقوا بما نطقوا به — سواء في الديالوج التحليلي أم خارجه — هو موضوع للحفاظ على التوازن التفسيري الحقيقي بين قوى الاستعادة وقوى التوقع.
وتأتي مساهمة لاكان، في دراسةٍ أكثر دقة لهذه القوى، تأتي في عدة أشكال متميزة، إنه يشيِّد نماذج منطقية لعمليات إعادة البناء العقلي وما قبل البناء العقلي التي تكمن وراء عملية التواصل الإنساني. ويعزو تلك النماذج إلى اللسانيات، ويعزو اللسانيات إلى زمنية الكلام المتبادل بين الذوات. ويقدر في كتاباته مفاهيم الإعادة والتوقع بخلق تفاعل دقيق بين أزمنة الفعل ومستويات الزمن في تركيب الجملة. وسوف يتضح مدى ما يمكن أن تمتد إليه هذه الأهداف المتمايزة بصورة مشتركة في هذا التلخيص الاسترجاعي، في «الوظيفة والمجال» (١٩٥٣م)، لبحث سابق «الزمن المنطقي Le Temps logique» (١٩٤٥م):
حاول مؤلف هذه السطور أن يوضح في منطق السفسطة المصادرَ الزمنية التي يعثر فيها الفعل الإنساني، طالما كان يرتب أوضاعه طبقًا لفعل الآخر، على حلول أكيدة في تقطيع تذبذبه، ويعثر على معناه الآتي في القرار الذي يتوصل إليه هذا الفعل بتكريسه لفعل الآخر — الذي يتضمنه من تلك النقطة — مع نتائجه المنبثقة عن الماضي.٥٤
ويتضح في هذا المقال أن اليقين الذي يتوقعه الفاعل في «زمن الفهم» الذي يحدد في الآخر، بالسرعة التي تعجل «لحظة الخلاصة»، القرار الذي يجعل حركة الفاعل خاطئة أو صائبة.٥٥ (٢٧٨)
يقوم النموذج المنطقي الذي يقدمه لاكان في هاتين الفقرتين، وتتكون كلٌّ منهما من جملة واحدة معقدة بعض الشيء، برحلة العودة إلى تركيب الجملة وإلى المحددات الموضعية في السلسلة الدالة: والفهم الجديد للزمنية temporality والعلِّية causality، الفهم الذي يشجع عليه التحليل النفسي، وقد تشكل من قبل كدراما صامتة للعمليات المنطقية المترابطة، أصبح مرة أخرى كلامًا رائعًا للغاية يتطلع إلى الخلف ويتطلع إلى الأمام، ويمثل المادة الخام في التحليل النفسي.
تحدثتُ منذ لحظات عن علاقة جديدة محتملة بين البلاغة ونظرية التحليل النفسي، وهي علاقةٌ درسها التحليل النفسي دراسة تفصيلية. وقد يكون لدارسي الأدب الحقُّ في الاحتجاج على هذه النقطة بأن البلاغة تعرف بالفعل ديناميكيات الكلام، وأنها متعددة الجوانب بصورة كافية، وبأن أية محاولة للزجِّ بها في نظرية سيكولوجية دخيلة تؤدي إلى نمو هائل في بعض الخواص الخفية ضمن مجموعة من التقاليد التحليلية المنظمة جيدًا والمختبَرة جيدًا. وربما أضافوا، إذا كان على التحليل النفسي أن ينشأ متأخرًا كديناميكيات بديلة في الكلام، فلندعْه بالتالي يتعلم على الأقل درسًا في الدقة من علم الكلام الذي نشأ من قبل الميلاد ومن توابعه في العصور الحديثة. إن جيرار جينيت Gérard Genette، وهو واحد من أكثر البلاغيين الجدد تميزًا، تستبعد عبادتُه للدقة اللعبَ من كتاباته استبعادًا تامًّا، ينفد صبره بوضوح حين يأخذ اللعب تحولًا «سيكولوجيا»، ويسعى في «دروس في القص» Discours du récit إلى أن يستعيد للبلاغة بدقةٍ مفهوم «التنبؤ anticipation» ومفهوم «الاسترجاع retrospection»، ويفعل هذا جزئيًّا بانتزاع البعد النفسي من اسميهما:
