الفصل السابع

أكتيون التحليل النفسي١

مالكولم بويي
لاشيء يكاد يبقى من صورتي الأصلية؛
لم يعد كلامي سوى صوت مشوَّش.
Marc-Antonie Charpentier: Actéon
سيكون من المناسب أن نفترض أن غريزة المعرفة WiBtrieb عند فرويد مارستْ شكلًا من أشكال الضغط اليومي المتواصل على أولئك الذين كانت تُمثِّل بالنسبة لهم شراهةَ العقل. مثلًا، على فرويد وبروست ولاكان. وسيكون من الملائم أيضًا أن نفترض أن الحكايات والفرضيات المؤثِّرة للباحث عن المعرفة، البنيات الذهنية التي يُنتِج بها تجريبيًّا لذَّاتِ المعرفة باعتبارها تتابعات للذةٍ سابقة مارستْ ضغطًا مضادًّا على العالم. والملاءمة هنا تتجاوز مسألة تقديم شعار بُطوليٍّ فعَّال، وحكاية تشبع الغرور لتعيد شحنه لمواصلة المراحل التالية من الغاية التي يسعى إليها. ويمكن أيضًا، نتيجةً لتلك الصورة المزدوجة، أن تكون تفسيرًا وليدًا للتفسير ذاته، تفسيرًا يمكن، نتيجة له، ادعاء فضيلتَي الاقتصاد والأناقة، وهما فضيلتان تحظيان بإعجاب واسع. عالَم يُعرَف، رغبة تَعرِف، أداةٌ ذهنية جاهزة للعمل ببراعة وتبصُّر … ومن هذا الحدس البسيط المأمول تنبثق، نادرًا، مطاردةُ المعرفة على نحو ليس مأمونًا ومتطورًا ومشجعًا.
وإذا تأمَّلنا فرويد وبروست ولاكان باعتبارهم أعلامًا نموذجيين في التاريخ الحديث لغريزة المعرفة WiBtrieb، وباعتبارهم منظِّرين لحماسة تُدعَم دعمًا ذاتيًّا بصورة غير محدودة — ومن الواضح أن الوصفين يبدوان كلاهما جديرين بالاهتمام بالنسبة لي — ربما يكون علينا أن نتوقف لنسأل عما إذا كانت فضيلتا الاقتصاد والأناقة بارزتين في الحقيقة ضمن الفضائل التي تتمتع بها أعمالهم. إن كل كاتب من هؤلاء الكُتاب يقدم لنا، بالطبع، لحظاتٍ مؤثرةً عن التواؤم adequation أو التناسب commensurability بين تقريره عن الخبرة وتقريره عن صياغة النظرية التي تحثُّ عليها الخبرة: ما زال لمثل هذه الابتكارات النظرية من قبيل عقدة أوديب والذاكرة اللاإرادية ومرحلة المرآة، إذا اكتفينا بذكر أفضل ما شاع منها، ما زال لها قدرة استثنائية حين نتذكر البراعة التي تحقق التواؤم في كل حالة. إلا أن كل كاتب منهم مسكون أيضًا بعفريت، عفريتٍ صغير ضال، يبحث لتحطيم التوافق المقنع بين الخبرة والنظرية بغرس النظرية في الفائض surplus. وسيرى التعليق الهادف على هذه العملية أن نزوع العقول الخصبة إلى «الابتكار أو الهلاك» هو شعارهم. لكن لكلٍّ من فرويد وبروست ولاكان شهية أقوى مما يوحي بها هذا الكلام: علينا أن نوضح أن النظريات، حتى أكثرها تعلقًا بالذهن، متقلبة أو قابلة للهدم خشية ألا تصبح النظريات الأخرى جديرة بالابتكار. وحيث إن نظريات الآخرين يدمِّرها غالبًا مفكرون من هذا الطراز كتمهيد بسيط لترسيخ نظرياتهم الخاصة، يكون للطاقة العدائية الموجهة ضد نظرياتهم بمجرد رسوخها، يكون لها، بكل معنى الكلمة، غايةٌ أوضح: إنها وسيلة لإطالة عمر رغبات المرء. وحين تصل النظرية والخبرة إلى اللحظة الخاصة بالتطابق الذي يبدو مؤكدًا، يصبح الشك ضرورة عاطفية.
يتحدث فرويد في الصفحات الأخيرة من بحث بعنوان «ملاحظات عن حالة من عُصاب الوسواس القهري» Notes upon a Case of Obsessional Neurosis (١٩٠٩م) عن احتياج أحد مرضى العصاب إلى عدم التأكد وإلى الشك وعن الحيل المدروسة التي يُضطَّر غالبًا إلى تبنيها ليبقى غير متأكد في عالم فيه أدوات دقيقة للقياس ومصادر المعلومات الموثوق فيها (x, 232). وتجعله المعرفة الموثوق فيها في حالة هلع لا يوصف، لكن هذه الفقرة صدرت عن مرجعية إكلينيكية دقيقة، وقد احتشدت بتلميحات إبستمولوجية عامة، بحيث تصبح بورتريهًا منمنمًا لكل إنسان كمفكر. لقد عرَف فرويد بوضوح، ويتوقع من قارئه أن يدرك أن ذلك الميل في التفكير — في العصاب عمومًا وفيما يتجاوزه — الذي ربما بواسطته يمضي عدم اليقين بعبادة حفظ الذات إلى حد تدمير الذات. إن عُصاب الوسواس القهري، كما يشرحه فرويد هنا، مرض ذهني، ويمكن لنا التفكير في «التفلسف» و«التنظير» و«التساؤل الفلسفي» كأسماء بديلة مناسبة. إلا أن التحليل النفسي، مع ذلك، كان «علمًا ذهنيًّا يجعل من الممكن فهم العمليات السوية والمرضية باعتبارها أجزاءً من سياق الأحداث، من ذلك السياق الطبيعي نفسه» (Goethe Prize Address، (١٩٣٠م)، XXI, 208). إلا أن ذلك لا يقدم بالنسبة لي سوى مغزًى واهٍ للغاية لا يسمح لي بأن أقول في هذه المرحلة من بحثي: إن تعليق فرويد ﮐ «تعليق بروست» أو ﮐ «تعليق لاكان» من حيث التشبيه الجاهز للأداء الذهني «المرضي» بالأداء الذهني «الطبيعي» أو الأداء «العصابي» بالأداء «النظري». إلا أننا نجد في متناول أيدينا نقطة أقوى بكثير للمقارنة، بمجرد أن نضع في اعتبارنا التدمير الذاتي للعقل المُنظِّر، ولاكان هو الذي يقدم، في مداعبة تراجيدية في «الشيء الفرويدي La Chose freudienne»، أكثر الصور الخاضعة للتأمل المتطرف الذي يجد كل كاتب من هؤلاء الكُتاب نفسه منقادًا إليه.
