الرسالة المسروقة وحالة بو١
إشارة
إن رأي لاكان أكثر جذرية من ذلك. إن فعالية القراءة لا تقتصر على فعالية المحلِّل، ولكنها تتضمن فعالية المحلَّل أيضًا: إنها تفسير لما يحدث على جانبَي الموقع التحليلي … اللاشعوري … ليس ببساطة ذلك الذي يجب أن يُقرأ، ولكنه أيضًا، وربما بصورة أساسية، ذلك الذي يَقرأ، اللاشعوري قارئ، ويتضمن ذلك بصورة أكثر جذرية أن كل من يَقرأ، ويفسر ما يخرج من اللاشعوري الخاص به، محلَّل، حتى حين يتم التفسير من وضع المحلِّل.
سأقوم بدراسة هذين السؤالين على نحو غير مباشر، بالتأمل، أولًا، في «حالة بو» في الدراسات الأدبية في علم النفس والتحليل النفسي قبل لاكان. وسأحاول، بعد ذلك، تحليل الاختلاف الذي قدَّمه لاكان في المقاربة التحليلية للقراءة والطريقة التي جعل بها لاكان الدرس الذي استنبطه من دراسة بو درسًا في التحليل النفسي.
إن التعليق على الشعر من منظور التحليل النفسي يعني، تقليديًّا، تحليل الشعر باعتباره عرَضًا من أعراض الشاعر. وأودُّ هنا أن أعكس تلك المقاربة، وأحلل أحد الشعراء باعتباره عَرَضًا من أعراض الشعر.
التأثير البو-يطيقي Poe-etic: تاريخ حالة أدبية
وهذا هو السبب في أن شعر بو يمكن تعريفه، وقد عُرِّف بالفعل، بأنه شعر ذو تأثير من الطراز الأول، بالمعنى الذي أكده هارولد بلوم: «إنه يتدفق.» أو أن له سلطة على الآخر. ويمكن التعليق، في الواقع، على حالة بو في التاريخ الأدبي باعتبارها حالة متفاقمة ومعقدة من حالات «قلق التأثير»، قلق يستثار بدون قصد نتيجة «تأثير» ينبعث من هذا الشعر بصورة لا تُقاوَم، إلا أن الشيء الفريد في تأثير بو، مثلما هو الحال بالنسبة لسحره، هو مدى إغواء فعله بصورة لا تقبل التعليل، بصورة تتجاوز السيطرة والإرادة وإدراك من يتعرضون لذلك التأثير. يكتب إليوت:
إن تأثير بو … يثير الارتباك. إن لشعره ونظرياته البويطيقية تأثيرًا هائلًا في فرنسا. ويبدو أن تأثيره ضئيل في إنجلترا وأمريكا … إلا أن المرء لا يمكن أن يكون على يقين من أن كتاباته هو ذاته لم تتأثر ببو. (ص٢٠٥)
ويواصل إليوت تعليقه دارسًا تأثير بو على بودلير ومالارميه وفاليري:
إنهم هنا يمثلون ثلاثةَ أجيالٍ أدبية، تكاد تمثِّل بالتمام قرنًا من الشعر الفرنسي. إنهم، بالطبع، شعراء مختلفون تمامًا … لكنني أظن أن باستطاعتنا اقتفاء تطور نظرية واحدة محددة عن طبيعة الشعر واقتفاء انتقالها بين هؤلاء الشعراء الثلاثة، وهي نظرية يرجع أصلها إلى نظرية … إدجار بو. والانطباع الذي نخرج به عن تأثير بو هو الأكثر تأثيرًا، حيث إن مالارميه، ومن ثَم فاليري، لم ينبثقا في الحقيقة عن بو عبر بودلير: تعرَّضَ كل واحد منهما بنفسه لذلك التأثير بصورة مباشرة، وترك دليلًا أكيدًا على القيمة التي يعزوها إلى نظرية بو ذاته وإلى ممارساته. (ص٢٠٦)
ومما يثير الغرابة بدرجة كبيرة، أنه بينما لا يوجد أدنى شك في أهمية بو على مستوى العالم وفي تأثيره الكبير، إلا أن بعض النقاد يستمرون في الاحتجاج والتصريح، بأعلى أصواتهم، بأن بو ليس مهمًّا، وأن بو ليس شاعرًا كبيرًا، يكتب الدوس هكسلي عن بو ويتهمه ﺑ «السوقية»:
هل كان إدجار ألان بو شاعرًا كبيرًا؟ لم يحدث بالتأكيد أن قال هذا الكلام أي ناقد من الناطقين بالإنجليزية، إلا أن الحال مختلف في فرنسا، حيث خرج منذ عام ١٨٥٠م حتى الآن أفضل الشعراء في كل جيل — نعم، وأفضل النقاد أيضًا؛ لأن بودلير ومالارميه وبول فاليري، شأنهم شأن معظم الشعراء البارعين، نقاد رائعون — خرجوا عن طريقهم لتبجيله … أما نحن الناطقين بالإنجليزية … فلا يمكن إلا أن نقول، مع كل الاحترام الواجب، إن بودلير ومالارميه وفاليري كانوا مخطئين، وأن بو ليس واحدًا من شعرائنا الكبار.
