صارت جملة فرويد، اللاشعوري لا يعرف زمنًا، من الأقوال الميتاسيكولوجية المأثورة،
وقد
تعرَّض تفسيرها لسوء الفهم غالبًا. ومع ذلك، كيف يمكن لشيء موجود ألا يتعرض لعوادي الزمن؟
من المفترض أن اللاشعور أتى إلى الوجود في لحظة معينة من الزمن، وأنه يختفي في لحظة معينة
من الزمن. وقد صاغ لاكان النقد الفلسفي في إيجاز بارع على النحو التالي:
I
استمرَّت الجلسةُ بين خمس عشرة دقيقة وثلاثين دقيقة، وبدت بالنسبة لي طويلة غالبًا.
فقط ذات مرة، في البداية، نسي أنني كنت في المكتبة، وحين انتهيت من الطَّرق على باب
مكتبه، كان في حالة غيظ شديد، ويكاد يصرخ في وجهي لأنني لم أعلن عن وجودي قبل ذلك.
انتهيت من ترتيب لموعدي الخاص بحيث لا يكون عليَّ أن أنتظر أكثر …
٨
ليست هذه هي الطريقة المتبعة في ترتيب اللقاءات بين المحللين ومرضاهم.
٩ ويبدو أن هوفشتاين
Hofstein كان محلَّلًا
يتمتع بالقوة بصورة خاصة تجعله يقرر ترتيب الموعد من جانبه، وليس من جانب لاكان.
ويواصل، في الحقيقة، هذا التعليق عن تحليله مع لاكان ليعطي مثالًا آخر عن توكيد الذات
بصورة ناجحة:
اكتشفت أنه كان الوقت الذي كان يعد فيه
كتابات Ecrits للنشر. بدأ الجميع يتحدثون عنه، وسمعتُ أشياء
عن ممارساته لم تكن تتفق مع خبرتي معه. ذات يوم حكيت له قصة بذيئة تتناقلها الألسن. قال
«إنها ليست صحيحة». وقررت أنها كانت صحيحة، وقلتُ له ذلك. وحين رفضتُ العودة إلى نقط
معينة، لم يلح. كان المحلِّل هو الموجود وليس «أنا» لاكان
the ‘I’ of
Lacan. وكان في قدرة المرء أن يجبره على أن يبقى في موضعه كمحلِّل
حين غادر ذلك الموضع، وهذا شيء تعلمتُه معه، مثل تقنية.
١٠
«وكان في قدرة المرء أن يجبره على أن يبقى في موضعه …» حين كانت المسألة مسألة زمن،
كان عليَّ أن أجبره على عقد اللقاء في اللحظة التي تناسبني. ولكن كيف تفعل ذلك؟ كيف
تُثُبِّتَ الموعد
rendez-vous من طرف واحد؟
١١
وكان لا بد أن تثير ممارسةُ لاكان، الممارسةُ غير المألوفة في جلسات مختلفة الطول،
أسئلةً من هذا القبيل. وكانت أهمية غرفة الانتظار هي النتيجة الأوضح والأكثر إثارةً
للدهشة في التعليقات المتنوعة التي قدمتها الإشاعة عن تلك الممارسة. المحلَّلون ينتظرون
في مجموعات، ويتوقعون (وربما لا يتوقعون، طبقًا للحالة) أن يتم استدعاؤهم. وحين يقارن
بالانتظار التقليدي — حين يحضر المرء قبل الموعد على غير توقع، ويستنبط من ثَم أن خبرة
الانتظار، بمعنًى ما، زائدة وغير ضرورية ومستحثة ذاتيًّا
self-induced، حين تقاس بالمقارنة مع الزمن
الموضوعي للموعد، أو حين ننتظر الآخر، الذي يتأخر، ولكن طبقًا للساعة فقط — تجرد فترة
الانتظار اللاكاني الساعةَ من استبدادها الموضوعي الذي يفتقر إلى المعنى، ويصبح السؤال:
ما الزمن الموضوعي الذي يمكن أن أقيس به انتظاري؟ يقدم لغزُ الزمن المنطقي إجابةً، كما
سنرى لاحقًا في هذا الفصل، ولكن يمكن أن نرى فورًا أن المشاكل في معظمها تتعلق بالعلاقة
مع الآخر؛ الآخرون كلهم في الوضع ذاته، ينتظرون، والآخر على شرف كلمته ينتظر. إن ترتيب
اللقاءات مع الآخر، انتظار الإنسان، الاستيلاء على الآخر، يمتد إلى العثور على تقنية
ليبقى الآخر في موضعه الحقيقي.
هناك الكثير يقال عن الرأي الذي يقول إن لاكان طوَّر ممارسته للجلسات مختلفة المدة
بوصفها «تقنية فعَّالة»
active technique وخاصة. وتشير
«تقنية فعالة» هنا إلى مجموعة من الممارسات التي ناقشها رانك
Rank وفرنيزي
Ferenczi في عملهما الكلاسيكي، وهو عمل استُقبل
استقبالًا مشوَّشًا في حينه، وأثار الخلاف منذ صدوره، وبصورة أكثر تحديدًا، ما يقوم به
لاكان من إنهاء الجلسة حين يرى ذلك مناسبًا، بدلًا من إنهائها حين تعلن الساعة أن عليه
إنهاءها، طبقًا لاتفاق سابق بين المريض والمحلِّل،
١٢ ربما انصب باتجاه نوع خاص من المرضى: المريض المصاب بالوسواس القهري. وقد
واجه لاكان هؤلاء المصابين بالوسواس في جبهتين: جبهة مرضاه وجبهة زملائه المحلِّلين،
كما قال فيما يلي:
وقد تم تناول التقنية بأسلوب كئيب، صموت لدرجة التعتيم، أسلوب يبدو مرعبًا لأية
محاولة لاقتحام هواء النقد، الهواء المنعش. وافتُرض في الحقيقة أن هواء الشكلية اندفع
إلى تلك الأبعاد الاحتفالية التي ربما تحير المرء بشأن ما إن كانت تحمل التشابه نفسه
مع
عصاب الوسواس القهري الذي عرَّفه فرويد بصورة مُقنِعة في ملاحظة الشعائر الدينية، إن
لم
يكن في تخليقها.
١٣
وكان لاكان يدرك إدراكًا جيدًا فينومينولوجيا عصاب الوسواس القهري؛ مما جعلها تبدو
محاكاة ساخرة لكلٍّ من مبدأ الواقع وعمليات التفكير: الإبطاء، الشك، التردد، التسويف،
القدرة على عدم إحداث أي شيء، سواء أكان ذلك بسرعة بالغة أم ببطء بالغ. وقد التقط لاكان
هذه التيمة من أعمال فرويد، وجعلها مركز العالَم بالنسبة للمصاب بالوسواس القهري،
العالم الذي لا يعرف الزمن
non-time. تدخل لاكان بين
النظرية الهيجلية عن جدلية السيد والعبد ونظرية فرويد عن الأب العقابي، المستعد دائمًا
لمعاقبة الرغبات الاستحواذية، بحيث يؤدي ذلك إلى ظهور صورة المصاب بالوسواس القهري الذي
ينتظر دائمًا موت السيد، الأب،
١٤ ويعمل وهو ينتظر. وبصورة مثالية، سوف يعمل، من منظور المصاب بالوسواس
القهري، على ألا ينتج شيئًا، أن يملأ زمن الانتظار بأفعال ليست أفعالًا،
ungeschehenmachen، كما يدعوها فرويد، يبطل
undo ما تم ويجعله كأنه لم يكن،
١٥ «وكأن أي فعل لم يحدث، بينما يحدثان كلاهما في الواقع».
١٦ بدايةً يكون الإبطال وقائيًّا: ليمنع حدوث أي حدث أو
إعادة حدوثه — وهو، بهذا المعنى، معقول. العنصر «غير المعقول» يكمن في
«ألا يجعله يحدث» — في العبث بالماضي، و«سيحاول الشخص العصابي أن يجعل الماضي نفسه غير
موجود [
aufzuheben]».
١٧ وهكذا ينتظر المصاب بالوسواس القهري لأنه دخل زمنًا لا وجود له، مؤكِّدًا
على عدم حدوث حدثٍ حدثَ: دخل عالمًا مستحيلًا، بالضبط مثلما يصبح أيُّ رقم لا نهائيًّا
بالقسمة على الصفر، يصبح أي زمن فارغًا، يصبح أمدًا محضًا، حين يُجرَّد من أي شيء حدث
بالفعل. إن زمن الأمد المحض هو زمن الموضوع المحض: الموضوع الذي لا يعرَّف إلا
بأمده.
وهكذا يغترب المصاب بالوسواس القهري عن الزمن، ويضع لاكان هذا الاغتراب بجوار
الاغتراب الموجود في كتابات هيجل وماركس: ولا يقتصر الأمر على ذلك.
عمل يدوي يأخذه الآخر مني — وهي العلاقة المكوِّنة لكل عمل — لكن تعرف الذات على
جوهرها في عملها اليدوي، العمل الذي يجد فيه العامل مبررًا لوجوده، يتملص منه أيضًا؛
لأنه هو نفسه «ليس فيه». إنه في اللحظة المتوقعة لموت السيد، سيبدأ حياته من تلك
اللحظة، ويتقمص في أثناء ذلك [
en attendant
quoi] دور السيد كميت؛ ونتيجة لذلك يكون هو نفسه
ميتًا بالفعل.
١٨
إن
انتظار المصاب بالوسواس القهري له علاقة جوهرية
مع هذه
اللحظة من لحظات الموت، والعمل الذي ينهمك
فيه، أثناء التحليل، المصاب بالوسواس القهري، هو التداعي الحر أولًا وقبل كل شيء،
التداعي الحر الذي يراه (على العكس من الهستيري) عملًا قسريًّا. بصعوبة، «يبذل مجهودًا
لخداع السيد بإظهار النوايا الطيبة في عمله»؛
١٩ — إغوائيًّا — «يتم توظيف «دأب» الذات في الحقيقة لإغواء المحلِّل»،
٢٠ إلا أنه، في رأي لاكان، عرضةٌ للهجوم إلى حد بعيد:
ومن ثَم كيف يمكن أن نرتاب في تأثير أي ازدراء يُبديه السيد تجاه إنتاج ذلك العامل؟
وقد يربك مقاومة الذات على نحو تام.
٢١
وهذا التعرف على — وقد يظنه المحللون الآخرون تعاطفًا مع — مأزق المريض الذي يعاني
من
الوسواس القهري الذي دفع لاكان لإعطاء كل هذه القيمة التقنية لجلساته «القصيرة».
ليس عندي الكثير مما يمكن أن أقوله عنه إذا لم أكن مقتنعًا بأنني، في تجريب ما سُمي
بجلساتي القصيرة، في مرحلة من خبرتي انتهت الآن، كنتُ قادرًا على كشف فنتازيا الحمل
الشرجي
anal pregnancy في أحد المرضى الذكور، وأن أكشف
أيضًا حلم انتهائه بعملية قيصرية، في تأجيل نهاية الجلسة حيث كنت بدلًا من ذلك أستمع
إلى تأملاته عن فن دوستويفسكي.
٢٢
وهكذا يتوافق نقد لاكان للمحللين الآخرين، المتواطئين بازدراء مع أعراض الوسواس
القهري التي يعاني منها مرضاهم، مع إدراكه لأهمية الزمن والنهايات والترقيم بالنسبة
للمريض الذي يعاني من الوسواس القهري ولعمل ذلك المريض.
٢٣ ويبقى أنها تقنية غريبة: نتصور المحلل ضجرًا من الاستماع إلى تأملات المريض
عن دوستويفسكي،
مطولًا الجلسة
بصورة مدروسة، متخمًا بتوقع الاستماع إلى
المزيد من تلك التأملات العقيمة. ويرضى، بدلًا من ذلك، بفنتازيا الحمل
الشرجي التي انبثقت في «تأجيل [
délai]» النهاية. يطيل المحلل عملية الانتظار
بصورة مدروسة، ثم، ويا لها من مفارقة، يختصرها. وهو لا يُظهر الازدراء الذي يُكنُّه
المحللون الملتزمون بالساعة
the clock-analysts لإنتاج
مرضاهم، مع أن الازدراء موجود دون أدنى شك، في التقييم الضمني للتأملات في دوستويفسكي،
وبدلًا من ذلك يبدو أنه يقول للمريض في عملية التأجيل: «ما تقوله مهم للغاية — لأنه
تافه وعقيم — حتى إن علينا الاستماع إلى المزيد منه، أكثر مما تظن أن علينا أن نسمع
طبقًا للزمن الذي تحدده الساعة.» وتتمثل أهمية هذه اللحظة الساخرة في التقدم الجدلي،
حين «يبدأ المحلل مقاربة مسألة نوايا الأنا في ذواتنا»،
٢٤ تتمثل في الوصول إلى الأهمية بإثارة التفاهة. وهي مسألة عكس أن تلهث لتسمع،
تقرأ، ترى الحلقة الأخيرة من الرواية البوليسية التي انهمكت فيها أسبوعًا وراء أسبوع،
وعكس علامة الترقيم جنس «[الرواية البوليسية] من فعلها؟»
whodunnit، حيث تُفصح علامة الاستفهام أكثر مما
تفصح «من
who» أو «فعل
dunn» أو «ها
it».
وهنا يبين المحلل للذات أن «ماذا بعد؟» تتمرأى في الزمن السردي بواسطة «أوه، لا شيء»
في
الزمن الاستحواذي، ويمكن أن يتم تصويرها على هيئة محاكاة ساخرة لما يميز أي إنسان
ويشبعه.
وهذا الفهم لتقنية الجلسات متنوعة الطول كان يجب أن يُصنَّف غالبًا تحت المصطلح
البسيط الذي استخدمتُه من قبلُ: الترقيم
punctuation.
وفيما يبدو أنه جاء كفكرة تالية، استطاع لاكان أن يلاحظ أننا باستخدام هذه التقنية، «لا
نفعل أكثر من أن نضع لكلام الذات ترقيمه الجدلي».
٢٥ ولكن ليس هذا المعنى سوى واحد من المعاني التي استُخدم فيها مصطلح الترقيم،
ويمكن لنا أن نطلق عليه المعنى البنيوي
structural، وهو
معنيٌّ ببنية الخطاب، وتنظيم السرد، لتاريخ الذات، التاريخ الذي يُروى من جديد. ويوجد
على الأقل ثلاثة معانٍ أخرى لهذا «الترقيم». والمعنى الأكثر ارتباطًا بالمعنى البنيوي
هو «التوكيد
underlining»، أو «التشديد
emphasis»؛ الوسيلة غير اللفظية للتشديد، الوسيلة
التي لا يتم التشديد عليها
بشدة:
يعزو كل محلِّل أهميةً عظيمة لكل شيء، يلقي فجأة أثناء الجلسة بعض الضوء على بداية
الجلسة. وربما يختار المرء أن يشارك المريض في ذلك، ولكن إن كنتُ لا أودُّ أن أشدَّ
انتباهه إلى ذلك بصورة ملحوظة للغاية، سأُضطر إلى إنهاء الجلسة عند تلك النقطة معتبرًا
أن وقف الدلالة جدير بعلامة ترقيم، وكلُّ ما عدا ذلك لا يعدو أن يكون شيئًا يحدث مع الإحالة.
٢٦
ويتواشج هذا المفهوم، مفهوم الترقيم، مع رؤية المحلل بوصفه كاتبًا، وبوصفه معلِّقًا،
يكتب على حافة نص المريض، إلا أن ذلك يثير سؤالًا في التو: لماذا لا نستخدم معانيَ أخرى
للتشديد، المعاني التي يتم تقديمها بالفعل في الإطار الذي يقبل فكرة أن التحليل النفسي
ممارسة للكلام؟ وفي الحقيقة، لا يوجد أدنى شك في أن المحللين حولوا صوت الخنزير إلى
أداة للتواصل، أداة مهذبة ودقيقة.
٢٧
ويوجد معنًى إضافي للترقيم، أبعد من البناء والتشديد، هو معنى «زمن بين
time between»: وقفة للتنفس، التوقف والبدء، التردد
والتسرع، الاندفاع والكمون؛ فينومينولوجيا كاملة للزمن، لتأرجحه واحتشاده، لنبضه
وسكونه، ويتمتع بأقصى أهمية في عملية الكلام. وبهذا البعد من أبعاد المصطلح، نطرق مجال
السيمنطيقا، وهو مجالٌ شقَّ بحثُ لاكان عن الزمن المنطقي طريقَه إليه، وسوف أتناوله
بالتفصيل في القسم التالي من هذا الفصل. ولكن بإثارة مسألة فضاء الكلام، الفضاء
الداخلي، نكون أيضًا قد دخلنا إلى مقاطعة دريدية
Derridean [نسبة إلى جاك دريدا. المترجم] معروفة:
لماذا لا نستخدم المصطلحات الدريدية عن الفضاء و
الاختلاف différance لنصف هذه الوظيفة، التدخل المؤقت للمحلل؟
٢٨
وآخر معنًى للترقيم أود توضيحه قريب أيضًا من مجال الانعكاس الذي سنعود إليه في
الكلام عن بحث لاكان عن الزمن المنطقي. حين يتدخل المحلل بترقيم خطاب المريض (سواء أكان
ذلك بإنهاء الجلسة أو بأية وسيلة أخرى)، فإنه يصرِّف زمن التحليل على نحو متناغم مع
خبرة المريض بالزمنية، أو، على نحو أفضل، مع كونه في زمن محدَّد، وهو شكل كبير من أشكال
التدخل، سواء أكان يريد ذلك أم لا يريده، يدركه أم لا يدركه، وسوف يؤدي حتمًا إلى
التسرع، ويعجل بالنتيجة؛ أو ربما يطيل الانتظار شاحذًا معنى التردد. وقد طوَّر لاكان
هذه الحتمية، حتمية مثل هذا الترقيم الزمني وعلاقته بالزمن المنطقي على النحو
التالي:
ومن ثَم يكون الترقيم المفيد هو ذلك الترقيم الذي يمنح خطاب الذات معناه، وهذا هو
السبب الذي يجعل من فضِّ الجلسة — وهو ببساطة وطبقًا للتقنية المعاصرة، فسحة كرونومترية
chronometric break [الكرونومتر: أداة لقياس الزمن
بدقة بالغة. المترجم]، وهو بذلك يُمثِّل مسألةَ حياد بالنسبة لخيط الخطاب — يلعب الجزء
الخاص بالتقطيع العروضي [
une
scansion] الذي يتمتع بالقيمة التامة لتدخل المحلل
للتعجيل باللحظات النهائية، ويجب أن تقودنا هذه الحقيقة إلى تحرير عملية الإنهاء من
الوقوع في الاستخدام الروتيني، وإلى استخدامها لأغراض التقنية بكل الوسائل الممكنة.
٢٩
وكان ذلك شكلًا من أشكال ضبط الممارسة، وسوف نستكشف الدعامات والتشعبات النظرية في
القسم التالي من هذا الفصل.
ومهما يكن الأمر، فلنعد الآن إلى الشخص الذي يعاني من الوسواس القهري، الذي يمد
المحلِّل بخبرة مباشرة تمامًا، خبرة الشكوك بالنسبة لواقع الزمن؛ ومن ثَم يستثير فيه
المعضلات المتعلقة بالممارسات الزمنية المناسبة لخبرة من هذا القبيل. في «انتظار موت»
الذي يعاني من الوسواس القهري، يوجد شقَّان: الانتظار والموت. إلا أن هاتين التيمتين
ربما تكونان غير قابلتين للانفصال: ربما لا يكون الانتظار مجرد تأجيل، وربما يتم تجويف
المفهوم الحقيقي للزمن بانتظار قد يمهِّد الطريق أمام فكرة الموت، أو يجعلها ممكنة، وقد
أكَّد فرويد، ضد بعض الشواهد «الإمبيريقية» المهمة،
٣٠ أن اللاشعوري لا يعرف شيئًا عن الموت: «الموت مفهوم مجرد ذو محتوًى سلبي
ولا يمكن أن يوجد له ارتباط لا شعوري».
٣١ وتمضي هذه البديهية متلازمة مع بديهية أخرى؛ اللاشعوري لا يعرف زمنًا، إنه
بلا زمن
timeless. وقد حافظ فرويد على توتر متواصل بين
حقيقة الموت باعتباره النهاية، النهاية الشاملة، وإنكار الموت، إنكار خميرته
leavening ورمزيته بواسطة الأشياء الأخرى. وقد برهن
في تفسير الأحلام على أن الأطفال لا يعرفون أي فارق بين «مَن مات» و«مَن مضى».
٣٢ وفي «أفكار للزمن عن الحرب والموت»، وضع حلًّا للتناقض بين معرفة الموت
كإنهاء للحياة وإنكار الموت واختزاله إلى لا شيء، في خبرة الألم لموت شخص محبوب أو
مكروه، وفي الجيل التالي لفكرة الروح والعالم الآخر: حفظ الحياة واستمرارها في الموت.
٣٣ ومن ثَم تفتح الحركة العكسية، حفظ الموت واستمراره في الحياة، بالقرب من
النقطة نفسها في كتابات فرويد، تفتح اتجاهًا جديدًا وأساسيًّا في تفكيره: فكرة
«الاستبطان»، استبطان المحبوب الغائب كتأسيس للأنا؛ النظرية التي شقت طريقها في
«الحِداد والاكتئاب». وبعد ذلك وبمزيد من التفصيل في «
الأنا
والهو»،
٣٤ ويبقى أنه لا يوجد موت في اللاشعوري من منظور فرويد، ما يوجد هو خوف الأنا
من الأنا العليا، وهو محتوًى تُقدمه تجسيدات عقدة الإخصاء، أو «القلق نتيجة الانفصال
عن
الأم التي تمثل الحماية».
٣٥ إنه ممكن فقط، استرجاعيًّا، نتيجة الخوف من الإخصاء.
٣٦ وإذا كانت الأنا في «مجمل مبادئ التحليل» تغوي الأنا العليا خلال عملها
الاضطراري في التحليل، فإن هذا لا يحدث إلا لأنها تهاب الأنا العليا: تعمل، وعملها
تأجيل على نحو غامض، انتظار يستعطف السيد، الاحتمال الحقيقي للموت.