في مقابل البورتريهات الذاتية الحربية التي يقدمها فرويد لقواد من قبيل موسى وهانيبال والإسكندر ونابليون، يصفه لاكان بأنه أكتيون Actaeon، اصطيد والتُهِم، في فقرة أشرتُ إليها من قبلُ٢ وأقتبسها الآن كاملة:
ولكن إذا كان لا بد من استعارة أكثر أهمية تكون في صالح البطل، فهي الاستعارة التي تجعلنا نرى في فرويد أكتيون تراوغه باستمرار كلابٌ تعقبها منذ البداية، ويجاهد للعودة إلى المطاردة، ولا يكون قادرًا على التخفيف من سرعة المطاردة حيث لا يغريه سوى اشتهائه للإلهة. تغريه بحيث لا يستطيع التوقف إلى أن يصل إلى الكهوف حيث توجد ديانا الشتونية chtonian Diana في الظلال الرطبة؛ مما يجعلها تبدو وكأنها قاعدة لشعار الحقيقة، تُقدِّم لظمئه، مع السطح الأملس للموت، تقدم الحدودَ شبه الصوفية لمعظم الخطاب المنطقي في العالم، بحيث نستطيع إدراك الموضع الذي يحلُّ فيه الرمز مكان الموت لتتحقق لنا السيطرة على أول أورام الحياة.
وكما نعرف، ما زالت هذه الحدود، وما زال هذا الموضع، بعيدة عن متناول أيدي أتباعه، إن كانوا قد قاموا في الحقيقة بأية محاولة للبحث عنها، وهكذا لا يكون فرويد هو أكتيون الذي تتمزق أوصاله هنا، ولكنه كل محلل يمكن أن يضارع الاشتهاء الذي استهلكه والذي صنعه، وبناءً على الدلالة التي قدَّم بها جوردانو برونو Giordano Bruno هذه الأسطورة في Furori eroici، يكون فريسة لكلاب أفكاره.٣ (٤١٢)
إن المحتوى التاريخي للحكاية الأوفيدية Ovidian واضح وضوحًا تامًّا: في أعمال فرويد وصل الخطاب العقلي والطموحات العلمية العقلية في القرن التاسع عشر إلى نقطة الذروة، لكنها تجاوزت نفسها في هذه العملية وبدأت التحلل بصورة لا عودة فيها. إن ديانا، ديانا لعبة هذا النص الطريف طرافة مهيبة وإلهة العقل اللاشعوري، الإلهة التي تعيش تحت الأرض وتسكن كهف أفلاطون مؤقتًا، قدمت فكرة عن عبء الأهمية وعدم الجدوى وهو عبء لا يحتمل. وقد جاء التحليل النفسي، في حكايةٍ رواها فرويد نفسُه عن تدمير التقدير الذاتي للإنسان الأوروبي الحديث، باعتباره لطمة للتناسب الألفي millennial proportions. وكان النظير السيكولوجي للصفعات الكونية والبيولوجية التي تتابعت على أيدي كلٍّ من كوبرنيكوس ودارون (XII, 140-1, XIX, 221).٤ ولكن بالرغم من أن التدمير الذي انصبَّ على نرجسية الإنسان في عصر التحليل النفسي كان يمكن أن نتوقع تميزه النوعي عن ذلك التدمير الذي جاءت به الثورات العلمية السابقة — من منطلق أن التحليل النفسي أعلن أن عقل الإنسان مقسم ذاتيًّا بصورة متأصلة لا يمكن إصلاحها — إلا أن فرويد قدم غالبًا تعاليمه الخاصة باعتبارها صرحًا لم يمسسه، بصورة تدعو للدهشة، الطوفان الذي استثارته. و«علينا أن نفترض» أن العقلانية العلمية التي دفعت كوبرنيكوس ودارون بعيدًا عن مواصلة الحياة في الشكل الغامض على نحو خطير، الشكل الذي بدا وكأن التحليل النفسي يتنبأ به، وجدت تلك العقلانية في فرويد نصيرًا جديدًا لا يعرف معنى الخوف.