جاء نصُّ بو (وليست سيرة بو الذاتية عن العصاب الذي عانى منه) نتيجة للطبيعة الأصيلة لتأثيره القوي، ونتيجة لعمليات القراءة التي يستثيرها، وهو يمثل بكل وضوح حالةً تحليلية في تاريخ النقد الأدبي، حالة توحي بشيء حاسم علينا أن نفهمه بواسطة مصطلحات التحليل النفسي؛ وبالتالي لا يكون تناول أبحاث التحليل النفسي لبو بصورة متكررة، وتركيز أنظار النقاد التحليليين عليه، باستمرار مثيرًا للدهشة.
لاكان: مقاربة إشكالية النص
يستدعي رئيس الشرطة، بعد استنفاد كل الوسائل، أوجست دوبين، «المحلِّل» الشهير، كما يصفه بو (إنه مخبر هاوٍ بارع في حل المشاكل بالاستدلال المنطقي) ويحكي له القصة بكاملها. (وفي الحقيقة، عرف القُراء قصة الرسالة من هذا السرد من رئيس الشرطة لدوبين، وقد سجلها الراوي، وهو صديق دوبين، وكان حاضرًا حين كان رئيس الشرطة يحكي القصة لدوبين.)
وفي اللقاء الثاني، وسط الدهشة الهائلة لرئيس الشرطة والراوي، يخرج دوبين الرسالة المسروقة من درجه ويعطيها لرئيس الشرطة مقابل مكافأة مالية كبيرة. ينصرف الرئيس، ويشرح دوبين للراوي كيفية العثور على الرسالة: استنتج أن الوزير، الذي يعرف أن الشرطة ستقوم بتفتيش بيته بكل دقة، توصَّل إلى أن أفضل قاعدة لإخفاء الرسالة أن يتركها في مكان واضح، تحت أنظار الجميع، إن الرسالة، بكل دقة، لم تُكتشَف لأن كشفها لم يكن يحتاج إلى دليل. وبناءً على تلك الفرضية، عرَّج على جناح الوزير، وتلفَّت حوله، وفي الحال رأى الرسالة موضوعة على رفٍّ في حامل للبطاقات. وبعد ذلك بوقت قصير، أثار رجل يعمل لحساب دوبين ضجة في الشارع جعلت الوزير ينظر من النافذة، وفي هذه اللحظة استبدل دوبين الرسالة بنسخةٍ طبق الأصل.
- الأولى: نظرة لا ترى شيئًا: الملك والشرطة.
- الثانية: نظرة ترى أن الأولى لم ترَ شيئًا، وتتوهم أنها تتكتم على ما تخفيه: الملكة ثم الوزير.
- الثالثة: ترى أن النظرتين الأولى والثانية تركتا ما يجب إخفاؤه في متناول يد من يريد الاستيلاء عليه: الوزير ودوبين في النهاية (ص٤٤).
وقد صممت الشكل التالي لتخطيط تحليل لاكان وتوضيح الإدراك البنيوي التزامني الذي يقترحه للتطور التعاقبي الزمني في الدراما.