٣٧
وهنا يعدِّل لاكان ويفنِّد تناول فرويد للموت مثلما يتوسع فيه. بالنسبة لفرويد، في
عام ١٩٢٣م، لا يوجد للموت ارتباط لا شعوري لأنه «مفهوم مجرد ذو محتوًى سلبي». وهذا
«المفهوم المجرد ذو المحتوى السلبي» هو الرمزي عند لاكان: المقولة التي ترسم حدود
المجال الفرويدي. وفي هذا السياق، يمكن أن يشير لاكان على نحو صحيح إلى تأمل فرويد، ذلك
التأمل الدقيق إلى حد كبير في «إنكار
negation» ارتباط
السنين فيما بعد. حقًّا: اللاشعوري لا يعرف زمنًا، لا يعرف موتًا، لا يعرف إنكارًا.
وترتبط كلها معًا في رأي فرويد، بدلًا من الموت، نجد تمثيل الانفصال والخوف من الفقد،
بدلًا من الإنكار، نجد الكبت والاستبعاد
expulsion.
٣٨ ومهما يكن الأمر، يرى لاكان أن مناقشات فرويد هنا في حاجة إلى التدعيم أو
التعديل. يقدِّم لاكان بعض التأملات في العلاقة بين الرمز والشيء: «الاسم زمنُ الموضوع.»
٣٩ ويرى لاكان أن السمة الأساسية للموضوع، أمدَّه في الزمن، تمنح له في ميثاق
التسمية، حيث يبتكر شخصان عالمًا رمزيًّا. ويرتبط بهذا ادعاءٌ بأن الرمز «يبدو في
المقام الأول باعتباره قاتل الشيء، وهذا الموت يشكِّل في الذات تخليد رغبتها».
٤٠ وفي الارتفاع بالشيء إلى مستوًى آخر، يُفقَد جوهره إلى الأبد: يصبح شيئًا
على علاقة بأشياء أخرى؛ أي إنه يصبح جزءًا من النظام الرمزي.
يقدم وجود الرمزي الاحتمال الحقيقي للغياب، لا توجد ثقوب في الواقع، لا يوجد غياب
«واقعي»، يصبح الغياب ممكنًا بترميز الحضور،
٤١ يتضمن الحضور كشرط أصيل الحدودَ التي وراءها يكمن غيابه، والموت هو الاسم
الذي يطلق على هذا الغياب الأساسي.
وهكذا حين نودُّ أن نحقِّق في الذات ما كان من قبل إفصاحًا متتابعًا بواسطة الكلام،
وما هو أساسي لميلاد الرموز، نجده في الموت، حيث يكتسب وجودُها [الذات] كلَّ معناه.
٤٢
ومن ثَم، يصبح ما هو بالنسبة لفرويد، مجرد وسلبية محضة؛ وبالتالي لا يقبل التمثيل
(في
اللاشعوري)، يصبح بالنسبة للاكان المحرِّك المفضل لكل تمثيل، لكل معنًى. طالما يُنصَّب
الموتُ فيَّ، في بداياتي،
٤٣ طالما كنتُ كائنًا متكلمًا، يستحضر موت الأشياء عبر ميلاد اللغة، طالما كان
لي أنا
an ego، أثر
لتقمص مع آخر ميت دائمًا بصورة أساسية، طالما كنتُ إنسانًا يعرف وجود ما بعد الحياة
an after-life (بتعبير فرويد)، وجود نظام رمزي
(بتعبير لاكان)، فأنا حي إذن. في تعليق لاكان على المصاب بالوسواس القهري باعتباره
عبدًا، إذا ارتبط بالحياة، فإنه يضيِّع جوهر الحياة، يقين الموت بوصفه أفقها. وبدلًا
من
ذلك
يعيش انتظار الموت باعتباره حياته. وكما سنرى،
عرف لاكان مقولات الزمنية، تلك المقولات التقليدية الجدلية (مقولات الحياة/الموت
والماضي/المستقبل) عن الانتظار/التعجيل، مؤكدًا على الفعل الذي يضع نهاية لزمن
الانتظار، الزمن الموضوعي، وبالطريقة نفسها التي رسم بها فرويد في «موضوع التوابيت
الثلاثة» إحلال الاختيار مكان الكبت، حدد بدقةٍ مأساة لير باعتبارها رفضًا لاختيار
الموت، الاختيار الوحيد أمام رجل عجوز.
ولا تتطلب الألفة العملية مع عالم الزمن عند المصاب بالوسواس القهري، لا تتطلب
بالضرورة تغيرًا في الممارسات التقنية. ربما تحتاج شكلًا خاصًّا من
نفاد الصبر التحليلي
analytic
impatience. والمثال الواضح هو نفاد الصبر الذي نشأ عن الحماس
العلاجي لساندور فرنيزي
Sándor Ferenczi. وحتى هو،
المشهور بتقنياته الفعَّالة، كان مُتعجلًا، حين هُوجم، لتوضيح أن هدفه كان أساسًا
«مساعدة المريض، بالحيل البارعة، ليستجيب بصورة أكثر نجاحًا لقواعد التداعي الحر؛ ومن
ثَم يساعد أو
يُعجِّل استكشاف المواد اللاشعورية».
٤٤ وربما يُقدَّر نفاد صبر المحلِّل، الذي هو موضع التساؤل هنا، من وصف فرنيزي
للوضع الوحيد الذي يمكن فيه تبرير التقنيات الفعَّالة: كان «جمود المحلِّل المبرر
الوحيد والحافز الوحيد للتعديل».
٤٥ هل كان نفاد صبر فرنيزي يشبه تمامًا إدراك لاكان للمرونة التي يتطلبها الذي
يعاني من الوسواس القهري من المحلِّل؟ يوجد بالتأكيد الكثير من النقط المشتركة. وقد
استكشف فرنيزي «الفعاليات» الخاصة بكلٍّ من المحلِّل والمريض:
لا يتطلب التحليل أية
فعاليات من المريض سوى التحلي
بالدقة في ساعات العلاج، وباستثناء ذلك لا يحدث تأثير على النمط العام للحياة …
٤٦
وبينما يكون من الممكن أن تتطلب القاعدة الأساسية أن يكون المريض سلبيًّا، باستثناء
مهم، ألا وهو الالتزام بالدقة، فإنه لا يوجد أبدًا محلِّل سلبي: إن التناقض بين
التقنيات الفعَّالة والسلبية تناقض زائف، حيث يكون المحلل فعالًا طالما يقوم بالتفسير.
٤٧ ومهما يكن، فقد صُمِّمت التقنيات الفعالة عند فرنيزي لتعمل عبر الإشباع
المقنَّع الذي يناله المرضى من التحليل، بينما تم تصميم تقنيات لاكان لكسر التواطؤ بين
مراسم الوسواس القهري والمحلِّل واستراتيجيات التأجيل الاستحواذي. وتتمثل إحدى صور
الجلسة العادية مع المريض الذي يعاني من الوسواس القهري، تتمثل عند لاكان في الشك
والتردد والصمت، لا شيء يحدث.
٤٨ وتصور الأخرى شخصًا تمسك قبضته الاستراتيجية بالخطاب بصورة محكمة وناجحة
إلى حد بعيد بحيث يستحيل حدوث شيء غير مُواتٍ.
٤٩ وقد وجد المريض، في رأي فرنيزي، إشباعًا بديلًا متوازنًا، وعلى المحلِّل أن
يقتحم، كما لو كان من الخارج. وبالنسبة للاكان، يتم ترسيخ الاستقرار في العلاقة
المتبادلة بين الذوات بواسطة المريض والمحلِّل:
… وحيث إنه يعرف أنه فانٍ، فإنه يعرف أيضًا أن السيد يمكن أن يموت؛ ومن ثَم يكون منذ
تلك اللحظة قادرًا على قبول عمله لدى السيد والتخلي عن اللذة أثناء ذلك. وفي ظل عدم
التأكد من اللحظة التي سيموت فيها السيد، لا يكون هناك سوى الانتظار.
وهذا هو السبب الذي يكمن في العلاقة بين الذوات، شأنه شأن الشك والإرجاء اللذين
يمثلان السمات المميزة للذات التي تعاني من الوسواس القهري.
٥٠
ويوجد التناقض بين تقنية فرنيزي الفعالة، التي ركزت على المريض الذي صار عالمه حصينًا
للغاية، المريض الذي يبدو عالم الآخرين، بالنسبة له، وكأنه فقدَ كل أهميته ونفوذه، وبين
تقنية لاكان، التي تتأسَّس على معرفة أن المحلِّل، بدقته المتناهية واستقامته، يتواطأ
—
ويكون فعالًا في سلبيته الأصيلة — مع من يعاني من الوسواس القهري، متتبعًا بإخلاصٍ سير
المريض في طريق السيد إلى الضريح، والمصطلح الأساسي، الذي ميَّز أعمال لاكان في أواخر
الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، هو
intersubjective
[بين الذوات]، ويظهر في الفقرة السابقة التي اقتبسناها، حيث يحول تعليق فرويد على
فينومينولوجيا الشك والتردد عند مريض الوسواس القهري إلى تعليق بين ذوات.
٥١ وكان لاكان يعلق آماله حقًّا على أساس علمي للتحليل النفسي: علم ما بين
الذوات.
لن يقدم التحليل النفسي أساسًا علميًّا لنظريته أو لتقنيته إلا إذا تمت صياغته في
أسلوب يناسب الأبعاد الجوهرية لخبرته التي تمثل مع النظرية التاريخية عن الرمز: منطق
ما
بين الذوات وزمنية الذات.
٥٢
وكان لهذين المفهومين، «منطق ما بين الذوات وزمنية الذات»، مكانتهما المميزة عند
لاكان، ويشيران مباشرةً إلى مقالين كتبهما في عام ١٩٤٥م، كسر بهما حاجز الصمت الذي فرضه
على نفسه أثناء الحرب. وهكذا تتطلع الإشارة إلى الخلف، إلى عمل أُنجزَ بالفعل، وتقدم
أثناء ذلك وعدًا، وعدًا تجسَّد في هذين البحثين. وحتى يمكن لنا أن نفهم مفهوم الزمن،
ومفهوم ما بين الذوات، في التحليل النفسي كعلم؛ ومن ثَم نفهم كيف أصبح الزمن حاسمًا
بهذه الصورة بالنسبة لممارسات لاكان ونظريته، علينا أن نتناول هذين البحثين ببعض
التفصيل.
II
لكنني أسمع دائمًا من خلفي
مركبة الزمن تسرع مجنَّحةً بالقرب مني،
وهنالك أمامنا تمتد
صحاري الأبدية الهائلة.
أندرو مارفيل، «إلى سيدته الحييَّة»
Andrew Marvell, “To His Coy
Mistress”
يأتي مدير السجن بثلاثة من النزلاء ويوقفهم أمامه ويقول لهم:
«لأسباب لا أريد أن أعلنها لكم الآن، أيها السادة، عليَّ أن أطلق سراح أحدكم، وحتى
أقرِّر من منكم سيُطلَق سراحُه، سأترك القرعة تحدِّد ذلك، إن كنتم لا تمانعون، بإجراء
اختبار لكم.
«أنتم ثلاثة الآن. ويوجد هنا خمسة دسكات لا تختلف إلا في اللون: منها ثلاثة بيض،
واثنان أسودان، وبدون أن أخبركم أيها اخترتُ، سأقوم بتثبيت أحد هذه الدسكات بين كتفَيْ
كل منكم، أي بعيدًا عن نظر حامل الدسك، ويستبعد أي احتمال لقدرته على إلقاء نظرة غير
مباشرة عليه لعدم وجود أي وسيلة ينظر فيها إلى نفسه.
وبعد ذلك سيكون كل واحد منكم حرًّا في النظر على مهل إلى رفيقيه وإلى دسك كلٍّ منهما،
بحيث لا يُسمَح، بالطبع، أن تتبادلوا المعلومات التي ترونها. وهو أمر ستحول بينكم
وبينه، على أية حال، اعتبارات تتعلق باهتمام كلٍّ منكم بنفسه فقط. وسوف يستفيد أول من
يستطيع استنباط لون الدسك الذي معه من الحرية التي نقررها.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يأتي الاستنتاج نتيجةً لأسباب منطقية وليس كمجرد احتمالات.
ونتفق الآن على أنه بمجرد أن يكون أحدكم مستعدًّا للتعبير عن هذا الاستنتاج، أن يعبر
عتبة هذا الباب ليتم الحكم على إجابته وهو بمفرده.»
وبقبول هذا الاقتراح لُصِق دسكٌ أبيض بين كتفَي كلٍّ منا، ولم يتم استخدام الدسكين
الأسودين، علينا أن نتذكر أنهما كانا اثنين فقط.
كيف يمكن أن يحلوا المشكلة؟
يجري الحل الدقيق على النحو التالي:
بعد أن فكروا بعض الوقت a certain time، يسير الثلاثة معًا
بضع خطوات باتجاه الباب، ويصلون معًا، ويقدم كلٌّ
منهم منفصلًا إجابة مماثلة لإجابة رفيقيه، على النحو التالي:
«معي دسك أبيض، وقد عرفتُ ذلك على النحو التالي. بافتراض أن رفيقيَّ معهما دسكان
أبيضان، كنت سأفكر في أنه إذا كان الدسك الذي معي أسود، فإن كلًّا منهما يكون قادرًا
على الاستدلال التالي: «إذا كان الدسك الذي معي أسود، فسوف يعرف الآخر، مباشرة، من ذلك،
أن الدسك الذي معه أبيض، دون تردد؛ ومن ثَم فالدسك الذي معي ليس أسود.» وسيكون على
الآخرَين أن يغادرا وهما على يقين من أن معهما دسكين أبيضين. وإذا كانا قد تسمَّرا
مكانهما، فإن ذلك يرجع إلى أن معي الديسك الأبيض مثلهما؛ ومن ثَم فقد تقدمت إلى الباب
لأعلن استنتاجي.»
ومن ثَم فقد غادر الثلاثة معًا، مسلحين بالأسباب نفسها لاتخاذ القرار.
٥٣
والعنصر الحاسم في مناقشة لاكان لهذه السفسطة هو «بعض الوقت»، فترة التردد، الفترة
المطلوبة لحل المشكلة. لا يمكن للشخص الأول «أ» أن يستنبط أن معه الدسك الأبيض إلا إذا
كان يرى أن «ب» و«ﺟ» غير متأكدين
مما معهما: العلامة
الوحيدة التي قدَّمها على عدم التأكد هي تسمُّرهما، إلا أنه بمجرد أن يدرك «أ» أن
تسمُّرهما يدل على أنه هو نفسه معه الدسك الأبيض، يكون عليه أن يعجِّل، حيث إنه لا يود
فقط أن يكون أول من يصل إلى الباب، لكنه يعرف أيضًا بالضرورة أن انتظاره يدل بالنسبة
لهما على أنه لا يرى دسكًا أسود، بالإضافة إلى أنه إذا انتظر وقتًا طويلًا للغاية، فسوف
يبدأ الآخران قبله، وسوف يختفي أساس برهانه على أن معه الدسك الأبيض، سيختفي، إذا جاز
التعبير، تحت أقدامه المترددة. ومن ثَم، تتضح قيمة السمة الزمنية لمنطق المشكلة، تتضح
في الفعل الذي يبين به كلٌّ منهم أنه أنهى فترة الانتظار، السمة الزمنية.
٥٤
ومن المهم أن نوضح بنية المشكلة التي يستخلصها لاكان، البنية التي ستخدمه بعد ذلك
في
عمله بوصفها النموذج لكل العلاقات بين الذات ومجموعة الدوال والزمنية. توجد ثلاث لحظات
برهانية ضرورية لحل المشكلة:
-
(١)
أولًا، توجد لحظة الرؤية: بالاستبعاد المنطقي، إذا رأى شخصٌ دسكين أسودين، فسوف يعرف أن الدسك الذي معه أبيض. وتُعطَى هذه اللحظة
البرهانية مع بنية المشكلة؛ إنها لحظة فورية، لحظة زمنها المنطقي صفر؛ ومن
ثَم يكون الشكل المناسب للاستنباط هو التعبير المنطقي غير الشخصي «يعرف
المرء أن …»
-
(٢)
ثانيًا: يبني الشخص على هذه البديهية المنطقية الخطوةَ التالية من
البرهان، اللحظة المنطقية التالية. البرهان هو: «إذا كان الدسك الذي معي
أسود، من ثَم لن يتردد من معهما الدسكان الأبيضان اللذان أراهما في استنتاج
أن الدسكين اللذين معهما أبيضان.» والكلمة الأساسية هنا هي «يتردد»
hesitate. إنهما بقدر عدم ترددهما بقدر
ما يدرك الشخص أنهم لن يترددا إذا شاهدا دسكًا أسود على ظهره. بالنسبة
لكلٍّ منهم، يوجد زمن للتأمل يُلاحَظ في عيون الآخر، بحيث يقطع كلٌّ منهم
زمن الفهم الذي يتمفصل مباشرة على زمن تأمل الآخر. إذا كان الشخص «أ» معه
دسك أسود؛ فإنه من ثَم يكون قادرًا على رؤية أفكار الآخرين تتكشف في زمن
تأملهما: «إذا كان الدسك الذي معي أسود، كان الآخران سيغادران دون أن
ينتظرا ولو لحظة. إذا بقي وتأمل، فلا بد أن ذلك مصدره أن الدسك الذي معي
أبيض.» وهكذا يكون لزمن الانتظار معنًى موضوعي. ولكن كيف يمكن لنا أن نقيس
زمن التأمل؟
يمكن اختزال الزمن اللازم للفهم إلى لحظة التطلع، لكن هذا التطلع يمكن أن
يتضمن في لحظته كل الزمن اللازم للفهم. وهكذا، تتذبذب موضوعية هذا الزمن مع
حدوده، ولا يكمن معناه إلا في شكل الأشخاص الذي يتولد بواسطتهم، الأشخاص
الذين لا يُعرَفون إلا بالتبادل القائم بينهم، ويتعلق فعلهم في السببية
المتبادلة في زمن يختفي حتى في عودة البديهة التي جعلته محسوسًا. وفي هذا
التلطيف لزمن مفتوح، مع المرحلة الثانية من الحركة المنطقية، المسار الذي
يأخذنا إلى الخطوة التالية.
٥٥
-
(٣)
الخطوة الثالثة والأخيرة، يقول كلٌّ منهم لنفسه: «عليَّ أن أعجِّل بتأكيد
أن الدسك الذي معي أبيض، بحيث لا يسبقني رفيقاي اللذان معهما الدسكان
الأبيضان في الإعلان عما معهما.» وهنا، بعد الزمن اللازم للفهم الذي يربط
تبادليًّا بين أشخاص غير محددين، نجد لحظة تأكيد الذات
self-assertion، لحظة الحكم. ويتبع
الزمن اللازم للفهم إحساسٌ بالتأخر
الفعلي: «إذا كان الدسك الذي معي أبيض، يكون لزامًا عليَّ
أن أسرع حتى لا يسبقاني.» إن لحظة الإحساس بالتأخر
الفعلي (الشديد) تبدو منطقيًّا تعجلًا في لحظة الاستنتاج.
من التردد، يؤدي الخفقان مباشرة إلى إحساس بالتأخر الشديد. وهذا الاندفاع
ليس مجرد تأثير طارئ للموقف الدرامي؛ على الشخص أن يسرع؛ لأنه إذا لم يسرع،
وفاز عليه الآخران، فإنه بعد ذلك لن يكون على يقين من أن الدسك الذي معه
ليس أسود. ومن المحتمل، في الحقيقة، أن يستنتج أن الدسك الذي معه أسود، حيث
إن برهانه على أن الدسك الذي معه ليس أسود يعتمد على الجمود الذي أصاب
الشخصين الآخرين؛ ومن ثَم لا تنشأ الحاجة إلى الاندفاع، الحاجة إلى
الإسراع، عن ظروف المشكلة الطارئة: إنها بالأحرى متأصلة في الشكل المنطقي،
بالضبط مثلما تمثِّل حقيقةُ التردد الوسيلةَ الوحيدة التي يمكن للشخص
بواسطتها أن يعثر على حل المشكلة. وهذا النوع الشخصي المؤكد من الحكم الذي
اتضح في السرعة التي يمضي بها الشخص إلى الباب هو البرهان الذي يقدمه لاكان
لتمييز هذه اللحظة المنطقية بوصفها «تأكيدًا ذاتيًّا
subjective assertion»، حيث تكون الذات
المنطقية كالذات الشخصية، «ضمير المتكلم the
I». وهذا الشكل الشخصي من أشكال الذات، على عكس الذات
اللاشخصية، ذات لحظة التطلع، أو ذات ما بين الذوات، ذات زمن الفهم، معزول
في الاندفاع الوقتي، حيث يتم تحويل الزمن اللازم للفهم إلى لحظة
للاستنتاج.
لن أتوغَّل هنا في الاهتمام الكبير الذي ينشأ عن هذه السفسطة حين نضع في الاعتبار
الشك الذي يستولي على كل شخص من الثلاثة وهو يرى الآخرَين يعدوان إلى الباب، يأتي الشك
على النحو التالي: «هل اخترتُ اللحظة المناسبة لاستنتاج أن الدسك الذي معي أبيض؟» ويمكن
لنا، بالأحرى، أن نتجاوز ذلك ونلاحظ أن يقين الشخص بأن الدسك الذي معه أبيض تأكد في
الفعل نفسه، وليس قبل الفعل. واحتمال الحقيقة، احتمال أن يكون الشخص على صواب، يتأسس
في
الاندفاع الذي يقدم اليقين، بينما يمكن أن يتأسس الخطأ على جمود الشخص، على عدم الرغبة
في القبض على لحظة الاستنتاج (إذا انتظر مدةً بالغة الطول — كيف يمكن أن يكون طول تلك
المدة؟ — فسوف يرى الآخرَين يمضيان قبله؛ ومن ثَم يستنتج أن الدسك الذي معه
أسود).