ومن الناحية الأخرى، يُعتقَد أن التحليل النفسي، في نسخة لاكان للقصة نفسها وقد صاغها في إطار أسطوري أكثر وضوحًا، ليس معرَّضًا للخطر فقط، ولكنه يحلِّق دائمًا بدون أمل في أي ملاذ سوى نهاية الفكرة. وليس هناك ما يدعو للدهشة في هذه التوسعات العقلانية والأخلاقية لقصة أوفيد، حتى لو حدث ذلك في القرن العشرين حين لم تعد القصة رائجةً. إن لاكان، في الحقيقة، يغرس نفسه هنا على نحو مباشر بصورة غير معتادة في تراث قديم. ووراء أكتيون لاكان، يوجد أكتيون برونو، الذي يعترف كما ينبغي:

أمد أفكاري إلى الفريسة المهيبة،
وهي تشدني إلى الخلف، تقتلني
بقرضها القاسي الفج.٥
وبالضبط مثلما يوجد وراء أكتيون برونو أكتيون بوكاشيو Boccaccio وأكتيون بترارك Petrarch (وكثير غيرهم):
سأقول الحقيقة، ربما تبدو كذبة
لأنني أشعر بالانسحاب من صورتي
إلى أيل وحيد يهيم،
أُنقَل سريعًا من غابة إلى أخرى
وما زلتُ أفرُّ من نباح كلابي.٦
إن لاكان يشبه على وجه الخصوص برونو وبترارك من بين الحشد الكبير من أسلافه. في هذه الصورة التي يقدم بها الموت بوصفه اختيارًا ذاتيًّا لعقل يرغب فيه. إن العقل، بالسماح لشهواته بمطاردة أهداف محددة — لورا Laura، الجمال السماوي، اللاشعوري — يفضي بنا إلى دماره الخاص. إن الخيالي عند الكُتاب الثلاثة يدمج الطرق الجنسية والعقلانية في صورة متكاملة للعقل باعتباره متعصِّبًا وجشعًا ومبدِّدًا لِذاته في كل مطارداته. يبتعد لاكان ابتعادًا تامًّا عن ديانا المعرفة، مفرطة العذرية، تلك التي يشيدها لنفسه راوية كيركيجارد في يوميات الفاسق Diary of the Seducer: «لست مهتمًّا بالنظر إليها في حمَّامها، لستُ مهتمًّا بذلك على الإطلاق، لكنني أودُّ أن أطرح عليها الأسئلة التي تُحيرني.»٧ مرة أخرى لا شيء يدهشنا في رغبة فرويد لاكان Lacan’s Freud في النظر إلى الإلهة بالعيون والأسئلة معًا. ربط فرويد نفسُه بصورة غير مألوفة بين غريزة المعرفة WiBtrieb وغريزة النظر Schautrieb، وصوَّر الباحث عن المعرفة بوصفه طفلًا يختلس النظر voyeur إلى ما يأتي به العمر. وبصورة مماثلة لإلحاح أفكار الموت عند هيجل في النظام الرمزي الذي تشرف عليه ديانا الحديثة، سيكون الوضع المتوقع لأي قارئ يطَّلع على كتابات. لكن ما يدهشني بوضوح هو أن فرويد الرمزي عند لاكان، فرويد الذي تطارده أفكار هي موت التفكير، وتدفعه رغبات تقضي على الرغبة إذا سمح لها بالسير في مسارها، يجب أن يُقدَّم إلى مهنة التحليل النفسي بوصفه نموذجًا للاستقامة. وكان بحث «الشيء الفرويدي La Chose freudienne» في أول صوره خطبةً تذكارية في عيادة فيينا للطب النفسي وطب الأعصاب، يكرر فيها لاكان توبيخ المستمعين إليه من الإكلينيكيين نتيجة التناقض بين البطولة الفكرية التي تحلَّى بها فرويد والجبن الذي يتذرع به معظم الإكلينيكيين، بصرف النظر عما إذا كانوا فرويديين أم كانوا غير فرويديين. ويكمن فشل العرق الأخلاقي والطاقة الأخلاقية في مقاومتهم الاشتعال بنيران أفكارهم، وفي رفضهم، بمجرد الاشتعال، أن يكونوا فرائس.٨ إنه طبٌّ قوي حقًّا.
وفي الفقرة الأخيرة من هذا البحث، وهي فقرة يلخص فيها المواجهة المصيرية بين أكتيون وديانا ويبالغ فيها بصورة أكبر، يتحول التهكم وتتحول العظة الأخلاقية إلى تلفظ نبوي فخيم: تبرهن الحقيقة على أنها معقدة في جوهرها، وضيعة في مهامها، وغريبة بالنسبة للواقع، وحرون بالنسبة لاختيار الجنس sex، مماثلة للموت، وغير إنسانية تمامًا، وربما تكون ديانا … وكان أكتيون يشعر بالذنب إلى درجةٍ تَحُول بينه وبين اصطياد الإلهة، الفريسة التي تصطاده، ويا لك من صياد، بالظل الذي تتحول إليه، دع القطيع يمر ولا تُسرع الخُطى، وسوف تدرك ديانا لأي شيء تكون كلاب الصيد … (٤٣٦)٩
إن اللاشعوري مرة أخرى طرف مستحيل يقاد المحلِّل باتجاهه ويفرُّ منه، إلا أن الفقرة الأخيرة تحتوي على بؤرة جديدة: إنها محاولة لتصوير لحظة الهلع بين الكر والفر، بين طور الإحياء وطور الإبادة في الصيد، صيد الحقيقة. إن الحيل الأسلوبية التي تثير الارتباك فيما يكتبه لاكان في مواضع أخرى من كتابات تُستخدَم هنا لتقديم مجموعة ملتبسة بالصورة المناسبة، مجموعة مصحوبة بزهو الانتصار. مَن الفريسة، أكتيون أم ديانا؟ إن التركيب التراكمي للجملة عند لاكان يسمح بكلٍّ من القراءتين. هل أكتيون صياد ماهر أم أيل محتضر؟ إن أزمنة الفعل تجعله الصياد والأيل، بصياغته في لحظة غير محددة من المستقبل المضارع present futurity والماضي المستقبلي future anteriority، مثلما يرسل تيتان Titian في رائعته ديانا وأكتيون، وتوجد الآن في أدينبرج، يرسل نظرة الصياد الشاب، تلك النظرة المشدوهة، في اتجاه الإلهة وفي اتجاه جمجمة الأيل، وهي رمز للمصير الذي ينتظره بعد الموت، هل ينشأ إحساس أكتيون بالذنب نتيجة اصطياده للإلهة في المقام الأول أم نتيجة لسبب آخر غير محدد، يمنعه الآن من اصطيادها مرة أخرى؟ إن عبارة Trop coupable à courre la déesse «يشعر بالذنب بدرجة تحول بينه وبين اصطياد الإلهة» تحتوي على حرف جر غير مناسب، كما لو كان حرف الجر à محصلة التقاء القوى الدلالية لحرفَي الجر الجائز استخدامهما هنا (pour وde)؛ مما يجعل نوعَي الإحساس بالذنب محتملين وعلى الدرجة نفسها من الصواب، وتقدم عبارة à courre أيضًا صدًى لكلٍّ من chasse à courre (الصيد) وêtre à court de (يحتاج إلى): علينا أن نظن أن أكتيون مضى إلى الغابات والحقول لأنه كان يحتاج إلى إلهة، وماذا عن تلك الكلاب التي يختم بها البحث؟ إنها أفكار فرويد، يفتنها اللاشعوري، وتنقلب بصورة قاتلة إلى مؤلفها. لكن الهجوم الأساسي فيما يقدمه لاكان من ذم في «الشيء الفرويدي» يوحي أيضًا بأنها أفكار فرويد في مظهر آخر، وقد قامت بتصنيفها منظمة دولية، وأضفت عليها صبغة احترافية، وتبددت بالتالي قوتها الأصلية. وفي القراءة الثانية يمثل القطيعُ النابحُ المحلِّلين المعاصرين، وقد أدركتْ ديانا أنهم بلا قيمة. وينتج عن هذا النوع من الالتباس على المستوى السيكولوجي تفكير يمثل في الوقت ذاته رؤية وَجْدية ecstatic لعملية ذهنية غير محدَّدة. إن السخرية المنصرمة هي التي تُضفي على نشوة لاكان مذاقها المميز الأخير، مذاق العناد والعدوانية.
