الاثنين ١٣ جانفي ١٩٣٠
ذهبت أنا والأخ زين العابدين والأخ مصطفى خريف مساء اليوم إلى النادي الأدبي لإلقاء محاضرتي عن كتاب «الأدب العربي في المغرب الأقصى» الذي طلب مني النادي الأدبي أن أبسُطَ لهم رأيي فيه. ولكنَّنا لم نجد أحدًا هناك، فجلسنا وأخذ الأخ زين العابدين يتلو علينا أقصوصة الحبيبة أو أحدوثة الحبيبة كما يريد أن يسميها الأخ عثمان الكعاك؛ لأنه يرى كلمة أحدوثة أدق ترجمة لكلمة «نوفيل» الفرنسية.
وأحدوثة الحبيبة هاته قصَّة صغرى كتبها الأخ زين العابدين بمشاركة شخص أبى أن يسميه، وأعدها للعدد الثاني من مجلة «العالم»، وهي قصَّة تونسيَّة حاول أن يمثِّل فيها بعض العادات التونسيَّة، وصوَّر فيها بعض الأوهام الخرافيَّة التي تستحوذ على عقول العذارى الشابات. واستعمل فيها طائفة من التعابير التونسية الخالصة التي لم تألفها العربيَّة ولكنَّها لا تأباها قواعدها. وفي أثناء تلاوة الأحدوثة أقبل الأخ المهيدي ورفيق له، وبعدهما أقبل الأديب أبو الحسن بن شعبان. وكانت الأحدوثة موشكة على الانتهاء، وظل الأخ زين العابدين يتلوها إلى أن انتهت في هاته الجملة: وظلت أمي حلُّومة تشمِّر عن ساعديها وتضحك إلى أذنيها.
وعلى إثرها دار الحديث حول الروايات الشعبيَّة والأدب المحلي، وكان مؤجِّج هذا الحديث هو الأخ زين العابدين الذي كان يقول: «إن الروايات الشعبيَّة والأدب المحلي — كما أنَّها يجب أن تمثِّل حياة الشَّعب بما فيها من عادات وطباع وأخلاق ومميِّزات — فإنها يجب أن تشتمل على كثير من تعابيره الفنيَّة الدقيقة، وتراكيبه ومعانيه التي يستعملها في مخاطباته؛ لأن هاته أهم ناحيَّة حيَّة من نواحي الحياة الشعبيَّة، ففيها تبدو صورٌ صادقة من نفسيَّة الشعب التي تنم عنها فلتات قوله والتفاتات ذهنه.»
فقلت: إني أُقرِّك على رأيك هذا، ولكن على شرط أن يتسفَّل الأديب «للتحصيل على هاته الغاية» إلى أن يمزج أسلوبه العربي بالأسلوب العامي المحرَّف، كما يفعل بعض المصريين اليوم، فإن مثل هاته الطريقة السيئة لَقَاضية على الأدب العربي الجميل، وماسخته إلى نوع من الأدب هجين، لا هو بالعربي البليغ ولا هو بالعامِيِّ الصميم، وإنما هو مسخ بين الاثنين. وإنما على الأديب الشعبي الذي يريد أن يكون موفَّقًا أن يُخْضِعَ اللغة العربيَّة وأساليبها لاحتمال المعاني الشعبيَّة التي تحمل طابع الشعب وميسمه. وبذلك تكون اللغة قد اكتسبت ثروة معنويَّة طارفة تضيفها إلى ما لها من كنز تليد، أو أن يُدخل تعابير شعبيَّة في اللغة العربيَّة، على شرط أن لا تُخِلَّ بروح العربيَّة، ولا بقواعدها الأصلية. وبذلك يكون الأديب مخلصًا للغة العربيَّة، ومخلصًا لفنِّه النزيه.
فقال الأخ الزين: نعم إنها لفكرة قيّمة، وهذا ما حاولت أن أتباعه في أحدوثة «الحبيبة»، فإن كلمة «ضحكت لأذنيها» كلمة محليَّة محضة لا تعرفها العربيَّة من قبل، ولكنَّها مع ذلك لا تنافي شيئًا من ضوابط اللغة، زيادة عمَّا فيها من دقة التصوير لمعنى الضحك والإغراق فيه، ولا أعرف في العربية تعبيرًا يضاهي هذا في دقَّة التصوير لمعنى الإغراب في الضحك، إلا أنَّني أعرف في الفرنسية تعبيرًا قريبًا من تعبيرنا في هاته الدقَّة إلا أنَّه دونه، وهو قولهم: «ضحك حتى أفطس أنفه».
فقال الأخ إبراهيم بورقعة: «إن العرب يقولون: ضحك ملء شدقيه» وهو تعبير غير ظاهر المعنى؛ لأن الضاحك لا يمتلئ شدقاه.
فأجابه أبو الحسن بن شعبان بأنَّ كيفيَّة الضحك تختلف باختلاف الوجوه والأشكال. وظَاهَرْتُه أنا على ذلك.
والذي يبدو لي الآن أن العرب لا يَعْنُونَ بامتلاء الشدقين «انتفاخهما» وإنما يريدون امتلاء الفم بصوت القهقهة كناية عن قوة الضحك، ثم قلت لهم: إن العرب يقولون: «ضحك حتّى بدت نواجذه»، وهو تعبير قريب المعنى من تعبيرنا؛ لأن النواجذ قريبة من الآذان. وإذا انتفخ الفم من الضحك حتَّى بدت النواجذ فقد قرب من الآذان.
ثم انتقل الحديث إلى الأدب العامِّي، فقال زين العابدين: «إن في أدبنا العامِّي دقةً في التعبير، وجمالًا في التصوير، وسعة في الخيال، بصورة توجب الإعجاب الكبير. أذكر أنني طالعت مرة أنا وأبو القاسم قطعة من هذا الفن، يصف فيها صاحبها البرق، فأُعجِبْنَا بها إعجابًا كبيرًا؛ إذ إنَّه قد عبَّر بها عنه بأبرع ممَّا عبرت عنه ألفاظ شاعر، وأبدع ممَّا صورته نفس فنَّان».
فقال أبو رقعة: إنني أعتقد أن الأدب العاميَّ بتونس أبلغ من الأدب العربي بها؛ وذلك لأن أدباء العربيَّة بها تُقَيِّدُهُمْ كثيرٌ من التقاليد اللغويَّة والأغلال الشعرية التي تُوجِبُ عليهم احتذاء من تقدمهم من الشعراء، زيادة عن أنهم يكتبون بلغة ليست لغتهم، بخلاف ما كانوا من قادة الأدب العامِّيِّ، فإنهم بعيدون عن مثل ما يتقيَّد به الأديب العربي بتونس. ولذلك يكون من الفرق بين أدب هذا وذاك ما بين أدب الطبع وأدب التقليد.
وأنا أعرف واحدًا من هؤلاء الذين يتملأون بروح الشعب ولغته مَن يعمد إلى القطعة من الأدب العامِّي ينقدها نقدًا فنيًّا صحيحًا دقيقًا لو كُسِيَ الأسلوبَ العربيَّ لكان خير أمثلة النقد الأدبي، إذ فيه تتجلى سلامة الطبع، ودقَّة الحاسة الفنيَّة.