حتى نتجنب التضمينات السيكولوجية المرتبطة باستخدام مصطلحات من قبيل «التنبؤ anticipation» أو «الاسترجاع rétrospection»، تم استدعاء الظواهر الموضوعية تلقائيًّا، واستُبدل بالمصطلحين مصطلحان أكثر حيادًا: يشير مصطلح التوقع prolepse إلى كل آليات السرد التي تتكون من قص حادث تالٍ أو استدعائه قبل وقوعه، ويشير مصطلح الاستعادة analepse إلى استدعاء لجزء من حادث سبق هذه النقطة التاريخية أو وجد قبلها …٥٦
ويجب ربط التوقع والاستعادة في هذا المقال الواعد بالشمول المعنوي syllepsis والكناية عن الصفة metalepsis والتجاهل الظاهري paralepsis، وتُنقَّى decontaminated كلها بصور متشابهة، يرسم جينيت حدودًا واضحة لكل مصطلح تقني، ويحافظ عليها حتى حين تكون نصوص الأدب التي يناقشها مشوَّشةً بصورة تدعو إلى الإحباط (يتراجع بعض النقاد أمام كومة بروست، تلك الكومة البلاغية المشوشة في روايته بحثًا عن الزمن المفقود، لكن جينيت لا يتراجع أمامها)، ويكون «علم النفس» في الحقيقة عدوًّا لنسق بلاغي من هذا القبيل إذا استدعى إلى المناقشة مخزونًا اعتباطيًّا عن العاطفية والذاتية بدلًا من استدعاء نسقه الخاص.
لكن التحليل النفسي نسقٌ عنيد واسعُ الحيلة. وقد واجه بالطبع بعض العثرات قبل أن يظهر بتلك الصورة. وما زال موضوع الاهتمام المركزي فيه — الرغبة — يتردد في الكثير من الأسماع مثل جوهر ما لا يقبل التصنيف. وكان عليه أن يستعير لمنهجه في دراسة الرغبة بعض الأسماء من الفروع المعرفية الموجودة والمصنفة: وكانت هيدروليات الرغبة، واقتصادها، وطوبوجرافيتها، وسيمنطيقيتها، وشعريتها، وبلاغتها — بالإضافة إلى الكثير من الأشياء الأكثر غرابة — وقد دخل العملية، وهو يكتسب من هذه الفروع المعرفية مناخ التكامل التصوري والاصطلاحي؛ ليبدو متطفلًا عليها. واستوعبت اللغة السيكولوجية الدارجة في القرن العشرين في أوروبا وأمريكا الشمالية بعض مفاهيم التحليل النفسي — «الكبح»، «التسامي»، «الأنا»، «زلات اللسان بالمفهوم الفرويدي» — استوعبتها بسهولة بحيث يمكن، من أن ذلك نوع من الحماقة، اتهام التحليل النفسي بأن نزعم أن الحس العام كان يعرف، بدايةً، بالضرورة ما صوَّره فرويد باعتباره اكتشافًا خاصًّا. وبرغم هذه العثرات تابع التحليل النفسي دعوته التنظيمية، وتبدو في أوضح صورها في تحولاته النظرية الرئيسية: ركز التحليل النفسي، في تنقيح فرويد لنظريته وفي رواية لاكان لتاريخ هذا التنقيح مرة أخرى، على إزالة التنافر تمامًا وتوسيع مدى ذلك التنظيم. والبلاغي الذي يتطلع إلى أبعد من مجازاته وصوره البلاغية المتميزة تميزًا دقيقًا، إلى العالم المفعم بالرغبة في «علم النفس» غير المصنف، يميل في الواقع إلى الشعور بأن مقولاته التحليلية تهددها النزعة الحيوية المنبعثة من جديد أو التيار الجارف لطاقة