ويؤكد لاكان أن «ما يهمنا اليوم» …
هو الطريقة التي تحل بها الذوات إحداها مكان الأخرى في إزاحتها أثناء التكرار الموضوعي.
-
(١)
ماذا يكرر التكرار القهري؟ تفسير الاختلاف مقابل تفسير الهوية. ترى بونابرت أن ما يتكرر بصورة قهرية في نصوص بو المختلفة هو الفنتازيا اللاشعورية ذاتها: رغبة بو في أمه الميتة، وهي رغبة سادية في اشتهاء الموتى sadonecrophiliac. ويرى لاكان أن ما يتكرر في النص ليس محتوى الفنتازيا، ولكن الإزاحة الرمزية للدال في تأكيد سلسلة دالة. والتكرار هنا ليس تكرارًا للتماثل ولكنه تكرار للاختلاف، إنه ليس تكرارًا لمصطلحات مستقلة أو لموضوعات متشابهة ولكنه تكرار لبنية علاقات تبادلية متباينة،١٦ إن ما يعود فيه هو آخر دائمًا. وهكذا تكرر البنية الثلاثية عبر اختلاف الشخصيات التي تتتابع لاحتلال الأوضاع الثلاثة، ولا يمكن لنا أن ندرك دلالتها البنيوية إلا عبر هذا الاختلاف. وبصورة مماثلة تكمن دلالة الرسالة في إزاحتها، أي في تحركاتها المتكررة إلى أماكن مختلفة. وحيث إن المشهد الثاني، في رأي لاكان، يمثل إليجوريا التحليل، فإن أهميته لا تقتصر على تكرار المشهد الأول، ولكنها تمتد إلى الطريقة التي يقدم بها هذا التكرار (مثل التكرار الإحالي لخبرة تحليلية) اختلافًا: يأتي بحل للمشكلة. وهكذا بينما تحلل بونابرت التكرار باعتباره تأكيدًا للهُوية، يرى لاكان أن أية رؤية محتملة لواقع اللاشعوري تعتمد على إدراك التكرار بوصفه تأكيدًا لاختلاف لا يزول، لا بوصفه تأكيدًا للهوية.
-
(٢)
تحليل الدال مقابل تحليل المدلول. في ضوء قراءة لاكان لحكاية بو باعتبارها إليجوريا القراءة التحليلية، قد يكون من المهم تحديد الفرق بين مقاربة لاكان ومقاربة بونابرت للقصة. إذا كان من الممكن أن نقول إن الرسالة المسروقة علامة اللاشعوري، فإن مهمة المحلِّل، في رأي بونابرت، تكمن في كشف محتوى الرسالة، وتعتقد — شأنها في ذلك شأن الشرطة — أنها مخبأة في مكان ما من الواقع، في عمق بيوجرافي سري. ومن الناحية الأخرى، يرى لاكان أن مهمة المحلل لا تكمن في قراءة المحتوى المرجعي الخفي الذي تتضمنه الرسالة، ولكنها تكمن في تحديد وضع المغزى السطحي لحركتها الخارجية، وتحليل الدليل الرمزي لإزاحتها، وهو دليل ينطوي على مفارقة، ولتأكيدها البنيوي، في سلسلة دالة. يكتب بو: «ثَمة شيءٌ بمثل هذا العمق، إن الحقيقة لا توجد في بئر دائمًا. وأظن، في الحقيقة، أن معظم المعارف المهمة توجد على السطح دائمًا.»١٧ ويتخذ لاكان، متبنيًا رؤية بو، من مبدأ الدليل الرمزي مرشدًا لتحليل الدال وليس تحليل المدلول، لتحليل اللاشعوري (المكبوت) ليس بوصفه شيئًا خفيًّا، ولكن على العكس بوصفه شيئًا مكشوفًا — في لغة — عبر إزاحة (بلاغية) مهمة.