«إن كل الدوافع هي فعليًّا دوافع موت» (٨٤٨). هكذا يقول لاكان في «وضع اللاشعوري Position de l’inconscient» (١٩٦٠م).١٠ وهكذا يكون لاكان، حين يبدو أنه يضع عنصرًا أساسيًّا من عناصر مبادئه المهنية تحت علامة ثانتوس Thanatos، قد أكَّد لبعض قرائه ما توقعوه لفترة طويلة على نحو مبهم: إن التحليل النفسي مهنة «مستحيلة» حقًّا، عِلمُ ما لا يمكن تصوُّره، عرَضٌ للداء الذي يبدو أنه يُشخصه، إنه في أفضل الأحوال نسخة جديدة من السحر الذي يعالج الداء بما يسبب الداء نفسه homeopathic magic. إن مبالغة لاكان في تناول أسطورة أكتيون، وإلحاحه على أن موضوع الموت يجب أن يُقدَّم في الديالوج التحليلي ولكن لا يمكن تقديمه، إن هذه المبالغة وهذا الإلحاح يلفتان الأنظار إلى سمة من سمات فكر فرويد، فكرة يتجاهلها من ينتقصون من قدره بقوة، يُتَّهم فرويد غالبًا بأنه مدَّ الأنساق التحليلية بدائرية ذاتية التحقق تحصِّنها ضد النقد العقلاني. إنه بالتأكيد، في تعليقاته على أن «مقاومة التحليل النفسي» بوصفها عرَضًا لا يمكن تفسيره إلا بواسطة التحليل النفسي، لا يهتم اهتمامًا جليًّا بمحو المنطق الهزيل: «إذا كنتَ تعترض على ما أقول فإنني على صواب بالضرورة.»١١ ضد الاقتناع الذاتي بذلك، وضد العجرفة والتعصب اللذين يتضحان في مواضع أخرى من أعمال فرويد، يقدم لنا لاكان نسخة من تفكير فرويد تبرز قدرته السلبية؛ قدرته على احتمال الكوارث التي يبتلي العقلُ المنظِّرُ نفسَه بها. ينتقل لاكان بين المؤلفات الفرويدية من كتاب إلى آخر، وينتبه إلى مساحات التردد في كل نظرية من نظرياته في لحظة من اللحظات، وإلى تحولات تلك النظرية على مدار الزمن، ويشير دون تعاطف أو Schadenfreude، ولكن بإحساس بأن الصواب يعاد اكتشافُه في العالَم، يشير إلى نزوع النظريات التحليلية إلى الانهيار أو الانفجار من الداخل.
إن رؤية لاكان لهذه النظريات in statu moriendi — محقِّقةً صوابها برفضها أن تكون صائبة — تحمل معها، كما اقترحتُ في فصل سابق، خطر الدائرية وخطر الاقتناع الذاتي (كلما كان تنظيري أكثر تمزقًا، ورغبة، ومحددًا بعدد أكبر من العوامل، وكلما زاد تعذر الإحاطة به وتعذرت قابليته للانتهاء، كلما ازداد الشبه بينه وبين اللاشعوري الذي يفترضه تنظيري).١٢ إلا أن وصف اللاشعوري الفرويدي كما يقدمه لاكان من جديد يقبض على أحد أبعاد المشروع التحليلي باستبصار خارق، وينبثق المشروع مرة أخرى في تعليق لاكان باعتباره مجموعة من المعايير العلاجية والوقائية الصارمة بالنسبة للذكاء النظري ومقدمة نقدية، دقيقة وغير محددة الأمد، لأية إبستمولوجيا مستقبلية. إن اللاشعوري يمثل في الوقت ذاته الموضوع الأسمى للمعرفة والشرط المهيمن (المتحرِّر والمعوِّق) اللازم لمطاردة المعرفة. إنه موجود دائمًا إلا أنه مراوِغ، بارز إلا أنه نتيجة لرغبة لا تُحَس، يخضع لنسق إلا أنه مدمِّر للنسق، يُنطَق صراحةً إلا أنه تهكميٌّ ironic بصورة لا يمكن علاجها … يشيد لاكان اللاشعوري من كتلة متباينة من المواد الفرويدية والمواد الأخرى، كتلة تقدم تلخيصًا مُقنِعًا لكل الإنتاج النظري الذي قدَّمه فرويد، ومن هذا المنظور يمثل تاريخُ نظريات فرويد تاريخَ البراءة المفقودة والغيرة الفكرية النهمة. إن شروحَه، دائمًا، لا تبلغ their explicanda أو تتجاوزها أو تطوقها. إن اللاشعوري هو ديانا فرويد Freud’s Diana، ولوراه his Laura، وألبرتينه his Albertine، القوة التي تدير آلة نظرية لا تتوقف لأنها ترفض الكشف عن نفسها.

