الأربعاء ١ جانفي ١٩٣٠
في سكون الليل، ها أنا جالس وحدي، في هاته الغرفة الصامتة إلى مكتبي الحزين، أفكِّر بأياميَ الماضية التي كفَّنتها الدموع والأحزان … وأستعرض رسوم الحياة الخالية التي تناثرت من شريط لياليَّ وأيامي، وذهبت بها صروف الوجود إلى أودية النسيان البعيدة النائية.
أنا جالس وحدي في سكون الليل، أستعرض رسوم الحياة، وأفتكر بأيَّامي الجميلة الضائعة، وأستثير أرواح الموتى من رموس الدهور.
ها أنا أنظر إلى غيابات الماضي، وأحدق بظلمات الأبد الغامض الرهيب.
ها أنا أنظر، فأرى صورًا كثيرة تعاقبت على نفسي كغيوم الربيع، وتحركت حواليَّ كأنسام الصباح، وتعانقت حول قلبي كأوراد الجبل … ثمَّ أنظر فإذا رسوم غامضة مضطربة متقلبة كأمواج البحار، وأطياف ملونة كقوس قزح، جميلة كقلب الربيع تمر أمامي ثمَّ تختفي، وتتراقص حواليَّ ثُمَّ تبتعد، ثمَّ تتوارى في أعماق الظلام الدامسة. وأرى أحلامًا صغيرة ناشئة تُغرِّد كطيور الغابات، وتنمو نمو الأعشاب، وتتفتح تفتُّح الورود، ثمَّ تجف وتذبُل وتتناثر فتَذْرُوها الرياح، ثمَّ تضمحلُّ وتتلاشى في سكون المنون.
ها أنا أنظر، فإذا أصحابي المتوفَّون يعودون إلى الحياة ثانية كأجلِّ وأجمل ما عرفتهم أول مرة، وإذا بنفسي تُمثِّل معهم فصول الحياة الغابرة التي مثَّلناها بالأمس وطوتها الدهور، وتنسى متاعب العيش وأحزان الحياة، وتحسب أنَّها ما زالت تلك النفس التي عرفتها بالأمس مضحاكة فرحة كقُبَّرَةِ الحقول، وتنسى أنها قد أصبحت غريبةً بين أشباح لا يفهمونها، وحيدةً بين أنصاب جامدة تحرِّكهم بواعثُ المادة وشهوات الجسد، بعيدةً جدًّا عن ذلك الملأِ السعيد الذي عرفته في عهدها الماضي والذي ضربت بينها وبينه صروف الحياة فاندفع في سبيل الخلود، فظلت ههنا وحدها تندبهم وترثيهم …
ها هم أصدقاء طفولتي الحالمة الذين عرفتهم في بلاد كثيرة … ها هم يتراكضون بين المروج الخضراء ويجمعون باقات الشقيق والأقحوان، ثُمَّ يتسلقون الجبال متتبِّعين أعشاش الطيور الصيفيَّة ومترنِّمين بتلك الأغاني البريئة الطاهرة، ثُمَّ ها هم جالسون على ضفاف الأنهار الجميلة الهادرة يبنون من الرمال بيوتًا مسقوفة بأعشاب الحقول، ثُمَّ ها هم ينقسمون إلى فريقين يطارد أحدهما الآخر، وهم يمثِّلون رواية الحياة الكبرى التي تمثِّلها الليالي دوامًا وهم لا يشعرون.
ثم ها هي تلك الريحانة الجميلة التي أَنْبَتَتْهَا في سبيلي أناملُ الحياة، ها هي تنظر إليَّ بعينيها الجميلتين الحالمتين بأحلام الملائكة، ثمَّ تشير إليَّ براحتها الجميلة الساحرة وبأناملها الدقيقة الوردية، ثمَّ ها هي تطبع على ثغري قبلة حلوة ساحرة بشفتيها المعسولتين برحيق الحياة.
ثم ها هو أبي ينظر إليَّ بوجهه الباسم الضحوك، ومن عينيه تفيض عواطف الأبوة الراحمة الحنون، وها هو يحادثني بصوته الهادئ الرزين، ثمَّ ها هو يماشيني في ضواحي «زغوان»، ويصعد في سبل الجبل المحفوفة بأشجار الصنوبر ذي العطر الأريج. ثمَّ ها هو يشير بيده إلى تلك السهول المخضرَّة المترامية، ومن بينها تتناثر كثيرٌ من الأكواخ الجميلة والقصور الكثيرة الأنيقة التي تشابه حَمَامات بيضاء واقفة بين المروج.
ثم ها أنا أنظر فلا أجد شيئًا مما رأيت. لقد ذهبوا كلُّهم إلى عالم الموت البعيد … وتفرَّقوا شِيَعًا في أودية المنون الصامتة، فما عدت أراهم حتَّى الأبد في مسالك هذا الوجود، وما عدت ألقاهم حتى الموت في صحراء هذه الحياة. لقد احتجبوا عني حتى الأبد، وبقيت وحدي في هذا العالم، أناديهم من وراء الوجود. ولكن عبثًا أدعو؛ فإنهم بعيدون عنِّي لا يسمعون نداء روحي، ولا صرخات قلبي الغريب … لقد ذهبوا كلُّهم، وبقيت ههنا وحدي أنا في وحدتي وانفرادي، في سكون الظلام.