والنتيجة التالية التي يستخلصها لاكان هي أن هذا الشكل المنطقي يحمل في داخله مرجعية
زمنية تلائم العلاقة بين الشخص الأول، «ضمير المتكلم»، وذات التبادلية، الذات التي
تتبادل العلاقة مع الذوات (الأنا كما يعرِّفها فرويد في
سيكولوجيا الجماعة وتحليل الأنا بوصفها العامل الذي يتم تعزيز انفصاله
عن الأنا المثالية
the ego ideal بتكوين الجماعة عبر التقمص)؛
٥٦ ينشأ الشخص الأول فيما يتعلق بالقياس العام للذات التبادلية؛ أي فيما يتعلق
بالزمن الذي يلزمها للفهم.
٥٧ وهكذا تعتمد الحقيقة، في هذا المنطق الجمعي الذي يضعه لاكان مقابل المنطق
الكلاسيكي، تعتمد على الآخر باعتباره متعلقًا بزمن، ولا توجد وسيلة يمكن أن تصل الذات
بها إلى حقيقتها الخاصة إلا في صحبة الآخر وعن طريق حقائقه.
وهكذا، طالما نحن جميعًا عُصابيون، وطالما نحن جميعًا وحوش صغيرة، من نوع رديء، أو
لا
نبعد عن الحظيرة إلا قليلًا، فسوف يطبِّق لاكان هذا المنطق الجمعي على أي برهان يتعلق
بما يُدعى الطبيعة الإنسانية:
٥٨
-
(١)
الخطوة الأولى: يعرف كائن بشريٌّ ما ليس كائنًا بشريًّا.
-
(٢)
الخطوة الثانية: تتعرف الكائنات البشرية كلٌّ منها على الآخر بوصفها
كائنات بشرية.
-
(٣)
الخطوة الثالثة: أؤكد أنني إنسان؛ خوفًا من أن أقتنع على أيديهم بأنني
لستُ إنسانًا.
وبهذه الملاحظة يُنهي لاكان بحثه القصير. وهي ملاحظة تشير باتجاه نظرية للجمعي، أو
الجماعة: باتجاه منطق جمعي. ما الأمثلة التي يوردها لهذا المنطق؟ يذكر مثالين: لعبة
البريدج والديبلوماسية. ويتضح فورًا أين ينشأ هذا المنطق الجماعي في لعبة البريدج: في
اللحظة التي أُخدَع فيها.
٥٩ والديبلوماسية هي فن الابتعاد عن الوطن لتدلي بأكاذيب من أجله، وتواجه
موقفًا شبيهًا تمامًا بالموقف الذي يجد سجناء لاكان، الثلاثة، أنفسهم فيه: يقضي
الديبلوماسيون أوقاتًا طويلة في محاولة لتقدير ما يفكر فيه الآخرون، ليصلوا سريعًا إلى
نتيجة لم يقصدها أحد، ولكن الجميع يوافقون عليها. والموافقة هي لحظة وصول المشاركين
جميعًا إلى الباب، ليعلن كلٌّ منهم أن الدسك الذي معه أبيض، أبيض كالجليد
المندفع.
إلا أن إشارات لاكان كانت أيضًا صورية أكثر من ذلك. لم يكن في ذهن لاكان الزمنية
اللامركزية للتفاوض فقط، ولكن كانت في ذهنه أيضًا التطورات المعاصرة في نظرية اللعب،
التي تأسَّس عليها معظم التفكير الديبلوماسي منذ الحرب العالمية الثانية، وقد اتخذ من
لعبة البوكر ومنطق المخادعة نموذجًا.
٦٠ وبصورة أكبر، صاغ لاكان فكرة منطق الجماعة. وتُعتبر استمرارًا لمشروع فرويد
في
سيكولوجيا الجماعة وتحليل الأنا.
٦١ وبينما ركَّز فرويد على المؤسسات التي تُعتبر على درجة عالية من التنظيم
(الكنيسة والجيش) والجماعات الكبيرة المنظمة تنظيمًا هشًّا، موضحًا أن لها بنية مشتركة،
علاقة الأنا مع الأنا المثالية، ركَّز لاكان على «الجماعات» التي يُحدَّد تكوينها ببعض
القواعد الرفيعة؛ قواعد اللعبة.
٦٢ وبينما انشغل فرويد بعملية التقمص في الجماعة بصورة أساسية، العملية التي
يتم بواسطتها تكوين الجماعة عبر التقمص، بيَّن لاكان كيف تميز الذات نفسها كذاتٍ مختلفة
في عملية التقمص. وبينما كان فرويد وعدد كبير من معاصريه مولعين بخصائص الجماعات التي
تشبه القطيع، أي بطمس الاختلاف، تمنَّى لاكان لو يوضح كيف انبثق الاختلاف من القواعد
التي ميزت تكوين الجماعة.
٦٣ وقام بمزيد من الاستكشاف لهذه الأفكار في بحث آخر نُشر في
دفاتر الفن the Cahiers d’Art في نهاية الحرب: «الرقم ثلاثة عشر
والشكل المنطقي للريبة».
٦٤
ويقدم هذا البحث، شأنه في ذلك شأن البحث عن الزمن المنطقي، مشكلة ثم يحلها. وينصبُّ
اهتمام البحثين أساسًا على خصوصية الحل. وهنا يقدم لاكان فكرة عن الإطار العام له ليرى
هذين البحثين في ضوء التحليلات الصارمة للسلوك الإنساني باعتباره يتحدد بصورة مطلقة
بواسطة قواعد اللعبة، وهو تحليل يُشكل أحد أول التحليلات الرئيسية ﻟ «منطق
الريبة»:
إنه جزء واحد من محاولاتنا لتوليد طرق لإدراك الأشكال المنطقية التي تحكم علاقات
الفرد بالجماعة ككلٍّ، قبل تكوُّن الطبقة، وبتعبير آخر قبل تحديد خصائص الفرد.
٦٥
توجد اثنتا عشرة قطعة، تبدو كلها متشابهة، ولكنَّ إحداها «رديئة»، تختلف في وزنها
عن
الإحدى عشرة قطعة الأخرى، وليس من المعروف ما إذا كانت أثقل أم أخف. وباستخدام ميزان
بسيط تكون المشكلة: تعرف في ثلاثة أوزان على القطعة ذات الوزن المختلف. ويكون الحل على
النحو التالي: قسِّم الاثنتي عشرة قطعة إلى ثلاث مجموعات «أ»، «ب»، «ﺟ» تتكون كل مجموعة
من أربع قطع. زن «أ» مقابل «ب»، إذا كانتا متساويتين في الوزن، تكون القطعة الرديئة في
«ﺟ» بالضرورة. خذ قطعتين من القطع الأربع التي تشكل المجموعة «ﺟ»، ولنفترض أنهما «ﺟ١»
و«ﺟ٢»، وزنهما مقابل بعضهما؛ إذا تساوتا في الوزن تكون القطعة الرديئة واحدة من
الاثنتين الأخريين. زن إحداهما، «ﺟ٣»، مقابل «ﺟ١»؛ وإذا تساوتا في الوزن، تكون القطعة
الرديئة «ﺟ٤»، وإذا لم تتساويا، تكون القطعة الرديئة «ﺟ٣». إذا لم تكن «ﺟ١» و«ﺟ٢»
متساويتين في الوزن، فسوف نقرر بإجراء مماثل أية قطعة منهما ذات الوزن المختلف.
وإذا لم تكن المجموعتان «أ» و«ب» متساويتين، يكون علينا أن نستخدم أسلوبًا مختلفًا،
حيث تكون القطع الثماني كلها مجالًا للشك، حيث إنه من غير المعروف ما إذا كانت القطعة
ذات الوزن المختلف أخف أم أثقل من القطع الأخرى، يقول لاكان إننا الآن أمام مشكلة ثماني
قطع، وليس مشكلة أربع قطع، ومع «ريبة مقسَّمة». ويواصل:
نقترب هنا من جدل أساسي لعلاقات الفرد بالجمعي
collective [التجمع collection]، وهي علاقات تشتمل
على الالتباس الضخم جدًّا أو الضئيل جدًّا.
والمبدأ اللازم لحل المشكلة الآن هو مبدأ الدوران: استبدل بثلاث قطع من قطع المجموعة
الثقيلة، وهي مكونة من أربع قطع، ثلاثًا مأخوذة من قطع المجموعة «ﺟ»، ومن المعروف أنها
مكونة في هذه الحالة، حيث إن «أ» و«ب» ليستا متساويتين، من أربع قطع «جيدة»، وسيتم وزن
هذه المجموعة مقابل القطع الثلاث المأخوذة من المجموعة الثقيلة مع قطعة من المجموعة
الخفيفة، ويتم وضع القطع الثلاث المأخوذة من المجموعة الخفيفة مع قطعة من المعروف أنها
جيدة. إذا كانت نتيجة هذا الوزن هي التساوي، يكون من المعروف أن القطعة الرديئة ضمن
القطع الثلاث المأخوذة من المجموعة التي كانت خفيفة في الأصل. وحيث إننا عرفنا الآن أن
القطعة الرديئة أخف، وليست أثقل، من كل القطع الأخرى، يمكن بوزنة واحدة أن نقرر أي قطعة
بين الثلاث هي القطعة الرديئة. وإذا كانت نتيجة هذه الوزنة هي عدم التساوي، يكون هناك
احتمالان: إذا كان الجانب الذي كان أثقل لا يزال أثقل، فلا بد أن تكون القطعة الرديئة
إحدى اثنتين، التي تركت في الجانب الثقيل أو التي تركت في الجانب الخفيف: ويمكن تحديد
ذلك باستخدام قطعة من بين القطع التي نعرف أنها جيدة. وإذا تغير الجانب الأثقل بتبديل
القطع الثلاث، فلا بد أن تكون القطعة الرديئة ضمن القطع التي بدلت، ويكون من المعروف
أنها أثقل، وسوف تقرر وزنة واحدة أي قطعة من الثلاث هي القطعة الرديئة.
ثم يوضح لاكان أن المرء يستطيع تحديد المسألة بالوزن ثلاث مرات حتى لو كان عدد القطع
ثلاث عشرة قطعة بدلًا من اثنتي عشرة قطعة. يقسم المرء القطع إلى مجموعة من خمس قطع
ومجموعتين كلٌّ منهما من أربع قطع. ويزن المرء المجموعتين اللتين تتكون كلٌّ منهما من
أربع قطع مقابل بعضهما، وإذا لم تكونا متساويتين، فسوف تكون القطعة الرديئة في إحداهما،
وبالإجراء السابق سنحدد أي القطع هي القطعة الرديئة. وإذا كانتا متساويتين، فسوف تكون
القطعة الرديئة ضمن المجموعة المكونة من القطع الخمس. وفي الوزنة الثانية يأخذ المرء
قطعة جيدة، «أ»، من القطع الثماني التي نعرف أنها جيدة، وضعها في كفة مع «ب»، وهي قطعة
من المجموعة المكونة من خمس قطع، وزنهما مقابل «ﺟ» و«د»، من المجموعة المكونة من خمس
قطع، أيضًا. إذا تساوت المجموعتان في الوزن، فلا بد أن تكون القطعة الرديئة إحدى
القطعتين اللتين لم توضعا في الكفة، وبوزنة مع قطعة جيدة يمكن أن نحدد القطعة الرديئة.
إذا كانت الكفة التي تحتوي على «أ» و«ب» أثقل من التي تحتوي على «ﺟ» و«د»، فإما أن تكون
القطعة الرديئة «ﺟ» أو «د». وحتى نحدد القطعة الرديئة منهما، ضع «س»، التي من المعروف
أنها قطعة جيدة، في الكفة الأولى مع «أ»، وانقل «ب» لتحل مكان «ﺟ»، وارفع «ﺟ» من الكفة.
إذا كانت الكفة التي تحتوي على «أ» و«س» لا تزال أثقل من التي تحتوي على «د» و«ب»، فلا
بد من ثَم أن تكون «د» هي القطعة الرديئة، وهي القطعة الوحيدة
التي لم تتحرك. وعلى هذا الوضع، الوضع الذي احتلته القطعة «د»، يطلق
لاكان اسم the par-trois-et-un، الوضع بثلاثة وواحد. وإذا كانت
الكفتان متساويتين الآن في الوزن، فلا بد أن تكون «ﺟ» هي القطعة الرديئة، وهي القطعة
التي تم استبعادها. وإذا كانت الكفة الأولى الآن أخف من الثانية، فلا بد أن تكون «ب»
هي
القطعة الرديئة، حيث إنها القطعة التي بدَّلَت الجانبَ الذي كانت تحتله.
«ويمثل الوضع بثلاثة وواحد الشكلَ الأصلي لمنطق الارتياب.» يتم تقديم الحالة العامة
للمشكلة باستخدام «التناوب الثلاثي tripartite
rotation» و«الوضع بثلاثة وواحد»: «ويتم تحديد
الوضع بثلاثة وواحد في إحدى المجموعات، يتم فصلها بواسطة التقسيم إلى
ثلاث tri
مجموعات [التثليث tripartition].» باستخدام الميزان
ثلاث مرات يمكن للمرء أن يحل مشكلة ١٣ قطعة، وباستخدامه أربع مرات يحل مشكلة ٤٠ قطعة
(١
+ ١ + ٣ + ٩ + ٢٦)، وباستخدامه خمس مرات يحل مشكلة ١٢١ قطعة (١ + ١ + ٣ + ٩ + ٢٧ + ٨٠)؛
باستخدام الميزان «ن» من المرات، يمكن للمرء أن يحل مشكلة ١ + ٣ +
٣٢ + ٣٣ + ⋯ +
٣ن−١ من القطع. ويلاحظ لاكان كم يكون التثليث قويًّا
بواسطة الميزان بعد الوزنة الثانية. ويلاحظ أيضًا أن الرقم ١٣ هنا يتحدد تمامًا بواسطة
العمليات التي تحل المشكلة من جديد، وخاصة بواسطة «الوضع بثلاثة وواحد». وهذا التحديد
ليس وليد الصدفة، ولكنه بالأحرى:
ينبثق من حقيقة أن الثلاث عشرة، ممثلة للتجمع الذي يتحدد بالوزن ثلاث مرات، يتطلبه
الوضع بثلاثة وواحد ليكون له، في تطوره، ثلاثة براهين: برهان أول لتقديم فرد متطهر من
الريبة، ويقسم الثاني الريبةَ بين الأفراد الذين يتضمنهم، وبرهان ثالث يميز كلًّا منهم
عن الآخر بعد التناوب الثلاثي.
وهكذا يتوصَّل لاكان إلى استنتاجه من المشكلة، وهو استنتاجٌ يتناول مفهومَي الاختلاف
والريبة:
وهذه الإشارة من الفرد لكل الآخرين فرادى ومجتمعين هي الاحتياج الأساسي للمنطق الجمعي.
٦٦
وتشير ملاحظته الأخيرة إلى أن تلك العودة إلى المنطق ستكشف من جديد قاعدةً صلبة
كالصخر وثابتة، حين تُستخدم.
والبحث الذي كتبه عن الزمن المنطقي يأخذنا إلى ملاحظة مماثلة في اتجاه
الاستنتاج:
ولكنه كافٍ ليولد بالتكرار توضيح السفسطة لنرى أنه من الممكن منطقيًّا أن تطبق على
عدد غير محدود من الموضوعات، بافتراض أن الخاصية «السلبية» يمكن أن تتدخل فقط إذا كان
عددها أقل بواحد من عدد الموضوعات. ويكون إدراك التجسيد الزمني أصعب كلما ازداد حجم
المجموعة، ويبدو أنه يمثل عقبة أمام
المنطق الجمعي
ربما يتجاوزها المرء باستخدام المنطق الكلاسيكي.
٦٧
وفي عام ١٩٦٦م أضاف لاكان ملحوظة لهذه العبارة: قارن هذه الحالة التي يتم فيها طرح
واحد هي الخاصية المتعلقة بالوظيفية التحليلية بإضافة واحد في موضوع التحليل النفسي،
ص٤٨٠ من هذه المجموعة [Situation de la psychanalyse et formation de
psychanalyste en 1956].
وفي الحقيقة ثَمة طموح مماثل تمامًا اشتملت عليه الجملة الأخيرة:
حركة تقدم الشكل المنطقي لكل استيعاب «الإنسان»، طالما توهم على نحو دقيق بأنها تضاهي
البربرية، إلا أنها مع ذلك تختزن التحديد الأساسي ﻟ «ضمير المتكلم the
I».
التعبير هو نفسه، اللجوء إلى توضيح شكلي ومنطقي هو نفسه. وهكذا يمكن اعتبار البحث
الذي كُتِب عن منطق المجموعات جهدًا مبشرًا ومتوازيًا باتجاه تقديم خلفية أساسية لبعض
النتائج الجوهرية التي دعاها لاكان فيما بعدُ باسم «العلوم الحدسية». وحتى هنا، حيث
يبرز توتر أعمال لاكان بروزًا واضحًا، ذلك التوتر الشكلي، وربما يصفه البعض بالتوتر
العلمي، الذي ساد الجلسات الأخيرة من سيميناره في أواخر السبعينيات، يوجد تيار من
الممارسات الإكلينيكية، وهو تيار قادم من إنجلترا، مثلما هو الحال غالبًا بالنسبة
لأفكار لاكان بشأن التقنية.
بعد انتهاء الحرب، قضى لاكان بعض الوقت في إنجلترا، واتصل بزملائه من المحللين
النفسيين، وفي النهاية كتب مقالًا بعنوان «الطب النفسي الإنجليزي والحرب
La psychiatrie anglaise et la guerre»، ونُشر في
عام ١٩٤٧م.
٦٨ ويستهل المقال على النحو التالي: «انتابني بعد الحرب إحساس عنيف بالمناخ
اللاواقعي الذي عاش فيه الشعب الفرنسي، من القمة إلى القاع.» وبالعكس، «كان لانتصار
إنجلترا مصدر أخلاقي»: «ترتكز سمة الجسارة التي تميز أهلها على العلاقة الحقيقية مع
الواقع.»
وبالانتقال إلى الطريقة التي نظَّم بها الأطباء النفسيون عملية التطوع في الجيش،
لاحظ
كيف ركَّزوا على استبعاد «البلهاء» الذين لم يكن من الممكن دفعهم للتوغل في نموذج
التقمص الذي تُمثله سيكولوجيا
الجماعة Group
psychology لفرويد. ويرجع السبب في أن هذه الطريقة
للتقمص مستحيلة إلى حقيقة أنهم جاءوا بعجز [déficit]. نرى مباشرةً تضمين وتطبيقات مفهوم «كثير
للغاية too much» و«قليل للغاية too
little» الذي صاغه لاكان في بحثه عن الرقم ٣١، أو الدسك المحدِّد
للهوية على ظهر كل سجين.
أطرى لاكان أسلوب تأثر الطب النفسي بالتحليل النفسي، وأطرى الطريقة التي تم بها
استخدام سيكولوجيا الجماعة والتقنيات المتأثِّرة بالرياضيات.
٦٩ ولكن إطراءه، الذي كان أكثر إسرافًا في العاطفة، كان من نصيب ويلفرد بيون
Wilfred Bion وجون ركمان
John
Rickman، ودراستهم للديناميكيات الداخلية للمجموعات في أحد
المستشفيات العسكرية:
في عملهما، اكتشفتُ مرةً أخرى الشعور بالمعجزة التي كانت تلازم أولى خطوات فرويد،
ووجدتُ في الحقيقة الجوهرية للطريقة تقدمًا كان يعيق القوة الحيوية لعملية التدخل.
٧٠
تم تقديم ٤٠٠ شخص لبيون ليعيد تعليمهم، وكانت ساعات العمل المتاحة «غير كافية
حسابيًّا لحل المشكلة الأساسية التي تعاني منها كل حالة من هذه الحالات، إذا عالجهم
المرء فرادى. وهذه الصعوبة الشديدة هي التي قادت بيون لعبور روبيكون
Rubicon الابتكار التقني» [الروبيكون: نُهير صغير
في شمالي إيطاليا، اجتازه يوليوس قيصر عام ٤٩ق.م. مشعلًا نار الحرب الأهلية التي جعلته
سيد روما. وعبور الروبيكون تعبير مجازي يعني اتخاذ قرار خطير لا رجعة فيه. المترجم].
وتم تحديد بنية المجموعة وهدفها بالمفهوم الأصيل لوجود مجموعة في حرب، مجموعة تُعرَّف
بوجود عدوٍّ ووجود قائد، وكان أي فشل في التعرف على الخطر المشترك يعالج، كما هو الحال
في التحليل النفسي دائمًا، باعتباره مقاومة. كوَّن بيون على نحو مدروس مجموعةً بدون
قائد، ولم يكن أمامه للحفاظ على ترابط المجموعة سوى أهمية الكلام الذي يدلي به
[verbe]،
بحيث يدفع المجموعة إلى الاهتمام بالصعوبات التي تواجه وجودها، وإلى أن تكون أكثر
شفافية بالنسبة لنفسها.
وتنبثق الغاية من وراء تنظيم من هذا القبيل بالنسبة للطبيب من وضوحه التام، بحيث
يستطيع الطبيب في أية لحظة أن يحدد الطريق التي ستسلكها كل حالة من الحالات التي
يرعاها، الطريق إلى الخروج: العودة إلى توحدها [
unité]،
٧١ إلى حياتها المدنية أو الاستمرار في المعاناة من العُصاب.
وبوصف الأسلوب الذي عملتْ به هذه المجموعات والتقنيات التي طوَّرها بيون، أعاد لاكان
التأكيد على ضرورة وجود العلاقات الوثيقة بين الطب النفسي والمجتمع، بذلك الاسم المثير
للالتباس، حركة «إرشاد الطفل» Child
Guidance movement، حاضًّا زملاءه بحمل الأعباء المهنية التي ستقع
على عاتقهم بالضرورة: يكمن تأهيل الطبيب النفسي لهذه الغاية في «إحساسه بأغوار عالم
الإنسان».