إن التحليل النفسي الذي يعاد تعريفه بهذه المصطلحات يذكِّر الذكاء النظري، باستمرار، بأنه مجسد وقاتل، ويقدِّم من جديد في نماذجه نفسها فَهمًا مشوَّشًا للتدفق. إن إبستمولوجيا المستقبل التي يَعِد بها التحليل النفسي الآن هي تلك التي يمكنها أن تتكيف مع الانقطاعات المتأصلة في العقل البشري، ويمكنها أن تسمع لغة العقل الذي يتشكل، تلك اللغة المجنونة المترددة، وأن تتكلمها. لكن الجِراح التي يدمي التحليلُ النفسيُّ نفسَه بها ليست كلها من هذا النوع المفيد، وسوف أوجز الآن بعض الخصائص الأكثر قدرة على التدمير من بين الخصائص التي تميز أسلوب التحليل النفسي في التفكير، فيما يبدو لي أنه يمثل نسقًا متناميًا من الجاذبية.

  • أولًا: إن الفرص الملائمة للنقد الذاتي، الفرص التي استنبطها فرويد من نماذجه الخاصة المتعاقبة في الحياة الذهنية، وأتاحها أمام صانعي النماذج عمومًا كإشكاليات عامة فُقدتْ غالبًا على نحو مُفجِع في مهنة التحليل النفسي. ربما نتوقع من أنصار النظرية الفرويدية الذين تلقَّوا درسهم الأساسي من كتابات فرويد نفسه — وليس من الكتب الدراسية والكتيبات التي تتناول التحليل النفسي — أن يمتلكوا بصورة غير شائعة إحساسًا حادًّا بالنظرية في تحديداتها الثقافية المحلية، وأن يسلموا بأن الصراحة النموذجية التي تتمتع بها نظريات، من قبيل الأحلام والفنتازيا، ضمن بعض الخصائص الأخرى البارزة، تشبع أمنيات المنظِّر. وربما نتوقع منهم أيضًا أن يسلموا بأن مفاهيم التحليل النفسي ونماذجه، حتى حين تكون قد تخلصت من تلك الأمنيات إلى حد بعيد، أعراف مؤقتة، مقدَّر لها أن تُزاح بواسطة مفاهيم أخرى لها قوة تفسيرية أسمى، أو تكون مجرد مفاهيم أخرى. ولكن، مع أن الفروع العلمية الأعلى التي اتخذ منها التحليل النفسي نموذجًا له في سنواته التكوينية واصلت بوضوحٍ التبدلَ بتلك الطريقة، إلا أن التحليل النفسي حمى مفاهيمه التأسيسية باحتراس يثير الحسد. يمكن، بكل دقة، أن تكون السلبية التي واجهها فرويد ضد نظرياته في بعض لحظات الشك «البطولي» قد بدت وكأنها تمحو الحاجة إلى نقد ذاتي وإلى ابتكار المفاهيم باستمرار في المهنة التي دشَّنها. كان فرويد مؤسِّسًا لأسلوب نظري ذاتي الانعكاس ومؤسِّسًا لمجموعة من التعاليم، وثبت للغالبية العظمى من خلفائه أن تكرار التعاليم أسهل من محاكاة الأسلوب. تتمتع سياسات المعرفة التحليلية بحدَّين متكاملين: التصاق دائم بالنماذج الأصلية في الوسط المألوف، ورفض الدخول في مناقشات تمهيدية وسط العلاقات الخارجية، إذا تجاوزنا عن ذكر التعاون مع أنساق المفاهيم المتاخمة له أو عن ذكر التنافس المعلن معها. وما زالت هناك دروس تحررية يمكن أن يتعلمها من أعمال فرويد أولئك الذين يحصرون أنفسهم عمدًا في نسق مهني سلطوي ابتدعه لنقل مفاهيمه.
  • ثانيًا: إن التحليل النفسي وضع نفسه، بفصل العقل عن المجتمع والتاريخ بتحديد seelischer Apparat لا اجتماعي ولا زمني كموضوع أساسي للدراسة، في موقف المُستقبِل السلبي للرسائل المقنَّعة المرسلة من العالم العمومي المستبعَد، وقد أصبح (أو يودُّ لو يبدو) مطبوعًا على نحو مجهول تمامًا، وهو يكيِّف أداته النظرية بحذر مع الاحتياجات المتذبذبة، احتياجات «الروح»، ويحمي بنشاطٍ إجراءاته العلاجية، بأنواع مذهلة من الممارسات الاجتماعية التفاعلية. لقد أصبح في أسوأ الأحوال مزيجًا من البلسم والقسوة بالنسبة للنفس psyche في الرأسمالية الاستهلاكية. وقد دخل هذا المعقل المُدَّعى للتنوير، هذا المصدر للإضاءة الذي أنتجه العقل وانقلب بعنف ضد العقل، إلى التعقيد مع المهتوك l’infâme، أصبحت تعبيراته الرقيقة عن العقل اللاشعوري بمثابة اللوح الأملس tabula rasa [حالة افتراضية للعقل قبل استقباله أية انطباعات خارجية. (المترجم)] الذي تكتب عليه من جديدٍ بعض الأساطير السائدة في هذا العصر وبدون التعرض لأي شكل من أشكال التدقيق النقدي.