حيوانية مجردة، ولكنه إذا تطلع إلى نسق الرغبة الذي يفترضه التحليل النفسي فسوف يجد بلاغة أخرى — بلاغة القلق، والأفكار الاستحواذية، واللذة وانعدام اللذة، واللذة السابقة واللذة التالية، والكبح، والتذكر — تشبه البلاغة شبهًا كبيرًا من حيث قدرتها على مضاعفة مقولاتها وفصل هذه المقولات والربط بينها. وهذه البلاغة، التي تحمل هذا الاسم غالبًا في نصوص لاكان، ما زالت تتمسك بعادة رديئة تتمثل في حمل أسماء أخرى، وتبدو بوصفها علمًا للغة وعلما لبعض القوى الدافعة في حياة الإنسان، قوًى ليس لها أسماء. لكن البلاغة الحقيقية ستجد في الحقل التحليلي الزائف نسخة مشوهة. إن التحليل النفسي بلاغة لا تزال في طور الإنشاء؛ بلاغة تخاطر، بلاغة تبدع مقولات حسب شهوتها. وربما بهذا الفهم للقرابة المعوقة والمتفاقمة تكمن قيمة كلٍّ من البلاغة والتحليل النفسي بالنسبة لبعضهما.٥٧
سيطرت على فرويد أثناء تأليف كتاب تفسير الأحلام فكرة ج. ت. فتشنر G. T. Fechner في كتابه عناصر السيكوفيزياء Elements of Psychophysics، واعترف بحماس في عدة مناسبات بدينه لفتشنر.٥٨ وكانت هذه الفكرة، كما ذكر فرويد لفليس Fliess في عام ١٨٩٨م، أن «عملية الحلم تتم في منطقة نفسية مختلفة» (فرويد/فليس، ٢٩٩؛ الأصول، ٢٤٤-٢٤٥). وهنا بدأت مسيرة فرويد كطوبوجرافي ذهني. وبرغم وجود بعض المخاطر والحدود لتصور العقل بوصفه يشغل مكانًا، فإن تصوير نسق اللاشعوري ونسق ما قبل الشعوري-الشعوري بوصفهما «مناطق نفسية» بديلة كان يتمتع بمزية تعبيرية واحدة: إنه يذكر عالم العقل وهو يشرع في بناء نماذج ذهنية إضافية أكثر التواءً بأن العقل مقسم تقسيمًا ذاتيًّا أكيدًا، ولا يمكن بناء جسور دائمة بين مناطقه الداخلية. ويمكن استغلال القوة التعبيرية في فكرة فتشنر، وقد استغلها لاكان بالفعل في مناسبات عديدة، بصورة أفضل لتلخيص «أفضل الآمال» التي يقدمها لاكان لإقامة علاقة بين التحليل النفسي ودراسات الأدب: لا تدعْ أيًّا منهما يكون للآخر مرآة لطيفة أو حلية علِّية، ولكن anderer Schauplatz،٥٩ «مشهدًا آخر» لحوحًا لا يعرف المجاملة.
١  العنوان الأصلي: Lacan and Literature
وهو الفصل الخامس من: Malcolm Bowie, Froud, Proust and Lacan: Theory as fiction; Cambridge University Press, 1987.
المتن من ص١٣٥ إلى ص١٣٦، والهوامش من ص٢٠٤ إلى ٢١١.
٢  للاطلاع على السياق التعليمي الراقي الذي نشأ وعمل فيه فرويد، راجع Spector’s ‘Vienna and Freud’s Education’ (The Aesthetics of Freud, 3–23) and George Steiner’s penetrating ‘A remark on Language and Psychoanalysis’ (On Difficulty, 48-9).
وكمثال عملي عن هذه الكتابة في الأحلام، راجع الهامش رقم ٣، وبالنسبة لقائمة الكتب «العظيمة» و«الجيدة» «المفضلة» عند فرويد في عام ١٩٠٧م، راجع الرسائل Letters, 278، ويوجد مسح فريد لاهتمام فرويد بالفنون في Richard Wollheim’s On Art and the Mind، [عن الفن والعقل] (٢٠٢-١٩).
