الأحد ١٢ جانفي ١٩٣٠
ليس لدي ما أكتبه اليوم عن نهاري هذا. ولعل خيرًا لي أن أذهب إلى فراشي وأنام، لأنسى في عالم الأحلام مشاهد هذا الوجود السخيف وآلام القلب المرَّة الموجعة.
ولكنني أدري أنني لا أنام إلا وبأجفاني خيالات الدموع وأشباح الأسى، سآوي إلى فراشي وستتجاذبني الأحلام المخيفة المزعجة والذكريات الأليمة الدامية، ذكريات الأمل الضائع والقلب الصديع، وسأرى أبي. آه نعم! ذلك الأب الذي قد شقَّ له الناس لَحْده، وسوَّوا عليه التراب، وبقيت بعده في الحياة آلم وألذ، وأُسر وأحزن. أجل سأراه كما قد رأيته في لياليَّ الكثيرة الخالية حينما ينطفئ السراج ويشمل الغرفة ظلام الدجى … أراه وهو في حالة ساكنة هادئة، يحادثني في شؤون كثيرة بصوت هادي مطمئن، وأراه وقد اشتدَّت عليه وطأة الداء، وأصبح يعالج ألم الموت ونزاع الحياة، والطبيب يفحصه ويحقنه بأدوية كثيرة. ثمَّ يخرج يائسًا مخفيًا يأسه عنِّي أنا المسكين الصغير …
وأراه وقد شمله الموت براحته، فأصبح ساكن الطائر، متَّزن النفس، تخاله في حلم النائم المطمئن، والنساء يبكين في قلب الليل ويملأن فجاج الأفق برنَّات النياحة، وأنا كالطائر الذبيح أكاد أجنُّ من الحزن والنَّحيب، طورًا أقف عند رأسه، وأخرى عند رجليه، وأخرى أجلس عن يمينه، وأخرى عن شماله، وبيميني هاته أجرِّعه من حين لآخر جُرَعًا من الماء يكاد يمازجها دمعي المنهلُّ، وتكاد تريقها هزَّات تسبيحي. ثمَّ رأيته التفت إليَّ وأوقف مقلتيه، فحسبته يرنو إليَّ فاقتربت منه قائلًا: أبي! أبي! ماذا تريد …؟ ولكن آه يا قلبي لقد كانت تلك نظرة الموت، حسبتها نظرات الحياة تدعوني. ثمَّ لوى عنقه وشخص ببصره وارتَجَفَتْ شفتاه بالشهادة التي لم يفتُر عن تردادها، ولفظ النفَس الأخير.
لقد مات أبي أيها القلب! فماذا لك بعدُ في هذا العالم. مات أبي وظلِلت أنتحب وأنوح وأبكي بكاء النساء، ثم طبعت على جبينه البارد قبلة كانت آخر عهدي به. فسلام عليه يوم وُلد، ويوم مات، ويوم يُبعث حيًّا، ورحم الله روحه بين الأرواح الطاهرة الكريمة.
كلَّما آويت إلى فراشي طافت بي هاته الأشباح والرسوم. فلا أنام إلا وفي قلبي لذعة الذكريات، وفي أجفاني عَبَرَاتُ الأسى. وها أنا ذاهب لأنام، وأنا أعلم أنني لن أنام إلا باكيًا كئيبًا.