وتتمثل الخاصية الثالثة، ويبقى أنها الخاصية الأكثر قدرة على التدمير، في أن التحليل النفسي انتقص بنشاط من شأن تلك المحدِّدات الاجتماعية للبنية العقلية التي شعر بالاضطرار، وإن لم يكن على مضض، إلى وضعها في الاعتبار، تحدث فرويد غالبًا عن الحدود المشتركة بين الفرد والمجتمع، وقد فعل ذلك بطريقة مبرمجة بصورة بارزة في بداية سيكولوجيا الجماعة وتحليل الأنا (١٩٢١م):
إن التباين بين سيكولوجيا الفرد وسيكولوجيا المجتمع أو الجماعة، وهو تباين قد يبدو للوهلة الأولى تباينًا عظيم الأهمية، يفقد قدرًا كبيرًا من حِدَّته حين يخضع لفحص أدق. تهتم سيكولوجيا الفرد حقًّا بالإنسان الفرد وتكشف المسارات التي يسعى بواسطتها للعثور على إشباع لدوافعه الغريزية؛ ولكن من النادر وفي ظل بعض الظروف الاستثنائية أن تكون سيكولوجيا الفرد في وضع يجعلها تهمل علاقات هذا الفرد بالآخرين. إن الحياة العقلية للفرد تتضمن شخصًا آخر دائمًا، كنموذج، كموضوع، كمعين، كخصم. وهكذا تكون سيكولوجيا الفرد، بهذا المعنى الموسَّع للكلمات والمبرَّر تمامًا، سيكولوجيا المجتمع أيضًا في الوقت ذاته. (XVIII, 69)
لكن هذا البرنامج لم يُنجَز، ولم يتابع أحدٌ من خلفاء فرويد مختلف التفاعلات والتحديدات المتبادلة، التي يضع خطوطها هنا، بتقديم أي شيء على قدر من الأهمية النظرية. إن تاريخ الثقافة الإنسانية يمثل غالبًا، بالنسبة للتحليل النفسي اليوم، مجرد تاريخ للكبت ونتائجه، والكبت — شأنه في ذلك شأن الرغبة التي يسيطر عليها — هو غالبًا مجرد مُعطًى سيكولوجي، مجرد حقيقة عن الحياة الباطنية. وحيث إن المجتمعات كلها والجماعات الاجتماعية عوامل تتحكم في رغبة الإنسان، فإن التجمع يمارس ضغوطًا مَرَضية محدَّدة بدلًا من أن يبدو وكأنه يفتقر إلى القوة والترابط بوصفه مادة لموضوع إكلينيكي أو علمي. إن التبلد والتحرر من الأوهام يبدوان وكأنهما القدَر الحتمي لأي منظِّر ينظر إلى المجتمع من خلال عدسات من هذا النوع. إذن، لماذا ينظر؟ إن التحول الفرويدي المستسلم باتجاه العقل، التحول الذي يُدرَك بوصفه نسقًا شبه تلقائي لقوًى بينها علاقات متبادلة، لم يتطور تطورًا بارزًا على يدَي لاكان، بالرغم من إلحاحه على أن اللغة هي الحامل الحتمي للمعاني الاجتماعية إلى داخل العقل. إن «سلسلة الدوال» اللاكانية لا يمكن أن تقوم بأكثر من ربط عقل الفرد بالعالم الاجتماعي المحيط به حيث تشكلت السلسلة، ولا يعني هذا — فيما يتعلق بعدد كبير من مريدي لاكان — أن التحليل النفسي بلغ سن الرشد كنظرية اجتماعية. إن نظرية لاكان، شأنها شأن نظرية فرويد، تتيح بالطبع للقوى الاجتماعية الفرصة لتبدو عاملةً في إنتاج بعض صور الرغبة أو نزعاتها المستقرة نسبيًّا — يمكن أن ندعوها «أنماط العقل» — وهي نظرية مهمة أحيانًا بصورة استثنائية في دراسة موضوعات اجتماعية أو سياسية من قبيل الفاشية، والجريمة الناتجة عن اضطرابٍ نفسي، نظام الأقلية الجنسية sexual والتمييز الجنسي sexual والعنصري، ولكن ما زال هناك عمل تفصيلي في حاجة إلى الإنجاز، عمل عن البنية الاجتماعية من ناحية وعن البنية النفسية التي يصفها التحليل النفسي من الناحية الأخرى، وفي أثناء ذلك تكون الشعارات السياسية السحرية من النوع الذي يقدمه التحليل النفسي بديلًا هزيلًا لذلك العمل.
إن المشكلة مزدوجة: لقد فشل التحليل النفسي إلى حد بعيد في تطوير بصائره الاجتماعية المبكرة، وفشل أيضًا، وبصورة أكبر، في الرد على الانتقادات الباكرة التي وُجهت إليه وكانت أكثر دقة، إن أعمالًا من قبيل الفرويدية من منظور النقد الماركسي Freudianism. A Marxist Critique (١٩٢٧م) لفولوزينوف Vološinov V. N.١٣ أو Critique des fodements de la psychologie (١٩٢٨م) لجورج بولتزر Politzer، بكل ما تحمله من حماس ومغالاة تثير بعض الصعوبات الحاسمة، وكان من الممكن، إذا كانت قد وضعت في الاعتبار تمامًا، أن تكون ذات فائدة عظيمة بالنسبة للتحليل النفسي في تنقيح النظرية وتوسيعها، وقد تمت الدعوة بانتظام منذ أوائل الثلاثينيات لوضع برنامج للبحث المشترك بين التحليل النفسي وعلم الاجتماع، وربما كانت أكثر حماسًا على أيدي كتَّاب ارتبطوا بمعهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي: على أيدي إريك فروم الشاب في بحث بعنوان «منهج علم النفس الاجتماعي التحليلي ووظيفته» (١٩٣٢م) وعلى أيدي أدورنو Adorno وهبرماس Habermas في مناسبات عديدة.١٤ لكن التحليل النفسي المؤسسي «الرسمي»، مع أنه استسلم للديالوج في إجراءاته العلمية والإكلينيكية، إلا أنه رفض بإصرارٍ هذه الدعوات لديالوج مع جاره الأجدر بالاختيار من بين العلوم الإنسانية.