ومع أن تحليل الدال على هذا النحو يمكن أن يوجد نموذج له في تفسير الأحلام لفرويد، إلا أنه يمثل انقلابًا جذريًّا للتوقعات التقليدية في المقاربة التحليلية العامة للأدب وبحثها الدائم عن المعاني الخفية. وفي الحقيقة، لا تمثل قراءة لاكان ﻟ «الرسالة المسروقة» مجرد تقويض للنموذج التقليدي في القراءة التحليلية: إنها، عمومًا، قراءة غير مسبوقة في تاريخ النقد الأدبي. لقد عوَّدَنا تاريخُ القراءة أن نفترض — عادةً، دون شك — أن القراءة هي العثور على المعنى، وأن التفسير لا يمكن أن يتأسس إلا على ما له معنًى. ويكشف تحليل لاكان للدال فرضية جديدة تمامًا، فرضيةً جاءت نتيجة، منهجية ومنطقية نافذة البصيرة لاكتشافات فرويد: إن ما يمكن قراءته (وربما ما يجب قراءته) ليس المعنى، ولكن الافتقار إلى المعنى. إن الدلالة لا تكمن في الوعي، لكنها تكمن، بصورة خاصة، في تمزُّقه، يمكن أن يتم تحليل الدال بواسطة تأثيره ودون أن نعرف مدلوله. إن الافتقار إلى المعنى — الانقطاع في سياق الفهم الشعوري — يمكن تفسيره على هذا النحو، بل ويجب تفسيره عليه، دون تحويله بالضرورة إلى معنًى، يكتب لاكان «لنلقِ نظرةً»:
سوف نجد إضاءة فيما يبدو، للوهلة الأولى، أنها أمور قاتمة: حقيقة أن الحكاية تتركنا في الحقيقة دون أن نعرف مرسل الرسالة أو محتواها (ص٥٧).
إن الدال ليس أداة وظيفية … ربما نسلم حتى بأن الرسالة تحمل معنًى يختلف تمامًا (إن لم يكن بصورة أكثر إلحاحًا) بالنسبة للملكة عن المعنى الذي فهمه الوزير، ولن تتأثر سلسلة الأحداث تأثرًا ذا بال، وحتى لو لم تكن مبهمة تمامًا بالنسبة للقارئ الذي يجهلها (ص٥٦).
وهذا هو التأثير اللاشعوري الحقيقي بالمعنى الدقيق حيث ندرِّس أن اللاشعوري يعني أن الإنسان مسكون بالدال (ص٦٦).
وهكذا يرى لاكان أن ما هو تحليلي من الطراز الأول ليس المقروء [المفهوم] (كما ترى بونابرت)، ولكن ما هو غير مقروء وتأثيرات غير المقروء، إن ما يقتضي التحليل هو إلحاح غير المقروء في النص.
وقد قال بو ذلك كله، بالطبع، في التعليق على طبيعة ما دعاه هو أيضًا — بصورة مذهلة للغاية، في الحقيقة — «التحليلي»: «إن السمات الذهنية التي تُدرس باعتبارها تحليلية لا تقبل التحليل، في ذاتها، إلا بصورة ضئيلة. إننا لا نفهمها إلا من خلال تأثيراتها.» ومن الغريب تمامًا أن ما قاله بو عن التحليل بحماس بقي هو ذاته بدون تحليل، ولم يلاحظه في الحقيقة أحد من دارسي التحليل النفسي قبل لاكان؛ ربما لأنه، أيضًا، طبقًا لمنطقه التحليلي الخاص «لا يحتاج إلى دليل بدرجة» تجعله لا يُدرَك.
-
(٣)
المقاربة النصية مقابل المقاربة البيوجرافية. يتضمن تحليل الدال نظرية في النصية تصبح بالنسبة لها بيوجرافيا بو، أو ما يُدْعى مرضه، أو التحليل النفسي المفترض لشخصيته، بلا أهمية. إن الافتراض المسبق — الذي يحكم أعمالًا من قبيل عمل ماري بونابرت — بأن الشعر لا يمكن تفسيره إلا باعتباره سيرة ذاتية، تفسيرٌ قاصر ومحدود بصورة واضحة. ويقدم التحليل النصي في أعمال لاكان، للمرة الأولى، بديلًا تحليليًّا للمقاربة البيوجرافية التي لم تكن قبل ذلك موضع شك، وكانت تبدو كاملة.