ويدل هذا النصُّ اللافت للنظر، النص الذي يبدو أنه لا يحمل خصائص نصوص لاكان، يدل
بالتأكيد على الحماس، وحتى المثالية، اللذين بثهما فيه الطب النفسي الإنجليزي والثبات
الأخلاقي الذي تحلى به الإنجليز في الحرب. ويشير أيضًا إلى الخلفية الإكلينيكية للبحثين
اللذين كتبهما عن العلاقة بين الفرد والجماعة: «الزمن المنطقي» و«الرقم ثلاثة عشر». وقد
انشغل هذان البحثان بعلامة الاختلاف: الدسك على الظهر، «الكثير للغاية» أو «القليل
للغاية»، يهتم البحثان كلاهما بتوضيح الكيفية التي يميز بها الفرد نفسه عن المجموع، ولا
يتم ذلك إلا بتحديد الروابط التي تربطه بالآخرين والتعرف على تلك الروابط. ويمثل هذان
البحثان مصدرين أساسيين لما دعاه لاكان «منطقه الذاتي»: ليس المنطق الذي تخضع له ذات،
وهو منطق موضوعي، أو المنطق الذي تستخدمه ذات، وهو منطق يحمل صبغة ذاتية، لكنه المنطق
الذي يتطلبه مفهوم الذات، فيما يتعلق بالذوات الأُخر، وفيما يتعلق بالنزوع إلى التفرد،
المتأصل في قواعد اللعبة. في أحد البحثين، يوجد منطق الزمن: الاحتياج المنطقي لجدل
التردد والتسرع، للانتظار والاستنتاج. في البحث الآخر، يوجد المنطق الذي يحكم استخدام
المرء للآخرين لتحديد أي امرئ يعاني من عجز، المنطق الذي يقع الارتياب أثناءه، أخيرًا
وبصورة دائمة، على العنصر الذي لم يتحرك ولم يتزحزح عن موضعه في عملية التثليث العام
general tripartition.
وثَمة عدد من التتابعات لهذا الخط الفكري في أعمال لاكان التالية. وربما نشير إلى
اعتناقه لبنيوية ليفي شتراوس، حيث تقوم بنية اللغة بالوظيفة طبقًا لقواعد السفسطة،
ويبقى أن النتيجة النهائية هي تفرد الذات، قدرتها على نطق الكلام التام.
ومن ثَم، يتكلم الإنسان، ولكن ذلك يعود إلى أن الرمز جعل منه إنسانًا. وحتى إذا كانت
المواهب الثرية ترحب في الحقيقة بالغريب الذي قدم نفسه إلى المجموعة، فإن حياة
المجموعات الطبيعية التي تُشكل المجتمع خاضعة لقواعد الارتباط بالزواج، القواعد التي
تحكم تبادل النساء، وخاضعة لتبادل الهبات، التبادل المحدَّد بواسطة الزواج … إن رباط
الزواج بنظام الاختيار الذي يهتم بالنَّسب، كاللغة، ملزمٌ بالنسبة للمجموعة في صوره،
لكنه لا شعوري في بنيته. وفي هذه البنية … يجد الباحثُ المروَّع كل منطق الترابط …
ويوحي هذا بأنه ربما يكون لاشعورنا بديمومته هو فقط الذي يتيح لنا أن نؤمن بحرية
الاختيار فيما يُدعى البنيات المعقدة لروابط الزواج، البنيات التي نعيش في ظل قانونها.
وإذا أتاحت لنا الإحصاءات أن نلمح أن هذه الحرية لا تُمارَس بصورة عشوائية، فإن ذلك
يعود إلى أن المنطق الذاتي يوجِّه هذه الحرية في جوهرها.
٧٢
ومن ثَم ربما يكون لكلمة أتزوَّج الصورة نفسها لاتخاذ قرار باستنتاج «معي الدسك
الأبيض» في البحث عن الزمن المنطقي: ولا يعود ذلك بالأساس إلى أنهما يشتركان في البنية
الزمنية نفسها، بنية التردد الذي ينقلب إلى تسرع. ويأمُل لاكان، مع ذلك، أن يفترض أنها
بنية زمنية لكل الأفعال التي تجعل صورة الاستبعاد حقيقية، «معي …»، ولكن حيث إنه يوجد
نسق، «لا شعوري» و«ملزم»، للقواعد التي يؤدي تأثيرها إلى التردد، والتسرع والتأكد من
التوصل إلى حل خاص وعلى نحو فريد كمرافقات ضرورية لاتخاذ القرار. ومهما يكن فسوف نعرج
عند هذه النقطة إلى التقابل بين الكلام التام المؤسِّس، ومنطق قواعد اللغة،
٧٣ وهو درب لا نستطيع أن نقطعه هنا، لا نستطيع إلا أن نلاحظ كيف كان لتقابل
لاكان بين اللغة والكلام بعدٌ زمني: إذا كانت اللغة موجودة دائمًا وتبدو سرمدية
وتجسيدًا لموت الأشياء،
٧٤ فإن الكلام يقدم زمنية إنسانية، زمنية الفعل في وقته، زمن الفعل في التردد،
لنحصل على آلة الحصاد البشعة. إن الزواج، كنموذج أصلي، هو ذلك الفعل الذي يكون في
الكلام المؤسِّس، «أنتِ زوجتي» (أنتَ زوجي)، رهانًا باسكاليًّا
Pascalian wager [نسبة إلى بليز باسكال
(١٦٢٣-١٦٦٢م)، العالم والمفكر الفرنسي المشهور. المترجم]، الرهان الأفضل في ظل الظروف،
ظروف الفناء الذي يجد فيه البشر المتكلمون أنفسَهم.
يوجد … بعدٌ للزمن ليس [للآلات] فيه ضلع بصورة لا يمكن إنكارها، وهو ما أحاول أن
أقدِّم لك صورة عنه بواسطة هذا العنصر [في سفسطة الزمن المنطقي] الذي ليس تأخيرًا وليس
تقديمًا، لكنه تسرُّع، العلاقة بالزمن المميزة للإنسان، هذه العلاقة بمركبة الزمن،
الموجودة هناك، على ظهورنا؛ أي حيث يوجد الكلام، وحيث لا توجد اللغة التي تملك كل الزمن
في العالم. وهذا سبب آخر في أن المرء لا يظفر باللغة أبدًا.
٧٥
وإذا كانت حكايات عائلة فرويد تناظر البنيات التي تدعم روابط الزواج، قرار الزواج،
شعار الحرية، الحرية التي يقدمها مصطلح «العقدة
complex»، الحرية التي تشبه حرية حامل الدسك الأبيض وهو
يعدو إلى الباب، ليعلن أنه لا يُعرف إلا باستبصار ما يفعله الآخرون. وتصبح السفسطة
نموذجًا لكل القرارات، سواء أكان قرار الرتمان، وهو يحاول أن يختار بين زواج المال (كما
فعل والده) أو زواج الحب (كما ألمحت والدته لوالده أن يفعل، وهو في كل حالة لا وجود له
والقرار لم يعد قراره)،
٧٦ أم كان قرار السجين، وهو يحاول أن يقرر ما إذا كان الدسك الذي معه أبيض أم
أسود.
لكن السفسطة، أو المنطق الذاتي، أو نظرية الخطابات
discourses الأربعة التي جاءت بعد ذلك،
٧٧ لها تطبيق آخر: كمجاز تصويري لعملية التحليل النفسي. إن لحظة الرؤية تناظر كلَّ ما يُقدَّم
في الموقف التحليلي،
٧٨ مع كل ما يتعلق
بهذا الموقف: المحلِّل، الأريكة، غرفة الانتظار، الأحلام، التفسيرات. ويتضح أن العمل
المنجَز، زمن التحليل، زمن العمل، زمن التدخل، الزمن الذي ليس
endlich أو
unendlich، الزمن الذي تحكمه
«إما/أو» المستحيلة، يتضح أنه قابل للحل في لحظة الاستنتاج: نهاية التحليل. لا يتضح
السبب الحقيقي وراء اتخاذ القرار إلا بعد اتخاذ القرار مباشرة، بالضبط مثلما يحدث في
الوصف الذي قدَّمه فرويد للعملية التحليلية، حيث التذكر يتبع الاقتناع، وليس العكس.
٧٩
إن مسألة أن للانتظار وظيفةً منطقية، ذات علاقة منطقية بالقرار حين يتوصل المرء إلى
الحقيقة عندما يتعلق الأمر باتخاذ قرار يتعلق بآخرين، بأناس تابعين للمرء، ربما تساعد
أيضًا على تفسير، أو تُلقي الضوء على الأقل على هدوء
لاكان Lacan’s sang-froid حين واجهه عددُ المحلَّلين الجالسين
منتظرين خارج غرفة الاستشارات، كنتيجة مباشرة لجلساته مختلفة الطول. إذا كان الانتظار،
كما تشير سفسطة لاكان، لحظة منطقية ضرورية للوصول إلى قرار صائب، لحظة تتضح في فعل، فلن
يكون من المدهش أن يُمارَس التحليل الذي يسعى إليه المرء في بيت دكتور لاكان في غرفة
الانتظار بقدر ما يمارس على الأريكة. ولا ينبغي هنا أن نتجاهل التحليل الذي تم تقديمه
في المشكلة الأخرى، مشكلة القطعة الرديئة: تفاعلات البارانويا — التي ميزت هذا الانتظار
بحيث يتم استدعاؤه، الانتظار لنبدأ (وننتهي)، في القصص التي تُحكى عن هذه التحليلات —
التفاعلات التي ستمثل تمامًا خصائص المجموعة التي توضحها عمليات الاختيار و«الوضع بثلاثة وواحد». انتظار لإنسان، الحيرة أي طريق سيسلك،
متأصلة في الممارسات اللاكانية، وتعكس بصورة غير معتادة أكثرَ نكاته
jeux
d’esprit خفاءً.
هل سيكون لهذا المجاز التصويري للتحليل البنيةُ نفسُها التي لذلك المجاز التصويري
الآخر الأكثر شهرة، «سيمينار عن الرسالة المسروقة»،
حيث يتشكل التحليل بمرور الرسالة عبر ثلاثة أوضاع تميزت بالتحديق؟
وهكذا تشيد ثلاث نظرات ثلاث لحظات، نظرات حملتها ثلاث ذوات، في كل مرة تتجسد في أشخاص
مختلفين.
الأولى: نظرة لا ترى شيئًا …
الثانية: نظرة ترى أن الأولى لا ترى شيئًا وتخدع نفسها، وهو الحال نفسه بالنسبة
لسريةِ ما تُخفيه …
الثالثة: ترى أن النظرتين الأولى والثانية تتركان ما يجب إخفاؤه معروضًا أمام عينَي
كل من يريد الاستيلاء عليه …
وبافتراض وجود معامل ما بين الذوات في الفعل المتكرر، يبقى علينا أن نتعرف فيه على
قهرية التكرار بالمعنى الذي يعنينا في نص فرويد.
٨٠
تشير هذه الإشارة إلى معامل ما بين الذوات إلى أن البحث عن منطق ما بين الذوات
يستمرُّ هنا بأسلوب مختلف عن الأسلوب المتبع في البحث المكتوب عن «الزمن المنطقي»؛
البحث الذي يربط بين الذوات، ويتطلب منهم أن
يكرروا،
بدل أن
يعملوا بتسرع محدَّد. وهذا البعد الآخر
الأساسي في الزمنية التحليلية، ألا وهو موضوع التكرار، يمر عكس بنية التثليث اللاعكسية
في سفسطة الزمن المنطقي. وهذا الارتباط بين هذين المجازين التصويريين المختلفين أوضح
في
النسخة الدارجة من «سيمينار عن
الرسالة المسروقة» في
السيمينار الثاني،
٨١ حيث يفحص لاكان لعبة فردي أم زوجي [جوز ولا فرد]، اللعبة التي ذكرها دوبين
بطل بو في «القتلة في رو مورج
The murders in the Rue
Morgue» [يذكرها دوبين، أيضًا، في «الرسالة المسروقة». (المترجم)].
٨٢ إن تحليل لاكان لما بين الذوات اللازم لأداء اللعبة يستحضر لغة اللحظات
(
temps)
الثلاث المقدمة في «الزمن المنطقي» ليصور سلسلة التقمصات مع تفكير الآخر، التقمصات التي
يحاول المرء بواسطتها استباق خداعها وخداعها المزدوج:
ربما توجد مدة [
temps] ثانية، تتضح فيها ذاتية أقل تحزبًا. إن الذات
في الحقيقة تتمتع بالقدرة على أن تجعل من نفسها ذاتًا أخرى، وأن تتوقف عن التفكير في
أن
الأخرى، باعتبارها أخرى، تفكر مثلها، وعليها أن تضع نفسها في موضع الطرف الثالث؛ حتى
لا
تكون هذه الأخرى التي تمثل انعكاسًا خالصًا لها …
٨٣
لكن هذه المحاولة لتكرار نجاح المنطق الذي يتيح للسجين أن يستنتج أن الدسك الذي معه
أبيض تفشل حين لا يوجد سوى لاعبَين يلعبان لعبة «جوز ولا فرد»، وتؤدي في هذه الحالة إلى
تقمص للآخر، تقمص يفوق الوصف؛ لأنه خيالي تمامًا،
٨٤ حيث المسار المتبع في هذه الحالة، «المسار الذي يمكن أن يكون منطقيًّا»،
٨٥ يؤدي بنا إلى الاهتمام بما قد يعنيه أن نلعب لعبة الحظ مع آلة، كمبيوتر،
حيث التقمص مستحيل، «حيث يتم استبعاد كل ما يتعلق بنظام البروفيل السيكولوجي».
٨٦ وما ينبثق مع آلة «سيمينار عن
الرسالة
المسروقة»، ليس تردد التقمص الخيالي أو تسرعه، ليس التقمص الخيالي الذي
يوسطه الرمزي بصورة مناسبة (كما في «الزمن المنطقي»)، ولكن وظيفة التكرار هي التي
تنبثق، وظيفة التكرار كما تتولد عن المنطق المحض، منطق الرمز، بواسطة الآلة. وهذا
المنطق المتحجر هو الشرط الضروري، في رأي لاكان، لفهم مقولة فرويد عن دافع الموت
death drive.
٨٧ تفتح الآلةُ البابَ أمام جدل الفرصة والتحديد بعدة عوامل؛ وبالتالي أمام
انبثاق شيء جديد من التطبيق المتكرر للقاعدة، أو كما قال لاكان:
حيث من التكوين الأوَّلي من الرمز البدائي … [تنبثق] بنية تبقى شفافة في علاقتها
بمعطياتها الأولية، وتكشف العلاقة الأساسية بين الذاكرة والقانون.
٨٨
وفي الحقيقة يبتكر لاكان، مع الإجراءات الخاضعة للقواعد التي يضعها، الإجراءات التي
تعمل على سلسلة من «الحروف الصغيرة
little letters»،
يبتكر صورة لذاكرة ارتدادية
retroactive:
٨٩ ليحصل على سلسلة خاصة، يؤثر فيه الطرف التالي على الطرف السابق.
ولكن يبدو أننا نتناول الآن نوعًا آخر من الزمن التحليلي، نوعًا مختلفًا، بينما أدَّت
سفسطة الزمن المنطقي إلى مفهومَي التردد والتسرع، وهما مفهومان ظهرا غريبين عن ذخيرة
مفاهيم المحلِّل الفرويدي، إن لم يكونا غريبين عن الوصف الذي يقدمه للأعراض،
٩٠ وقد أدت «السفسطة» التي تطورت عن قصة بو عن لعبة «جوز ولا فرد» إلى إعادة
تقييم المقولات الزمنية التي تم التسليم بها على نطاق واسع باعتبارها أساسية بالنسبة
لتفكير فرويد: التكرار، الذاكرة، التاريخ. إلا أن إعادة التقييم التي قام بها لاكان لم
تكن ببساطةٍ إعادة شبه فلسفية، أو إعادة شكلية، تنعكس على تلك المفاهيم؛ كانت «العودة
إلى فرويد» التي دعا إليها في أقوى صورها هنا، في إعادة الاكتشاف، الإعادة التي قام بها
لمفهوم فرويدي أساسي، لمفهوم يمثِّل محور كل تفكير لاكان عن زمن العُصاب، زمن الطفولة،
زمن السببية في المسائل الإنسانية، وهذا المفهوم الأساسي تجاهله المترجمون تقريبًا، أو
علقوا عليه، أو ترجموه بصورة غير ملائمة غالبًا، إلى شيء آخر: وأشير هنا إلى مفهوم
Nachträglichkeit [الفعل المؤجل].
٩١
وحتى أواصل مناقشة مفهوم لاكان للزمن، أظن أننا الآن في حاجة إلى تناول تاريخ هذا
المفهوم، واستخدام لاكان له، وعلينا أن نتذكر دائمًا أن تلك السفسطة عن الزمن المنطقي
منحت لاكان قدرًا من الثروة الفكرية الثابتة في هذه المنطقة من نظرية التحليل النفسي
ومن ممارساته، ثروة لم يكن ليسمح أبدًا بأن تُنتزع منه.
III
ومن ثَم يكون اللاشعوري مراوغًا، لكننا نبدأ محاصرته في بنية، بنية زمنية،
بنية يمكن أن نقول إنها بنية لم يتم الإفصاح عنها على هذا النحو من قبل.
٣ أغسطس ١٩٣٨م: يبدو أن الخلفية النهائية
لكل كبح فكري للعمل تتمثل في كبح الاستمناء في الطفولة، ولكن ربما تتوغل إلى
أعمق من ذلك، ربما لا ينشأ كبحه بمؤثرات خارجية، ولكنه يعود إلا طبيعته التي لا
تعرف الإشباع. ثَمة شيء مفتقد دائمًا من أجل التفريغ والإشباع
-en attendant quelque chose quine venait
point [دائمًا ننتظر شيئًا لن يأتي أبدًا]، وهذا الشيء
المفتقد هو تفاعل الأورجازم، ويتضح بالقدر نفسه في مجالات أخرى، في نوبات
الغيبة absences، انفجارات الضحك أو
البكاء، وربما يتضح بطرق أخرى. مرة أخرى يرسخ النشاط الجنسي في الطفولة نموذجًا
في هذا المجال.
«الغيبة
absence
»: كانت هذه
الكلمة هي المصطلح الذي استخدمه أطباء الأعصاب في نهاية القرن التاسع عشر
fin-de-siècle في وصف إحدى الظواهر الباثولوجية والسبب
المفترض لظواهر باثولوجية أخرى. ويمكن رؤية
الغيبة
باعتبارها شكلًا بسيطًا من أشكال فقدان الوعي في حالات تشبه الصرع
٩٤ [يطلق المصطلح في الحقيقة على شكل من أشكال نوبات الصرع الصغرى.
(المترجم)]. وقد ساوى فرويد بين الغيبة ومفهوم بروير
Breuer عن «حالة التنويم
hypnoid
state»، واعتبرها في الفصل النظري في
دراسات
عن الهستيريا Studies on
hysteria العامل السببي الأساسي في نشأة الهستيريا.
وكان على فرويد أن يستبعد الدور السببي
للغيبة ليقدم
مفهومه المميز عن الآليات الدفاعية. وقد تطابق مفهوم «حالة التنويم» مع اللاشعوري
الوصفي عند فرويد، إلا أنه كان يمثل قوًى يسلِّم بروير بأهميتها في بناء اللاشعوري
الديناميكي المكبوت الذي اقتصر على الدفاع فقط عند فرويد. كان بروير، وعدد كبير من أتباعه،
٩٥ متأثرين
بحقيقة فقدان الوعي،
باحتمالية وجود وعي بديل ينشأ نتيجة لذلك، ولم يروا حاجةً
لمزيد من التأمل في أسس البنيات الذهنية الباثولوجية، وكان تأثر فرويد أقل من تأثرهم،
وتطلب الأمر بالنسبة له وجود قوة أخرى، تقوم بضغط إيجابي، ليتم «تخصيب» الغيبة ليبدأ
توليد شكل عرَضي حقيقي.
إلا أن فرويد، كما يشير الاقتباس الذي يرجع إلى عام ١٩٣٨م، نسب وظيفة مهمة للغيبة
بمجرد أن وجد، طبقًا لقناعته، موضعها الصحيح في فسيولوجيا علم النفس: باعتبارها لحظة
الأورجازم أو، على نحو مساوٍ ومثير للدهشة، لحظة غياب الأورجازم. ولنقتبس الآن فقرة
مهمة من البحث الذي كتبه عن النوبات الهستيرية في عام ١٩٠٨م:
إن فقدان الوعي، «الغيبة»، في النوبة الهستيرية ينبثق من غياب الوعي غيابًا لحظيًّا
وجليًّا يتضح في ذروة كل إشباع جنسي عنيف، بما في ذلك الإشباع الجنسي الذاتي
٩٦ … وآلية هذا النوع من
نوبات الغيبة آلية
بسيطة نسبيًّا. يكون كل انتباه المرء مركزًا في البداية على تقدم عملية الإشباع. ومع
حدوث الإشباع، تنتهي فجأةً طاقة الانتباه بكاملها، بحيث يؤدي ذلك إلى حدوث فجوة لحظية
في وعيها [أي وعي التي تعاني من الهستيريا، ويعتقد أن الهستيريا تحدث بنسبة أعلى بين
الإناث؛ لذلك يستخدم فرويد ضمير المؤنث. (المترجم)]. وهذه الفجوة في الوعي، ويمكن
اعتبارها فجوة
فسيولوجية، تتسع بعد ذلك على حساب
الكبت، حتى تستطيع ابتلاع كل ما يلفظه عامل الكبت.
٩٧
يمكن للمرء، على مستوى التخطيط، أن يفترض أن فرويد رأى في الغيبة المرتبطة بالأورجازم
نموذجًا لحالة التنويم، وفي الحقيقة، نموذج التنويم عمومًا، وكان على فرويد وهو يتذكر
سلسلةً من ثقة الطفولة في النص الذي استشهدنا به،
٩٨ والعلاقات الوطيدة بين التنويم والحب،
٩٩ أن يوضح ذلك بخبرته في التنويم وعلاقته الوطيدة بالتحليل النفسي.
١٠٠ ونرى أن الاستغناء عن مفهوم حالة التنويم لم يكن بهذه البساطة. كانت هناك
أسباب أخرى وراء هذا الاستغناء.
وأول هذه الأسباب كان الارتباط الوطيد بين مفهوم الرض
trauma ومفهوم حالة التنويم. وتتضح هنا خطوط التطور
الميتاسيكولوجي في أعمال فرويد: زيادة المثيرات (الرض) ووقاية الداخل من هذه الزيادة،
بحيث يكون المظهر الخارجي الشفاف تمامًا بقية تأثير الرضوض
traumata ونتيجة لها، ويكون اللاشعور ذاته هو تأثير
الرض، التأثير الذي يتيح بعد ذلك احتمالية الانتصار على التأثيرات ذاتها.