قلتُ في التصدير إن هذا الكتاب لم يكن له أن يكون عملًا نظريًّا ولا أنوي أن أحوله إلى ذلك في هذه المرحلة المتأخرة من الكتاب، بالرغم من أن الحاجة مُلحة إلى نظرية متكاملة عن التفاعل بين البنية الاجتماعية والبنية النفسية. وأفضل ما يمكن أن أقوم به لتعزيز هذه الغاية في نهاية دراسة سعت، إلى حد ما، إلى رصف التحليل النفسي بعمل بارز في صورة حكاية نثرية، ربما يتلخص ببساطة في أن أذكر قارئي بقدرة بروست، في وصف المشاعر والسلوك، على العمل الفعَّال على تخوم المجتمع وعقل الفرد. وكمذكِّر عنيد بهذا البعد، أعود بإيجاز إلى أسطورة أكتيون، لأضع الشفقة الذهنية لرؤية لاكان أمام الشبق في رؤية بروست، الشبق الذي يحمل صبغة اجتماعية بشكل تام. وفي الفقرة التالية من افتتاحية Sodome et Gomorrhe، يتحدث كارلوس مع جوبان عن المذاق والمناورات الجنسية ويسمعه الراوي صدفة:
كان أحد جرسونات الغرف معروفًا بالنسبة لي، وقد أشرتُ له إلى «قناص» صغير شيق، وفتح لي أبواب العربة وظل حرونًا بشأن اقتراحاتي. أخيرًا، قدَّمتُ له، وأنا ساخط وحتى أثبت له حسن نواياي، مبلغًا كبيرًا بصورة تدعو للضحك مقابل أن يصعد السلالم، ويتحدث معي في غرفتي خمس دقائق. انتظرتُ دون جدوى. وإذ ذاك بلغ الاشمئزاز درجة جعلتني أعتاد الخروج من باب الخدم حتى لا أرى تكشيرته التافهة الخسيسة في وجه الآخر. علمتُ بعد ذلك أنه لم يهتم أبدًا بأية ملاحظة من ملاحظاتي، التي حُصرتْ، أولًا بواسطة جرسون الغرفة الذي كان غيورًا، وثانيًا بواسطة البواب النهاري الذي كان عفيفًا، وثالثًا بواسطة البواب الليلي الذي كان واقعًا في عشق القناص الصغير واعتاد أن ينام معه في الساعة التي تستيقظ فيها ديانا، لكن اشمئزازي استمر رغم كل شيء، وكان عليهم إحضار الغلام إليَّ مثل طبق من لحم الغزال على صينية من الفضة، وكان على معدتي أن تلفظه.١٥ (٦١٢-٦١٣)
إن أكتيون هنا مخلوق ينتمي إلى تاريخ اجتماعي مثلما هو مخلوق ينتمي إلى عالم الأسطورة: إن القناص chasseur («الخادم»، «الصياد») الذي يتحول إلى موضوع بارز للفضول الجنسي عند كارلوس يُدعى بهذا الاسم لأن زيه الفندقي يُذكر على الأقل برداء الصيد، إن أسلافه الذين كانوا يرتدون هذه الملابس كانوا جديرين بعمل في العراء كسائسي خيل؛ وبالتالي كان أسلافهم جديرين بالانتماء إلى طبقة وضيعة من الصيادين. إن لعب بروست على القناص يعود بنا عبر الزمن التاريخي إلى عالم الأسطورة والخرافة، وتحدد ديانا بروست تحديدًا مزدوجًا بالطريقة نفسها: إنها الراعية المقدسة للبواب concierge، ذلك الذكر الفاسق، ولكنها أيضًا ديانا دي بويتير Diana de Poitiers، التي ذكرها كارلوس في مستهل الفقرة ذاتها، والأوهيميرية euhemerism [نظرية تُنسب إلى أهيميروس في القرن الرابع قبل الميلاد تفسر الأساطير بأنها تعليقات تراثية على أشخاص وأحداث تاريخية. (المترجم)] التي يشير بها كارلوس هنا إلى الطبقات الأدنى في رياضة العشق يشير بها أعضاء الطبقة الأرستقراطية المتحجرة في مواضع أخرى من الرواية إلى أنفسهم: إن تقديس الذات مناورة بارزة تشتري بها الأرستقراطية المتحللة الزمن، لكن بروست ينظم في خيوط السياسات الهزلية لمونولوج كارلوس بورتريها هزليًّا مساويًا له عن النشاط الجنسي المختلس. يتذكر كارلوس أن أكتيون يصبح صالحًا للأكل حين يتحول إلى أيل، وعلى نحو ملائم يتخيل القناص مقتولًا ومطبوخًا ومقدمًا على طاولة. إن بروست هنا لا يستطيب ليونة الليبيدو، تحول شهية مجسدة إلى أخرى فحسب، ولكنه يستطيب أيضًا الأساس الليبيدي للسلوك الاجتماعي. إن إدراك كارلوس يغمر في فنتازيا جنسية، ولاشمئزازه المنحط على نحو أبسوردي من القناص الذي لا يستجيب لرغباته أسبابٌ اجتماعية وعاطفية وجسدية في الوقت نفسه، إن أكتيون المخزي في رواية بروست، على العكس من أكتيون لاكان، يُحدَّد بعدة عوامل تحديدًا رائعًا، وفي التنقل الانسيابي بين التاريخ والأسطورة، بين الجنس والمجتمع، بين الشهية العقلية والشهية الجسدية، يقدم شعارًا أغنى بكثير من الصياد الممزق، في أعمال لاكان، في غاية لم تنتهِ في انتظار نظرية التحليل النفسي.