-
(٤)
علاقة المؤلف/المحلِّل: تدمير نمط السيد/العبد وتضاد الطبيب/المريض. لنتذكرْ كم من القراء عانوا من الارتباك نتيجة تأكيد التحليل النفسي، ذلك التأكيد المخزي والمتدني أحيانًا ﻟ «علة» بو، وأيضًا نتيجة الشروح التي تساوي بين الشِّعري والذُّهاني. وكان يبدو أن الشك لم يتطرق إلى عقول قراء التحليل النفسي في أنه إذا كان من الممكن لوضع القراءة أن يشبه وضع التحليل النفسي، فإن الشاعر يتساوى بالمريض المعتل، وبالمحلَّل على الأريكة. ويدمر تحليل لاكان، مع ذلك، هذا الوضع الإكلينيكي الذي يوضع فيه الشاعر ويدمِّر معه، أيضًا، طمأنينة المفسِّر التي «تجاور» ذلك الوضع. وإذا كان لاكان لا يهتم ﺑ «علة بو»، إلا أنه مع ذلك يهتم اهتمامًا كبيرًا بصورة الشاعر في الحكاية، وبالفرضيات التي تفترض بشأن كفاءته أو عجزه. يقال إن الوزير ودوبين شاعران، وإن التعليل الشعري الذي يقدمانه هو ما يفشل رئيس الشرطة في فهمه، ويمكنهما بالتالي من التفوق على الشرطة. «د … أظن أنه ليس أحمق تمامًا.» هكذا يعلِّق دوبين في بدايات القصة، ويرد رئيس الشرطة على ذلك بالقول:
ليس أحمق تمامًا … ومن ثَم فهو شاعر، وأظن أنه لا يبعد سوى خطوة واحدة عن الحماقة.
وقال دوبين بعد أن سحب نفسًا عميقًا من غليونه: «حقًّا، مع أنني شعرتُ بالإثم من كتابة بعض النظم التافه» (ص٣٣٤).
والسؤال الذي لا يطرحه لاكان كان يمكن أن ينشأ عن التأكيد على نقطة أخرى من الطبيعي ألا تثير الانتباه؛ لأنها، مرة أخرى، واضحة وعديمة الدلالة بصورة لافتة للنظر: لماذا يقول دوبين إنه، أيضًا، ينتابه إحساس بالإثم نتيجة نظم بعض الشعر؟ بأية صورة يتضمن وضع الشاعر إحساسًا بالإثم؟ بأي معنًى يمكن أن نفهم إثم الشاعر؟يلفت دوبين أنظارنا، بالتالي، إلى حقيقة أنه هو والوزير شاعران، وهي درجة من الكفاءة لا يصل إليها رئيس الشرطة. وحين يشرح دوبين، بعد ذلك، للراوي هزيمة رئيس الشرطة، يؤكد مرة أخرى على عدم قدرة رئيس الشرطة على رؤية المنطق أو «مبدأ الإخفاء» الذي يناسب الشعراء، وهكذا (كما قد يُفترض) يكون شعريًّا بصورة خاصة:
هذا الموظف مرتبك تمامًا، ويكمن المصدر البعيد لهزيمته في افتراض أن الوزير أحمق؛ لأنه اكتسب شهرة بوصفه شاعرًا. الحمقى كلهم شعراء، وهو ما يشعر به رئيس الشرطة حين يشعر بالإثم شعورًا تامًّا من مسألة لا تستحق ذلك نتيجة استنتاجه أن الشعراء كلهم حمقى (ص٣٤١-٣٤٢).
في ترجمة بودلير لقصة بو إلى الفرنسية بقيت كلمة أحمق fool، بالمعنى القديم القوي، fou؛ أي بمعنى «مجنون mad». ومن ثَم، آن أن نقدم الصياغة الجديدة التي أعدها لاكان لهذه الفقرة من القصة:وبعد ذلك، ثَمة لحظة من السخرية [من قِبل دوبين] من خطأ رئيس الشرطة في استنباط أنه ليس من المستبعد أن يكون الوزير مجنونًا لأنه شاعر، ويبرهن على أن هذا الخطأ قد يكمن … ببساطة في تصنيف زائف من صنع الطرف الأوسط، حيث إنه بعيد عن [الطرف] التالي، عن حقيقة أن المجانين كلهم شعراء.