٣  اقتبست رباعية هانيه عن Pierre Grappin’s edition of the Buch der Lieder, 239، واقتبست الترجمة عن Hal Draper’s The Complete Poems, 107
٤  لكلمة schön [جميل]، مثل مرادفاتها في الإنجليزية، استخدام عام ساخر بالطبع. وفي تبويب تفسير الأحلام إلى أبواب فرعية وضع فرويد العنوان Ein schöner Traum; GW, II/III-290-91; IV, 284-5، ليوضح أن الحالم المقصود كان هانئًا بقيم جمالية وفكرية في «إنتاج الحلم بمهارة فائقة» (وعزَّز هذه القيمَ «الحلم الجميل» الذي ظهر في تداعياته عن فاوست)، بالإضافة إلى أنه كان هانئًا أيضًا ببراعته في تحويل مواد الحلم التي تضر بالسمعة إلى بهجة. وقد حافظ المترجمون الإنجليز في هذه الحالة على الأثر الساخر بالقدر نفسه. ودافع فيتجنشتاين Wittgenstein في حديث مسجل عن حلم من هذه «الأحلام الجميلة» ضد سخرية فرويد، وحمل فرويد مسئولية تدمير الجمال الحقيقي، جمال الحلم بواسطة «أفظع الحشود الجنسية، وأسوأ أنواع الدعارة» (Lectures and conversations, 23) (ويبدو أن فيتجنشتاين نقل العنوان Ein schöner Traum إلى حلم «الزهور» المدوَّن بعد ذلك في العمل نفسه، ويصف أيضًا بأنه schöne راجع GW, II/III, 352; V, 347).
٥  تتبع ألكسندر جرينشتاين Alexander Grinstein نمط هذه الإشارات والتلميحات في حلم Non vixit [لم يعش]. راجع أحلام سيجموند فرويد Sigmund Freud’s Dreams، ٢٨٢–٣١٦. وفاوست الذي يظهر صدفة في هذا الحلم، يحتل مكانة خاصة في موضع آخر من تفسير الأحلام. وفي مناقشة سابقة عن النقط العقدية، على سبيل المثال، استعان بالشعر للمساهمة في حلها: ويقتبس فرويد كلام ميستوفليس عن «تحفة النسَّاج» في الحديث عن نمط التفكير (فاوست، الفصل الأول، المشهد الرابع) ليعزز دعواه بأن «النقط العقدية» تميز الحياة العقلية عمومًا (IV, 283). واستشهد فرويد به مرة أخرى في عام ١٩٣٠م، في الفقرة الأخيرة من خطابه، وهو يستلم جائزة جوته (XXI, 212).
٦  وفي إشارة أخرى إلى ديوان هانيه Die Heimkehr، كتب فرويد عن «مراجعة ثانوية» في الأحلام: «تعمل هذه الوظيفة بالطريقة التي يعزوها الشاعر بمكر إلى الفلاسفة: تملأ الفجوات في بنية الحلم بمزق أو رقع» (V, 490). واقتبس فرويد القصيدة المشار إليها هنا في محاضرات تمهيدية جديدة New Introductory Lectures, XXII, 116
٧  راجع ‘Freud and Literature,’ The Liberal Imagination, 25.
٨  تمثل مسرحية هاملت نقطة مرجعية ثابتة في كل كتابات فرويد. ويوجد أول تعليق مسهب عليها في خطاب إلى فليس في ١٥ أكتوبر ١٨٩٧م (I، ٢٥٥-٢٥٦؛ فرويد/فليس، ٢٧٢-٢٧٣؛ الأصول، ٢٢٣-٢٢٤)، والمناقشة التي نوقشت بدورها أكثر من سواها توجد بلا شك في تفسير الأحلام، IV، ٢٦١–٢٦٦. ومن العلامات البارزة عن المسرحية في أدبيات التحليل النفسي والأدبيات المرتبطة بها: Ernest Jones’s Hamlet and Oedipus (1949) and Jean Starobinski’s Hamlet and Oedipe (1967) in La relation critique, 289-419 (كُتب أساسًا كمقدمة للترجمة الفرنسية لأعمال جونز)؛ بالإضافة إلى: André Green’s: Un œil en trop (1969) (إلا أن مناقشة جرين الأساسية عن شكسبير تهتم بمسرحية عطيل).