١٠١
ولكننا لا نقتنع بالإجابة التي ترى أن الوعي ينتج عن الرض، ويكفل في الوقت ذاته
مواجهة انتصاره. وربما نشعر بأن هذه الإجابة، بالرغم من أهميتها، إجابة ميتاسيكولوجية
بصورة مبالغ فيها: ولا يبدو أننا سنغطي أهمية مفهوم الرض تغطية كاملة، وهو، كما قد
يبدو، أهم المفاهيم الإكلينيكية، وهو مفهوم ربما يزداد انتشاره في المستقبل أكثر
١٠٢ بصورة غير متوقعة، و
بإلحاح دائم، في غرفة
الاستشارات. إننا نشعر بأن علينا أن ندرس المشكلة بأن نولي النصَّ والبعد التاريخي
مزيدًا من الاهتمام. وهذا التاريخ سيوضح لنا كيف ارتبط مغزى الخبرة، بوصفها خبرة
رضِّيَّة، بالاهتمامات النظرية.
ويبدأ الاهتمام الطبي بحالات العُصاب الرَّضِّي
traumatic
neuroses منذ منتصف القرن التاسع عشر واستمرَّ حتى نهاياته نتيجةً،
كما يرى إلينبرجر
Ellenberger وآخرون،
١٠٣ لظهور الصناعة وأهمية الدعاوى المتعلقة بالحوادث بالنسبة لشركات التأمين.
وكانت تلك هي «هستيريا التعويضات» كما كتب إبرهام
Abraham في عام ١٩٠٧م.
١٠٤ وكما قد نتوقع، بالاهتمام بخطوط السكك الحديدية والصناعة في بداياتها،
انشغل الأطباء الإنجليز بهذه المسائل انشغالًا أساسيًّا، وابتكروا مصطلحَي «إصابات
الحبل الشوكي الناتجة عن حوادث القطارات
railway spine»
و«إصابات الدماغ الناتجة عن حوادث القطارات
railway
brain»، بالإضافة إلى عدد من المصطلحات الأخرى لتغطية الصور
الإكلينيكية للحالات التي بدا أنها نتيجة مباشرة لحوادث وقعت على خطوط السكك الحديدية
أو في المصانع. وكان شاركو
Charcot [جين مارتن شاركو
(١٨٢٥-١٨٩٣م) طبيب الأعصاب الفرنسي الشهير وصاحب الإنجازات الكبيرة في الطب النفسي
وخاصة في الدراسات التي تتعلق بالهستيريا. (المترجم)]، وتبعه بروير وفرويد، هم الذين
قدموا معظم هذه الصور الإكلينيكية. وهكذا برهن شاركو على أن حالات العصاب التي بدا أنها
تنتج عن الحوادث، ظهرت بأعراض مماثلة لأعراض الهستيريا وأعراض الوهن العصبي
neurasthenia. وهكذا صنَّفها باعتبارها أعصبة
كلاسيكية. وأثناء ذلك، فتح الطريق أمام عدد من المناقشات العلمية: يمكن إلقاء الضوء على
حالات عصاب الرضوض في ضوء التماثل مع الهستيريا، الأقدم والتي نالت حظًّا أوفر من
الدراسة. وبالمثل، يمكن أن تلقي العوامل السببية الواضحة التي ظهرت في حالات عُصاب
الرضوض الضوءَ على السؤال المثير للحيرة عن الأسباب الكامنة وراء الهستيريا.
ومهما يكن فقد اتضح من فحص أولئك المرضى الذين كانوا يعانون من إصابات في الحبل
الشوكي نتيجةً لحوادث القطارات أو الذين يعانون من أعراض أخرى نتيجة لذلك، أن الإصابة
التي كانوا يعانون منها لم تكن لها أية علاقة مباشرة بأعراض الرض: يُقذَف رجل من تحويلة
صغيرة على أحد خطوط السكك الحديدية نتيجة اصطدام قطار به، يعاني من شعور بالإجهاد
والدوار والدوخة، ولا توجد علاقة مباشرة بين أي عرض من هذه الأعراض وبين الإصابات
الجسدية الناتجة عن حادث التصادم. وكان واضحًا أيضًا من تعليق شاركو أن الأعراض لم تكن
تظهر بعد الإصابة مباشرة، كان ظهور الأعراض يتأخَّر عليَّ بصورة تكاد تكون دائمة. وفي
الحالة التي ذكرناها كان عامل السكك الحديدية شغوفًا بالعودة إلى العمل بعد أن قضى بضعة
أيام في السرير وشُفي من الحادث، ولم تظهر أعراض الإجهاد والقلق متبلورة إلا بعد ذلك
كرموزٍ لحالة الرَّض التي تعرَّض لها.
١٠٥
وهكذا رسم شاركو صورة الهستيريا الرَّضِّية، وجاءت واضحة ومؤثرة كما ينبغي، وتحوَّلت
بعد ذلك إلى نظرية عن العُصاب، وكانت تلك الصورة تتسم ببعض السمات الخاصة؛ أولًا: يمكن
رسم خصائص الرض بصورة موضوعية: كان حدثًا «طارئًا»، يتسم أساسًا بالخطر الذي هدَّد
السلامة الجسدية لكائن بشري. وباستخدام مقولة الرض لتكون السمة التي تميز العُصاب، وهي
مقولة مستعارة من المصطلح اليوناني الذي يُستخدم بمعنى «جرح»، وهو مصطلح استُخدم منذ
فترة طويلة ضمن المصطلحات الطبية، وتبدل معناه بدقة، ولكن احتفظ بالدلالة على حدوث عنف
مفاجئ، وصار مصطلحًا يُطلَق على حدث
خارجي، وصارت
تأثيراته على من يتعرض له مجهولة إلى حد بعيد؛ لأنها، بدقة، كانت تأثيرات غامضة، وقد
تحوَّل التركيز من هذه التأثيرات — «الجرح»، قطع «الجلد» — إلى السمة
الأساسية لهذا الحدث الذي نجمت عنه تلك التأثيرات. وهكذا
اتصل مصطلح الرض بحدث أساسي، له تأثيرات واضحة ولكنها غير محددة، وهذه التأثيرات تناظر
السمة الأساسية للحدث أكثر مما تناظر طبيعته الداخلية، وكان هذا حال الرجل الذي ذكرناه
من قبل، الرجل الذي كان يتنقل بين تحويلة السكك الحديدية حيث صدمه أحد القطارات وسقط
أرضًا ممزقًا إلى ألف قطعة، «سُحِق بكل معنى الكلمة
littéralement
broyé». ولم يكن بمستطاع عامل السكك الحديدية أن يحكي كثيرًا عما
حدث له بعد ذلك (
Il ne saurait trop dire ce qui s’est passé en ce
moment-là …)؛
١٠٦ وقد وُجد فاقد الوعي بين أنقاض تحويلة السكك الحديدية.
ويمكن لكلٍّ منا، بتعاطف، أن يتصور سمات هذا الحدث باعتباره رضًّا: إن المبالغة فيه
تتحدث عن نفسها. إن تحوُّل الحارس إلى «ألف قطعة» بين «الأنقاض» تحمل الشاهد فجأة إلى
الرض الذي يؤثر على الإنسان الذي تعرَّض لهذا الحادث. ويبقى أن شاركو هو الذي قدَّم
فكرة أننا يمكن ألا ندعو ذلك رضًّا إلا حين لا توجد آثار واضحة على الكائن. إن مفهومنا
عن الرض هو، بالتالي، مفهوم يجمع بين الوضوح الهائل وانعدام التأثير بصورة غامضة، وكل
ما يكون له تأثيرات واضحة ومباشرة — التهشيم الفعلي
لليد، إصابة الدماغ إصابة عضوية تؤدي إلى فقدان
القدرة على الكلام — يمكن استبعاده تلقائيًّا من مجموعة الأعراض التي تنتمي إلى العُصاب
الرضِّي.
وهكذا، بدايةً، لا يحقق مفهوم الرض أهميته إلا بعد تفريغه من معظم محتواه، بعد أن
يصبح قصة الإخفاق القريب، أو الإخفاق في إحداث التأثير المطلوب، بدلًا من إصابة الهدف
في الصميم bull’s eye [حرفيًّا، إصابة عين الثور.
(المترجم)]. ومن الطبيعي أن يكون لأحد جوانب هذا الوجه «المفرَّغ» أهميته العظيمة في
تطور التفسيرات السيكولوجية للعُصاب: النتائج السلبية التي حصل عليها علماء الباثولوجيا
حين بحثوا عن آفات عضوية في الجهاز العصبي تتوافق مع أعراض المريض. وقد ارتبطت أهمية
هذا النفي لوجود آفات عضوية خاصة في مواضع محددة ارتباطًا وثيقًا بتطور مفهوم الرَّض؛
إلا أن العلاقة الخاصة بين مفهوم الرض وعدم وجود سبب عضوي لم تبقَ على حالها دائمًا.
ولم يحدث هذا حتى طوَّر فرويد نظرية التحليل النفسي، وربما اعتبر هذا الغياب سببًا لفعالية
الرض.
ومن ثَم، تميَّز الرض، من ناحية، تميزًا واضحًا بالقوة الخارجية التي ترتبط به، وهي
قوة شدَّت التركيز بعيدًا عن تفاعلات الذات مع هذه القوة. ومن الناحية الأخرى، تأسستْ
فعاليةُ هذا الحدث، سمتُه الرضية، بصورة خاصة على عدم وجود التأثيرات العضوية. وحين
استخدم شاركو التنويم ليوضح التماثل بين الهستيريا الرضية والهستيريا «الكلاسيكية»، طرأ
بعض التغير على مفهوم الرض. وبقدر ما يمكن أن يكون الإيحاء التنويمي مكافئًا للرض،
حوَّل شاركو، وتبعه فرويد، التأكيدَ إلى الوجه المثالي للرض: ماذا يمثل الحادث الخارجي
بالنسبة للشخص نفسه. ومع هذه النقلة بدأ زحف طويل ومعقَّد في مرجعية المفهوم، الذي
انبثق عنه مفهوم الرض باعتباره تصورًا لا غنى عنه مع أنه يفتقر إلى التحديد افتقارًا
تامًّا.
والخطوة التالية في تطور مفهوم الرض خطوة معروفة تمامًا. وبعد أن بيَّن شاركو أن
أعراض الهستيريا الرضية تشبه، بالنسبة لكل الأهداف والأغراض، أعراض الهستيريا
«الكلاسيكية»، بدا من الطبيعي أن نبحث عن خبرات رضِّية وراء الهستيريا «الكلاسيكية» إن
حالة
Anna O، التي تناولها بروير، بالإضافة إلى رغبة
فرويد لابتكار علاج يرتكز على نظرية شاركو عن حالات العصاب، أدت بهما إلى تطوير نظرية
من هذا القبيل في
دراسات عن الهستيريا: يعاني
الهستيريون من الذكريات، وهذه الذكريات رضوض (أو ذكريات رضوض)، وتطلب العلاج بهذه
النظرية تحول هذه الرضوض، عن طريق الشفاء بواسطة التنفيس بالكلام
cathartic talking cure، إلى ذكريات
عادية، ولكن لدينا بالفعل التباس حاسم مطمور في هذه
النظرية: هل هذه الأحداث التي تلحُّ الأعراضُ على تذكرها أحداث رضية لأنها كانت تنتمي
في الأصل إلى نظام الطاقة الخارجية المتجسدة في حوادث السكك الحديدية؛ أم إن الرضوض
صارت رضوضًا نتيجة لعملية التذكر؟ هل كان تذكر الرض رضيًّا أم إن الرضي كان التذكر
نفسه، عملية التذكر، التذكر باعتباره رضًّا؟ وكانت إجابة فرويد، الإجابة التي استغرق
تطورها عددًا من السنوات في العقد الأخير من القرن التاسع عشر: كلاهما رضيٌّ، كان هناك
شيء خاص وحقيقي بالنسبة للأحداث الرضية التي أدت إلى احتمالية أن يتم تذكرها بصورة تؤدي
إلى ظهور أعراض عصابية، وأن تكون عمليات التذكر وعدم التذكر أسبابًا باثولوجية.
١٠٧
ويبدو أن الخط الأول في المناقشة نشأ عن محاولاته العلاجية المعقدة والممتدة دائمًا:
بمجرد اتضاح ارتباط حدث يتم تذكره بعرض معين، كان من الضروري أن يتجاوز هذا الحدث إلى
أحداث أخرى، تبدو رضية على نحو أقل، أو ترتبط ارتباطًا أقل مع بداية ظهور الأعراض، أن
يتجاوزها ليحل نسق الأعراض (ربما يكون قد أطلق عليها، حتى في ذلك الوقت المبكر، اسم
«النزعة العصابية»). وكانت تلك الأحداث مبكرة دائمًا، ترجع إلى الطفولة. ويبدو أن هناك
سؤالين بقيا معلقين في الهواء يتعلقان بحدوث تلك الأحداث في الماضي البعيد؛ أولًا: ما
الذي يمكن أن يدعوه المرء رَضًّا بالنسبة لطفل في الثالثة أو الرابعة؟ ثانيًا: ماذا
يفعل المرء بالعمليات العُصابية الخاصة المتعلقة بتذكر الماضي البعيد؟ إذا كان العصاب
ينشأ في جزء منه نتيجة لعملية خاصة من عمليات التذكر، فماذا يمكن للمرء أن يفعل بذكريات
ترجع إلى تلك الفترة من حياة المرء حيث لا يُعتدُّ بالذاكرة في أفضل أحوالها وتكون، في
أسوأ أحوالها، مليئة بالفجوات؟
منذ تلك اللحظة، وفيما بعد، نشأت عن الماضي البعيد الذي نتذكره نظريةُ الإغواء،
التحول الحقيقي، وربما الحتمي، لمحاولات استيعاب كل حالات العُصاب في نموذج الهستيريا
الرَّضِّية، إنها قصة مألوفة. بدل القوة اللاشخصية، قوة قطارات السكك الحديدية، التي
تلوح ضخمة بصورة غير متوقَّعة، مهددة الجسد الهش، تثبِّت الصورُ المبهمةُ للآباء، التي
تجسد نواياهم الأكثر غموضًا، سؤالَ الدارس المدقِّق. إنها النوايا الجنسية للوالد أو
الوالدة — كما تُرشَّح وتُترجَم في ذاكرة الطفل، تلك الذاكرة الملتبسة — النوايا التي
تجسد القوة الرَّضِّية المفرطة وغير المحدَّدة.
والأكثر إثارة للدهشة أن أكثر المفاهيم الفرويدية تميزًا، مفهوم
Nachträglichkeit — الفعل المؤجل
the
deferred action الخاص بالعلية العصابية — تمت استعارته من الشواهد
الإكلينيكية لحالات العُصاب الرضِّي. ونجد في أعمال شاركو صياغاتٍ مختلفةً لفكرة الفعل
المؤجَّل، لكن الشاهد الإكلينيكي يتضمن غالبًا تعبيرات من قبيل «على نحو يكاد يكون
مباشرًا»، و«بعد وقت قصير من التأخير».
١٠٨
كانت النتائج المباشرة [التي نتجت عن الحادث] ألمًا شديدًا … وتورمًا في الكف
والأصابع … وقد اختفى كل ذلك بعد أربعة أيام. ولكن
بعد تلك
الفترة الزمنية، أراد العامل أن يستخدم يده، ولكنه أدرك أن يده تتدلى
وأنه لا يستطيع تحريك أصابعه …
١٠٩
وكان على فرويد أن ينقل هذا المفهوم إلى الهستيريَّات اللاتي يعالجهن، في إشارةٍ
واضحة إلى شاركو:
وتُرى سمة أخرى تتميز بها حالة كاترين، التي صارت، بالصدفة، مألوفة بالنسبة لنا،
تُرى
في ظل الظروف التي لم يحدث فيها التحول الهستيري
conversion، إنتاج الظواهر الهستيرية، بعد الرض
مباشرة، ولكنه حدث بعد فترة حضانة
incubation. وكان
شاركو يحب وصف هذه الفترة بأنها فترة التفسير النفسي [
élaboration].
١١٠
إلا أن هذا الفعل المؤجَّل الذي يميز التأثيرات العُصابية، في ذلك العمل المبكر من
أعمال فرويد، ربما يكون قد اختفى تحت المفهوم الذي قدَّمه عن تجمُّع الأسباب:
في حالة الهستيريا الشائعة ليس من النادر أن نجد، بدلًا من وجود رضٍّ هائل ووحيد،
عددًا من الرضوض الجزئية التي تشكل
مجموعة من الأسباب
التي تكمن وراء ظهور الهستيريا. ولا تستطيع هذه الأسباب إحداث تأثيرٍ رضِّي إلا
بالتجمع، وهي رضوض تنتمي إلى بعضها البعض بقدر ما تمثل إلى حد ما قصةً واحدة من قصص المعاناة.
١١١
وبينما لا يتناقض مثل هذا المفهوم عن الترابط والتجمع، تناقضًا مباشرًا مع الفصل
الزمني بين السبب والتأثير، إلا أنه قد أخفاه في الواقع،
١١٢ حيث إنه ربط كل العناصر في «قصة واحدة»، في استمرارية يمكن لسمتها الأصيلة
أن تلغي الفجوات الزمنية في تلك الحكاية.
١١٣ إلا أن فرويد، حتى في تلك التعليقات المبكرة عن تجمع الأسباب الرضية، كان
يتحرك باتجاه فينومينولوجيا الأعراض والرضوض التي تسببتْ في حدوثها، حيث احتل الرضُّ
«الأوَّل» وضعًا مميَّزًا:
ومع ذلك، لا يوجد أساسًا اختلاف بين العَرَض الذي يظهر زمنيًّا بعد أول سبب يستثيره
وبين كونه كامنًا منذ البداية. إننا، في الحقيقة، نجد في الغالبية العظمى من الشواهد
أن
الرضَّ الأول لا يخلِّفُ وراءه أية أعراض، بينما يخلِّف رَضٌّ تالٍ من النوع نفسه
أعراضًا، إلا أن الرضَّ الأخير لا يمكن أن يوجد بدون تعاون من السبب المثير الذي سبقه،
ولا يمكن أن يتضح بدون وضع الأسباب المثيرة كلها في الاعتبار.
١١٤
إلا أن هذه المناقشات المبكِّرة ما زالت متذبذبة، تُدرِك أحيانًا أن الرضَّ الأول
قام
بدوره كسبب ضروري على نحو دقيق لأنه عمل بوصفه ذاكرة أكثر مما عمل بوصفه «تأثيرًا
طازجًا» fresh impression، وتسلم أحيانًا بأن «الأعراض
الطازجة» و«الأعراض التي يتم تذكُّرُها» ربما تساهم في التحول بالتساوي. ومع ذلك، قصرت
نظرية الإغواء الشروط التي يمكن أن تقوم بدور الرضِّ السببي على الأحداث الجنسية في الطفولة المبكرة. وهذا التحديد الضيق لما يمكن
اعتباره رضًّا كافيًا لإحداث عصاب هو، كما سنرى عاجلًا، الذي دفع فرويد إلى صياغة نظرية
الفعل المؤجَّل بصورة واضحة ودقيقة.
لكن تطور هذه النظرية كان يعني أن فرويد تعرَّض لصدمة: انتهاء نظرية الإغواء. ولسنا
في حاجة إلى أن نكرر هنا أسباب هذا الانهيار، وسوف نذكر فقط السمات المتعلقة بالأصل
الذي نعرفه لمفهوم الرض، الذي بدا الآن بدون شك مختلفًا عن حوادث السكك الحديدية
ومناوشات الموت: إذا كانت نوايا الراشدين لم تعد موضع تساؤل، إذن فما الذي يمكن أن يكون
رضِّيًّا في فنتازيا تدور حول صور الراشدين؟
في المراجعة الشاملة لنظريته، اللازمة لتجاوز هذه العقبة، نجح فرويد في الإبقاء على
عدد مدهش من العناصر المكملة لنظرية الإغواء. ونذكر هنا اثنين من هذه العناصر. أولًا،
ما زال من الممكن أن نشير إلى بداية العُصاب كحدث أو كمجموعة من الأحداث. إلا أن هذه
الأحداث أصبحت الآن «داخلية» بقدر ما هي «خارجية»، ولم يعد الطارئ فيها ينشأ عن الفرصة
الخارجية، التي تقع تمامًا في العالم الخارجي، ولكنها تنشأ عن علاقة معقدة بين العالم
الواقعي والعالم الداخلي. وعند هذه النقطة، فتح تطور نظرية فرويد التي كانت تهتم بطريقة
تذكر ما كان رضيًّا، أكثر مما تهتم بما يتم تذكره، فتح آفاقًا جديدة. ثانيًا: لم يتبدل
هدف التقنية التحليلية إطلاقًا: ما زالت تبحث عن حدث، عن ذاكرة تبدو أنها سبب البنيات
العرَضية التي نناقشها.
وما له قدر مُساوٍ من الأهمية هو حقيقة أن فرويد حافَظ على منطق الفعل المؤجَّل الذي
شيَّده ببطء في نظرية الإغواء، مستعيرًا إياه من مفهوم الرض الذي طوَّره، والأسلوب الذي
فعل به ذلك أسلوب فريد في الواقع. وكما أكَّدتُ، تضمَّن مفهوم الرض مقولة التأخير بين
السبب وظهور الأعراض، وفي نظرية الإغواء، كما قدَّمها في عام ١٨٩٥م، صار هذا التأخير
تأخيرًا سببيًّا: أصبحت حقيقة الاختلاف في المراحل الزمنية سبب نشأة البنية
الباثولوجية، وقد انتقلنا من مفهوم الفعل المؤخَّر delayed إلى مفهوم الفعل المؤجَّل deferred.
والصورة الإكلينيكية الموجزة في
مشروع سيكولوجيا
علمية هي
الشاهد الكلاسيكي
the locus
classicus على هذا التعليق، و
المشروع نظري بصورة كبيرة، وقد كُتِب في الصيف والخريف من عام ١٨٩٥م.