نعم، حقًّا، لكننا تُرِكنا في الظلام فيما يتعلق بتفوق الشاعر في فن الإخفاء (ص٥٢).
تبدو هذه الفقرة من القصة، ويبدو تعليق لاكان هامشيين وعرَضيين، إلا أن العلاقة المفترضة بين الشعر والجنون لها صلة دالة بحالة بو وبمقاربات التحليل النفسي، المقاربات الأخرى التي وضعناها في الحسبان. ألَا يمكن القول إن خطأ ماري بونابرت (الذي يتمثل، شأنه في ذلك شأن خطأ رئيس الشرطة، في الانهماك في البحث عن معنًى خفي) يكمن في حقيقة أنها، شأنها في ذلك شأن رئيس الشرطة مرة أخرى، تساوي ببساطة بين الشِّعري والذُّهاني، وهكذا تفشل، وقد أغشى بصرها ما ترى أنه العجز الشعري، في رؤية القدرة الشعرية أو فهم خصوصيتها؟ إن الكثير من دراسات التحليل النفسي التي تشخص علة الشاعر، وتبحث عن سره الشعري في شخصه (مثلما يفعل رجال الشرطة) تشبه في الواقع تحقيقات الشرطة، وتفشل، مثلما تفشل الشرطة في قصة بو، في العثور على الرسالة، وتفشل في رؤية نصية النص.إن لاكان، بالطبع، لا يقول هذا كله، ولا يراهن عليه في التحليل الذي يقدمه. وكل ما يقوم به هو طرح سؤال آخر حين اعتقدنا أننا حصلنا على إجابة ما:
نعم، حقًّا، لكننا تُرِكنا في الظلام فيما يتعلق بتفوق الشاعر في فن الإخفاء.
إلا أن هذا السؤال الذي يبدو هامشيًّا، ويُطرح بصورة عابرة، ويُترك دون إجابة، يوحي باحتمال وجود بؤرة مختلفة اختلافًا تامًّا في القصة أو وجود منظور مختلف للتفسير. إذا كانت «الرسالة المسروقة» تمثل بصورة خاصة قصةَ «تفوق الشاعر في فن الإخفاء»، إلا أنها ليست مجرد إليجوريا التحليل النفسي، ولكنها أيضًا، في الوقت ذاته، إليجوريا الكتابة الشعرية، ولاكان ذاته شاعر لدرجة أن ما يتم إخفاؤه بتفوق في سيميناره هو التفكير في الشعر.
إلا أنه لا يمكن فهم تفوق الشاعر في التفسير الذي يقدمه لاكان للوضع الثالث المتعلق بالرسالة إلا باعتباره تفوقًا بنيويًّا: الوزير في المشهد الأول، ودوبين في المشهد الثاني، وكلٌّ منهما شاعر، لكن الوضع الثالث يمثل أيضًا، وهذه هي النقطة الأساسية في مقاربة لاكان، وضع الشاعر الذي لم يعد وضع المريض المعتل، ولكن، إذا كان لا بد، فإنه وضع المحلِّل. وإذا كان الشاعر لا يزال متَّهمًا بالحماقة، فإن حماقته — إن وُجدت (ويبقى السؤال مفتوحًا) — هي في الوقت ذاته حماقة المحلِّل. إن التناقض الواضح بين الجنون والصحة العقلية، أو بين الطبيب والمريض، تناقض لا شعوري لا يستطيع أحد أن يمسك به أو يسيطر عليه. «لا توجد ميتا لغة Metalanguage»، كما يقول لاكان: لا توجد لغة يمكن أن يتجنب فيها التفسير تأثيرات اللاشعوري، والمفسِّر ليس محصَّنًا أكثر من الشاعر ضد الضلالات والأخطاء اللاشعورية. -
(٥)
التضمين، مقابل التطبيق، في نظرية التحليل النفسي. لم تعد مقاربة لاكان تقع ضمن القسم الذي أُطلقَ عليه «التحليل النفسي التطبيقي»، حيث يتضمن مفهوم التطبيق وجود علاقة خارجية بين العلم التطبيقي والحقل الذي يُفترَض، من اتجاه واحد، أنه يقدم المعرفة. وحيث إن نص بو، في التحليل الذي قدَّمه لاكان، يفسِّر نص فرويد بالضبط مثلما يفسِّر نصُّ فرويد نصَّ بو، وحيث إن نظرية التحليل النفسي والنص الأدبي يقدم كلٌّ منهما المعرفةَ للآخر، ويزيحه، وحيث إن الوضع الحقيقي للمفسِّر — المحلِّل — يصبح داخل النص وليس خارجه، يتلاشى إذَن التعارض الواضح والحدود الصارمة بين الأدب والتحليل النفسي: يمكن أن يكون التحليل النفسي متغلغلًا في الأدب intraliterary بقدر ما يمكن أن يكون الأدب متغلغلًا في التحليل النفسي intrapsychoanalytic. إن الرهان المنهجي لم يعد تطبيق التحليل النفسي في الأدب، ولكنه، بالأحرى، رهان التضمين المتبادل في كلٍّ منهما.