٩  بالفرنسية في المتن.
١٠  جاء تعليق لاكان عن هاملت بصورة أساسية كجزء من سيمينار ١٩٥٨-١٩٥٩م عن الرغبة وتفسيرها Le désire et son interprétion (ولم يُطبع كاملًا حتى الآن). وتوجد أجزاء من الأقسام السبعة المخصصة لهاملت في onicar, 24 (pp. 5–31), 25 (pp. 11–36), and 26-27 (pp. 5–44). وقد ترجم جيمس هولبرت James Hulbert أجزاءً منها في الأدب والتحليل النفسي: Literatures and Psychoanalysis Yale French Studies, 55/56–11–52.
١١  يشير لاكان هنا إلى: Michel Leiris’s Glossaire j’y serre mes gloses (1939).
١٢  بالفرنسية في المتن.
١٣  كتب دريدا بفطنته وحِدَّته المعتادتين عن «تعرية» الحقيقة في التحليل النفسي. راجع La Carte postale, 447.
١٤  بالفرنسية في المتن. راجع Romans et Nouvelles, I, ed. Henri Martineau, 794.
١٥  بالفرنسية في المتن.
١٦  عن كوينتليانوس، راجع كتابات، ٤٦٦، ٤٦٧، ٥٢١ … إلخ. وأما الأدبيات عن التحليل النفسي والبلاغة فهي الآن واسعة الانتشار، وثَمة مساهمات مميزة في:
Émile Benveniste, Problémes [I], 86-7; Francesco Orlando, Toward a Freudian Theory of Literature, 161–75 and Tzvetan Todorov, ‘La Rhétorique de Freud’ Théories du symbole, 285–321.
وثَمة تعليق مفيد عن تناول لاكان للمصطلحات البلاغية وعن البنية البلاغية. راجع A. Kremer-Marietti in Lacan ou la rhétorique de l’inconscient and J. B. Fages in Comprendre Jacques Lacan (see in particular, 74–92).
١٧  بالفرنسية في المتن. وهي الفكرة ٤١٤ في طبعة Brunschvicg.
١٨  [يحتوي الهامش على ترجمة فرنسية لعبارة جرسيان] وقد انتظر كتاب جرسيان The Agudeza حوالي ٣٥٠ عامًا ليعثر عليه مترجم فرنسي، وظهر وكأنه هيدرا برأسين في المشهد الباريسي في عام ١٩٨٣م، مترجمًا بواسطة Bentio Pelegrin and Michéle Gendreau-Massaloux/Pierre Laurens (راجع ٢١١ و٢٢٩ بالتتابع للاطلاع على «الهيدرا الصوتية» (أو «هيدرا الفم») بالفرنسية).
١٩  بالفرنسية في المتن. راجع ‘Quelques traits du style de Jacques Lacan,’ Introduction à la sémiologie, 118.
٢٠  راجع ص١٢٢-١٢٣ [من الأصل الإنجليزي، فصل بعنوان «لاكان»، وهو الفصل الثاني من الترجمة العربية. (المترجم)].
٢١  بالفرنسية في المتن.
٢٢  يرجع هذا البحث إلى عام ١٩١١م. وفي العام نفسه أضاف فرويد إلى تفسير الأحلام (V, 430-431) تعليقًا على سرد الحلم، ومنه أخذت هذه الفرضية.
٢٣  راجع Phenomenology of Spirit, trans. A. V. Miller وكل الإشارات التالية إلى الفينومينولوجيا Phen. هي إلى هذه الترجمة.
٢٤  راجع Phen., 66.