ويجب أن تُنبهنا حقيقة أن المادة الإكلينيكية، وحدها في المشروع، إلى الأهمية النظرية
(والشخصية)
١١٥ للنقطة التي يطرحها، وهذه النقطة هي بكل دقة كيف تصبح زمنيةُ الرض الوسيلةَ
التي تُغير بها آليات الدفاع الباثولوجية اتجاهها، بدلًا من آليات الدفاع الطبيعي ضد
الألم، تلك الآليات التي كان فرويد قد صاغها بالفعل. كانت نظرية فرويد نظرية عامة عن
النفس
psyche، تتناول آليات الدفاع، والتفكير والذاكرة،
في صورتها الطبيعية. ومن المؤكد أن هذا الوصف للعمليات الطبيعية كان سيفقد كل أهميته
إذا لم يكن قادرًا على تفسير ظهور الصور الباثولوجية. وقد وضَّحتْ حالةُ إمَّا
Emma كيف كان من الممكن أن تغير هذه الصور
الباثولوجية اتجاهها.
اشتملت حالةُ إمَّا على ثلاثة «أحداث» وليس حدثين: سرد قصتها في التحليل (وما يدعوه
فرويد «الزمن الحاضر»، عرض يتضمن «إحساسًا قهريًّا بعدم القدرة على دخول المحلات
بمفردها»)، «ذكرى من زمنٍ مضى حين كانت في
الثانية عشرة من عمرها (قبل البلوغ بوقت قصير)» (المشهد
الأول)، و«ذكرى ثانية» لمشهد في الثامنة من عمرها، اكتُشفت بعد «مزيد من
الفحص» (المشهد الثاني). في المشهد الأول ذهبت إلى محل لشراء شيء ما.
رأتْ عاملَي المحل (يمكنها أن تتذكر أحدهما) يضحكان معًا، وجرت في
حالة من الفزع. وفيما يتعلق بهذا، تمَّت مساعدتها على
تذكُّر أنهما كليهما كانا يضحكان على ملابسها، وأن أحدهما أُعجِبَ بها جنسيًّا.
١١٦
ويُفسِّر المشهد الثاني هذا المشهد غير
المفهوم:
في موقفين حين كانت طفلة في الثامنة ذهبت إلى محل صغير لتشتري بعض الحلوى، نظر البائع
نظرة خبيثة إلى أعضائها التناسلية من بين ملابسها. وبرغم الخبرة الأولى ذهبت هناك مرة
ثانية، وبعد المرة الثانية كفَّت عن الذهاب. وهي الآن تُبكِّت نفسَها بسبب الذهاب في
المرة الثانية، كما لو كانت ترغب بهذه الطريقة في استثارة الاعتداء.
١١٧
وقد حددت إمَّا نفسُها طريقةَ الربط بين هذين المشهدين: ذكَّرَتها ضحكاتُ عاملَي
المحل بالنظرة الخبيثة من عين البائع.
يمكن الآن إعادة بناء الأحداث على النحو التالي. في المحل كان العاملان يضحكان، وهذا
الضحك استدعى (لاشعوريًّا) ذكرى البائع … مع البائع ذكرت نظرته الخبيثة من بين ملابسها،
لكن من ذلك الوقت وبعد أن وصلت مرحلة البلوغ، استدعت الذكرى ما لم يكن من الممكن،
بالتأكيد، أن تستدعيه في وقتها،
ارتياحًا جنسيًّا a sexual
release، تحول إلى قلق. ومع هذا القلق، انتابها خوف من
أن عاملَي المحل ربما يُكررون الاعتداء، وجرت بعيدًا.
١١٨
ما هو خاص، ما هو باثولوجي في هذه العملية، ليس حقيقة الأفكار اللاشعورية، لكنها
بالأحرى الفكرة الخاطئة التي تدخل اللاشعور مضلِّلةً
إياها، بدلًا من أن تدخل ذكرى الاعتداء إلى اللاشعور، تصبح على وعي بملابسها وبارتياح
جنسي، وتنسب ذلك إلى أحد عاملَي المحل.
إذا سألنا أنفسنا عن السبب وراء هذه العملية الباثولوجية المقحمة
interpolated، فسوف يعرب شيء واحد فقط عن نفسه؛
الارتياح الجنسي … ومن الواضح تمامًا أنه لم يكن
يرتبط بالاعتداء حين شعرت به، ونحن هنا أمام حالة ذكرى أثارت عاطفة لم تكن موجودة
كخبرة؛ لأن الوصول إلى مرحلة البلوغ أثناء ذلك جعل من الممكن تقديم فهم مختلف لما تم
تذكره.
والآن، نحن أمام حالة من الحالات النموذجية للكبت في الهستيريا. إننا نجد دائمًا
أن
الذكرى تُكبَت ولا تصبح رَضًّا إلا بواسطة
الفعل
المؤجَّل، والسبب في هذا الوضع هو تأخر البلوغ بالمقارنة مع بقية تطور الفرد.
١١٩
ويمكن وضع مفتاح هذا الشكل من أشكال التفسير بإحدى طريقتين؛ إما أن «الذكرى تثير
عاطفةً لم تنشأ عنها كخبرة»، أو «لكل … فردٍ بقايا ذكريات لا يمكن أن تُفهَم إلا
بانبثاق المشاعر الجنسية الخاصة به».
١٢٠ وفي أوائل عام ١٨٩٦م، صاغ فرويد هذه المناقشة في صورةٍ نظرية دقيقة:
إن علاقةً مقلوبة بهذه الطريقة [حيث يكون للذكرى «تأثيرٌ مثيرٌ أقوى مما للخبرة التي
كانت وراءها عندما حدثت»] بين خبرة واقعية وذكرى، يبدو أنها تحتوي على شرط مسبق لحدوث
كبت. تمنح الحياة الجنسية — عبر تأخر نضج البلوغ بالمقارنة مع الوظائف النفسية —
الاحتمال الوحيد الذي يحدث بالنسبة لهذا الانقلاب في التأثير النسبي.
تعمل رضوض الطفولة بأسلوبٍ مؤجَّل كما لو كانت خبراتٍ طازجةً، لكنها
تفعل ذلك لاشعوريًّا.
١٢١
ما هو لافت للنظر في هذه النظرية — مع أنه يصحُّ بالنسبة لأعمال فرويد عموما؛ ومن
ثَم
ليس له أن يدهشنا — هو الإلهام الأصلي الذي يبثه شاركو في النظرية الرضية لحالات
العُصاب. ما زال هناك حدثٌ رضِّي، وما زالت بنية
حالات العُصاب برمتها خاضعة له، إلا أن البنية الفوقية
superstructure طرأ عليها تبدلٌ جذري: ليس في مجرد
اقتصار الأحداث المسببة على الأحداث الجنسية، ولكن أيضًا على مستوى الوسيلة التي يمكن
لحدث أن يصبح سببًا حيث يتم ربطها بنظرية الذاكرة، نظرية «إعادة النسخ
retranscription»، نظرية «فشل الترجمة»، كما عبَّر
عنها فرويد في رسائله إلى ويلهلم فليس Wilhelm
Fliess.
لكن هل يصح أن نقول، كما يقول جيمس ستراتشي
James
Strachey، إن هذه «الفكرة بكاملها كان لها أساسٌ انهار من تحتها
باكتشاف النشاط الجنسي في الأطفال بعد ذلك بعام أو اثنين والتعرف على استمرارية النبضات
الغريزية اللاشعورية»؟
١٢٢
في لغة التحليل النفسي
The Language of
psycho-analysis
، عارض لبلانش
Laplanche وبونتالي
Pontalis ذلك بشدة، قائلين: «إن أقوى دفع لهذه
التهمة يؤثث بتعليق فرويد على حالة «ولفمان
Wolfman،
حيث تُستدعى هذه العملية نفسها، أي عملية الفعل المؤجل، باستمرار». ويقولان أيضًا إن
«الفضل في لفت الأنظار إلى أهمية هذا المصطلح يجب أن يُنسب إلى جاك لاكان».
١٢٣ ومما لا يبعث على الدهشة أن يعكس هذا الإقرار رؤية لاكان للأمور
أيضًا:
حين قلتُ في بداية هذه الأحاديث
إنني لا أبحث،
إنني أجدُ، كنتُ أعني أن المرء في حقل فرويد، ليس
عليه إلا أن ينحني ويلتقط ما يجده. إن التضمين الحقيقي لمفهوم
التأجيل nachträglich، مثلًا، تمَّ تجاهله، مع أنه كان
موجودًا طول الوقت، ولم يكن علينا إلا أن نلتقطه.
١٢٤
ومن الصحيح في الحقيقة أن لاكان، في بحثه «تقرير روما» الذي نُشر عام ١٩٥٣م، أشار
بدقة إلى الولفمان the Wolfman باعتباره نصًّا ينتمي إلى
سنوات نضج فرويد، نصًّا أبرز باستمرارٍ استخدامَ فرويد لمفهوم الفعل المؤجل Nachträglichkeit:
يحتاج فرويد إلى موضوعية كاملة في الإثبات طالما كان الأمر يتعلق بمسألة موعد المشهد
الأول، لكنه لم يقدم أكثر من افتراضات لإضفاء الذاتية من جديد على الحدث، وهي افتراضات
تبدو ضرورية لتفسير تأثيرات الحدث في كل نقطة من نقط التحول حيث يبني الذات نفسها من
جديد؛ أي بقدر ما يحدث إعادة بناء للحدث، كما يعبر عنه، تأجيل
الفعل المؤجل nachträglich، في موعد لاحق
[
après
coup].
١٢٥
إلا أن لاكان «بالعثور» في هذا النص على هذا المصطلح من مصطلحات فرويد، تمثله على
الفور في نظريته عن الزمن، في الزمن المرتبط بسفسطة الزمن المنطقي الذي سبقت
مناقشته:
مما يعني أنه [فرويد] يلغي
أزمنة الفهم لصالح
لحظات الاستنتاج التي تشكل تأمل الذات باتجاه
اتخاذ قرار يتعلق بمعنى الارتباط بالحدث الأصلي.
١٢٦
وربما كانت هذه أكثر اللحظات التي اقترب فيها لاكان طول حياته من البحث عن ضبط
لتقنيته عن «مشاركة» الذات لاستنتاج الزمن اللازم للفهم بالاستعانة بممارسات
فرويد كمحلل. ولم تكن حدود الزمن التي وضعها فرويد على
تحليل ولفمان بهذا القدر من الأهمية، ولكنه بالأحرى الأسلوب الذي ينحِّي به الفترة بين
ملاحظة المشهد الأوَّلي والحلم في سن الرابعة، ليعثر على البنية التي تربطهما معًا؛ ومن
ثَم سيكون الفهم التحليلي تكرارًا (مع بعض الاختلاف) للحظة الاستنتاج التي توصَّلَ فيها
الولفمان، وهو طفل في الرابعة من عمره، إلى فهم أهمية المشهد الأول بالنسبة له، وحمى
نفسه ضد هذا الفهم بخلق العُصاب الذي عانى منه في طفولته.
١٢٧ وعلى التحليل أن يكرر هذه المحاولة في الفهم المرسِّب، وربما فكر لاكان في
أن السبب المرسِّب، بالنسبة للولفمان، وهو عدم رضاه عن الهدايا التي قُدِّمت له في
الكريسماس (عيد الميلاد)،
١٢٨ كان بمثابة استعارة مناسبة للإحباط النرجسي الذي يتغذى عليه التحليل، وهو
ما كان على ممارسات لاكان في الجلسات مختلفة الطول أن تُعمِّقه.
وإذا نحَّينا هذه التأملات جانبًا، فإن ما يتضح هو أن لاكان ربط
التقاطه للفعل المؤجَّل his trouvaille of Nachträglichkeit في نصوص فرويد
بالزمن بين الذوات
intersubjective time الذي تفاخر
بنفسه لأنه أثبت أنه «مناسب إلى أبعد الحدود للتحليل الجدلي الذي به نرشد [تلاميذنا]
في
عملية التحليل النفسي».
١٢٩ إلا أنه مما يثير الدهشة قلة استخدامه صراحةً لهذا
الالتقاط، توجد إشارات قليلة للغاية إلى
الفعل
المؤجل Nachträglichkeit في
كتابات وفي
السيمينار. ولكن ليس لنا
أن نأخذ ببساطة انطباعًا بأن لاكان تركه لآخرين (خاصة لبلانش وبونتالي)
١٣٠ ليعبروا عن أهمية المفهوم الفرويدي، أو أنه اعتبره ببساطةٍ دعامةً لبرهانه
على أن زمن التحليل النفسي كان الزمن الذي شغله المساجين الثلاثة في سفسطته المنطقية،
ويمكن أن نعثر على أحد المفاتيح لأهميته الأوسع في الفقرة التالية:
بالمثل، ترى، على عكس منظور بلنت
Balint، ويتماشى
أكثر مع تأكيد خبرتنا، علينا أن نبدأ من علاقة جذرية بين الذوات
radical
intersubjectivity، من قبول الذات قبولًا تامًّا بواسطة الذات
الأخرى، وابتداءً من خبرة الراشد، التي علينا أن نلتقطها على نحو استرجاعي، تأجيل
الفعل المؤجل nachträglich، من الخبرات التي يفترض
أنها أصلية، في تصنيف المشاكل التي تعرض لها، وبدون ترك مجال ما بين الذوات على
الإطلاق. وبقدر ما نبقى في سجل التحليل، سنُضطر إلى التسليم بعلاقة أصلية بين الذوات.
١٣١
يبدأ التحليل النفسي من علاقة أصلية بين الذوات، ويعمل في إطارها دائمًا؛ ومن ثَم
فهو
يعمل باتجاه الماضي backwards، باتجاه الأوضاع السابقة،
حيث لا تقيم واقعيتها وأهميتها إلا على نحو استرجاعي. يعمل التحليل النفسي باتجاه
الماضي. هذه العبارة تلخيص مبسَّط للأهمية التي يستنبطها لاكان من مفهوم الفعل المؤجل Nachträglichkeit، وعلى هذا المبدأ الأساسي البسيط
يمكن من ثَم بناء النقد الكامل للنزعة التطورية
developmentalism، الواضح بصورة كبيرة في معظم
التفكير التحليلي:
دعنا نوضح أننا لا ننهمك في اقتفاء سلسلة متتابعة من مراحل التطور، ولكننا ننهمك
بالأحرى في بالقبض على طريقة تنظيم بعض الأوضاع التي حدثت بالفعل من جديد على نحو استرجاعي.
١٣٢
في الحقيقة رأى لاكان أن التحليل النفسي كان، بعيدًا عن كونه مثالًا نموذجيًّا
للتفكير التطوري، مميزًا في تجنب التطورية:
… تكمن الأصالة الحقيقية للتحليل النفسي في حقيقة أنه لا يركز التطور السيكولوجي
في
مراحل مفترضة؛ مراحل ليس لها، بكل معنى الكلمة، أساسٌ يمكن اكتشافه في التطور البيولوجي
الملحوظ.
١٣٣
إن النتيجة الفارقة والتراجيدية التي توصَّل إليها التحليل النفسي هي أن «التطور
ينشط
تمامًا بالحوادث، بعوائق البخت»
tuché.
١٣٤ وقد تبنَّى لاكان في الرد على زميله، على إلحاح فرانسوا دولتو على ضرورة
التفكير التطوري في التحليل، تبنَّى ما اعتبره على الأقل، بعد اكتشافه لمحور
الفعل المؤجل Nachträglich، وضعًا فرويديًّا أرثوذكسيًّا (يُرى،
مثلًا، في الأسلوب الذي أعدَّ به فرويد نقده لمفهوم رانك، ذلك المفهوم التطوري
الابتداعي عن رَضِّ الميلاد، في
الكف والعرض
والقلق).
إن الخوف من الإخصاء يشبه خيطًا يثقب كل مراحل التطور. إنه يوجِّه العلاقات التي
تسبق
ظهوره الفعلي؛ الفطام، التدريب على الإخراج … إلى آخره. إنه يبلور كل هذه اللحظات في
جدلٍ مركزه المصادفة الرديئة، وإذا كانت المراحل متناغمة، فإن ذلك يكون طبقًا لتسجيلها
المحتمل بلغة المصادفات الرديئة.
١٣٥
وهكذا: يقدم مفهومُ الاسترجاع
retroactivity، مفهومُ
الفعل المؤجَّل
the après
coup، إلى لاكان سلاحًا مهمًّا في نزاعه مع المحللين
المعاصرين له بشأن طبيعة التفسيرات في التحليل النفسي، ويمكن الكشف عن أن تطورية فرويد
الظاهرية
١٣٦ تختفي وراء طريقة مميزة من طرق التفسير: تفسير يستدعي مفهوم اللحظات، أو
حتى مفهوم العُقَد
knots،
١٣٧ كمفهوم يناظر «التسجيل»، و«النسخ»، وبناء هذه اللحظات في «القراءة»
الاسترجاعية، من اللاحق إلى السابق.
١٣٨ وقد حاولتُ أن أحدد كيف يشكل تطور مفهوم الرض، من الفعل المؤخَّر عند شاركو
ومن مفهومه الحضاني للعلية الوظيفية، إلى الوضع الثابت الذي احتله الفعل المؤجل في فكر
فرويد، كيف يشكل أساس إعادة التكامل التي قام بها لاكان فيما بعدُ لمفهوم فرويد في
تقديمه لزمنية التحليل النفسي. أولًا: يوجد مفهوم التغير المستمر عبر الزمن، تغير
العملية. وليست هناك طريقة لإبقاء العملية مفهومة بدون الرجوع إلى غائية زائفة، من حيث
معيارية
normativity تلك النظريات التحليلية التي تطرح
نفسها كنظريات تطورية. ثانيًا: توجد المقولة التي ترى أن هذه التغيرات يمكن أن تُعرَف
مقدَّمًا in advance، وأنها قدرية (وهكذا
نكتشف مرة أخرى نسخة معيارية من نسخ التحليل النفسي).
إن التحليل النفسي يهتم
بالحوادث accidents:
١٣٩ إن مجال عمله، طبقًا لرأي فرويد، هو «الطارئ المتضمن في اطِّراد القدر»،
١٤٠ أعمال «المصير الطارئ»،
١٤١ أعمال ««المصير والفرصة»، ولا يقتصر الأمر على أحدهما».
١٤٢ إذا ساوينا بين التطورية ودراسة التكوين، إن كان تكوينًا نفسيًّا، تكون من
ثَم معاداة لاكان للتطورية ببساطة تكرارًا للعملية التنظيمية البرجماتية التي عرف بها
فرويد حدود المعرفة التحليلية:
إذا ركزنا في عملنا التحليلي على التأثيرات الطارئة أكثر مما نركز على العوامل
التكوينية، فإننا نفعل ذلك … لأننا نعرف من خبرتنا بعض الشيء عن السابق، بينما لا نعرف
إلا القليل عن اللاحق شأننا في ذلك شأن غير المحلِّلين.
١٤٣
لنوجز الآن. لا شك في أن لاكان وجد في مفهوم
الفعل
المؤجل Nachträglichkeit سندًا لكثير من آرائه الأساسية
عن طبيعة العلية التحليلية،
١٤٤ طبقًا للحدود الحقيقية للعمل التحليلي (من الراشد إلى الطفل، وليس العكس).
إلا أنني أود أن أكرر: إن التعليقات الحقيقية على هذا المفهوم ضئيلة بصورة لا تُتوقع.
إن العَرْض الذي قدَّمته أمَّن بدون شك أساسًا للاكان؛ ولكن ماذا بنى عليه؟ وما العلاقة
بين المفاهيم التي ابتكرها فرويد عن زمن تكوين العَرَض، وفكرة الزمن المنطقي، الفكرة
التي عزا لاكان لها كل تلك الأهمية؟
أغامر بتقديم إجابتين على هذا السؤال. تتعلق الأولى بتاريخية التحليل، وتتعلق الثانية
بمناقشة الصدفة والحظ في
السيمينار الحادي عشر
للاكان. يبقي مفهوم
الفعل
المؤجَّل Nachträglichkeit عند فرويد على وضع الماضي مرنًا
بصورة خاصة. والدليل على ذلك يمكن أن يوجد في الوضع المتطرف الذي تم اقتباسه كثيرًا،
ذلك الوضع الذي تبنَّاه فرويد في عام ١٨٩٩م، في بحثه عن «ذكريات الشاشة
Screen memory»، بالنسبة لوضع الذاكرة، وفي نهاية
ذلك البحث يبدو فرويد وكأنه ينتقل باتجاه وضع تكون فيه
كل الذكريات ذكريات شاشة، شاشات ليس هناك معنًى للنظر وراءها بحثًا عن
الأثر «الأصلي، الأولي»:
١٤٥
ربما نتساءل في الواقع فيما إذا كنا نحتفظ بأية ذكريات على الإطلاق من طفولتنا؛
الذكريات المتعلقة بطفولتنا ربما تكون كل ما نملك.
١٤٦
تقدم هذه المعرفة أوسع نطاق لرؤية التحليل النفسي ليس كمجرد محاولة لنسيان الماضي،
١٤٧ ولكن أيضًا كخداع للماضي إن لم يكن معالجةً له. إلا أن
الفعل المؤجل Nachträglichkeit لا يتعلق فقط بالماضي ومرونته،
بتلاشيه، كما قد نفهم من استعارة لاحقة من استعارات لاكان؛ حيث تتضمن بنية المفاهيم
الداخلية تمفصل
لحظتين مع زمن التأخير (زمن الحضانة؟
زمن الانتظار؟) مما يسمح للحدث «الأول» بالانزلاق متحررًا من ميراث الأمان الذي سيتحرر
منه الحدث «الثاني» بالمثل (والعكس بالعكس). وماذا إذا كان الحدث «الثاني» لما يحدث
بعد، ماذا إذا كان الحدث «الثاني» حدثًا مستقبليًّا مفترضًا؟ وهو المشهد الذي يُستدعى
في إحدى الفقرات المشهورة من «تقرير روما»:
ليست المسألة مسألة الواقعية في التذكر التحليلي، لكنها مسألة الحقيقة؛ لأن تأثير
الكلام التام هو الذي يعيد ترتيب مصادفات الماضي بأن يقدم لها معنى الضرورات لتأتي،
بحيث يشكلها القدر الضئيل من الحرية التي توجد خلالها.