كان الموضوع الذي تناولته في هذه الصفحات يمثل إدراكًا ذاتيًّا متقطعًا لنظرية بوصفها اشتهاءً، وينبثق جزء كبير من هذا الإدراك، بالنسبة للكُتاب الثلاثة [فرويد وبروست ولاكان، والإشارة بالطبع إلى كتاب مالكولم بويي. (المترجم)] الذين تناولتهم، من الاكتشاف المتكرر لقابلية النظريات والمؤلفين للهدم. إن الكُتاب الثلاثة جميعهم يُلقون بأنفسهم في مهب الرياح على ذلك المحيط العقلي، حيث يحول مشهد نظرية بلا نهاية التفكيرَ باتجاه الموت. موت أسرع من هذا اللهو اللامتناهي في الحكايات … لكنَّ للثلاثة جميعهم اشتهاءً مضادًّا أيضًا، إنهم يضعون النظرية كيقين مسبق مقابل النظرية كحكاية. لفرويد في حفرياته، وللراوي الغيور عند بروست في ذكرياته اللاإرادية، وللاكان في مواجهاته الخرساء مع الواقعي réel الذييقع إلى الأبد بعيدًا عن متناول اللغة، لهم جميعًا مدخل إلى ذلك «اليقين الذي يشبه المتعة»، اليقين الذي يتحدث عنه الراوي. إن علمهم الجديد يبدأ في لعبة التصريح الذاتي للرغبة بين اليقين والانقراض، بين الأساس الوطيد والطريق المسدود.
١  العنوان الأصلي: Epilogue.
وهو الفصل الختامي في: Malcolm Bowie: Freud, Proust and Lacan: Theory as fiction, Cambridge University Press 1987; pp. 165–178; 211-213.
المتن من ص١٦٥ إلى ص١٧٨، والهوامش من ص٢١١ إلى ص٢١٣.
٢  راجع ص١٠٣. [من الأصل الإنجليزي، فصل «لاكان»، وهو الفصل الثاني من كتابنا].
٣  بالفرنسية في المتن.
٤  للاطلاع على البعد الأسطوري في Three blows لفرويد، انظر:
Gillian Beer, Darwin’s Plots, 12-13.
٥  هذه الفقرة من الجزء الأول، الديالوج الرابع من De gl’Heroici Furori (١٥٨٥م) هي إحدى الفقرات العديدة التي تتناول أكتيون الخيالي. والنص الإيطالي مقتبس عن نص هنري ميشيل، والترجمة عن بول يوجين ميمو Memmo. وقد نُشرت طبعة ميشيل التي تحتوي على ترجمة فرنسية كاملة قبل تأليف «الشيء الفرويدي» بعامين. إلا أن مذكِّرًا موضوعيًّا أكبر بأكتيون يُقدَّم في Le Bain de Diane حمَّام ديانا من تأليف بيير كلوسوفسكي Klossowski، وقد نُشر في العام الذي كُتِب فيه بحث لاكان (١٩٥٦م). وتُقدم فقرات لاكان عن ديانا تعليقًا (عن الأنواع) على البحث القصير الملغز الذي كتبه فرويد بعنوان «عظمة ديانا أهل أفسس» (١٩١١م) (XII, 342–4)، واستجابة لعقدة أكتيون complexe d’Actéon عند سارتر (الوجود والعدم، ٦٦٧): لا يُعاقَب أكتيون سارتر على النظرة التي اختلسها، على العكس من أكتيون أوفيد وأكتيون لاكان.
٦  راجع Rime sparse, 23 (ص٦٧ في طبعة روبرت دورلنج المطبوعة بلغتين، وعنها اقتبسنا النص والترجمة). ويرجع تاريخ هذه القصيدة إلى عام ١٣٥٠م. ويشرح دورلنج في مقدمة هذه الطبعة معالجة بترارك الدقيقة لأسطورة أكتيون وموضوعات أوفيدية أخرى (٢٧–٣٣). ويحكي بوكاشيو الأسطورة مرة أخرى في Genealogie deorum gentilium libri (الكتاب الخامس، الفصل الرابع عشر) (Opera, X, 249).
٧  راجع إما/أو، الكتاب الأول، ١٣٤.
٨  مصرِّحًا بما يدين به لكلوسوفسكي في حمَّام ديانا (راجع الهامش رقم ٤)، ينهي جين ستروبنسكي Starobinskki مقاله Psychanalyse et connaissance littéraire (١٩٦٤م) عن استدعاء أكثر اعتدالًا لأكتيون في دوره كراعٍ في التحليل النفسي:
Critiques, analystes, gardez allummée la lampe de Psyché, mais songez au destin d’Actéon!’ (La relation critique, 285).
٩  بالفرنسية في المتن. الحذف موجود في العبارة المقتبسة عن لاكان.
١٠  بالفرنسية في المتن.
١١  انظر، على سبيل المثال، خمسة مقالات في التحليل النفسي (١٩١٠م) (XI, 39عوائق في مسار التحليل النفسي (١٩١٧م) (XVII, 441–731) ومقاومات التحليل النفسي (١٩٢٥م) (XIX, 213–222).
١٢  انظر ص١٢٩–١٣١ [من الأصل الإنجليزي، فصل بعنوان «لاكان»].
١٣  لستُ ملمًّا بقصة نشر هذا العمل مترجمًا، ومن المحتمل أن ذلك العمل، الذي كُتب في الأصل ونُشر بالروسية في الاتحاد السوفيتي، لم يكن متاحًا حتى وقت قريب لمعظم الفرويديين الذين كان من الممكن أن يستفيدوا من قراءته.
١٤  إن إنتاج الرغبة الذي كتبه ريتشارد ليشمان (١٩٨٢م) يُعتبر من ألذع الانتقادات الماركسية الحديثة للتحليل النفسي، ويستقصي فيليب رييف Rieff الخيوط المتفاوتة في تأملات فرويد في العلاقة بين التحليل النفسي والسياسة في فرويد: عقل الأخلاقي («السياسة والفرد»، ٢٢٠–٢٥٦)، وهو عمل ما زال بارزًا وما زال وثيق الصلة بالموضوع المطروح.
١٥  بالفرنسية في المتن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