التحليلي البو-يطيقي The Poe-etic Analytical
لنعد الآن إلى السؤال الحاسم الذي تركناه معلقًا من قبل، بعد طرحه بنقض شرط فرويد المتعلق بنوع البحث الذي تقدمه ماري بونابرت: هل يمكن أن يقدم لنا التحليل النفسي بصيرة للنفاذ إلى خصوصية الشعري؟ ويمكن الآن أن نكمل هذا السؤال بسؤال آخر: كيف يمكن تحديد وضع التحليلي فيما يتعلق بشعر بو؟
لكن هذا، في مفارقة وافية، هو الشيء المشترك بين الشعر والتحليل النفسي. إنهما موجودان بقدر ما يقاومان قراءتنا. وحين يتم اصطيادهما في فعل، يُسرَقان من جديد باستمرار.
وهو مترجم عن: Shoshana Felman, Jacques Lacan and the Adventure of Insight: Psychoanalysis in Contemporary Culture (Cambridge, Mass., 1987), pp. 27–32, 39–51. Reprinted in K. M. Newton, Theory into Practice (Macmillan, 1992), pp. 174–191.
Shoshana Felman, Jacques Lacan and the Adventure of Insight: Psychoanalysis in Contemporary Culture (Cambridge, Mass., 1987), pp. 2–10, 12.
From Poe to Valéry, Hudson Review, Autumn 1949.
وقد أعيدت طباعتها في:
The Recognition of Edgar Allan Poe: Selected Criticism since 1829, ed. Eric W. Carlson (Ann Arbor: University of Michigan Press, 1966), p. 3–5.
وسنذكر هذه المجموعة من المقالات بعد ذلك باسم Recognition، وتحتوي على عدد من المقالات المتنوعة يمكن ذكرها بإيجاز على النحو التالي:
P. P. Cooke, ‘Edgar A. Poe’ (1884); T. S. Eliot, ‘From Poe to Valéry’ (1949); T. W. Higginson, ‘Poe’ (1987); Aldous Huxley, ‘Vulgarity in Literature’ (1931); G. B. Shaw, ‘Edgar Allan Poe’ (1990); Edmund Wilson, ‘Poe at Home and abroad’ (1993); Yvor Winters, ‘Edgar Allan Poe: A Crisis in American Obscurantism’ (1937).
وسيذكر فيما يلي باسم Poe.
Barbara Johnson’s The Frame of Reference: Poe, Lacan, Derrida, in The Critical Difference: Essays in the Rhetoric of Contemporary Criticism (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1980).
وكل الإشارات الواردة في هذا المقال إلى سيمينار لاكان عن بو هي إشارات إلى هذه الترجمة.
وكل الإشارات إلى ماري بونابرت في هذا المقال هي إشارات إلى الطبعة الإنجليزية.
‘Turning the Screw of Interpretation’, in Writings and Madness: Literature/Philosophy/Psychoanalysis (Ithaca: Cornell University Press, 1985).