١٤٨
وهكذا يتحدد بوضوحٍ تمفصل «التاريخ» مع المستقبل كغاية للتحليل:
يمكن أن يكون للتحليل غايةٌ وحيدة تتمثل في تقديم كلام حقيقي وإدراك الذات لتاريخها
في علاقته بالمستقبل.
١٤٩
إن إعادة تنظيم الماضي تمضي خطوةً خطوةً مع إعادة تنظيم المستقبل، وسيعتمد تمفصلهما
على وظيفة الإحالة، حيث يذوب الماضي في الحاضر. وهكذا يصبح المستقبل (مرة أخرى) سؤالًا
مفتوحًا، بدلًا من تحديده بتثبيت الماضي (المشهد الثاني، الحدث الأصلي، الحدث «الأول»
في التمفصل المزدوج
للفعل
المؤجل Nachträglichkeit).
١٥٠
إلا أن إعادة ترتيب الماضي والحاضر والمستقبل تثير أيضًا أسئلةً أخرى بالنسبة لنظرية
العملية التحليلية وإنتاج الأعراض. وهذه الأسئلة هي مرة أخرى الأسئلة التي تكشف
تعليقاتُ لاكان على نصوص فرويد أنها القراءات الخصبة والمعقولة أكثر من سواها بالنسبة
للمسار الذي اتَّبعه فرويد: علاقة الرض ومفهوم التكرار.
١٥١ وبذلك نكون قد تتبعنا ببعض التفصيل مفهوم فرويد للرض. وبالعودة إلى مناقشات
لاكان في السيمينار الحادي عشر، نكتشف مزيدًا من القِطع في لغز الصور المقطوعة التي
نضعها معًا لاكتشاف تيمة الزمن: مفاهيم الفرصة واللحظة والعلية.
IV
حين أكون خِزْيًا من القدر وعيون الرجال
وحدي تمامًا أبكي وضعي المنبوذ،
وأربك السماء الصمَّاء بصرخاتي سدًى،
وأنظر إلى نفسي، وألعن مصيري …
وليم شكسبير، سونيت ٢٩
لا شيء أغبى من قدر الإنسان، كل ما يعنيه أننا نُخدَع دائمًا.
هل مجرد الحظ العَثِر هو الذي قاد الولفمان، وعمره عام ونصف، ليستيقظ من غفوة الظهيرة
ويبصر والديه وهما يمارسان الجنس؟ بتوجيه الفكر التحليلي حول الحظ والفرصة والقدر
والمصير مرة أخرى،
١٥٣ يطلب منا لاكان أن نفهم هذه المسألة المشينة؟ أولًا: ربما نسأل، هل هي
مسألة لا تختلف عن مسألة أن نسأل ما إذا كان مجرد الحظ العَثِر هو الذي قاد أوديب إلى
قتل العجوز الذي قابله على قارعة الطريق؟ نعرف أن
شيئًا من
قبيل ذلك اللقاء مكتوب، وقد تنبأ به كاهن دِلْفي. ومن الممكن أن نردَّ
على السؤال المتعلق «بحظ» ولفمان بردٍّ مماثل: يمكن أن نعزو
ما
هو مكتوب إلى كاهن تكوينه؛ إلى ساديَّته الشرجية المفرطة أو كيفما كان
الأمر.
ويمكن لنا أيضًا أن نقحم الملاحظة التصحيحية: إن رؤية الولفمان لوالديه أثناء ممارسة
الجنس لم يصبح
حدثًا إلا بعد أن ارتبط بشيء ما حدث
بعد ذلك.
١٥٤ إن ارتباط «حدثين» على الأقل معًا هو ما يجعل رؤيته لوالديه وهما يمارسان
الجنس حدثًا رضِّيًّا، وبمجرد ارتباط هذين الحدثين معًا يكون لدينا بنية، شبكة في
التحليل الأخير؛ شبكة من الدوال، شبكة من السمات، شخصية الولفمان.
١٥٥ ويمكن أن نقول إن الولفمان، بقدر ما هو ذات، هو شبكة من الدوال التي تكوِّن
علاقته الفريدة بالواقع. لنأخذ مثالًا دراميًّا لافتًا للنظر، مثالًا يقبض على عدد كبير
من تخيلات المفسرين لأنه عشوائي بدقة كبيرة، وهو بالتالي يوضح هذه النقطة بأسلوب شفاف
تمامًا:
ربما بدا لي أن أغرب حالة [عن بعض «الظروف الطارئة» التي تساهم في «اختيار الفتش»]
zufällige Umstände zur Auswahl
des [Fetisch]
هي الحالة التي مجد فيها شابٌّ نوعًا معينًا من «البريق على الأنف» في شرط فتشي مسبق.
وكان التفسير المدهش أن المريض نشأ في دار حضانة إنجليزية، وبعد ذلك قدم إلى ألمانيا،
حيث نسي لغته الأصلية بشكل يكاد يكون تامًّا. الفتش الذي نشأ في طفولته الأولى، يجب أن
يُفهَم بالإنجليزية، وليس بالألمانية. إن
The Glanz auf der Nase كان في الحقيقة
بريقًا على الأنف
glance [Blick] at the
nose.
١٥٦
لم يصبح الشاب، الشاب الإنجليزي، على هذا الوضع إلا حين استعادت ذاكرته
his Muttersprache [لغته الأم] وكينونته الجنسية، حين
مارست شبكة الدوال الإنجليزية فعاليتها بواسطة البريق
shine/Glanz، حيث صار من الممكن له أن يعود إلى
الخلف ويتذكر ما رآه. إن الحالة الفتشية، الباب الذي يَفتح على المجال الجنسي، مجاله
الجنسي، هي شبكة الدوال التي يتردد صداها حول مصطلح Glanz auf der
Nase [بريق على الأنف].
وهذه «الحوادث accidents [Zufallen]» هي زاد المحلِّل. وقد يظنُّ المرء،
بدون الخروج على المألوف، أن هذا المثال نموذجي، فيما يتعلق بالوظيفة كنموذج كوهيني
[نسبة إلى كوهين Kuhn. (المترجم)]: إنه يكشف بوضوح هائل
كيف أن عشوائية الدال، تلك العشوائية التي تُشكل كل اللغات الطبيعية، هي بكل دقة حادثةٌ
يبحث عنها المحلِّل والمريض ويعثران عليها. وهذا المجال من مجالات العلِّية مجال مميز،
وهنا يكمن السبب في أننا لا نتوقع إجابة معقولة على السؤال: هل كان مجرد الحظ العثر هو
الذي قاد الولفمان، في منتصف العام الثاني من عمره، ليستيقظ من غفوة الظهيرة ويبصر
والديه وهما يمارسان الجنس؟ إننا نعرف فورًا أن تفسيرات التحليل النفسي تفتقر إلى
الشكل: إن الخبرة الرَّضِّية الناتجة عن رؤية المرء لوالديه في وضع جنسي وهو في منتصف
السنة الثانية من العمر هي السبب في العصاب الذي عانى منه الطفل وهو في الرابعة من
عمره. وقد يبدو مفهوم الفعل
المؤجل Nachträglichkeit كمحاولة تحفظ على الأقل شكلًا من
أشكال التفسير العلِّي: فكرة أن حدثًا سابقًا يسبِّب حدثًا تاليًا. وحتى برغم ذلك فهو
يتضمن ادعاءً يحتوي على مفارقة، ادعاءً بأن الحدث السابق لا يكون سببًا للحدث التالي
إلا بعد أن يحدث الأخير. لا يمكن للمرء عند أية نقطة أن يضع شروطًا للشكل: إذا وُجد
«س»، يوجد «ص» بالتالي، حيث تعتمد عملية عزل «س» ووصفه اعتمادًا كليًّا على عزل «ص» من
قبل ووصفه وحدوثه.
وحتى يتقدم لاكان خطوة أبعد من هذا الإدراك السلبي، رجع إلى معالجة أرسطو للعلية،
في
الفصلين الرابع والخامس من
الكتاب الثاني من
الطبيعة Physics، «أوضح النظريات المفترضة عن وظيفة السبب
على الإطلاق».
١٥٧ والمصطلحان اللذان التقطهما من فصلَي أرسطو ليسا من المصطلحات الشائعة في
الأدبيات الحديثة عن العلية
١٥٨ البخت
tuché واتفاقًا
automaton١٥٩ [طبقًا لترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي للكلمتين في كتابه عن أرسطو.
(المترجم)]. ويشير مترجم أرسطو إلى الإنجليزية في طبعة
Loeb إلى المشاكل التي تنشأ عن ترجمة هذين
المصطلحين، وفي الفصل السادس يتركهما في الشكل اليوناني الأصلي، ويقترح على القراء
الإنجليز أن كلمة «الحظ»
luck أو «النصيب»
fortune ربما تكون أفضل مرادف لكلمة البخت
tuché، وأن
كلمة «الحادث
accident» أو «نتيجة الصدفة
chance result» ربما تكون أفضل مرادف لكلمة اتفاقًا
automaton.
وافترض لاكان بأسلوبه الذي لا يُضاهى حلًّا أكثر شجاعة: إنه يرى في كلمة البخت
tuché١٦٠ مرادفًا لتعبير «مواجهة الواقع
encounter with the real»، وفي كلمة اتفاقًا
automaton
مرادفًا لتعبير «شبكة من الدوال
network of signifier».
١٦١ أو «العودة إلى إلحاح العلامات».
١٦٢
إن أرسطو يعتبر البخت tuché فرعًا من الاتفاق automaton. ووحدها الكائنات التي قد تصيب وقد تخطئ، «سواء بمعنى «الوضع» أو
«الفعل»، يمكن أن توصف بمصطلح البخت» tuché؛ ومن ثَم:
حين يؤدي أي عامل سببي صدفةً إلى نتيجة مهمة خارج غايته، فإننا نعزوه إلى
automaton
[نتيجة الصدفة
chance result]، وفي الحالات الخاصة حين
تنبع مثل هذه النتيجة من فعل دءوب (مع أن هذه النتيجة لم تكن هي الهدف) من ناحية قدرة
على الاختيار، يمكن أن نقول إنها تأتي
by
tuché [بالبخت].
١٦٣
تنبثق القوة والأهمية اللتان يعزوهما أرسطو إلى هاتين المقولتين من مسألتين منفصلتين.
تتعلق الأولى بطبيعة العلية عمومًا:
بالنسبة لبعض المسائل يعلن وجود [النصيب أو الحظ أو الحادث] أنها تحدث دون سبب، لكن
كل ما نتحدث عنه على هذا النحو ينتج في الحقيقة عن سبب محدَّد. مثلًا، إذا ذهب رجل إلى
السوق وصادف هناك شخصًا كان يتمنى أن يقابله لكنه لم يكن يتوقع أن يقابله هناك، يكون
سبب اللقاء أنه أراد أن يتسوق، ويحدث هذا أيضًا في كل الحالات التي ندعي أنها ترجع
للصدفة، حيث يوجد دائمًا سببٌ آخر يمكن العثور عليه، إنه لم يكن في الواقع وليد البخت
tuché بحال
من الأحوال.
١٦٤
ومن ثَم يصبح هدف أرسطو هدفًا لأولئك الفلاسفة، خاصة الذريين
atomists، الذي يعلنون أن لا شيء يحدث في حياة
البشر بالصدفة، إلا من كانوا على استعداد لأن ينسبوا أصول الكون، أصول العوالم المنظمة
إلى «أحداث الصدفة [automaton]».
بالإضافة إلى طبيعة المفارقة المتأصلة في توكيد من هذا القبيل، يمكن أن نلاحظ أننا
لا
نرى أبدًا في حركة الأجرام السماوية ما يمكن أن ندعوه تنوعًا سببيًّا أو طارئًا …
بالإضافة إلى أن البعض، يرون أن النصيب سبب أصيل في حدوث الأشياء، ولكن المرء لديه شيء
ما إلهي وخفي بالنسبة له، يجعله غامضًا بالنسبة للعقل الإنساني.
١٦٥
وتتعلق المسألة الثانية «بقوة الحظ أو النصيب في التأثير على سعادة حياة الإنسان
وروعتها».
١٦٦ ويعتقد بعض الفلاسفة أن العيش الطيب يعني الحياة السعيدة. إن الحظ أو
النصيب هو «العامل الحاسم الوحيد في تحقيق حياة من نوع معين»، ويرى آخرون أن «الحظ ليس
له أية قدرة في التأثير على طيبة حياة الإنسان». ويجتاز أرسطو في
الأخلاق إلى أوذيموس the Eudemian ethics طريقًا وسطًا بين هذين الطرفين،
وتُعتبر مناقشته للحظ والفرصة والنصيب جزءًا من البحث الأخلاقي، وليس من البحث
الكوزمولوجي [الكوزمولوجيا
cosmology: علم يبحث في أصل
الكون وبنيته العامة وعناصره ونواميسه. (المترجم، عن المورد)] أو الميتافيزيقي. وسوف
يذكرنا إدراك القرابة بين التحليل النفسي وهذه المناقشات الأرسطية بأننا لا نستطيع
إهمال حقيقة أن التحليل النفسي إبستمولوجي وأخلاقي في المفهوم الأصيل الذي قدمه عن الرض
ونتائجه، ولم يستطع لاكان إهمال تلك الحقيقة.
ويقدم التحليل النفسي مغزيين واضحين فيما يتعلق بهاتين المسألتين؛ الأول: يشبه الفهم
الأرسطي، ويتعلق بالأحداث التي يبدو أنها بلا سبب وبمسألة تورط النوايا والأغراض
الإنسانية في هذه الأحداث. إن المبدأ المألوف عن الحتمية النفسية يمكن استيعابه، في
رأيي، بنجاح تام وعلى نحو صحيح في النموذج الأرسطي عن العلية المحددة، مدعومة من قِبل
«القوى العلية العَرَضية»
١٦٧ التي ندعوها حظًّا. ويدرك أرسطو أننا لا يمكن أن نعزو هذه القوى إلا إلى
الأفعال الغائية، ويعرفها بأنها الأفعال التي «يمكن إدراك نتيجتها كهدف متوقع يحدد
طبيعة الفعل».
١٦٨ وتشير هذه الافتراضات إلى أن المجال الذي نهتم به في هذه الأفعال هو المجال
الذي تُعزى فيه القصدية إلى التفاوض، ويتم التفاوض بشأنها أساسًا بواسطة الاسترجاع.
وهذا هو بكل دقة هدفُ المحلِّل، تحويل الأحداث عديمة المعنى إلى أفعال ذات معنًى.
١٦٩
والمنطقة الثانية هي أيضًا تلك التي أدركناها في التحليل: في مجال «الحادث»، مجال
الصدفة
automaton،
تتركز البؤرة دائمًا على القصدية، على الفرصة، و«حيث إن الفرصة تتضمن القصد، يتبع ذلك
أن الحظ والقصد يتعلقان بمجال الموضوعات نفسها».
١٧٠ وأشجع الطرق للتعبير عن المقاربة التحليلية لهذا المجال، مجال الحظ والقصد،
يمكن أن تكون على النحو التالي: يبحث التحليل عن تلك الغايات التي تحدد الحظ السعيد،
أو
سوء الحظ، أو الموضوع، وقد تم إدراكها على هذا النحو. والمثال الأوضح لهذا الإجراء هو
الانعكاس التالي لمثال فرويد، في سياق مثَّل بالنسبة له ولمصير أعماله أهمية هائلة؛
مناقشة التكرار، وهي مناقشة جاءت مباشرةً قبل «تأملاته» في
وراء
مبدأ اللذة:
إن ما يكشف عنه التحليل النفسي في ظاهرة الإحالة عند مرضى العصاب يمكن أن يوجد أيضًا
في حياة الناس الذين لا يعانون من العصاب. والانطباع الذي يقدمونه هو أن هناك مصيرًا
خبيثًا يترصد خطاهم وقوة شيطانية تسيطر عليهم [
verfolgenden Schicksals, eines dämonischen Zuges in ihrem
Erleben]. لكن التحليل النفسي تبنَّى دائمًا الرأي
القائل بأنهم يرتبون مصيرهم في معظمه [
selbstbereit]، ويتم تحديده بواسطة تأثيرات
الطفولة المبكرة … وهكذا صادفنا أناسًا كانت لكل علاقاتهم البشرية النتيجة ذاتها: من
قبيل المحسن الذي يتنكر له كل من كفلهم برعايته،
his protégés بصرف النظر عما قد يكون من
اختلاف بين أحدهم والآخر، ومن يبدو وكأنه محكوم عليه بتذوق مرارة نكران الجميل، أو
الرجل الذي يرفع شخصًا آخر من وقت لآخر أثناء حياته إلى وضع عظيم الشأن يتميز بالسلطة
الخاصة أو العامة، ثم يعاني هو نفسه بعد فترة من تلك السلطة ويستبدل به شخصًا آخر؛ أو،
مرة أخرى، المحب الذي تمرُّ كل أمور حبه لامرأة بالمراحل نفسها وتنتهي بالنتيجة نفسها.
وهذه «العودة الأبدية إلى الشيء نفسه» لا تدهشنا كثيرًا حين تتعلق بسلوك
نشط … وفي الحالات التي يبدو فيها أن الشخص يكتسب خبرة
سلبية يكون الأمر أكثر إثارة للدهشة بكثير، حيث
يفتقر إلى أي تأثير على تلك الخبرة، ولكنه يلاقي فيها التكرارَ القدري نفسه
[
Schicksals]. وهناك، مثلًا، حالة المرأة التي تزوجت من
ثلاثة أزواج أحدهم بعد الآخر، وقد سقط كلٌّ منهم مريضًا بعد ذلك مباشرة، وكان عليها أن
ترعاهم على أسرَّة الموت.
١٧١
كيف يمكن لنا أن نناقش هذه الفقرة الرائعة؟ هل يجب علينا دعم ملاحظة ليدي برَنكنِل
Branknell ونقول إن فقد أحد الأقارب يُعَد سوءَ حظ،
وفقد اثنين يبدو وكأنه نوع من الإهمال، وفقد ثلاثة يشير إلى وجود شيطان نشط؟ وتقبض
كلماتها بالتأكيد على المعنى الذي «صُدم [stärker]» به فرويد بالخبرات السلبية التي «تبدو
[scheint]»
مجرد خبرات سلبية. إن فقد المرأة لزوجها يصبح أشبه بفقد شيء — مثلًا، بفقد حقيبة اليد
—
أكثر مما قد يظن المرء في الظروف الطبيعية.
إلا أن الاستنتاج الذي توصَّل إليه فرويد، استنتاج أن هناك شيئًا وراء مبدأ اللذة،
له
بنية غريبة، ويبدو وكأنه استنتج، بعد فحص خبراته، أن الذين لا يعانون من العصاب لهم
أيضًا غايات لا يدركونها، لكن التأثير المتراكم لتكرار تلك الغايات يعادل وجودها في
قبضة قوى شيطانية، تقودهم إلى مصيرهم المكتوب. تصور فرويد، في الرسالة المتعلقة بالبنية
التي اقتبستُ منها الفقرة السابقة، أن مجال عمليات التحليل النفسي هو «الطارئ المتضمن
في استمرارية القدر»، وأن أعمال «المصير الطارئ» أعمال «المصير والشيطاني والفرصة، وليس
هناك مجال للاختيار بينها». وبهذا يكون الشيطاني قد أتى إلى المقدمة نتيجة الاهتمام
بحياة من لا يعانون من العصاب، ويبدو أن الطارئ قد تنحَّى جانبًا. إن الشيطاني يتمتع
بكل قوة الضرورة. إلا أنه، طبقًا لرأي أرسطو وفرويد، يمكن أن نستنتج هنا أن الشيطاني
جزء من مجال الطارئ، إن المسألة ليست مسألة الاختيار بينهما.
ومن ثَم، أين يكمن الطارئ في هذا النموذج من نماذج التكرار الأعمى؟ ونردُّ فورًا
بأن
الطارئ لا يوجد سوى في الحادث الأصلي، لحظة الإخفاق
الأصلي، الذي تُعَد كل الإخفاقات التالية بحيث تكرره، النكران الأصلي للجميل الذي
يمارسه الجاحدون في نبش القبور، ونعود إلى السؤال الأصلي: هل كل هذه الزيجات الفاشلة،
تلك العلاقات التي تنتهي نهاية مريرة، ترجع إلى «سوء الحظ» في الخبرة الأصلية، التي
بقيت تافهة كما كانت؟
كنتُ أتتبع خط التفكير الذي رسمتْه لنا إشاراتُ لاكان. ويمكننا الآن إعادة ربط صفحات
النص القصير، في أربعة مفاهيم أساسية في التحليل
النفسي، الصفحات التي تمضي بالمناقشة إلى مجال آخر.
ترجمنا كلمة
tuché [البخت] بتعبير المواجهة مع الواقع. والواقع
وراء الاتفاق
automaton، والعودة، والرجوع، وإلحاح العلاقات، وبه
نرى أن مبدأ اللذة يحكمنا. إن الواقع هو ذلك الذي يقع دائمًا خلف الاتفاق، ومن الواضح
تمامًا، من خلال بحث فرويد، أن هذا هو الموضوع الذي يهتم به.
١٧٢
إلا أنه لا يمكن لنا أن نُقدِم مباشرةً على هذا البحث عن الواقع. وإذا كان الأمر
كذلك، إذا أصبح البحثُ عن الواقع الرغبةَ الملحة للمحلِّل، كما كان الحال بالنسبة
لفرويد والولفمان، فقد تكون النتائج مرعبة. يظن لاكان أن الولفمان ربما «كيَّف الحادث
المتأخر مع ذهانه».
١٧٣ وهذا الواقع، هذه
الغاية terminus ad quem من وراء
التكرار الذي قد يراه المحلل يتراجع إلى لحظة ترقيم، هو دائمًا واقع مستور. لكن واقع
التحليل، الواقع الإمبيريقي يترك على الأقل شيئًا مؤكَّدًا فيما يتعلق بهذا
الواقع.