٢٥  راجع ص١١٤-١١٥ [من الأصل الإنجليزي، فصل بعنوان «لاكان»] للاطلاع على تعليق أوَّلي موجز عن تمييز لاكان بين moi (الأنا) وsujet (الذات).
٢٦  راجع، Phen., 309.
٢٧  بالفرنسية في المتن.
٢٨  توجد عبارة في «وضع اللاشعور Position de l’inconscient» من أوضح عبارات لاكان عن حدود ما يدين به لهيجل، وعن رفضه للبرنامج المثالي الذي طرحه هيجل: «لم يتضمن استخدامنا لفينومينولوجيا هيجل أي ولاء للنسق، ولكنه بشر بمثال لمواجهة الحقائق الواضحة عن التقمص …
بالإضافة إلى ذلك، تساعد التعبيرات الهيجلية دائمًا، حتى لو اقتصر المرء على نصوصها، على قول شيء آخر؛ شيء آخر يصحح ترابطها بالتأليف الخيالي، ويحافظ في الوقت نفسه على قدرتها في كشف وهم التقمص.
وهذا هو تسامينا الشخصي الذي يحول تسامي هيجل، وكان وهمه الشخصي، إلى فرصة لإمعان النظر، بدلًا من وثبات التقدم المثالي، وتجسيد التقمص. ص٨٣٧.
راجع أيضًا Alain Juranville, Lacan et la philosophie, 120–8.
٢٩  راجع Style, Rhetoric and Rhythm, 207-8. وتوجد مراجعة مفيدة لعمل أكاديمي عن النثر الباروكي في: Mac Fumaroli’s monumental L’Age de l’éloquence, 1–34.
٣٠  راجع Style, Rhetoric and Rhythm, 218-19.
٣١  لفت باترك ماهوني Patrick Mahony الأنظار، مستشهدًا أيضًا بكرول، إلى وجود عناصر باروكية في كتابات فرويد ذاته (فرويد كاتبًا Freud as a Writer, 163–5). ويوجد دليل موجز لأعمال بالألمانية والإنجليزية والفرنسية عن أسلوب لاكان في: François Roustang’s Du Chapitre VII’ (Écrire la psychanalyse, 65–95).
٣٢  عن لاكان وجونجورا، راجع Écrits, 410, 467, Ornicar? 26-27 (p. 25), etc. ويعرف جونز Culteranismo R. O. Jones,. وكان جونجورا من أبرز ممثليها، على النحو التالي: «مصطلح ابتكر في أوائل القرن السابع عشر … وتتضمن هذه النزعة أسلوبًا يبالغ في الصنعة إلى أقصى حد، وتعني عمليًّا صبغ تركيب الجملة والمعجم بصبغة لاتينية، واستخدام دائم للتلميح الكلاسيكي، وإبداع أسلوب شعري مميز ينأى عن لغة الخطاب اليومي قدر المستطاع» (A Literary History of Spain. The Golden Age: Prose and Poetry, 142). وتتضمن Conceptismo (أو agudeza) استخدام التصورات. وكان جارسيان أكبر أنصارها على المستويين النظري والعملي، ووصف جونز هذه النزعة عند جارسيان بأنها «بلاغة الحصافة» (٢٠١). وكان «الصدام» بين تقاليد النزعتين عنيفًا في الواقع، ولكن ليس علينا أن نبالغ في تصويره: توجَّه جارسيان في بحثه عن أمثلة لكتابه agudeza إلى جونجورا أكثر مما توجه إلى أي كاتب آخر، وربما كان Martial هو الاستثناء المحتمل لهذا التوجه.
٣٣  ويمكن ملاحظة لاكان في المزاج «الشيشروني Ciceronian» في موضع آخر من «تدمير الذات» Subversion du sujet. راجع، مثلًا، الفقرة الثانية في ص٨١٢. وعن جملة «قلْ دائمًا شيئًا آخر»، راجع ص١٢٨ [من الأصل الإنجليزي، فصل بعنوان «لاكان»] والهامش ٢٧ (حيث توجد الجملة في السياق الأصلي).