إن ما يتكرر هو، في الحقيقة، شيء يحدث دائمًا، ويحدثنا التعبير بما فيه الكفاية عن
علاقته
بالبخت tuché كما لو كان صدفةً … إن وظيفة
البخت، وظيفة الواقع كمواجهة؛ المواجهة بقدر ما يمكن أن تُفقَد، بقدر
ما تكون مواجهة مفقودة أساسًا، ظهرت أول مرة في التحليل النفسي في صورة كانت كافية في
حد ذاتها لشد انتباهنا، أعني صورة الرض … ألم يكن واضحًا أن الواقع، في أصول الخبرة
التحليلية، يجب أن يظهر في صورة ما لا يمكن استيعابه فيه؛ في صورة الرض، محددةً كل ما
سوف يأتي، وفارضة عليه ما يبدو أنه أصل طارئ؟
١٧٤
لدينا هنا، في هذه الفقرة تأملات لاكان الموازية لاستكشافات فرويد في
وراء مبدأ اللذة، ولكن هل تأخذنا إلى أبعد مما أخذتنا
إشارات فرويد، الإشارات التي تعادلها في الغموض؟ في مجال التحليل النفسي، مجال «الغائية
اللاشعورية للطبيعة» كما نجدها عند أرسطو،
١٧٥ مجال الاتفاق
automaton، وكما نجدها عند فرويد؛ في هذا المجال نبحث
عن حدث يعمل، عرَضيًّا، كحظ سيئ (أو كحظ سعيد)، ولكن هل جاءت الأحداث السعيدة بصاحبها
في أي وقت إلى أريكة المحلل النفسي؟
بعد الحدث، يشير
فرويد ولاكان كلاهما إلى حقيقة أن التحليل النفسي يتناول الأحداث التي تتجاوز عِلِّية
العلوم، الأرسطية أو البيولوجية الجزيئية
١٧٦ أو سواها: وراء الفرصة والضرورة، يوجد الحظ والحادث. يشق لاكان طريقه بين
مفاهيم التحليل النفسي عن الواقع والتكرار. إن المصير الطارئ، أو المصير والفرصة،
يتناقض مع التكوين البيولوجي (يُتصوَّر كقالب
template
محدِّد، يقع تحت كشف الخبرة البيولوجية)، ويقود فرويد إلى مفهومه عن وراء مبدأ اللذة
المرتبط ارتباطًا شديدًا بمبدأ التكرار، وكل ما يستطيع أن يفعله فرويد، كما يبين دريدا،
هو
تكرار إيماءة التجاوز.
١٧٧
إن التكرار هو المفهوم الأساسي في التحليل النفسي الذي يفحصه لاكان في الفقرات التي
تأملناها، ويلح على أن المحللين تُغشَى أبصارهم بالمجال شديد الخصوصية، المجال الذي
يواجهون فيه التكرار يوميًّا: الإحالة، وهم على استعداد تام لاعتبار الإحالة والتكرار
شيئًا واحدًا، وعلى استعداد تام لرؤية
أنفسهم الطرف
النهائي في سلسلة التكرار التي يمثل التكرار طرفها الأول. إلا أن وجود الإحالة، يواصل
لاكان، لا يفوق وجود أية علامة أخرى؛ «ألا تُقدَّم لنا الإحالة باعتبارها صورة شخص
وباعتبارها على علاقة بالغياب؟»
١٧٨ إن تأكيد الإحالة على حساب التذكر، على أساس أن الذاكرة لا تصنع حضورًا
أبدًا، بينما تكون الإحالة، بالتعريف، حاضرةً، سوف يضللنا، حيث إن النقطة الحقيقية
لالتقاء الرض والإحالة توجد في مفهوم المواجهة المفقودة.
حيث إن ما يكون لدينا في اكتشاف التحليل النفسي هو مواجهة أساسية؛ موعد نُدعَى إليه
دائمًا مع واقع يراوغنا.
١٧٩
وهنا ربما نجد صدًى لما جلبه لاكان معه إلى التحليل النفسي منذ البداية: ميراثه
السريالي. أليست المواجهة الأساسية، الموعد مع الواقع، صورة تعود إلى المظلة وآلة
الخياطة على طاولة الفحص، وهي صورة كان السرياليون مولعين بها ولعًا شديدًا، كانوا
مولعين بها نتيجة لحركتها الذاتية، وهي الخاصية التي تبدو عشوائية وتقدم لنا وسيلة
للوصول إلى الجميل الذي يبعث النشوة في نفوسنا؟
١٨٠
يتجنب لاكان قراءة الخبرة التحليلية التي قد توحي بأن الإحالة خبرة انفعالية تصحيحية،
مواجهة يمكن فيها تحسين المواجهة الأصلية المفقودة، التي يمكن حفظ الموعد فيها، ومع
ذلك، وكما يمكن أن نلاحظ في الجمل الاعتراضية، أسَّس لاكان ممارسته، ممارسته في جلسات
مختلفة الطول، على أساس فكرة أن
الموعد لا يمكن أن
يتشكل على نموذج اليوميات المنظمة تنظيمًا جيدًا (كما في الممارسات الاستحواذية
للمحللين الأرثوذكسيين، أو حتى إتاحة الأم رمزيًّا بالنسبة للمحلل الفينيكوتي
Winnicottian [نسبة إلى فينيكوت. (المترجم)]، التي
توجد، وتبقى، وهي مصدر
الثقة).
١٨١ لا يمكن أبدًا تجسيد الواقع في المحلل، في وظيفة المحلل، بالتماثل مع
الحلم، باعتباره أثرًا من آثار النهار. وحتى يؤكد لاكان ذلك بأقصى قوة بلاغية، تحوَّل
حقًّا إلى الحلم: بحثًا عن الواقع، في الخبرة يتم التسليم طبقًا لما هو متعارف عليه
بأنها تقدم الحد الذي يحدد الواقع، وأيضًا ليقارع نزوعًا رآه في التحليل النفسي ليعالج
«الخبرة الذاتية» للذات كما لو كانت حلمًا بكل معنى الكلمة، فكرة أن
الحياة حلم.
V
بعد الموت الأول، لا يوجد موت آخر.
ديلان توماس، «في رفض رثاء طفل مات حرقًا في
لندن»
أنا، أيضًا، رأيتُ بعينيَّ، اللتين تفتَّحتا بنبوءة الأم، الطفل، وصُدِمتُ بحقيقة
أنني كنتُ أمضي بعيدًا بالرغم من الاستغاثة الواضحة في نبرات صوته قبل الأوان، ومنذ
ذلك الوقت تجدد الكثير لعدة شهور ذات مرة، بعد ذلك بكثير، ملتقطًا هذا الطفل، رأيته
واضعًا رأسه على كتفي وغارقًا في النوم، والنوم وحده قادر على إعطائه منفذًا إلى
الدال الحي الذي صرته منذ تاريخ الرض.
لا حاجة بنا إلى أن نبرر هنا اقتباس الفقرة التالية، وهي فقرة مبهمة، وقد اقتُبست
كثيرًا، ويستهلُّ بها فرويد الفصل الأخير من تفسير
الأحلام:
من بين الأحلام التي ذكرها لي أناس آخرون، يوجد حلم يشدُّ انتباهنا عند هذه النقطة.
وهو حلم سمعته من سيدة مريضة، وقد سمعتْه بدورها في محاضرة عن الأحلام: ما زال مصدره
الأصلي مجهولًا بالنسبة لي. ومهما يكن فقد أثَّر محتواه على السيدة، ووصل بها الأمر إلى
أن «عاودها في الحلم»؛ أي إن بعض عناصره تكررت في حلم حلمته هي، وهكذا، ربما كانت
تعبِّر، بحمله على عاتقها بهذه الطريقة، عن اتفاقها معه في نقطة محددة.
جاءت بوادر هذا الحلم النموذجي على النحو التالي: كان أبٌ يجلس بجوار سرير طفله
المريض نهارًا وليلًا حتى النهاية. وبعد موت الطفل، مضى إلى الحجرة المجاورة لينام،
وترك الباب مفتوحًا بحيث يرى من غرفة نومه الغرفةَ التي يُسجَّى فيها جثمان طفله،
والشموع الطويلة من حوله. وقد جلس رجل عجوز بجوار الجثمان ليشرف عليه وكان يُتمتم ببعض
الصلوات. وبعد ساعات من النوم، حلم الأب بأن
طفله يقف بجوار
سريره، ويمسك بذراعه ويهمس في أذنه مؤنِّبًا إياه: «
أبي، ألا ترى أني أحترق؟» هبَّ من نومه، ولاحظ وجود وميض
ضوء ساطع يأتي من الغرفة المجاورة، وجرى مسرعًا إلى الغرفة حيث كان العجوز الذي يسهر
على رعاية الجثمان غارقًا في النوم، ووجد اللفائف وإحدى ذراعَي جثمان طفله المحبوب
محروقة بلهب شمعة مشتعلة سقطت فوقها.
١٨٣
وتأتي تعليقات فرويد على هذا «الحلم السينمائي» مبهمة بصورة مؤكدة. وبدون تردد، يُقر
بأننا هنا «أمام حلم لا يمثل أية مشكلة في التحليل، إن معناه واضح، ولكنه، كما نرى،
يحافظ على السمات الأساسية التي تميز الأحلام تمييزًا واضحًا عن حياة اليقظة ومن ثَم
تستدعي التفسير».
١٨٤ إنه حلم لا يقاوم التفسير، إن
غموضه ليس
وليد الافتقار إلى
الفهم.
واشتهر أيضًا تعليق لاكان على هذا الحلم، ليس لأنه يمضي باحثًا عن مصادر القوة
المبهمة في الحلم؛ الإبهام الذي قدَّمه فرويد، على نحو صحيح، ولكنه في الوقت ذاته، بدا،
بصورة غامضة، مصممًا على تركه على حاله. يشير فرويد إلى أن مصدر قوة الحلم يكمن في
إطالته لحياة الطفل، بعد أن مات.
١٨٥
إذا استيقظ الأب أولًا، وبعد ذلك توصَّل إلى الاستنتاج الذي قاده إلى الغرفة
المجاورة، فإنه كان، إذا جاز التعبير، سيقصر من حياة طفله بتلك اللحظة من الزمن
Moment.
١٨٦
إن أمنية الأب في أن يكون الطفل لا يزال على قيد الحياة، قد تبدو، وكأنها تحققت وأشبعت بهذا الحلم، تمتد حياة الطفل لحظة بتصوره وهو
يقول تلك الكلمات التكهنية المرعبة، بجوار سرير الأب، تنتصر الرغبة على «حقيقة» موت
الطفل، ينجح الحلم لحظة.
يرى لاكان، ببعض التحفظ، هذا الحلم باعتباره يقدم أطروحة فرويد بأن الحلم تحقيق لرغبة
تعاني من بعض الصعوبات. ويؤكد، بدلًا من ذلك، على أن «ما نراه ينبثق هنا، للمرة الأولى
تقريبًا، في
تفسير الأحلام، هو وظيفة الحلم، وظيفة
يبدو أنها ثانوية. في هذه الحالة، لا يشبع الحلم سوى الاحتياج إلى نوم طويل».
١٨٧ إنه صحيح حقًّا: ما يبرهن عليه فرويد هو أن هذا الحلم يؤدي وظيفتين في
الوقت نفسه: يطيل النوم ويطيل حياة الطفل.
في النوم، الطفل
حي. أم هل يمكن أن نقول بالأحرى:
في الحلم، الطفل
حي؟
إلا أن لاكان ليس متأكدًا بدرجة تأكد فرويد من أن الحلم إطالة. هل يمكن أن نفترض
أن
الطفل حي في الحلم حتى لو كان يتكلم؟
١٨٨ إن كلماته، رغم كل شيء، كالجحيم الحي بالنسبة للأب، إنها كلمات تكهنية إلى
درجة تجعلنا نفهم أنها لا تصدر إلا عن شخص ميت، إنها كلمات تشبه الصرخة التي أطلقها
فَلْدِمار
M. Valdemar، وهو تحت التنويم «إني ميت».
١٨٩ إن هذه الكلمات جحيم حي بالنسبة لأي شخص، مثلنا، يسمح لأذنيه أن تحترقا
به.
أبي، ألا تستطيع أن ترى أني أحترق؟ إن هذه الجملة
في حد ذاتها جمرة. إنها في حد ذاتها تجلب النار أينما حلت، ولا يمكن لنا أن نرى ما
يحترق؛ لأن اللهب يغشي أبصارنا عن حقيقة أن النار تتواءم مع
the
Unterlegt، مع
the Untertragen [الغشاء، ما يكمن تحت، ما يمسك تحت]، مع الواقع.
١٩٠
يخرج لاكان، شأنه في ذلك شأن فرويد، عن طريقه ليؤكد أن هذه الكلمات — «أبي ألا تستطيع
أن ترى أني أحترق» — «تُفصَل إلى الأبد عن الطفل الميت»؛
١٩١ ويخرج عن طريقه أيضًا ليخمِّن أن ما يوقظ الأب ليس «الحادث» الذي يجري في
الواقع، نوم الرجل الذي يرعى جثمان الطفل و«سقوط وميض الضوء الساطع عبر الباب المفتوح
على عينَي الرجل النائم»،
١٩٢ لكنه الواقع في الحلم.
إذا كانت وظيفة الحلم هي إطالة النوم، وإذا كان الحلم، رغم كل شيء، قد يأتي قريب
الشبه للغاية من الواقع الذي يتسبب فيه، ألا نستطيع القول إنه قد يناظر هذا الواقع، أو
يرد عليه [
il pourrait être répondu] بدون الخروج من
النوم؟ رغم ذلك، يوجد شيء من قبيل النشاط السيرنامي
somnambulistic
activity. والسؤال الذي يثار، وهو في الحقيقة كل ما تسمح لنا
إيماءات فرويد المبكرة بطرحه، هو
ما الذي يوقظ النائم
[
Qu’est-ce qui réveille]؟ ألا يوجد، في الحلم،
واقع آخر؟ الواقع الذي يصفه فرويد
Dass das
Kind an seinem Bette steht، إن الطفل يقف بجوار
سريره،
ihn am Arme
fasst، يمسكه بذراعه، ويهمس في أذنه مؤنبًا،
und ihm vorwurfsvoll zuraunt: Vater,
siehst du denn nicht، أبي، ألا تستطيع أن ترى؟
dass ich
verbrenne، إني أحترق؟
١٩٣
هذا هو السؤال، السؤال — ما واقع الحلم؟ — بالتوجه إليه يفهم لاكان هذا الحلم الذي
يدفعنا إلى الأمام. ومن المؤكد أننا سنضل الطريق إذا كنا نظن أن واقع الحلم هو بصيص
الضوء الساقط على وجه الرجل النائم، وسنضل أيضًا إذا كنا نظن أن واقع الحلم هو تذكر
مناسبة نطق فيها الطفل بالكلمات: «أبي، ألا تستطيع أن ترى …؟» وهو ما تدفعنا إشارات
فرويد إلى الاعتقاد فيه.
١٩٤ وليس واقع الحلم هو الرغبة الغامرة في أن يكون الطفل على قيد الحياة، إطالة
حياة الطفل لحظة. يبحث لاكان وراء هذه الترشيحات المحتملة لواقع الحلم المفزع، مفتشًا
عن المواجهة المفقودة، عن الواقع المفقود. في الحلم، الواقع المفقود هو سبب موت الطفل.
إنه لا يبحث عن السبب الفيزيقي، ولكنه يبحث عن شيء من قبيل السبب الكوني، عن معنى موت
الطفل؛
بخته its tuché.
ربما يتساءل المرء، أليس الحلم أساسًا عملية إذعان للواقع المفقود؛ الواقع الذي لم
يعد قادرًا على إنتاج نفسه إلا بتكرار نفسه بدون نهاية، في نهاية لا تبلغ اليقظة أبدًا؟
ما نواجهه قد يكون هناك منذ ذلك الوقت مع ذلك الكائن الخامل دائمًا — حتى حين تحاصره
النيران — حتى لو كانت الموجهة تحدث تمامًا حين تقابله النيران، نتيجة لحادث، يبدو
وكأنه وقع صدفة! أين الواقع في هذا الحادث؟ إن لم يكن ذلك الذي يكرر شيئًا، شيئًا هو
في
النهاية أكثر موتًا،
بواسطة الواقع، واقع ما زال
الشخص المكلف فيه برعاية الجثمان نائمًا، حتى حين دخل الأب من جديد بعد أن استيقظ.
١٩٥
يُطور لاكان جدلية الحلم والواقع وربما يلعب معها. الواقع هو ما يوقظنا من الحلم،
لكن
الحلم الفرويدي — وليس حلم الفيلسوف، الحلم الذي هو عالم الأوهام — يتضمن الواقع الذي
يوقظ الإنسان. والواقع ليس هو الواقع اليومي، لكنه الواقع الذي يحدد الرض، ولا يوجد فيه
أبدًا. وما الرض هنا؟ إنه شيءٌ بشع بصورة تفوق الوصف، حريق، لهب لا يمكن إطفاؤه
أبدًا.
هل الواقع هو الذي يحدد اليقظة، الضوضاء البسيطة التي تحفظ إمبراطورية الحلم والرغبة؟
أليس شيئًا آخر؟ أليس ما يتم التعبير عنه في أعماق القلق الكامن في هذا الحلم؟ أعني
الجوانب الأكثر حميمية في العلاقة بين الأب والابن، التي تنبثق بالقدر نفسه في ذلك
الموت وفي الحقيقة التي وراءه، في معنى القَدَر.
١٩٦
مرة أخرى، يبدو الواقع في هيئة القَدَر، بالضبط وكأننا نطرح السؤال على النحو التالي:
هل سوء حظ الولفمان — «مصيره الطارئ» — هو الذي أيقظه ليرى مضاجعة والديه بعد ظهيرة يوم
حار من أيام الصيف؟
بين ما يحدث وكأنه يحدث صدفة، والكل نيام — الشمعة التي تنقلب والملاءات التي تمسك
بها النيران، الحدث الذي يفتقر إلى المعنى، الحادث، قطعة من سوء الحظ — وعنصر الاتقاد،
مهما يكن محجوبًا، في الكلمات
أبي، ألا تستطيع أن ترى أني
أحترق؟ توجد العلاقة نفسها فيما نصادفه في التكرار. وهو، بالنسبة لنا،
ما يمثله مصطلح عصاب القَدَر أو عصاب الفشل. المفقود ليس التكيف، لكنه البخت
tuché،
المواجهة … الوجه المسيَّج للعلاقة بين الحادث، ما يتكرر، والمعنى المحجوب، وهو الواقع
الحقيقي الذي يقودنا إلى الدافع، ويؤكد لنا أن فك لغز تلك الحيلة في العلاج المعروف
باسم الإحالة لا يتناسب مع اختزاله إلى ما يُسمَّى حقيقة الموقف … ومن الضروري أن نضع
هذا التكرار قبل أي شيء في الشق الحقيقي الذي يحدث في الذات فيما يتعلق بالمواجهة. وهذا
الشق يُشكل البعد المميز للاكتشاف التحليلي والخبرة التحليلية، إنه يُمكِّننا من فهم
الواقع، في تأثيراته الجدلية، كشيء لا يُقبَل أصلًا.
١٩٧
ما يعمل لاكان باتجاهه، ما أسعى إلى أن نسير باتجاهه، هو التمفصل المتبادل لبعدي
الزمنية المتعلقة بالتحليل النفسي: زمنية التكرار، من ناحية، مع علاقتها الحميمة
بالإحالة، بالواقع، وبالفكرة الأصلية للرض؛ ومن الناحية الأخرى، زمنية الزمن المنطقي،
لحظة الرؤية، الزمن اللازم للفهم، ولحظة الاستنتاج. وربما كان الفعل هو ما يوحِّد كل
ذلك في النهاية. إن الإحالة، رغم كل شيء، هي تشريع واقع اللاشعوري، الفعل هو ما يفرض
التكرار على المحلل، وهو أيضًا الوسيلة التي يمكن أن نصل بها إلى ما وراء التكرار.
تتطلب سفسطة الزمن المنطقي عند لاكان من الشخص أن يساهم بيقينه في الفعل، وهذا هو البعد
الذي ينظم ممارسة الجلسات مختلفة الطول، لاغيًا الزمن اللازم للفهم لحساب لحظات
الاستنتاج. ما يُشرَّع هو، بالطبع، تكرار. إلا أن هذا الطريق هو طريق التقدم الوحيد في
التحليل النفسي، تقدم في عصاب الإحالة، تقدم باتجاه الواقع الذي يتم تجنبه
دائمًا.
ربما توجد حقًّا أشكال زمنية أخرى يتمفصل معها التحليل. من يصاب بالدهشة من مواجهة
الإيقاع الأبوقراطي Hippocratic للعلة والأزمة والشفاء،
أو الإيقاعات الموسمية: إيقاعات النمو والنضج والتحلل والتعقيم؟ إلا أن لاكان اختار أن
ينظم اهتماماته بالزمنية حول الترقيم the punctuality —
بكل معانيه — الذي قدَّمه فرويد في النظرية التحليلية والممارسة التحليلية: فكرة اللحظة
الرضية، المواجهة المفقودة، كأفق لعمل المحلِّل والمحلَّل، اللحظة التي لا تتبلور إلا
بالاسترجاع، وتحمل دلالة كلٍّ من المصيري (القَدَر) والعَرَضي في إيقاع التكرار، إيقاع
الإعادة. وقد تساوى إيقاع الزمن المنطقي، إيقاع اللحظة التي تستهل فترة الانتظار، إيقاع
التردد، إيقاع التأخير، الإيقاع الذي يُغلق بالتسرع واليقين، تساوى مع المخطط الفرويدي،
وجعل أيضًا الابتكار العملي ممكنًا، مجازفًا بكسر الطريق المسدودة لنسق طقسي وحيد
باندماجه في نسق آخر، طريق مسدودة تمنع الطرفين من المواجهة اليومية المفقودة والمتوقعة
تمامًا، «صحارى الأبدية المترامية الأطراف» في التحليل اللامتناهي، وقد ذكَّر لاكان
المحللين بقوة، بابتكاره العملي، بأن التفسير فعل، وأن بداية الجلسة ونهايتها بمثابة
عملية ترقيم لخطاب الذات، وأن لكل ما يفعله المحلِّل والذات ولكل ما يقولانه دلالةً
تحليلية. وفي النهاية، ربما يقومان بأسوأ من وصولهما إلى الباب بأسباب الاستنتاج
ذاتها.