٣٤  ثَمة تعريف ووصف لهذه المصطلحات ولبعض الرذائل الأخرى في: Lee A. Sonnino’s A Handbook to Sixteenth-Century Rhetoric.
٣٥  عن الحقيقة، راجع العبارات الموجزة والبراقة في «الوظيفة والمجال» (٥٥٢–٦٥٢)، وبحث بعنوان «العلم والحقيقة» (٨٥٥–٨٧٧).
٣٦  بالفرنسية في المتن.
٣٧  صور أنتوني ويلدن Antony Wilden نمط تلميح لاكان لفرويد في هذه الفقرة في: The Language of the Self, 108-9.
وللاطلاع على تعليق أكثر تفصيلًا عن النظامين الاستعاريين، راجع ص١٨–٢٧ [من الأصل الإنجليزي] (archaeological)، وأنتوني ويلدن في النسق والبنية System and Structure, 43–46 (Semiotic).
٣٨  راجع تعليق فرويد على حل شفرة الكتابة الهيروغليفية، XIII, 177، (سبق اقتباسه، ص١٢٠ [من الأصل الإنجليزي، فصل بعنوان «لاكان»]).
٣٩  راجع ‘Freud et la scène de l’ecriture,’ L’Ecriture et la différence, 433–50.
٤٠  عن تعليق فرويد على هذا الصرح التعليمي المتخيل وما أضافه لاكان إلى مناهجه الدراسية، راجع ص١١٩-١٢٠ [من الأصل الإنجليزي، فصل بعنوان «لاكان»].
٤١  يبدأ ستوارت شينيدرمان Stuart Schneiderman في جاك لاكان: موت بطل الفكر Jacques Lacan. The Death of an Intellectual Hero بذكرى من السيرة الذاتية تتضمن درسًا مفيدًا لكل من اقتنع بالنقد الأدبي كنقطة تميز لدخول التحليل النفسي: كان اطلاعي السبق على الأدب، خاصة شكسبير، بمثابة إعداد رائع لاستيعاب لاكان. إن كتاباته منمَّقة تنميقًا دقيقًا، وقد تفرط في التنميق، ولا تفهم بسهولة. إنها تشبه الشعر من هذه الناحية، وكالشعر تخضع للفكر النقدي. إلا أن هذا التشابه خدعة، خدعة بلاغية. وهو ما كنت أفكر فيه حين رأيت أنني أتناقض مع نفسي حين استمر في شرح النصوص وأنا لا أعرف شيئًا عن الخبرة التي صدرت عنها تلك النصوص. وهكذا تركت بفالو Buffalo [ميناء على بحيرة Erie وشلالات نياجرا. (المترجم)] وتخليت عن مسيرتي كأستاذ للغة الإنجليزية لأصبح محلِّلًا نفسيًّا لاكانيًّا» (V-VI). وتوجد نوايا مماثلة عن الطريق الأدبية إلى لاكان عبرت عنها بقوة جين جالوب Jane Gallop في Reading Lacan، عبرتْ، إذا جاز التعبير، بأسنان خبرتها كقارئة وناقدة.
٤٢  في عام ١٩٧٧م قدَّم فردريك جامسون Fredric Jameson في «الخيال والرمزي في أعمال لاكان» Imaginary and Symbolic in Lacan، صورة واضحة عما قد يتضمنه هذا النقد، إلا أنه منذ ذلك الوقت لم تظهر، إلا نادرًا، أعمال تفصيلية من هذا النوع الذي يركز بصورة خاصة على البؤرة اللاكانية.
٤٣  للاطلاع على مناقشة هيجل الأساسية عن «الروح الجميلة»، راجع Phen., 397–409.
٤٤  راجع Phen., 221–8, 406-7.
٤٥  راجع Phen., 225-6, 407.
٤٦  بالفرنسية في المتن. وقد رجع لاكان إلى «الروح الجميلة» في «الشيء الفرويدي» (٤١٥).
٤٧  بالفرنسية في المتن.
٤٨  بالفرنسية في المتن.
٤٩  بالفرنسية في المتن.
٥٠  اقتفى Jean Hypolite أسلوب هذا التلميح في الهوامش التي وضعها لترجمة الفينومينولوجيا ص٣٠٢-٣٠٩ (الجزء الأول)، وفي ص٢٧٥–٢٧٨ من Genése et Structure. ويوجد ديدرو في الفينومينولوجيا بصورة أفضل من وجود شيلر حيث يقتبس هيجل من Le Neveu de Rameau ضعف ما يقتبسه من شيلر، ويذكره بالاسم في الهوامش (Phen., 318–32).
٥١  نوقشت هذه الفقرة من قبل، راجع ص١٢٥ [من الأصل الإنجليزي، فصل بعنوان «لاكان»]، وتوجد صيغة من هذا التشابه، صورة مبكرة وأقل تأرجحًا في «الوظيفة والمجال» (٢٩١).
٥٢  راجع Of Structure as Inmixing of an Otherness Prerequisite to any Subject Whatever, in The Structuralist Controversy, ed. Richard Macksey and Eugenio Donato, 198.
وقد كُتب هذا البحث في مزيج من الإنجليزية والفرنسية ونُشر بالإنجليزية.
٥٣  بالفرنسية في المتن. وبهذه الفقرة ينهي لاكان بحثًا بعنوان La psychanalyse et son enseignement (٤٣٧–٤٥٨)، وقد قدم هذا البحث أول مرة في عام ١٩٥٧م أمام جمهور من ذوي الاهتمامات الفلسفية.
٥٤  عن المفهوم الحاسم الذي قدَّمه فرويد لكلمة Nachträlichkeit (الفعل المؤجل deferred action، أو retroaction، أو l’aprés-coup)، راجع لبلانش وبونتالي ١١١–١١٤.
٥٥  بالفرنسية في المتن.
٥٦  راجع Figures III, 82.
٥٧  قليلة هي العبارات العامة، عن العلاقة بين الأدب والتحليل النفسي، الأكثر موضعية من — إذا افترض المرء أن للعلاقة مستقبلًا — the Polemical Epilogue to C. Barry Chabot’s Freud on Schreber: «يمكن لنا أن نقول إن المشكلة التي تواجهها الجهود الأكثر استمرارية لتنظيم دراسة التحليل النفسي والأدب تتمثل في أنها تدرك الفوائد التي تنشأ عن المشروع وهو يسقط وحيدًا في اتجاه واحد: ظاهريًّا لا تقدم الدراسات الأدبية مَهرًا … وإذا استطاع التحليل النفسي أن يساهم بالفوائد الأساسية لنظريته السيكولوجية، فإن الدراسات الأدبية يمكن أن ترد المجاملة بتزويد التحليل النفسي بفوائد من تعرفه على الطبيعة اللغوية لشاهدها … وبهذه الروح التعاونية فقط يمكن إثراء كلٍّ منهما، ولا يمكن أن يصلا إلى نهايتين منفصلتين إلا باتحادهما» (١٥٢-١٥٣). ومن الأعمال التي تساهم في هذا البرنامج يبرز:
Peter Brooks’ Reading for the Plot. Design and Intention in Narrative (1984)
وترسخ مناقشته لما وراء مبدأ اللذة بصورة خاصة (٩٠–١١٢) معايير جديدة للقراءة النقدية لنصوص فرويد.
٥٨  راجع، مثلًا، تفسير الأحلام IV, 48-49, V, 535-536، ومحاضرات تمهيدية XV, 90، ودراسة في السيرة الذاتية XX, 59.
٥٩  يعيد فرويد صياغة عبارة فتشنر حين يقول: «يختلف مشهد عمل الحلم المثالي في حياة اليقظة» (GW, II/III, 51; IV, 48). وعن دَيْن فرويد لفتشنر، راجع Paul-Laurent Assoun, Introduction à l’épistémologie freudienne, 150–8.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